الروح العلمية : مقاربة إسلامية
يقوم البحث العلمي الحديث على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى تتمثَّل في المنهج العلمي، وهو يعني مجموعة من الخطوات، تبدأ بالملاحظة، ثم الفرض، ثم التجربة، وتنتهي بوضع القانون الذي يفسِّر الظاهرة المدروسة أو يحلّ المشكلة موضع البحث. ويُلاحَظ أن هذه الخطوات المنهجية ذات طابع موضوعي وذاتي، موضوعي : أي يشترك فيها كل الباحثين العلميِّين سواء في الغرب أو في الشرق، وذاتي يقدم فيها كل باحث من فكره وخياله العلمي ما يميزه عن الآخرين.
أما الركيزة الثانية فتتمثَّل في الروح العلمية، وهي عدة خصائص وقيم ذاتية ينبغي أن يتَّصف بها الباحث نفسه، وتصبح بكثرة الممارسة جزءًا لا يتجزَّأ من شخصيته، وهي تكاد لدى الباحثين المتميِّزين تتماهى مع خطوات المنهج العلمي ذاته. وبذلك تكتمل دائرة البحث العلمي، وهي التي تعطي له قوته الذاتية، وتدفعه باستمرار إلى تحقيق أعظم النتائج، في ميادين العلم والحياة.
ليس من السهل تقديم تعريف جامع مانع للروح العلمية لأن مفهومها واسع ومتنوِّع، لكنها مع ذلك تعبِّر عن مجموعة من الخصائص التي يلزَم توافرها في شخصية الباحث، وهذه الخصائص قد تكون:
- فزيولوجية، مثل سلامة الحواس ودقَّتها.
- سيكلوجية، مثل القدرة على الاختراع، والتَّذكُّر، والربط بين المتشابهات.
- عقلية، مثل الذكاء، والتجريد، والتحليل، والتركيب، والمقارنة.
- أخلاقية، مثل المثابرة، والزهد، والشجاعة، والإخلاص، والنزاهة.
- وجدانية، مثل حب موضوع البحث، والتعلُّق الدائم به، والاهتمام بكل ما يدور حوله.
ولا شك أن الباحثين يتفاوتون فيما بينهم تبعًا لمدى اقترابهم أو ابتعادهم عن درجة الاكتمال في الخصائص السابقة. ومع ذلك فقد حدَّد علماء المنهج عدة مبادئ رئيسية تقوم عليها الروح العلمية، وهي:
الموضوعية، والصَّرامة، والقدرة النقدية، والتسليم بمعقولية الطبيعة، والعمل في فريق.
وسوف أخصِّص هذا البحث لمقاربة إسلامية من الروح العلمية كما حدَّد خصائصها علماءُ المنهج المحدَثون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، وهي التي تسير جنبًا إلى جنب مع خطوات المنهج العلمي الذي يطبِّقه العلماء والباحثون حاليًّا في كل أنحاء العالم.
ولكي نبدأ من البداية الصحيحة لا بد أن نرجع إلى القرآن الكريم وما اشتمل عليه من آيات محكَمات تدعو كل مسلم –وليس الباحث العلمي فقط- إلى التمسك بمنظومة أخلاقية متكاملة، تكاد تنطبق انطباقًا على ما تتضمَّنه الروح العلمية التي دعا إليها علماء المنهج في العصر الحديث، ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم من:
1- التزام الصدق والبعد تمامًا عن الكذب.
2- أداء الأمانة إلى أصحابها.
3- الحكم بالعدل، حتى على من نُبغِضهم، أي الخصوم أو الأعداء.
4- عدم تطفيف الكيل والميزان.
5- عدم كتمان الشهادة.
6- إمكانية التفكير الجماعي.
7- التزام الموضوعية، وعدم الميل مع الأهواء.
8- أهمية البحث في الأنفس، والآفاق.
9- الدعوة إلى السياحة العلمية في الأرض والسماوات.
10- الاعتبار بمصير الأمم السابقة، وآثارها الباقية.
11- الإعلاء من شأن العلم والعلماء، وذم الجهل الذي يهبط بالإنسان إلى درجة أدنى من الحيوانات.
12- التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
13- الدعوة إلى استخدام الحواس فيما خُلِقَتْ من أجله: الأذن للسمع، والعين للبصر. أما العقل فوظيفته التفكير والتأمل والبحث في ملكوت السماوات والأرض.
فإذا انتقلنا إلى سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وجدناه يقول:
1- آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان.
2- ويدعو إلى الحكم على الناس حسب ظواهرهم، دون التفتيش في نواياهم.
3- وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ما رأيت رجلًا أكثر استشارة للرجال من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
4- وقد جعل فدية بعض أسرى بدر: قيامهم بمحو أمية عدد من صبيان المسلمين.
5- كما كلَّف زيد بن ثابت أن يتعلَّم اللغة العبرية ليكون مترجمًا بينه وبين اليهود في المدينة.
6- وقام بمهمته كرسول على أدقّ ما يكون: فلم يكتم آية أو لفظة مما أُنزل عليه من القرآن الكريم.
7- وكان يفصل على نحوٍ حاسم بين الوحي المنزَّل عليه وبين آرائه الخاصة، حين قال لأهل المدينة بمناسبة تلقيح النخل: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
8- وكانت له فراسة (تنبُّؤ علمي) في تكليف الأكفأ من أصحابه ببعض المهمات التي تتطلب مهارة خاصة.
9- وهو الذي قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" (البخاري).
10- ونهى عن لبس الحرير، والتَّختُّم بالذهب، وكذلك الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة.
11- وهو القائل: "ما من مسلم يغرس غرسًا فيأكل منه إنسان أو طائر أو دابة إلا كان له صدقة".
12- وهو الذي دعا كل مسلم أن يظل يعمل في عمارة الأرض حتى نهاية العالم الدنيوي "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
ومن الثابت تاريخيًّا أن العلوم عند العرب بدأت دينية ولغوية وأدبية، وكان الطابع الغالب عليها هو الشرح والتوثيق، ولهذا احتلت الرواية مكانة كبرى في تفسير القرآن الكريم، وعلوم الحديث، ثم في الفقه، واللغة والأدب. ويمكن القول بأن العلوم العملية لم تظهر لدى المسلمين بصورة واضحة ومؤثرة خلال عصر الخلفاء الراشدين وطوال عهد الدولة الأموية، لكنها بدأت تنمو وتزدهر في العصر العباسي، الذي كانت قد توقفت فيه الفتوحات، وأخذت المجتمعات الإسلامية تنعم بالاستقرار، وينتشر فيها العمران، وتتعقَّد معها وسائل الحضارة.
والملاحَظ أن المسلمين لم يتردَّدوا طويلًا في الإسراع بنقل العلوم والمعارف التي وجدوها عند الشعوب الأخرى، وهي التي أطلق المؤرخون عليها "علوم الأوائل"، وكان السبب وراء ذلك هو أن الإسلام نفسه قد دعا المسلمين إلى أخذ الحكمة من أي شعب، ومن أي مكان "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وكانت الآيات الأولى التي أنزلت من القرآن الكريم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وهي دعوة واضحة إلى القراءة في الكتاب المسطور كما في كتاب الكون الواسع.
وهكذا لم يكد ينتهي القرن الثاني الهجري حتى ظهر إلى جانب علماء الدين واللغة: علماء الحساب والفلك والطب والكيمياء، كما تم إنشاء مؤسسة متكاملة للترجمة من اللغات الأجنبية تتبع الخليفة نفسه، ويكافَأ القائمون عليها والمنفِّذون لها بأجزل العطايا والهبات؛ وبذلك انفتح أمام الراغبين في العلوم العملية أو المدنية مجال واسع من حرية البحث والتأليف، وكانوا يحظَوْن أحيانًا بتشجيع الخلفاء والأمراء، لكن الشعوب المسلمة كانت أكثر ميلًا إلى علماء الدين، بحكم أنهم حاملو لواء العقيدة الجديدة التي حلَّت محل العقائد القديمة، وكانت العامة بحاجة ماسَّة إلى معرفة الكثير من التفصيلات حولها.
والملاحَظ بصفة عامة على علماء المسلمين أنهم كانوا قليلي الحديث عن أنفسهم، ويبدو أن هذا راجع إما إلى فضيلة التواضع أو إلى وازع ديني يرتبط بالتقوى وعدم حب التظاهر، وبالتالي فإننا نفتقد الوثائق الضرورية التي تسجِّل لنا شمائلهم أو خصائصهم وهم يمارسون البحث العلمي، ومن ناحية أخرى فإن مساعديهم أو العاملين معهم لم يتركوا لنا إشارات كافية في هذا الصدد، ولذلك فإن محاولة استخلاص عناصر الروح العلمية، فضلًا عن المنهج العلمي، تظل من أصعب المهام بالنسبة لنا، ومع ذلك لا ينبغي أن نيأس، بل على العكس لا بد أن نستمر في استنطاق المسكوت عنه، والتمسك بالإشارات والتنبيهات التي وردت في ثنايا كتاباتهم، أو تسربت في الأخبار الواردة عنهم دون قصد من رواتها.
لكن الأمر الهام في مجال المقارنة هو أن علماء المسلمين لم يجدوا من المعارضة والتنكيل بأشخاصهم مثل ما وجده علماء أوربا في العصور الوسطى، وفي مطلع عصر النهضة؛ حينما كانوا يُحاسَبون على آرائهم العلمية كما حدث لجاليليو مثلًا، الذي أجبرته السلطة الدينية على التخلي عن رأيه في أن الأرض تدور حول الشمس! أما علماء المسلمين فإن مَن تعرَّض منهم للأذى كان يرجع –غالبًا أو كليًّا- لأسباب سياسية، كأنْ يناصر المعارضة فيغضب عليه النظام القائم، أو يشايع أميرًا فيغضب منه أمير آخر، أو يسعى للوشاية به لدى الخلفاء حاقد أو حاسد من المعاصرين له، وفي مثل هذه الأحوال كان العالِم ينسحب أو يختفي تمامًا من الساحة، كما حدث لجابر بن حيَّان الذي كان صديقًا للبرامكة، وعندما غضب عليهم هارون الرشيد رحل جابر إلى الكوفة حيث عاش متخفِّيًا، ثم انتقل إلى في صمت ليموت في مسقط رأسه بمدينة طوس، في حين أثَّرت أفكاره وتجاربه العلمية في كل من أتى بعده من الكيميائيين المسلمين، ثم انتقلت بعد ذلك ليكون لها تأثيرها الكبير في أوربا خلال عشرة قرون كاملة!
ملامح من الروح العلمية لدى علماء المسلمين
أول من نلتقي به في مجال الكيمياء، والشغف بها حفيد معاوية: خالد بن يزيد، الذي تنازل عن حقه في الخلافة مكرِّسًا حياته للاشتغال بعلم الكيمياء، وكان أول من دعا إلى ترجمة بعض مؤلفاتها إلى اللغة العربية. ومن أقواله:
- كنت معنيًّا بالكتب، وما أنا من العلماء ولا من الجهَّال! = تواضع.
- وعندما سُئل عن شغفه بعلم الكيمياء وتفضيله على الخلافة، أجاب:
ما أطلب بذلك إلا أن أغني أصحاب وإخواني.
وإنني لم أجد عوضًا عن الخلافة إلا أن أبلغ آخر هذه الصنعة (الكيمياء)، فلا أُحوِج أحدًا عرفني يومًا أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة! = عشق موضوع البحث.
- وكان إذا لم يجد أحدًا يحدِّثه في مسائل الكيمياء حدَّث جواريه، ثم يقول: إني لأعلم أنَّكُنَّ لَسْتُنَّ له بأهل -ويريد بذلك الحفظ= شغل الوقت بالعلم.
توفي سنة 85هجرية= 704 ميلادية.
أما جابر بن حيَّان، الذي توفي حوالي سنة 200هـ، فإنه يُعَد أبا الكيمياء العربية. قيل إنه ألَّف حوالي خمسمائة كتاب ورسالة. وهو –في رأينا- رقم مبالَغ فيه، لكن الحقيقي أن ثلاثة من أهم كتبه وهي كتاب "الخواص"، وكتاب "الخواص الكبير"، وكتاب "الرحمة" ظلت مقدَّرة لدى الكيميائيين في أوربا حتى القرن السابع عشر. وتدور أعمال جابر التي قامت أساسًا على التجارب العملية، على خمسة محاور، هي: الكيمياء، وعلم التكوين (تكوين المواد)، وعلم الخواص، وعلم الميزان، وعلم الطبيعة.
يقول جابر بن حيَّان في كتابه "الخواص الكبير" ص27: "وكان معي من هذا الإكسير شيء فسقيتها منه حبَّتَيْن، وعادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية، فانكبَّ يحيى على رجلي مقبِّلًا لها..." = وهذه إحدى علامات الانفعال الشديد الذي يُحدِثه نجاح التجربة العلمية، ويرتبط عادة بالروح العلمية لدى كبار العلماء. ونجد له مثلًا مطابقًا لدى مساعدي العالم الفرنسي الكبير باستير pastuer حين كانت تنجح تجاربه.
وأما الكندي أول الفلاسفة العرب المشائين، والمختلف في تاريخ وفاته بين السنوات (246، 252، 258، 260هـ) مما يدل على إهمال معاصريه له، وعدم متابعة سنة وفاته بهذا الشكل الذي لا يليق بفيلسوف كبير وعالم متميِّز مثله. ويبدو أن نفس المصير قد أصاب مؤلفاته التي بلغت المائتي كتاب ورسالة، ودارت حول موضوعات متنوعة (الفلسفة- المنطق- الحساب- الهندسة- النجوم- الفلك- الطبيعيات- النفس- السياسة- أنواع الكائنات ...) ومن الغريب أن معظم مؤلفات الكندي التي ضاعت أصولها العربية توجد منها نسخ مترجمة إلى اللاتينية بالمكتبات الأوربية.
كان الكندي صاحب الرأي القائل بعدم إمكانية تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب أو فضة، مخالفًا بذلك الرأي الخاطئ الذي ساد بين كثير ممن اشتغلوا بالكيمياء العربية. أما أهم أعماله التي ساعد فيها الدولة فهي التي تعرضها رسالته في أنواع السيوف والحديد، وكيف يمكن تطوير السيف ليصبح قاطعًا وحادًّا ولا يمكن كسره، بالإضافة إلى تلوينه بعد ذلك بمواد عضوية، ثم إضافة مواد كيماوية سامَّة إلى حَدِّه ليصبح قاتلًا بمجرد لمسه! وعلى الرغم من ذلك كله، فلم يُعرف الكندي لدى عامة المثقفين العرب إلا بما ذكره عنه الجاحظ من أنه كان بخيلًا !
فإذا جئنا إلى الرازي وجدنا ثلاثة جوانب: الطب والكيمياء والفلسفة. أما فلسفته فهي مثار اعتراض شديد بسبب كتاب نُسب إليه بعنوان "مخاريق الأنبياء"، وينبغي أن نستبعدها تمامًا من حديثنا هنا. وأما الطب فقد كان الرازي من أكبر وأبرع الأطباء المسلمين الذين نالوا شهرة واسعة في عصرهم، وبالتالي كثر حساده ومُبْغِضوه! وسوف ينتهي –كما انتهى جابر بن حيَّان- أعمى، وحيدًا، غير معروف المكان الذي توفي به، ولا الزمان الذي وافته المنية فيه. فقد تفاوت المؤرخون كثيرًا في عام وفاته بين سنوات (290، 302، 311، 317، 320، حتى قيل إنه توفي 364هـ)، وتلك علامة أخرى على مصير العلماء لدى المسلمين !
من أهم مؤلفات الرازي في الطب كتابه (الحاوي)، وتحتوي طبعته اللاتينية على 25 مجلدًا، وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة في أوربا بإيطاليا عام 1486م، ثم كتابه (المنصوري) في عشرة أجزاء، ورسالته البالغة الأهمية في (الحصبة والجُدَري) التي يقول عنها سارتون: "إنها أقدم وصف للجُدَري والحصبة، وأفضل ما كتب في الطب الإسلامي".
كان الرازي ثريًّا نتيجة اشتغاله بالطب، واستدعائه في بلاط أمراء عصره، ومع ذلك فقد كان يوصي الطبيب بعدم إقباله الشديد على الدنيا، لأن ذلك يقلِّل من رصيده الطبي. وكان يقرِّب منه في المجلس أمهر تلاميذه ثم تلاميذهم ثم الأقل.. فإذا جاء رجل مريض سأل هؤلاء، فإن أجابوا وإلا أجاب هو، وهذا هو العرف المعمول به عند أكبر أطباء العالم حاليًّا. وقال عنه أحد الورَّاقين: "ما دخلت عليه قط إلا ورأيته يسوِّد أو يبيِّض" أي يكتب مسودة كتاب، أو يقوم بكتابتها على نحو أوضح. وقد بلغ من براعته في الطب أن أُطلِق عليه لقب: جالينوس العرب. واشتُهر عنه أنه كان كريمًا جدًّا، وكان يساعد المحتاجين من تلاميذه بمعونة شهرية.
ومن نوادر الصُّدَف أن العالِم الذي ألَّف كتابًا في كيفية الإبصار، فأثبت فيه أن الإبصار يحصل من خروج الضوء أو الشعاع من الجسم المنظور، وليس كما كان سائدًا من قبل أن العين هي التي يخرج منها هذا الضوء أو الشعاع- أقول: إن هذا العالِم قد انتهى بزوال بصره من كثرة القراءة في ضوء ضعيف!
أما ابن سينا (ت: 428هـ= 1037م) فيبدو أنه أدرك ما يتعرض له علماء المسلمين من إهمال وازدراء، وتحريف لسيرتهم بعد وفاتهم، فكتب بنفسه قصة حياته، التي أكملها بعد ذلك تلميذه الجوزجاني. لكنه كان بحق عبقرية علمية، سواء في مجال الطب، أو في مجال التأليف الفلسفي.
لم يُعَمَّر ابن سينا طويلًا، فقد عاش فقط (53 سنة)، ولكنها كانت مليئة بأعمال علمية جليلة تتجاوز هذه المدة القصيرة.
لم يوافق ابن سينا على الرأي الذي كان سائدًا لدى هواة الكيمياء العربية، والذي كان يذهب إلى إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب وفضة. ومن خلال الفصلين الأخيرين من كتابه (القانون) يتبيِّن أن ابن سينا كان على معرفة عميقة بالأدوية المفردة، وكذلك بالأدلة المركبة التي تتطلَّب معملًا، ومواد معيَّنة، وأجهزة مخصَّصة لصنعها.
وهناك من اتَّهم ابن سينا في عقيدته، واتَّهمه أحيانًا بالزندقة والكفر، لكن كتابات الرجل كلها لا تصرِّح بشيء من ذلك، بل حتى لا توحي به من قريب أو بعيد، فقد كان يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وهذه كلها من شيم العلماء الصالحين فضلًا عن المؤمنين الصادقين.
ويصف ابن سينا حاله مع العلم في نص اعترافي نادر، فيقول: وكلما كنت أتحيَّر في مسألة، لم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المغلق، وتيسَّر المتعسِّر، ثم يقول: "وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يديَّ وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود لي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة". ونحن بالطبع لا نوافقه على تقوية ضعفه بقدح من الشراب، الذي هو محرَّم في الإسلام، لكننا نقدِّر له اعترافه بهذا الخطأ، تاركين لله تعالى أمر عقابه أو العفو عنه.
ومعاصرًا لابن سينا، بل وعلى صلة به من خلال بعض اللقاءات والمراسلات، نلتقي بالبيروني (ت: 441هـ)، العالم الموسوعي، الذي يتنازعه حتى الآن الأتراك، والفرس، والعرب، لكنه كان يُكِنُّ حبًّا شديدًا للكتابة باللغة العربية، مفضِّلًا إياها على الفارسية واللغات الأخرى التي كان يجيدها، وهو القائل: إن الهجو بالعربية أحبُّ إليّ من المدح بالفارسية!
وبالإضافة إلى التاريخ، واستعراض الحياة الهندية في كل مجالاتها في كتاب نادر، نجد البيروني عالمًا متبحِّرًا في الكيمياء، والفلك، والجغرافيا، والهندسة.. وهو يؤكد لشباب الباحثين أن يتعلموا عدة لغات مثله؛ لكي يتاح لهم معرفة أصول المصطلحات، ومن أين جاءت؟ وكيف تم تداولها بين الشعوب المختلفة؟
ويتميِّز البيروني بالأمانة العلمية التي تتجلَّى في الحرص على ذكر المصادر التي استمد منها المادة العلمية في مؤلفاته، مشيرًا إلى أنه يذكرها كما هي إذا كانت صحيحة ومجرَّبَة، ومصحِّحًا إياها إن تبيَّن له خطؤها، كما أنه يميِّز بينها وبين ما توصَّل إليه بنفسه.
ونظرًا لتميُّز البيروني في معرفته العلمية، فقد قرَّبه سلاطين عصره، وأغدقوا عليه أحيانًا المنح السنية لقاء أعماله. يروي أنه عندما انتهى من كتابه الشهير في علم الفلك، أهداه إلى السلطان مسعود الغزنوي، وسمَّاه (القانون المسعودي في الحياة والنجوم) فأُعجِب به السلطان كثيرًا، وأهداه حمل فيل من النقد الفضي، فردَّه البيروني إلى الخزانة بحجة الاستغناء عنه (ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج6، ص309)، وفي هذا دلالة واضحة على زهده في المال، وتكريس حياته للنشاط العلمي.
أما عشقه للمعرفة، فيبرز فيما رواه أحد أصدقائه من الفقهاء، حين مرَّ به في مرض موته، وهو في النزع الأخير، ففوجئ به يسأله عن مسألة في ميراث الجدَّات، وعندما قال له الفقيه: أفي هذه الحالة؟! أجاب: يا هذا، أودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألَا يكون خيرًا من أن أخليها وأنا جاهل؟ يقول الفقيه: فأعدت المسألة عليه وحفظ عني.. وخرجت من عنده فسمعت وأنا في طريقي صراخ أهل بيته!
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى ابن النفيس (ت: 687هـ)، الطبيب المتعدد المواهب والاهتمامات، والذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى، التي أكملها الطبيب الإنجليزي هارفي سنة 1622م باكتشافه الدورة الدموية الكبرى.
كان ابن النفيس بالإضافة إلى تمكنه في الطب: فقيهًا، ونحويًّا، ومؤرخًا. ولد في دمشق أو قريبًا منها، ثم انتقل إلى القاهرة وعاش بها بقية عمره حتى بلغ الثمانين. كان على علاقة طيبة مع علماء عصره، وقد هيَّأ داره لاستقبال الراغبين في العلم، وكان من بين أصدقائه لفيف من أقباط مصر.
وصل ابن النفيس في الطب مستوى عاليًا، ولهذا كان هو الطبيب الخاص للظاهر بيبرس (حكم 658- 676هـ) وهو الذي عيَّنه رئيسًا للأطباء فأصبح شيخ الطب في الديار المصرية، وبذلك صارت له سلطة محاسبة الأطباء ومراجعتهم في هفواتهم.
كان شديد الورع، حتى إنه في مرض موته أشار عليه بعض أصدقائه من الأطباء بتناول شيء من الخمر –إذْ كانت علته تناسب أن يتداوى بها- فأبى أن يتناول شيئًا من ذلك وقال: "لا ألقى الله وفي باطني شيء من الخمر" (مسالك الأبصار للعمري، نقلًا عن عبد المنعم عمر، ص18).
وقد كرَّس ابن النفيس حياته كلها للعلم والتعليم، ومات بعد أن أوقف داره وأمواله الطائلة ومكتبته على البيمارستان المنصوري، الذي كان قد كلَّفه السلطان قلاوون بإنشائه.
ومما يُروى عن انشغال باله بالمسائل الطبية، أنه بينما كان في الحمام والصابون يغطي جسمه، خرج مسرعًا، وطلب قلمًا وورقًا، ثم راح يكتب رسالة عن النبض، وبعد أن انتهى منها عاد لاستكمال حمامه!
ولا يمكن تصوُّر اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى إلا من خلال قيامه سرًّا بالتشريح، حيث قال: إن الدم يخرج من البطين الأيمن بالقلب إلى الرئتين حيث يمتزج بالهواء، ثم يعود إلى البطين الأيسر.. وكان الرأي السائد حتى ذلك الوقت أن الدم يتولد في الكبد، ثم ينتقل إلى البطين الأيمن بالقلب، ثم يسري بعد ذلك في العروق إلى مختلف أعضاء الجسم.
لكننا بعد ذلك يمكن أن نتوقف قليلًا عند كتاب فريد من نوعه لطبيب غير مشهور، هو إسحاق بن علي الرهاوي (القرن الثالث الهجري) بعنوان (أدب الطبيب)، وقد نشره –كما هو مخطوط- المحقق التركي الكبير فؤاد سزكين عن نسخة وحيدة بمكتبة السليمية بأدرنة في تركيا سنة 1985م.
وميزة هذا الكتاب النادر أنه يتناول في عشرين بابًا: آداب مهنة الطب وأخلاقياتها التي ينبغي على أي طبيب أن يتحلَّى بها، وهي ما يتصل –في رأينا- اتصالًا مباشرًا بالروح العلمية، التي تمثل الجناح الثاني من البحث العلمي الذي يؤدي الالتزام به واتباعه إلى أعظم النتائج في تقدم العلم وحياة المجتمع.
يقول مؤلف الكتاب: وقد تكلفت جمع ما قدرت عليه من الآداب التي ينبغي للطبيب أن يؤدِّب بها نفسه، والأخلاق المحمودة التي ينبغي أن يدبِّر بها جسمه، والأفعال التي يجب أن يفعلها بذاته أولًا، والأفعال التي يفعلها الأصحَّاء والمرضى، وجملًا من الأفعال والوصايا والتدابير التي ينبغي له أن يتقدَّم بها إلى المريض وخدمه ومن يتولى معالجته. (ص3)
وأول معتقدات الطبيب الصالح الناجح هو الاعتقاد في الله تعالى، وأنه وحده خالق الكون ومدبِّر أمره ومتولِّي شئونه، كما أنه هو الذي أرسل الرسل ليبيِّنوا للناس طريق الهدى، وينقذوا النفوس من الضلال، كما خص الأطباء بعلاج أمراض الأجساد والعمل على شفائها. وفي هذا الصدد يستمد المؤلف أقوالًا من كبار فلاسفة اليونان وأطبائها من أمثال أرسطو، وأفلاطون، وبقراط، وجالينوس، مشيرًا فقط إلى بعض فلاسفة المسلمين من أمثال الكندي.. لكنه يفصِّل القول في الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الطبيب، وهي تتمثَّل في مجموعة الأخلاق الفاضلة التي يتميَّز بها الحكماء والفلاسفة، وهي التي تنبع من الاعتدال في استخدام قوى النفس الثلاثة، التي هي القوة النفسانية وتنبع أفعالها من الدماغ، والقوة الحيوانية وتتم أفعالها بالقلب، ثم القوة الشهوانية التي تتم أفعالها بالكبد.. أما فضائل هذه القوى الثلاث فهي: العقل والرزانة والعفة.
وكما ينبغي أن يحافظ الطبيب على عقيدته الصحيحة، ويحقق الاعتدال المنشود بين رغباته وأفعاله، فإن عليه أيضًا أن يعتني بصحة جسده وسلامة أعضائه، حيث يقتضيه عمله أن يكون غالبًا مع المرضى، وعلى اتصال مباشر بأهلهم ومن يخدمونهم. وهذا ما يذكره الزهاوي في الباب الثاني بعنوان (في التدابير لمصلحة الأبدان، وبها يصلح الطبيب جسمه وأعضاءه) ثم يفصله بعد ذلك في الباب الثالث، والباب العشرين من الكتاب.
تلك فقط نماذج من أبرز علماء المسلمين في مجال البحث العلمي (التجريبي)، ويمكننا أن نتوقف الآن عند أحد كبار علماء المسلمين في مجال الدراسات الإنسانية، وهو ابن حزم الأندلسي (ت: 456هـ) الذي استفاد من خطوات المنهج التجريبي، وحاول تطبيقه على دراسة واحدة من أهم وثائق التاريخ القديم، وهي المتعلقة بنص التوراة التي كانت بأيدي اليهود في عصره.
وإنما اخترنا ابن حزم بالذات لأن الإنتاج الضخم والمتعدد المجالات الذي تركه لنا ينتظمه (منهج) واحد، يبدو بوضوح إما في نقده لمن سبقوه أو في تأسيسه لمذهبه الخاص الذي راح يدعو إليه.
ويمكننا أن نقرِّر منذ البداية أن كثيرًا من خصائص الروح العلمية ومبادئها في البحث العلمي الحديث توجد بكل دقة عند ابن حزم، بدءًا من عشق العلم، وتكريس حياته كلها من أجله، ومرورًا بالدقة في النقل، والأمانة في نسبة الآراء إلى أصحابها حتى ولو كانوا مخالفين له، إلى جانب استقصاء جوانب النص الذي يدرسه بالبحث عن وثائقه، والاستفسار شفاهًا من العارفين به، ووصف محتوياته قبل بيان عيوبه. وفيما يلي بعض الخطوات التي اتبعها قبل أن يقوم بنقد النص التوراتي الذي هو بإيدي اليهود على عصره:
1- جمْع ما أمكن من نسخ التوراة التي كانت مترجمة إلى العربية على عهده، وكذلك كتب الأنبياء الأخرى والشروح والتعليقات.
2- الاطلاع الواسع والمتعمِّق في تاريخ اليهود السياسي والديني، مع الإلمام الكافي بجغرافية بلادهم التي سكنوها.
3- السعْي إلى كثير من علماء اليهود للاستفسار عن معنى غامض أو موهِم، والدخول مع بعضهم أحيانًا في مناقشات شفوية (الفصل في الملل والأهواء والنحل، 1/116؛ وانظر: منهج البحث بين التنظير والتطبيق، لحامد طاهر).
والنتيجة أننا (الكثير) من عناصر الروح العلمية ظاهرة بوضوح لدى علماء المسلمين الذين اشتغلوا بالبحث العلمي، في حين أن (كل) عناصر المنهج العلمي لم تتوافر لديهم بنفس المستوى ، وهذا ما جعلهم يتأخرون عن علماء أروبا في اكتشاف وتطبيق هذا المنهج. وأيًّا ما كان الأمر فإن علماء المسلمين ينبغي أن يفسح لهم مكان لائق بهم في تاريخ المنهج الحديث، بدلًا من إعطاء كل المكان والمكانة لعلماء الغرب في هذا المجال.
|