رأى الغزالى فى نشأة الجدل وعيوب المناظرة
أ.د. حامد طاهر
أ-حول نشأة الجدل
ما هو السبب الحقيقى الذى دفع علماء المسلمين إلى الوقوع فى الخلاف ، وجعلهم يقبلون على الاستخدام المفرط لأساليب الجدل والمناظرة ؟
عن هذا السؤال الهام ، قام أبو حامد الغزالى بمحاولة الإجابة ، متتبعا نشأة ظهور علم الفقه ، ومن بعده علم الكلام ، وهما العلمان اللذان تنازع فيها العديد من الفقهاء والمتكلمين ، كل فى دائرته ، حول العديد القضايا الكبرى ، وتفريعاتها الصغيرة ، وحتى الأصغر ، وكان لهذا النزاع آثاره الثقافية والاجتماعية ، وكذلك السياسية التى انعكست على المجتمعات الإسلامية ، وهى ما كانت تؤدى أحيانا إلى أشكال من الصراع الدموى فيما بين الأفراد والجماعات نتيجة تمسك كل فرقة بمذهبها ، والرفض التام لمذهب الفرقة المخالفة لها . وفى مثل هذا الجو المضطرب كانت تضيع الحقائق ، وتختلط القضايا الحقيقية بالزائفة ، ولا يُسمع سوى صوت التعصب ، والعمل بكل الوسائل لإخماد صوت الطرف الآخر . وهذا ما سجله لنا التاريخ العلمى والثقافى لدى المسلمين فى كل عصورهم تقريبا(1) .
ويبدأ الغزالى من البداية الأولى التى ترجع لعهد الخلفاء الراشدين "وكانوا أئمة ، علماء بالله تعالى ، فقهاء فى أحكامه ، مستقلين بالفتاوى فى الأقضية ، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرًا فى وقائع لا يستغنى فيها عن المشاوره"(2) وهذا معناه ببساطة أننا كنا أمام (حكام - فقهاء) .. وبما أنهم كانوا على علم كاف بكتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله r فقد كان بإمكانهم أن يصدروا الحكم الإسلامى الصحيح المستمد منهما على الحالة الحادثة بالفعل ، وليست المفترضة ، التى تعرض عليهم ، وبالتالى فلم تكن هناك حاجة إلى فقهاء متخصصين يقومون بتقديم الرأى لهم ، اللهم إلا فى بعض الحالات القليلة ، أو النادرة ، التى كانت تستدعى ذلك .
وينبهنا الغزالى إلى أن هؤلاء (الخلفاء – الفقهاء) مع أنهم كانوا مستقلين بالفتوى إلا أنهم لم يقبلوا عليها ، أو يتوسعوا فيها ، بل كانوا – على حد تعبير الغزالى – "يتدافعون الفتاوى" أى يتحرجون قدر الإمكان من إصدارها ، وبالتالى لا يكثرون منها . وبالنسبة إلى (العلماء) فى عهدهم فقد تفرغوا لعلم الآخرة ، وتجردوا لها ، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم ، كما نقل من سيرهم(3) .
ثم عندما انتقلت الخلافة ، بعد الخلفاء الراشدين ، إلى أقوام تولوها "بغير استحقاق" – على حد تعبير الغزالى – ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، اضطر هؤلاء الخلفاء إلى الاستعانة بالفقهاء ، وإلى استصحابهم فى جميع أحوالهم لاستفتائهم فى مجارى أحكامهم . وهنا يرصد الغزالى ظاهرة هامة ، وهى أن الجيل المتبقى من علماء التابعين كانوا مستمرين على أسلوب جيل الصحابة الذى سبقهم من الملازمة لصفو الدين والمواظبة على سمت علماء السلف . فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا .. فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح فى طلبهم لتولية القضاء والتحكيم بين المسلمين ، وهو الأمر الذى رفع كثيرا من مكانتهم الاجتماعية(4) .
ويرى الغزالى أن هذا هو السبب الخفى في إقبال الكثيرين على علم الفتاوى، ثم فى عرض أنفسهم على الولاة ، والتقرب إليهم لطلب الولايات والصلات منهم : فمنهم مَنْ حرم من تحقيق رغبته فخاب رجاؤه ، ومنهم مَنْ نجح فى الوصول إلى غرضه الدنيوى . يقول الغزالى عن هذا الصنف الأخير : إنه لم يخل من ذل الطلب ، ومهانة الابتذال ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين – طالبين ، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين – أذلة بالإقبال فى تلك العصور على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها فى الولايات والحكومات(5).
هذا بالنسبة إلى نشأة علم الفقه ، واتساع مجال الفتوى فيه بعد ذلك ، أما بالنسبة إلى علم الكلام ، فيقول الغزالى : "ثم ظهر من بعدهم من الصدور والأمراء مَنْ يسمع مقالات الناس فى قواعد العقائد ، وما زالت نفسه إلى سماع الحجج فيها ، فتطلعت رغبته إلى المناظرة والمجادلة فى "الكلام" فأكب الناس على علم الكلام ، وأكثروا فيه التصانيف ، ورتبوا فيه طرق المجادلات ، واستخرجوا فنون المناقضات فى المقالات ، وزعموا أن غرضهم الدفاع عن دين الله ، والنضال عن السنة وقمع المبتدعة – كما زعم من قبلهم (من الفقهاء) أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى : الدين ، وتقلد أحكام المسلمين إشفاقًا على خلق الله ونصيحةً لهم"(6) .
ويتابع الغزالى مسيرة الباعث الذى تحول من علم الكلام إلى علم الفقه ، فيقول : "ثم ظهر بعد ذلك من الصدور (العلماء البارزين) مَنْ لم يستصوب الخوض فى الكلام ، وفتح باب المناظرة فيه ، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة ، والخصومات الغاشية المفضبة إلى اهراق الدماء ، وتخريب البلاد ، ومالت نفسه إلى المناظرة فى الفقه ، وبيان الأوْلى من مذهب الشافعى وأبى حنيفة ، رضى الله عنهما ، على الخصوص ، وتساهلوا فى الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل ، رحمهم الله تعالى ، وغيرهم .. وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع ، وتقرير علل المذاهب ، وتمهيد أصول الفتاوى ، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات ، وهم مستمرون عليه إلى الآن (= النصف الثانى من القرن الخامس الهجرى) .
ثم يعقب الغزالى عن ذلك متعجبا : "ولسنا ندرى ما الذى يُحدث الله فيما يعدنا من الأعصار ؟!"(7) .
لكنه يعود فيؤكد أن ما ذكره من الحرص على المكانة الاجتماعية هو الباعث الحقيقى على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير . ويتندر من أمثال هؤلاء العلماء قائلا : "فلو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معهم ، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو : علم الدين ، وألا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين"(8) .
ويقوم الغزالى بتفنيد حجة هؤلاء العلماء ، المقبلين على المناظرات ، والتى قد يستدرجون بها الناس ، وتتمثل فى أن غرضهم من المناظرات هو المباحثة عن الحق ليتضح ، محاولين تشبيه مناظراتهم تلك بمشاورات الصحابة ، ومفاوضات السلف .. فيقول : ""إن الحق مطلوب . والتعاون على النظر فى العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر . هكذا كان عادة الصحابة ، رضى الله عنهم ، فى مشاوراتهم كتشاورهم فى مسألة الجد والإخوة ، وحد شرب الخمر ، ووجوب غرم الإمام إذا أخطأ ، كما نقل عن إجهاض المرأة جنينها خوفًا من عمر t رحمهم الله تعالى" (9) .
ب-شروط المناظرة
إن التعاون على طلب الحق – كما يؤكد الغزالى – من الدين . ولكنه يضع له مجموعة من الشروط والعلامات التى تتناثر فيها السخرية المباشرة ، وغير المباشرة من أولئك الذين يزعمون مشروعية المناظرات بما تحتوى عليه من جدل ، وما تؤدى إليه من خصومات . وتتمثل هذه الشروط فيما يلى(1.) :
الشرط الأول : ألا يشتغل بطلب الحق عن طريق المناظرات ، وهو فرض كفاية : مَنْ لم يقم بأداء فروض الأعيان . يقول الغزالى : ان مَنْ عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب" . ومثاله من يترك الصلاة فى نفسه ويتجرد فى تحصيل الثياب ونسجها ويقول : غرضى أن أستر عورة مَنْ يصلى عريانا ولا يجد ثوبا !
الشرط الثانى : ألا يرى فرض كفاية أهم من المناظرة ، فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله . ومثاله : من يرى جماعة من العطاش أشرفوا على الهلاك وقد أهملهم الناس ، وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء ، فاشتغل بتعلم الحجامة ، وزعم أنه من قروض الكفايات ، ولو خلا البلد عنها لهلك الناس ! وإذا قيل له : فى البلد جماعة من الحجامين وفيهم غنية ، فيقول : هذا لا يخرج هذا الفعل عن كونه فرص كفاية . فحال من يفعل هذا ويهمل الاشتغال بالواقعة المسلمة بجماعة العطاش من المسلمين كحال المشتغل بالمناظرة ، وفى البلد فروض كفايات مهملة لا قائم بها .
الشرط الثالث : أن يكون المناظر مجتهدًا يفتى برأبه ، لا بمذهب الشافعى وأبى حنيفة وغيرهما ، حتى لا يقع فى الحرج أو المحظور عندما يلزمه الخصم بحجة أقوى من الآراء الواردة فى هذه المذاهب .
الشرط الرابع : ألا يناظر فى مسألة واقعة بالفعل ، أو قريبة الوقوع غالبا. فإن الصحابة ، رضى الله عنهم ، ما تشاوروا إلا فيما تجدد من الوقائع ، أو ما يغلب وقوعه كالفرائض مثلا . وهنا يلاحظ الغزالى أن المتناظرين فى عهده لا يهتمون بانتقاد المسائل التى تعم البلوى بالفتوى فيها ، بل إنهم يسعون إلى مناقشة القضايا التى تحدث ضجيجا ويتسع مجال الجدل فيها ، وهى ما يطلق عليه مصطلح (الطبوليات) !
الشرط الخامس : أن تكون المناظرة بالنسبة للمشتغل بها أحب إليه فى الخلوة منها فى المحافل العامة وفى حضور الأكابر والسلاطين . فإن الخلوة أجمع للفهم وأحرى بصفاء الذهن والفكر وإدراك الحق ، بينما تؤدى فى حضور الجمع إلى ما يحرك دواعى الرياء ويوجب الحرص على نصرة كل واحد نفسه ، محقا كان أو مبطلا ، ويرى الغزالى أن حرص المتناظرين على المحافل والمجامع ليس لله .
الشرط السادس : أن يكون طلب الحق لديه هو الهدف والأساس من المناظرة ، بحيث يرضيه على أنه رفيق معين ، وليس خصما ، يشكره إذا عرّفه الخطأ ، وأظهر له الحق . وهنا يرصد الغزالى حالة المناظرات فى عهده ، فيقول : "فانظر فى مناظرى زمانك اليوم كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه ؟! وكيف يخجل به ؟! وكيف يجتهد فى مجاحدته بأقصى قدرته ؟! وكيف يذم من أفحمه طول عمره ثم لا يستحى من تشبيه نفسه بالصحابة ، رضى الله عنهم، فى تعاونهم على النظر فى الحق" ؟!
الشرط السابع : ألا يمنع المناظر الآخر من الانتقال من دليل إلى دليل ، ومن إشكال إلى إشكال . فكهذا كانت مناظرات السلف ، كما ينبغى أن يستبعد من كلامه هو جميع دقائق الجدل المبتدعة فيما له وعليه . كقوله (هذا لا يلزمنى ذكره) و(هذا يناقض كلامك الأول فلا يقبل منك) ، فإن الرجوع إلى الحق مناقض للباطل ويجب قبوله . ولا خلاف فى أن إظهار ما علم من علوم الدين – بعد السؤال عنه – واجب لازم . وهو بامتناعه عن الذكر إما كاذب وإما فاسق . ويعقب الغزالى على هذه الظاهرة المستحدثة فى المناظرات ، محيلاً إلى عصر الصحابة بقوله : "فتفحصْ عن مشاورات الصحابة ، ومفاوضات السلف ، رضى الله عنهم ، هل سمعت فيها ما يضاهى هذا الجنس ؟! وهل منع أحد من الانتقال من دليل إلى دليل ، ومن قياس إلى أثر ، ومن خبر إلى آية ؟ بل جميع مناظراتهم من هذا الجنس إذْ كانوا يذكرون كل ما يخطر لهم كما يخطر ، وكانوا ينظرون فيه" .
الشرط الثامن : أن يناظر الفقيه أو المتكلم مَنْ يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم . والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر خوفا من ظهور الحق على ألسنتهم ، فيرغبون فيمن دونهم طمعا فى ترويج الباطل عليهم. وهذا معناه أن المناظرين كانوا يبحثون عن أشخاص مختارين بعناية لكى يتفوقوا عليهم ، ويبتعدون فى نفس الوقت عمن هم أكثر تمكنا منهم . والخلاصة أن الأمر يتعلق بحب الغلبة وليس بإظهار الحق للناس .
تلك هى الشروط الثمانية التى وضعها الغزالى للمناظرة . وهى فى رأيه كافية لكى يميز بها المسلم بين مَنْ يناظر لله ، ومَنْ يناظر لعلة دنيوية(11) . ومع ذلك فإنه يعود فيقرر أن وراء هذه الشروط التى ذكرها "شروطا دقيقة وكثيرة" ، وهى التى تستحق أن توضع بالفعل تحت عنوان : آفات المناظرة .
لذلك فإنه يحذر المناظر – الذى يترك مناظرة الشيطان المستولى على قلبه، وهو أعدى أعدائه الداعين إلى هلاكه – ثم ينشغل بمناظرة إنسان مثله فى المسائل التى يمكن أن ينال فيها المجتهد الأجر على صوابه أو خطأه .. وبالتالى فإنه يستحق شماته الشيطان به عندما يوقعه فى العديد من الآفات . وكعادة الغزالى فى كتابه (إحياء علوم الدين) ، ينتقل من تناول الظاهرة العلمية أو الاجتماعية إلى التحليل النفسى الذى يقع مباشرة فى قلب منظومة القيم الأخلاقية .
إن الحملة التى شنها الغزالى على المناظرات الفاسدة لا تكاد تترك مجالاً للاستثناء من هذه القاعدة ، والتى يمكن أن تختص بالمناظرات الإيجابية أو الصالحة ، والتى يلاحظ أنها لا تكاد تحظى لديه بإشارة واحدة . وهو يقول مؤكدا : "اعلمْ وتحققْ أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام ، وإظهار الفضل والشرف ، والتشدق عند الناس ، وقصد المباهاة والمماراة ، واستمالة وجوه الناس – هى منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله ، المحمودة عند عدو الله إبليس.
ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها – كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة"(12) .
ج-الآثار الأخلاقية السيئة للمناظرة
قام الغزالى بحصر الآثار الأخلاقية السيئة التى تصحب أو تنتج عن المناظرات . وقد حددها فى عشرة أخلاق ذمها الشرع ، وحذر المسلمين من الوقوع فيها ، أو حتى الاقتراب منها . وفيما يلى عرض مختصر لها (13) :
1- الحسد : وهو لا يفارق المناظر سواء كان غالبًا أو مغلوبًا ، لأنه إن كان مغلوبًا لن يستطيع التخلص من حسد المناظر الذى غلبه ، أى من تمنى زوال نعمة الانتصار منه ، وإن كان غالبًا فلن يعدم مَنْ هو مساوٍله ، أو أعلى منه .
2- التكبر والترفع على الناس : وهنا يقول الغزالى : لا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره ، حتى إن المتناظرين ليتقاتلون على مجلس من المجالس يتنافسون فيه فى الارتفاع والانخفاض ، والقرب من صدر المجلس ، والتقدم فى الدخول عند مراحل الطرق ، أى أنهم يتجاوزون الناس فى ترتيب السير ، يقول الغزالى "وربما يتعلل الغبى والمكارى الخداع منهم بأنه يبغى صيانة العلم" !
3- الحقد : ويؤكد الغزالى أن المناظر لا يكاد يخلو عنه . فلا ترى مناظرًا يقدر على ألا يضمر حقدًا على كل من يبدى الموافقة أو الإعجاب بكلام خصمه ، وإذا صدر من خصمه أدنى سبب فيه قله مبالاة "انغرس فى صدره حقد لا يقتلعه مدى الدهر إلى آخر العمر" .
4- الغيبة : وهى التى شبهها الله تعالى بأكل الميتة .. ولا يزال المناظر مثابرًا على أكل الميتة . فهو فى مجلسه الخاص دائم الحكاية عن كلام خصمه ، ومذمته ، وإذا كان متحفظًا فإنه يسمح للجالسين معه أن ينهشوا سمعته ، ويخوضوا فى عرضه ، وربما جاراهم فى ذلك .
5- تزكيه النفس : يقول الله تعالى ) فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( [سورة النجم آية 32] وقيل لأحد الحكماء : ما الصدق القبيح ؟ قال ثناء المرء على نفسه. والمناظر لا يخلو من الثناء على نفسه بالقوة والغلبة والتقدم بالفضل على الأقران ، ويظل أثناء المناظرة يقول : أنا لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور ! وأنا المتفنن فى العلوم ، والمستقل بالأصول وحفظ الأحاديث وغير ذلك مما يتمدح به تارة على سبيل الصلف ، وتارة إلى ترويج كلامه !
6- التجسس وتتبع عورات الناس : والمناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه ، وتتبع عورات خصومه ، حتى إنه إذا علم بقدوم مناظر غريب إلى بلده طلب من يخبره عن بواطن أحواله ، والسؤال عن مقابحه ، لكى يجعلها ذخيرة يستخدمها – عند مناظرته – فى فضحه وتخجيله . حتى أنه قد يلجأ إلى ذكر أشياء مخجلة من تاريخ صباه ، أو عيوب خلقيه لا يعرفها الناس مثل الصلع وغيره .. وهو يلجأ إلى ذلك عندما يحسّ بالضعف فى حجته ، أو اقتراب هزيمته . ويؤكد الغزالى أن هذا العيب المغيب قد حكى له عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم لهم !
7- الفرح لمساءة الناس والغم لمسارّهم : وهذا أبعد ما يكون عن أخلاق المسلم الذى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . ويلاحظ الغزالى أن كل من طلب الفضل يسّره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يضارعونه فى الفضل ، ويكون التباغض بينهم كما بين الضرائر ، فكما أن إحدى الضرائر إذا رأت صاحبتها من بعيد ارتعدت واصفر لونها فهكذا ترى المناظر إذا رأى مناظرًا تغير لونه، واضطرب عليه فكره ، فكأنه يشاهد شيطانا ماردا ، أو سبعا ضاريا ، فأين الاستئناس والاسترواح الذى كان يجرى بين علماء الدين عند اللقاء ؟! وما نقل عنهم من المؤاخاة فى السراء والضراء .
8- النفاق : ويرى الغزالى أن المناظرين مضطرون إليه ، فإنهم إذْ يلقون الخصوم ومحبيهم وأشياعهم لا يجدون بدا من التودد إليهم باللسان وإظهار لشوق والاعتداد بمكانهم وأحوالهم .. وهكذا فإنهم متوددون بالألسنة متباغضون بالقلوب ! ويعلق الغزالى قائلا : نعوذ بالله العظيم منه !! .
9- الاستكبار عن الحق وكراهته والحرص على المماراة فيه : حتى أن أبغض شىء إلى المناظر أن يظهر الحق على لسان خصمه ، ومهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه فى المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية ، فلا يسمع كلاما إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه فى أدلة القرآن وألفاظ الشرع فيضرب البعض منها بالبعض ! وقد سوّى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا ، وبين من كذّب بالحق ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ ( [سورة العنكبوت : آية 68] .
10- الرياء وملاحظة الخلق ، والجهد فى استمالة قلوبهم وصرف وجوههم : ويؤكد الغزالى أن الرياء هو الداء العضال الذى يدعو إلى أكبر الكبائر . ومن المعروف أن المناظر لا يقصد إلا الظهور عند الخلق ، وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه .
يقول الغزالى : فهذه عشر خصال من "أمهات الفواحش الباطنة" سوى ما يتفق لغير المتماسكين منهم من الخصام المؤدى إلى : الضرب ، واللطم ، وتمزيق الثياب ، والأخذ باللحى ، وسب الوالديْن ، وشتم الأساتذة ، والقذف الصريح .
لكن الأكابر والعقلاء من المناظرين لا ينفكون عن تلك الخصال العشر ، أو عن بعضها . لكن المشكلة أن كل واحدة من هذه الخصال تتشعب منها خصال أخرى من الرذائل مثل : الأَنَفه ، والغضب ، والبغضاء ، والطمع ، وحب طلب المال والجاه للتمكن من الغلبة ، والمباهاة ، والأشر ، والبطر ، وتعظيم الأغنياء والسلاطين ، والتردد إليهم ، والأخذ من حرامهم ، والتجمل بالخيول والمراكب ، والثياب المحظورة ، والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء ، والخوض فيما لا يعنى ، وكثرة الكلام ، وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب ، واستيلاء الغفلة عليه حتى لا يدرى المصلى منهم فى صلاته ما صلى ؟ وما الذى يقرأ ؟ ومن الذى يناجيه ؟ ولا يحس بالخشوع من قلبه – مع استغراق العمر فى العلوم التى تعين على المناظرة ، رغم أنها لا تنفع فى الآخرة : من تحسين العبارة ، وتسجيع الألفاظ، وحفظ النوادر ، إلى غير ذلك من أمور لا تحصى .. والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم"(14) .
وأخيرًا يورد الغزالى اعتراض مَنْ يذهب إلى وجود فائدة للمناظرة وهى ترغيب الناس فى طلب العلم ، والحجة فى ذلك أنه لولا حب الرئاسة لا ندرست العلوم .
ويجيب الغزالى بأن هذا الرأى صادق من وجه ، ولكنه غير مفيد . ويشرح ذلك بمثال ساخر قائلا : إنه لولا الوعد بالكرة والصولجان واللعب بالعصافير ما رغب الصبان فى المكتب !! وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة أما القول بأنه "لولا حب الرئاسة لا ندرس العلم" فإنه لا يدل على أن طالب الرئاسة ناج ، بل إنه هالك فى نفسه ، وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا .. فمثاله مثل الشمع لذى يحترق فى نفسه ، ويستضئ به غيره . فصلاح غيره فى هلاكه . فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة التى تأكل نفسها وغيرها ! (15) .
ويخلص الغزالى من ذلك إلى أن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أصناف : - مهلك لنفسه وغيره : وهم العلماء المصرحون بطلب الدنيا والمقبلون عليها . - مسعد لنفسه وغيره : وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهرًا أو باطنًا . - مهلك لنفسه ، مسعد لغيره : وهم الذين يدعون إلى الآخرة ، ويرفضون الدنيا فى ظاهرهم ، وقصدهم فى الباطن : قبول الخلق ، وإقامة الجاه .
وبالتالى فعلى كل عالم أن ينظر فى حاله ليضعها فى أى قسم من هذه الأقسام الثلاثة ، لكنه ينبغى أن يدرك جيدًا أن الله تعالى لا يقبل غير الخالص لوجهه تعالى من العلم والعمل .
د-أهم نتائج البحث :
1- يكاد الغزالى ينفرد عن باقى المؤرخين لنشأة الفرق والخلاف التى حدثت لدى المسلمين ، بتفسير هذا النشأة على أساس اجتماعى ، بمعنى أن الإقبال على كل من علمى الفقه والكلام إنما كان بدافع الحصول على مكانة اجتماعية أولاً لدى الحكام ، وثانيا لدى عامة الناس . وكان السبب الرئيسى الذى أدى إلى انتشار هذا الإقبال هو عدم وجود الحاكم العالم بأمور الدين ، كما كان عليه الحال فى عهد الخلفاء الراشدين ، رضى الله عنهم .
2- لا شك أن عدم خلوص نية المشتغلين بعلمى الفقه والكلام إلى خدمة العلم والمسلمين هو الذى يقف وراء اتساع هوة الخلاف والاختلاف التى وجدناها تظهر بين الفرق الكلامية ، وبعض المذاهب الفقهية وخاصة بين الأحناف والشافعية . وهذا ما جعل هذا الخلاف والاختلاف لا يتجه إلى المشكلات الحقيقية التى تقع بالفعل فى المجتمعات الإسلامية ، وإنما راح يدور حول أمور فرعية ، أو حتى متخيلّة كما أثقل حجم التراث الفقهى والكلامى الذى وصلنا منهم .
3- من هنا كانت المناظرات هى الاحتفالية المظهرية التى يسعى فيها هؤلاء العلماء إلى إظهار تفوقهم على الخصوم ، والحصول بالتالى على المكانة الاجتماعية التى كانت بالنسبة إليهم هى الدافع الحقيقى للاشتغال بالعلم . ولهذا السبب قام الغزالى بوضع مجموعة من الشروط الصارمة التى ينبغى أن تقوم عليها المناظرة الحقيقية ، أو تتخلص منها .
4- وعلى الرغم من اقتناع الغزالى الجزئى بجدوى المناظرة العلمية ، وخاصة إذا تمت بعيدًا عن هذا المظاهر الاحتفالية أمام الجمهور ، فإنه لا يميل بصفة عامة إلى المناظرات ، لأنها تتضمن وتستتبع الكثير من الأخلاق التى ذمها الشرع ، وتؤدى بالضرورة إلى وقوع صاحبها فى الكثير من الأخلاق السيئة والمرفوضة . وقد عدد الغزالى عشرة آثار لأمهات هذه الأخلاق المرذولة ، وهى أخلاق تتعلق بباطن الإنسان ، لكنه عاد فأشار أيضًا إلى أنواع السلوك الهمجى الذى قد يقوم به بعض المتناظرين !
5- وأخيرًا يضع الغزالى مقياسًا ثلاثيًا لكى يعرف به العلماء حقيقية أنفسهم ، ويميزوا به بين العالم النافع لنفسه وغيره ، وبين العالم المهلك لنفسه وغيره ، وأخيرًا بين العالم المهلك لنفسه ، المسعد لغيره ..
|