الشاعرية : عناصرها وآفاقها
الشاعرية تتكون من مجموعة من العناصر التى يتوصل بها الشاعر الى مستوى معين فى الاداء الشعرى ، الذى يميزه عن غيره من الشعراء . وهذا معناه أن لكل شاعر شاعريته الخاصة به ، كما أن لكل إنسان شخصيته المستقلة . ومع ذلك ، فإننا إذا تلمسنا عناصر الشاعرية أمكن أن نلخصها فيما يلى :
الموهبة الشعرية ، والتكنيك الشعرى ، والرسالة الشعرية
1-الموهبة الشعرية
معظم الناس يحبون الشعر . والكثير منهم حاول فى مطلع حياته أن يكتب شعرا ، أو ما اعتقد أنه شعر ، ولكنهم مالبثوا أن وجدوا ماكتبوه عاديا أو ضعيفا ، فانصرفوا عنه ، منهمكين فى حياتهم العملية ، أو فى هوايات أخرى .. لكن القليل والقليل جدا هم الذين يصرون على الاستمرار فى كتابة الشعر ، ومحاولة الإجادة فيه ، مدفوعين بقوة داخلية ، نابعة من أعماقهم ، وبصوت خفى يتردد فى وجدانهم ، يؤكد لهم أنهم إنما خلقوا ليكونوا شـعراء .. وعلى الرغم من صعوبة الطريـق ، وكثـرة العوائق ، فإنهم يندفعون فيه بلا هوادة ، مضحين بكل ما يملكون : بالجهد و الوقت وجميع الآمال والملذات الأخرى من أجل إرضاء تلك الرغبة القوية فى كتابة الشعر ، والوقوف على بابه ، بل واستجداء لحظاته الخاطفة ، التى تحلق بهم فى فضاء لا يعرفه سائر البشر ، ويمنحهم القدرة على الكتابة بعفوية لا تكلف فيها ، و بساطة لا تعقيد فيها . ويدهشنا فى الشاعر الموهوب أننا نجلس معه فنجد حديثه مألوفا ، وأفكاره شائعة ، ولكنه عندما يطلعنا على إحدى قصائده نجد أنه كأنما استمدها من عالم مغاير لعالمنا ، وما أشبهه بالغواص الذى يتركنا على الشط ليرتاد أعماق البحر مفتشا عن لؤلؤة نادرة ، ليخرجها لنا باهرة ومتألقة .
والموهبة هى التى تجعلنا نفرق بين الشعر المطبوع والنظم المصنوع . فهناك العديد من الأشخاص الذين يمكنهم كتابة "الشعر" فى أى وقت ، وفى أى غرض . وقد يكون هذا الشعر موزونا مقفى ، ومتمشيا مع القواعد والمعايير المعروفة فى علم العروض ، ولكنه يظل خاليا من الروح ، أو ما يمكن أن نطلق عليه "النفس الشعرى" الذى ينساب بسهولة و يسر ، وينتقل من الشاعر إلى قلوب الناس فيجدون له صدى ، ويحسون معه برعشة .
2-التكنيك الشعرى
هو الأسلوب الذى يتعود الشاعر على استخدامه فى كتابة قصائده ، بدءا من افتتاحية قصائده والمعجم اللغوى الذى يفضله ، ومرورا بالتركيبات الشعرية للجمل والعبارات ، وبأساليب الحكى ، والحوار ، وتعدد الشخصيات داخل القصيدة ، والانتهاء بخاتمتها . ومن المعروف أن لكل قصيدة معمارها الخاص بها . وهى أشبه بالبناية التى يصممها المهندس ، أو بقطعة الحلى التى ينفذها الصائغ ، ينبغى أن يوضع كل جزء فى مكانه ، متماسكا بانسجام تام مع ما يجاوره ، ثم لابد للكل أن يبدو على أفضل نحو ممكن .
ومن الواضح أن التكنيك الشعرى يتطلب القصد ، وإتقان الصنعة ، والجهد المبذول . وهى أمور قد تتناقض مع ما سبق أن ذكرناه عن الموهبة . والواقع أن التناقض ظاهرى فقط ، فالموهبة هى التى تتيح اللحظة المناسبة ، وتزود الشاعر بالروح الدافع والجناح المحلق ، لكن التكنيك يظل من صميم عمله الخاص ، وجهده الشخصى . وما أكثر الشعراء الذين لم يعطوا لهذا العنصر الهام مكانه فلم تستمر موهبتهم طويلا ، وسرعان ما تلاشوا كشعراء مجيدين .
الشاعر يستطيع أن يطور باستمرار أسلوبه الشعرى ، وأن يجود أداءه تبعا لما يطلع عليه ، أو يقتنع به من تطور فى الحركة الشعرية لعصره .. وفى لحظات ليست بالقليلة ، تمد الموهبة الشعرية صاحبها ببعض الإنجازات التى تساعده على أداء عمله . فكثيرا ما يجد الشاعر – أثناء كتابة القصيدة – بعض العبارات تجرى على قلمه دون قصد ، أو بعض الخيالات والصور تتشكل دون تدخل منه . وفى أحيان أخرى ، قد يبدأ الشاعر بكتابة الجزء الأخير من القصيدة قبل أن يشرع فى كتابة مطلعها .. وهكذا فإن التبادل بين الموهبة والتكنيك الشعرى غير مقطوع ، كلما أخلص الشاعر لفنه وأعطاه كل جوارحه ، جادت عليه الموهبة بالكثير من هداياها ..
3-الرسالة الشعرية
لكل أديب أو عالم دوره فى تفدم الانسانية ، كما أن لكل انسان دوره فى الحياة . والشعراء يتفاوتون فيما بينهم تبعا للدور الذى يقوم به كل منهم ، والرسالة التى يسعى لتوصيلها إلى الناس . ومهما تحدثنا عن أهداف الأدب والشعر ، فإن هدف التغيير للأفضل .. سوف يظل هو أسمى الأهداف ، لكننا نلاحظ أن بعض الشعراء يغلب على دورهم الطابع السياسى ، أو الأخلاقى ، أو الدينى ، أو العاطفى ، ومنهم من يبرز لديه النقد الاجتماعى ، أو الرفض للواقع أو التمرد على الأوضاع السائدة ، ولا شك أن الشاعر فى هذه المستوى لا يمكن فصله عن عصره ، والبيئة التى تحيط به ، وهذا ما يجعلنا نعترف بأن الشاعر مهما حلق عاليا وبعيدا عن مجتمعه فإنه – فى نهاية الأمر – مرتبط به ، مشدود إليه بالكثير من الخيوط التى لا يمكنه الفكاك منها .
وإذا كان لهذا الارتباط بين الشاعر وبيئته بعض المزايا ، فإن له جوانب أخرى سلبية ، فقد تكون مشكلات المجتمع من النوع الذى يطغى عن العناصر الأخرى لشاعرية الشاعر . ويحضرنى هنا ما شاع فى الشعر العربى من مفاخرات ومنافرات بين الشعراء ، اقتضتها ظروف عصرهم وغطت بالتالى على مواهب شعراء من أمثال جرير والفرزدق .. ونفس الأمر ينطبق – من ناحية أخرى – على المتنبى ، الذى بدد جزءا كبيرا من قواه الشعرية الرائعة فى مديح ورثاء من كان يستحق ، ومن لم يكن أهلا لذلك من أبناء عصره .
لكن الشاعر الكبير هو الذى يستطيع أن يسيطر على أدواته بحيث يوجهها إلى نوع الرسالة التى يريد توصيلها للناس ، سواء فى عصره أو لمن يأتى بعده . وكلما اتسمت تلك الرسالة بطابع إنسانى أصيل اتسع نطاق تأثيرها ، واستمر إشعاعها لأطول فترة ممكنة ، لذلك فمن حقنا دائما أن نتساءل – بعد قراءة كل أديب – ماذا يريد أن يقول لنا ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|