الجبل
يستمد الجبل هيبته من عدة عناصر ، أهمها ثباته وارتفاعه وضخامته . أما صخوره فهى مثل الأظافر التى تخدش من يحاول الاقتراب منه . وعلى الرغم من أن الرياح العاصفة تجتاح فى طريقها كل شئ ، إلا أنها لا تستطيع أن تنال من صلابة الجبل ، فهى تصطدم به ، ولا تلبث أن تنكسر على صدره ، وكذلك الأمواج التى تفتت الشاطئ ، لا يمكن أن تنال من جسد الجبل ، الذى يتلقاها فى حالة عنفوانها فيكسر حدتها ، ويجعلها تتناثر قطرات من حوله
الجبل شامخ دائما ، سواء عندما يتجاور مع البحر ، أو يلامس الصحراء . ولأنه يمتنع على الجميع ، فلا يلجأ للسكن فيه إلا الحيوانات أو الطيور التى تأنف من أن يمسك بها أحد ، والتى من طبعها النفور من المخلوقات الأخرى . يعيش على جوانبه الماعز الجبلى ، وتتخذ النسور فى قممه أعشاشها ، وأحيانا تنمو على حوافه بعض الأشجار التى يرويها ماء المطر ، النازل مباشرة من السحاب .
ما الحكمة من وجود الجبل ؟ يخبرنا القرآن الكريم بأنه من الرواسى التى وضعها الله فى الأرض لكى لا ( تميد ) بأهلها ، أى تتحرك وتهتز كما يحدث فى لحظات الزلازل ! فالجبال إذن هى الأوتاد التى تتماسك بها الأرض ، حتى تصلح عليها حياة البشر . وبالتالى فهى تستحق عندما نراها أو نمر إلى جوارها أو نطير فوقها أن نشكر الله تعالى على ما أنعم به على أهل الأرض
لكن الإنسان منذ قديم الزمان لم يترك الجبل فى حاله . فقد حاول سكناه ، كما فعلت ثمود ، أو نقب فيه أنفاقا كما فعلت كل بلاد أوربا تقريبا : أنفاق يصل بعضها إلى أكثر من عشرة كيلومترات ، وهى مسفلتة ومضاءة من الداخل وتعبرها السيارات بسرعة وسلاسة . وعندما كنت أعبرها أقول لنفسى : ماذا لو غضب الجبل فأطبق علينا ونحن تحت جسده الهائل ، وفى قبضته الصخرية ؟
بعض الجبال طيبة القلب ، فهو يسمح للإنسان بأن يتسلقها ، وينقب فيها ويصنع التماثيل ، أو يستخرج من مناجمه المعادن . لكن بعضها الآخر غضوب ، يتفجر داخله بالنار ، وتقذف أضلاعه بالحمم ، فيملأ الجو بغبار لا يصلح للتنفس ، بل إنه يقتل كل مظاهر الحياة . وهكذا يحاول الجبل أن يذكرنا دائما بالوجه الغاضب حتى لا ننسى وجهه الوديع
تتفاوت الجبال فى الحجم ، والمساحة ، والارتفاع ، كما تختلف ألوانها بين الأبيض والأحمر والأسود . لكنها جميعا ترجع فى التاريخ إلى نشأة الأرض ذاتها . ومن الواضح أنها سوف تنتهى بنهايتها . وقد أخبرنا الله تعالى ، خالق الأرض والسماء ، أنها ستكون زلزلة كبرى تخرج فيها الأرض أثقالها ، وعندئذ ( تميد ) الجبال التى كانت تمسكها ، فينهار كل شئ ويبدأ خلق جديد ، كما يقول القرآن الكريم : " كما بدأنا أول خلق نعيده
عندما تجرأ موسى عليه السلام فطلب من الله تعالى أن يراه بالعين المجردة ، قال له : " لن ترانى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا " . وتلك دلالة أخرى على أن خالق الجبل ، هو وحده ، الذى يمسكه ، وهو القادر أيضا على أن ينسفه نسفا . وعند انتهاء الدنيا ، سوف تتحول الجبال الضخمة الراسخة : مثل نديف الثلج المتطاير فى الجو !
|