التفكير المنهجي
بقلم د . حامد طاهر
التفكير هو عمل العقل . والعقل هو نعمة الله الكبرى التى منحها للإنسان لكى يستخدمها من أجل تحقيق مصالحه ، ولتعمير الأرض من حوله. لكننا نلاحظ أن معظم الناس لا يرهقون أنفسهم فى التفكير ، ويكتفون بمتابعة الذين يفكرون فيما يذهبون إليه . وهناك صنف آخر من الناس يفكرون ولكن بطريقة خاطئة ، فلا يصلون إلى هدف ، ويظلون يتعثرون فى مكانهم . أما الصنف الثالث ، وهو القليل أو النادر فهم الذين يفكرون بطريقة منهجية تنتقل من المعلوم إلى المجهول، وتخلص من المقدمات إلى النتائج الصحيحة . وهؤلاء هم الذين يتبعون أسلوب التفكير المنهجى. فما هو هذا التفكير ؟ وما هى خصائصه ؟
التفكير المنهجى له تاريخ طويل . وقد نجح أرسطو فى القرن الرابع قبل ميلاد المسيح فى أن يضع له علما خاصًا به ، هو علم المنطق ، الذى يحدد للعقل طرق الخطأ والصواب ، ويضع فى يده ميزانا دقيقًا لقياس القضايا من حيث الصدق والكذب ، أى مطابقتها للواقع أو مخالفتها له . ويقوم علم المنطق على ثلاثة مباحث رئيسية : مبحث التعريف والتقسيم الذى يحدد معنى الكلمة المفردة ، ومدى عمومها وخصوصها مثل (فرس ، وردة ، بحر .. الخ) ثم مبحث القضية ، وهى الكلمة إذا أضيفت إلى كلمة أخرى مثل (اليوم بارد) فقد حكمنا على اليوم بالبرودة . وهنا يحتمل أن يكون هذا الحكم صحيحا أو خطأ . ثم مبحث القياس ، وهو يشمل القضايا إذا تعددت ووضعت بجوار بعضها فى ترتيب مخصوص مثل (سقراط انسان ، وكل انسان فان ، إذن سقراط فان) .
وقد ظل هذا المنطق الأرسطى ، أو منهج التفكير القديم مسيطر على البشرية أكثر من ألفى عام ، حتى بدأ مفكرو عصر النهضة فى أوربا يثورون عليه ، ويشككون فى أسسه ونتائجه ، ثم انتهى بهم الأمر إلى إنشاء منهج جديد هو المنهج التجريبى ، الذى يقوم على ملاحظة الظواهر ، وجمع أكبر قدر من المعلومات حولها ، ثم وضع فرض عقلى لتفسيرها ، والقيام بتجربته فى الواقع ، فإذا نجحت تجربته أصبح قانونًا علميا ، وإن فشل جرى البحث عن فرض آخر ، وهكذا حتى يتم التوصل إلى فرض صحيح يفسر الظاهرة ، أو يحل المشكلة التى تعترض الإنسان .
ومنذ اكتشفت الإنسانية هذا المنهج أصبح هو أسلوب التفكير المعتمد الذى يقف وراء التقدم العلمى ، والحضارى بصفة عامة ، الذى حقق مختلف الثورات العلمية التى نشهد منجزاتها فى حياتنا اليومية بدءًا من الثورة الصناعية حتى الثورة الالكترونية الحالية ..
إن مقارنة بسيطة بين المنهجين المذكورين تبين أن المنهج الأرسطى ينظم المعلومات ، ويرتب المقدمات ، ويبين كيفية الوصول إلى النتائج العقلية، بينما المنهج التجريبى هو الذى يأتى بمعلومات جديدة ، ويساعد الإنسان فى السيطرة على الطبيعة ، والاستفادة من قوانينها الثابتة أو النسبية . ومن العجيب أن الناس ينقسمون إلى قسمين : أحدهم عقليته أرسطية ، والثانى عقليته تجريبية . وأنت الآن يمكنك أن تتعرف على كل من القسمين إذا تحدثت معهم .
فهناك من يضع مسلمات عقلية ثم ينطلق منها إلى أحكام عقلية، قد تكون صوابًا أو خطأ ، وهناك من يتمهل قليلا ، ويحاول أن يرجع دائمًا إلى التجربة فى الواقع العملى ، ليتعرف منه على صدق آرائه أو خطأها .. القسم الأول يؤكد لك أن الحقيقة مطلقة ، وأنه قد امتلكها ، والقسم الثانى متواضع ، يقول لك إن رأيه الآن صواب ، وقد يحدث فى الغد ما يغيره !
* *
|