قصص خاطفة
تقديـم
هذا نوع من القصص القصيرة ، بل والقصيرة جداً ، أطلقت عليه مصطلح (القصص الخاطفة) ، وأعنى بها قصص الموقف البسيط ، واللمحة السريعة ، التى يتم التقاطها من واقع الحياة الجارية، وترصد بعض التفاصيل الدقيقة ، والمفارقات الساخرة، فى عبارات قصيرة أو متوسطة ، قد يتخللها بعض الحوار، أو توجد فيها عقدة ، لكنها ما تلبث أن تنحل، لكى تضع القارئ فى حالة من الدهشة الأدبية، وتتركه يفكر فى المغزى، والهدف ، وكيف؟ ولماذا ؟
يقترب هذا النوع كثيراً من القصيدة الشعرية، كما يتشابه مع اللوحة الفنية ، وهو لا يحتاج لتعب شديد فى قراءته ، أو محاولة فهمه . فهو بسيط غير معقد ، عفوى ومنساب . بل إن القارئ يمكنه استيعابه بنظرة واحدة ، وهو يصلح للإلقاء كما يلقى الشعر ، ويمكن للكبار أن يتواصلوا به مع الصغار فى سهولة ويسر .
ويتمشى هذا النوع من (القصص الخاطفة) مع روح العصر ، الذى لم يعد يقبل القراء فيه على الأعمال الأدبية الطويلة . ويكفى لإثبات ذلك أن تجرى إحصائية بسيطة لمن قرأوا (ثلاثية) نجيب محفوظ ومن شاهدوها فى السينما أو التليفزيون ؟ وكذلك من قرأ نزار قبانى ، ومن استمع لقصائده التى غناها عبدالحليم حافظ وكاظم الساهر وماجدة الرومى..
ومن أهم خصائص (القصص الخاطفة) أنها تستجيب لنشرها وتداولها على شبكة الإنترنت ، حيث لا تزيد كل منها عن صفحة فلوسكاب. وفى تصورى أنها قد تفتح باباً لإهدائها من شخص إلى آخر عبر البريد الإلكترونى (E-mail ).
وهكذا يمكن أن يتفاعل الأدب مع التطور التكنولوجى ، الذى بدأ يشهده العالم ويعيش طفراته المتلاحقة . وبدلاً من أن يظل محصوراً فى أشكاله التقليدية، البطيئة الإيقاع، يتحول إلى جرعات مركزة ، تتداخل وتتوافق بسرعة مع البناء الثقافى للإنسان المعاصر.
أخيراً تبقى كلمة أريد أن أحيى فيها كل من سبقنى إلى مثل هذا النوع من الكتابة ، وكذلك كل من سيتابعه بمزيد من الكفاءة والتطوير. .
حامد طاهر
عناوين القصص
1) حلم فى البرلمان
2) واجب عزاء
3) شاعر فى مجلة
4) نصف المبلغ
5) صديقان
6) الفستان
7) زجاجة الساعة
8) ترويض البواب
9) تاجر فى طائرة
10) المستمع الساخر !
11) عودة المسافر
12) الفاكهة المعطوبة
13) فى غرفة الإنعاش
14) الأستاذة الجميلة
15) هدايا الحج
16) الحياة تستمر
17) العبارة الخالدة
18) المقعد الخلفى
19) لوعة الفراق
20) محاولة قـتل
21) فى معمل التحاليل
22) قرآن الفجر
23) رفيق السجن
24) ساعى البريد
25) حديقة الحيوان
26) على البلاج
27) الاجتماع الضائع
28) هدية من السماء
29) دعوة غداء
30) أسلوب حياة . .
31) الأخوان
32) ذهاب – عودة
33) موت أستاذ
34) تصبحين على خير !
35) الهرم الأكبر
36) الشقة المتميزة
37) صوت من الماضى
38) الزوج الغاضب
39) لقاء ناجح . .
40) زيارة الأحلام
41) الأسطوانة المشروخة
42) تسريحة الكوافير
43) حياة خلف النافــذة
44) مرضى لا يشتكون
45) قانون الصدفة
46) بعد المعاش
47) القطة الشرسة
48) فاهمه يا خضرة ؟ !
49) فى المصيف
50) حلم ليلة صيف
51) الإنسان المحمول
52) دموع الفرح
53) لحظة اتخاذ القرار
54) أمام التلفزيون
55) رحلة قطار
56) استدعاء
57) بعض الماكياج
58) انسحاب فنانة
59) الأخت الحاسدة
60) سنوات الحكومة
61) رد مجاملة
62) دخان الرسائل
63) محاولة
64) الوظيفة الأفضل
65) شاى بالنعناع
66) بدون تكييف
67) اشتراك الرحلة
68) نهر الحياة
69) عشق اضطرارى
70) حب الشيخوخة
71) الفرصة الضائعة
72) الضّجَر
73) الأوراق القديمة
74) مراقبة
75) فضفضة
76) صداقة لها جذور
77) الجيت سكى
78) القرية النائية
79) المأمورية
80) بينهما . .
81) اكتشاف
82) روقان بال
83) أوبرا عايده
84) المفاجأة
85) حديث صديقين
86) مسألة محيرة
87) رُبَّ صدفة . .
88) الأجازة الأطول
89) نجدة السماء
90) النبوءات الثلاث
91) مشاعر متباينة
92) الحاجة إلى الدعاء
93) النصيحة الواجبة
94) المطلوب
95) دقة توقيت
96) تسريب القطة
97) نفس الطريق
98) رسائله إليها . .
99) صلة الرحم
100) أسئلة فجرّها الماضى
101) السيناريو الذي حوَّله
حلم فى البرلمان
جلس النائب يستمع إلى كلمات زملائه فى البرلمان ، لكنه كان مرهقاً من سفر القطار ، فأحس بالنوم يغالبه بقوة . ظل يدفعه عنه خشية أن يراه أحد، أو تقع عليه كاميرا التليفزيون فتفضحه أمام أهالى دائرته. لكن الفرصة السعيدة واتته ، حين وقف أمامه مباشرة زميل ضخم الجثة ، راح يلقى بياناً مطولاً . .
كان دوار العمدة يموج بالفلاحين الذين التفوا حوله ليعطوه الشكاوى، ويحدثوه عن مشاكلهم . وكان يستمع لكل منهم وسط الضجيج ويعده خيراً . تلقى الكثير من الدعوات ، وكاد بعضهم يسقط على يده يقبلها . وفجأة ظهر منافسه المهزوم فهرول إليه الكثيرون ، وراحوا يشكون إليه من أن النائب لا يصغى إليهم . بحث عن العمدة وشيخ البلد ليستشهد بهما ، ويقسم أنه يحسن استقبال الجميع . نظر إليه المنافس القديم باستخفاف ثم قال :
- ألم أراهنك على أنك لن تصلح للدائرة .
أكد له أن أداءه موضع إعجاب الجميع ، وأنه هو الحاقد الذى لن يرتاح أبداً لمتابعة انتصاراته . قال له بسخرية :
- أية انتصارات ؟ ! كلها كلام فارغ .
غلى الدم فى عروقه، وأمسك بتلابيبه ، وكاد يهوى بيده على رأسه، لكن زميله فى البرلمان أيقظه قائلاً :
- يا أخى كفاية بقى . . الناس كلها سمعت شخيرك!
واجب عزاء
جلس فى السرادق مقطباً جداً . ومع مرور الوقت ، راح يتفقد أفواج القادمين والراحلين، ثم اطمأن إلى أن أحداً لا يراقبه، فاختفت الجهامة من وجهه ، وحل محلها نوع من الرغبة فى ملاحظة الوجوه ، والإصغاء إلى مختلف الهمسات. شرب أكثر من فنجان قهوة . كما تلقى عدة سجائر وضعها فى جيبه. سلم على أهل الميت بحرارة ، ثم خرج من السرادق ، وهو راضٍ تماماً عن نفسه ، حيث أدى واجب العزاء . .
شاعر فى مجلة
حمل الشاعر مجموعة مختارة من قصائده، وذهب إلى المجلة ، التى سبق أن نشرت له قصيدة واحدة ، والتى كانت هيئتها بالكامل منهمكة فى اجتماع هام مع رئيس التحرير . جلس منتظراً فى الممر . عطف عليه الساعى فاحضر له كوب شاى، راح يرشفه مقلباً أوراقه ، ومحاولاً قراءتها للمرة الألف . تجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر ، ولم ينفض الاجتماع. نهض الشاعر مسلماً بيده على الساعى ، وهو يقول :
أرجو أن تبلغ الزملاء أننى سأمر عليهم فى فرصة أخرى . .
نصف المبلغ
عاش يتمنى أن يمتلك الفيلا الواقعة على ناصية الشارع ، وخاصة أن صاحبها توفى ، وأبناءه يحتلون مناصب دبلوماسية فى الخارج. سأل عن نيتهم فى البيع والثمن ، فقيل له يومئذ: اثنا عشر ألف جنيه . كان ذلك فى بداية السبعينات، ولم يكن يمتلك حينئذ سوى نصف المبلغ . قرر أن يسافر إلى إحدى البلاد العربية ليحسن دخله ، ويدخر الباقى . . هناك ظل عشرة أعوام متواصلة ، عمل فيها بجد ، وجمع الكثير . وعندما رجع إلى مصر وجد الفيلا ما زالت قائمة ، وأصحابها يطلبون فيها خمسمائة ألف جنيه . أما هو فلم يكن معه سوى نصف المبلغ أيضاً ! !
صديقان
جمع القدر بينهما برباط عجيب، كانا يسكنان متجاوريْن ، وتزاملا فى كل مراحل التعليم . حتى فى الجيش . . تم تجنيدهما فى نفس السلاح . وكان الأعجب أنهما التحقا فى الوظيفة بمكان واحد. أما الافتراق الحقيقى ، فجاء من الزواج ، حيث أرسل كل منهما والدته إلى أسرة بنت الجيران التى أحباها معاً ، ففضلت أحدهما على الآخر ، الذى لم يتحمل الصدمة ، فسافر فى أول فرصة إلى الخارج.. عمل وكد ونجح ، ثم عاد بعد عشر سنوات كاملة ، ليفاجأ بوفاة صديقه ، ويلتقى بأرملته مع طفلين فى عمر الزهور . على الرغم من كثرة الفتيات اللاتى عرضن عليه للزواج ، فقد اختار تلك الأرملة، ليقضى معها بقية حياته .
الفستان
كان أخشى ما تخشاه أن تكتشف صديقاتها من أين اشترت لها أمها ثوبها الجديد . كل واحدة من صديقاتها تتباهى بأنها تشترى فساتينها من أرقى محلات البلد ، فماذا يحدث لو عرفن أن هذا الفستان من (وكالة البلح) ؟ ! أغلقت الحجرة على نفسها، وراحت تقيسه عدة مرات ، ثم تتفحص كل ثنية فيه ، وعندما اكتشفت أن بعض الأزرار غير متماسكة ، أكّدت عليها مراراً .. فى ليلة الحفل، فوجئت بثناء الجميع على الفستان .. سوى واحدة ظلت تنظر إليه طويلاً ، ثم همست كأنما تحدث نفسها :
- أذكر أننى امتلكت فستاناً مثله من قبل !
زجاجة الساعة
جلسوا يتحدثون عن الساعات ، واستعرض كل منهم معلوماته عن الماركات العالمية . وراحوا يتفاخرون بامتلاكهم بعضها . وظل هو صامتاً ، حتى أمسك أحدهم بيده ، وصاح : ما أجمل هذه الساعة !
لم تكن الأجمل ولا الأغلى ولا الأشهر . لكنها كانت بسيطة وانسيابية . فى اليوم التالى لاحظ أن فى زجاجتها شرخاً واضحاً ، ظل يكبر ويتسع حتى أخفى جزءاً من الأرقام . ذهب إلى محل إصلاح الساعات . تفحصها الرجل ثم قال :
– سبحان الله !! كيف حدث هذا؟ زجاجة الساعة مشروخة من داخلها . . أدرك على الفور أن العين حق ! !
ترويض البواب
حشد كل ما فى طاقته وسنوات عمره ، لكى يحسن من مستواه المادى . وعندما عاد من الخليج كان ما يزال موظفاً ، لكن أغلى أمانيه تركزت فى امتلاك شقة فاخرة فى عمارة محترمة بحى راق فى العاصمة. ولكى يفرشها بالأثاث المناسب، أنفق تقريباً ما يعادل ثمنها . وكان أروع ما يمتعه فى الذهاب والعودة أن يرى نفسه فى المرآة الفخمة بجوار الأسانسير وحولها أصص نباتات الظل. لكن أسوأ ما كان يؤرقه : معاملة البواب . الرجل متعجرف جداً ولا ينهض من مكانه عند رؤيته، فى حين أنه ينهض لباقى السكان ! حاول أن ينسى الموضوع لكنه كان أثقل من أن يهمله . راح يزيد له البقشيش : جنيه، اثنين ، ثلاثة . . لا جدوى. أخيراً زارتهم إحدى الجارات ، فحاولت زوجته أن تسألها عن كيفية ترويض البواب ، أجابتها ببساطة أن أى مشوار يقضيه (عم جاد) لأحد السكان لا يقل ما يأخذه عن ورقة بخمسة جنيهات!
تاجر فى طائرة
استجمع كل شجاعته، وقال لجاره فى الطائرة:
– لو سمحت ، التدخين هنا ممنوع .
نظر إليه الرجل السمين جداً بانكسار شديد، وقال هامساً :
– اعذرنى فقط حتى تصعد الطائرة، فأنا أحسّ فى هذه اللحظات باضطراب شديد.
ثم أضاف :
– أنا آسف . . آسف جداً .
تحمل مضطراً رائحة السيجار ، وظل يقاوم حتى ارتفعت الطائرة فى الجو ، وأعلن عن إمكانية فك الأحزمة . نهض مبتعداً عن هذا الجار الثقيل ، ثم عاد فوجده ما زال يدخن . حاول أن يشكو للمضيفة ، لكنه وجدها غير مبالية تماماً ، بل تكاد تكون موافقة !
بعد أكثر من ساعة ، دخلت الطائرة فى مجموعة مطبات هوائية ، ألزمت الجميع أماكنهم ، وطلب الطيار ربط الأحزمة . زادت الاضطرابات فوجد جاره يمسك بيده بشدة ، وفى عينه نظرة الانكسار السابقة .
سأله :
- هل هذه أول مرة ؟
– أبداً ، فأنا زبون دائم على هذا الخط . أعمالى تضطرنى للسفر إلى فرع شركتى بالخارج ، كل أسبوع مرة على الأقل .
سأله :
- فى ماذا تعمل ؟
أجاب وهو ينفث دخان السيجار :
– فى الحديد والصلب!
المستمع الساخر !
بدأت المحاضرة ، وكان الحضور أكثر مما توقع. راح يتحدث عن تاريخ المشكلة ، ويبين أبعادها على المستوى المحلى والعالمى ، ويذكر الإحصائيات ويعقد المقارنات ، والصمت يلف القاعة، والعيون شاخصة ، والإعجاب شديد . وفى لمحة خاطفة ، وجد شخصاً ينظر إليه باستخفاف. لم تعجبه النظرة، فتردد قليلاً ثم انطلق فى حديثه. لمحه مرة أخرى فوجده أكثر استخفافاً . أحس بالغيظ . كاد يتوقف ويأمره بالوقوف ليسأله عما لا يعجبه فى المحاضرة . لكن ما قيمة شخص واحد بينما الباقون معجبون ! فى المرة الثالثة وجده يبتسم من تأكيده على إحدى النقاط . لم يستطع أن يمسك نفسه ، فقال :
– إذا لم يكن ما أقوله حقيقة فإننى أتحدى مـن يعارضنى!
ذهل الجميع من هذا الاستطراد ، ونظر الحاضرون بعضهم لبعض . ازداد الرجل ابتساماً ساخراً فازداد المحاضر غضباً وانفعالاً . . صار ينظر فى أوراقه ، فلا يجد فيها ما يريد . بدأ يسمع همهمات بين الحاضرين ، بل إنه فوجئ بانصراف الصفوف الأخيرة.. أسرع بإنهاء المحاضرة، نظراً لارتباطه بموعد هام . صفق الحاضرون فيما عدا الرجل المبتسم بسخرية !
عودة المسافر
ازدحمت الشقة بالعمات والخالات وأبنائهم وبناتهم بالإضافة إلى بعض المقربين من الجيران . جاءوا كلهم يهنئون بسلامة العودة من الخارج بعد غربة استمرت تسع سنوات . همست إحدى العمات لجارتها :
- كم شنطة أحضرها معه ؟
سمعها طفل صغير فصاح:
– إنهم لم يفتحوها بعد ! !
وربتت خالة لديها فتاة فى سن الزواج على ركبة أمه قائلة :
– عقبال ما نشوفه عريس !
وفى داخل حجرة الصالون التى اقتصرت على الرجال، قال له أحد الأعمام :
– تعرف يا بنى . . مناخ الاستثمار فى البلد أصبح جيداً جداً ، وأنا أعرف الكثير من المسئولين .
وتدخل أحد الأخوال :
– لكن المسألة تتوقف على الثقة فيمن تتعامل معهم . النصابون فى كل مكان !
كان الشاب متعباً من رحلة السفر ، فلم يرد . أما والده الطاعن فى السن فراح يكرر المعوذتين ، ويضغط على أسنانه بشدة كلما مرّ على قوله تعالى: "مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ" .
الفاكهة المعطوبة
فشل زواجه الأول بسبب الجشع . كانت زوجته مثل البالوعة التى تشفط مصروف البيت ، وكل ما يحصل عليه من مكافآت . فاض به الكيل فطلقها ، وأقسم ألا يرتبط إلا بزوجة (شبعانة) . أشار عليه أقاربه بالكثيرات ، لكنه ظل متخوفاً ، وكلما لاحظ أى علامة ، ولو بسيطة، عن فقر أهل العروس ، فرّ هارباً بجلده . سمع ذات يوم اثنين من زملائه فى العمل ، وهما يتهامسان عن (فلانة) الموظفة بالدور الثالث ، ومدى الثروة التى يتمتع بها أهلها . سقطت الكلمات فى ذهنه ولم تخرج . بل إنها راحت تكبر وترن ويتردد لها أصداء . تلمس الطريق إليها ، فلم يجد أى عوائق ، فقط زواجها السابق من أحد رجال الأعمال . لا يهم ! وجدها بالفعل أرقى مستوى من زوجته الأولى .
فى فترة الخطوبة كانت تبادله الهدايا ، فى حين لم تفعل الأولى مثل هذا على الإطلاق . بعد الزواج لم تطالبه بشئ ، حتى أن راتبه كان يوضع فى الدولاب فلا تمسه. كان أهلها يزودون المنزل بكل ما يحتاجه ، حتى فى الصيف كانوا يحجزون لهما فى أحد المصايف . بدأ يشك فى الأمر، وراح يبحث ويفتش.. حتى فوجئ ذات يوم أنها مريضة بالقلب !
فى غرفة الإنعاش
فجأة اضطربت دقات قلبه ، وحدثت الدوخة ، ووجد نفسه فى حجرة العناية المركزة ، مربوطاً بأسلاك وأنابيب ، وحوله أجهزة إلكترونية، تتابعها ممرضات نشطات دون أن ينظرن إليه !
- ماذا حدث؟
قيل له بعد يوم كامل :
- أزمة قلبية من النوع المتوسط ، ولولا رحمة الله لكانت من النوع الحاد ورحت فيها!
- سأل :
كم من الوقت سأبقى هنا؟
أجابوه باختصار :
– حتى تتحسن الحالة !
غاب فى نوم عميق ، وشاهد بعض الأحلام المتقطعة ، وخلف زجاج الغرفة كان يلمح بعض الوجوه
التى يعرفها : زوجته ، بعض الأقارب ، والأصدقاء ، وموظفو شركته. . كان مقرراً أن يسافر فى نهاية الأسبوع إلى لندن . حرص هذه المرة على أن يحجزوا له فى فندق آخر حتى لا يلتقى بأحد يعرفه، ويكون أكثر حرية! لعل هذا هو العقاب الذى نزل به . ولعله تحذير من النية الشريرة.
عندما سمحوا لزوجته أن تزوره ، أمسك بيدها فى غاية الامتنان وقال :
– عندما أخرج بإذن الله ، سوف أصحبك معى لأداء العمرة !
الأستاذة الجميلة
لم يمض على دخولها الجامعة أكثر من شهر ، حتى تقدم لها عريس ، كانت جميلة جداً ، وبسرعة تمت الخطبة والشبكة وكتب الكتاب ، ووجدت نفسها فى شقة الزوجية بعيداً عن الكلية التى كانت سعيدة بالالتحاق بها. مر عام ، فبدأ الزواج ينهار ، وانتهى أخيراً بالطلاق . خرجت من التجربة مجروحة ومرهقة، نصحتها الأسرة بالعودة إلى الجامعة لمواصلة دراستها. تعرف عليها أحد المعيدين ، فأعجب بجمالها الأخاذ ، وقرر أن يعوضها عما سبق ، اعترض أهله لأنها مطلقة . لكنه أسرع بإتمام الزواج.
مر عامان ، أنجبت خلالهما طفلة جميلة ، لكن الزواج فشل بسبب مضايقات أهله ، فتم الطلاق . قررت أن تعود للجامعة للمرة الثالثة ، مصممة على ألا ترتبط بأى رجل حتى تنتهى من دراستها، وتتخرج . ذاكرت وسهرت واجتهدت حتى حصلت على أعلى التقديرات ، عينت معيدة ثم حصلت على الدكتوراه . أصبحت أستاذة فى الجامعة . ومازالت جميلة جداً ، لكنها ظلت رافضة كل عروض الزواج !
هدايا الحج
تغلبت متعة الحاج مدبولى بتهانى أهل الحارة له.. على كل المشقات التى صادفها فى رحلة الحج . وكان لقب (حاج) يسكره بلذة خاصة رغب فيها من زمن طويل ، وخاصة بعد أن اشترى المقهى المجاور لمنزله . وعلى كل مهنّئ ، راح يوزع سجادة أو سبحة أو زجاجة عطر اشتراها من جوار الحرم مباشرة. وكلما حكى لكل منهم عن مكان هديته، وأنه أحضرها خصيصاً له، كان يتلقى المزيد من الدعوات بطول العمر، ودوام الصحة ، وتكرار الحجة المبرورة . . زاد عدد المهنئين ، بينما قلت الهدايا، حتى اختفت تماماً . فكر فى الأمر ، ثم نادى على أحد صبيان المقهى ، وهمس فى أذنه :
– اذهب إلى حى الحسين ، واشتر بهذا المبلغ مجموعة من السبح ، وإياك أن يعلم أحد بذلك .
وعندما توافد المهنئون الجدد ، قدم لكل منهم سبحة ، مصحوبة أيضاً بكيفية شرائها من جوار الحرم مباشرة !
الحياة تستمر
ما الذى يجعل الموت أحياناً بهذا العنف ؟ فجأة اختطف الزوجة من وسط ثلاث بنات وولدين ، وتركهم معه: لا يعرف كيف يساعدهم ، أو كيف يحل مشاكلهم؟ كان يغلق باب حجرته من الداخل ويظل يبكى حتى يجد أصواتهم تعلو ، فيخرج لفض منازعة ، أو تهدئة شجار:
– فلان خطف القلم . وفلانة لبست فستانى . والأصغر عبث فى حقيبة الأكبر . والوسطى لا تريد أن ترتب السرير .. ومن الذى عليه غسيل الأطباق اليوم؟ ومن المكلف بشراء الخضار فى الغد ؟
وذات يوم جاء الحل المبارك من الشقة المجاورة. الحاجة لها ابنة أخت توفى عنها زوجها فى حادث سيارة ، ولم تتزوج منذ عشرين سنة . تجاوزت الخامسة والأربعين، وتحب الأطفال . تزوجها على الفور. وجد فيها الأولاد أمهم الثانية ، أما هو فقد لمس فيها أيضاً امرأة دافئة وحنونة . بدأ البيت يستقر . . ولم يعد يذكر زوجته الأولى إلا فى الأعياد !
العبارة الخالدة
كان يحسبها مجرد دعوة للتسلية حين طلب منها أن تذهب معه إلى السينما . وتأكد من ذلك حين قبلت الدعوة على الفور ، ووافته فى المكان المحدد دون تأخير . جلسا متلاصقين . وعندما راقبها فى الظلام وجدها أجمل مما كان يتصور . أمسك بكفها فلم تمانع . انتهى الفيلم وقد اقتنع بأن هذه هى الفتاة التى اختارها قلبه، وارتبط بها مصيره . عندما ودّعها قالت له بصوت خفيض :
– هل تعلم أنك أول شاب أخرج معه فى حياتى !
ظل يذكر هذه العبارة كلما تشاجرت معه حول مصروف البيت أو مستقبل الأولاد!
المقعد الخلفى
فى السينما ، لعن بائعة التذاكر التى اختارت له هذا المقعد بالذات . فقد وجد أمامه مباشرة رئيسه فى العمل ، مصطحباً أسرته بكاملها : زوجته السمينة جداً، وحوالى خمسة أبناء وبنات. وكلهم يتناوشون وفى أيديهم أكياس اللب والفشار ، والناس من خلفهم متبرمون . قرر أن ينتقل إلى مقعد آخر ، لكنه فوجئ بامتلاء الصالة عن آخرها . عند أى التفاته من رئيسه سوف يراه، وحينئذ سيصبح جزءاً من تلك الأسرة القلقة ، ويتحمل النتائج الوخيمة لأفعال أبنائها ! بدأ الفيلم ، فلم يستطع متابعته ، وظل الأولاد يتناوشون ويتهارشون والناس من خلفهم فى ضيق شديد . وفجأة صاح أحد الجالسين :
– ألا يوجد ذوق ؟ نحن لا نستطيع المتابعة !
غاص فى الكرسى خوفاً من أن يراه رئيسه. لكنه فوجئ بالزوجة السمينة تنهض واقفة وتصفع أكبر
أبنائها فيلزم الجميع الصمت . لم يحرك رئيسه رأسه، ولم يلتفت لأى جانب . قبل انتهاء الفيلم بخمس دقائق ، انسحب فى هدوء . وعند شباك التذاكر ألقى بنظرة غاضبة على بائعة التذاكر ، التى كانت تستعد لاستقبال الحفلة التالية . .
لوعة الفراق
جاء صوته فى التليفون وهو يرتعش . سألته :
– ما الخبر ؟
– مصيبة .
لا حول ولا قوة إلا بالله .
قال وهو على وشك البكاء :
– الكلب مات.
لم أجد أى كلمة أقولها له . ساد صمت طويل قطعه قائلاً :
– أرجوك أنا فى حاجة إليك .
وضعت السماعة ، وارتديت على الفور ملابسى، ودون أن أخبر زوجتى أسرعت إليه، وأنا متحير فى مساعدتى له : كيف تكون ؟ وما هى طقوس دفن الكلب ؟
كان دائماً يزهو به ، وفى معظم الأحيان كان يصطحبه معه إلى المقهى الذى نجلس فيه .وكنا نداعبه
بحذر ، لأنه كان كلباً ضخماً ، لا نعرف أبداً متى يرضى ومتى يغضب . دائماً فمه مفتوح ، وأنيابه واضحة وحادة ، ولسانه الطويل يتدلى مع تنفس عالى النبرة . وكانت المشكلة تتفاقم عندما تدخل قطة عابرة إلى المقهى . كان يثور ويزبد ، ويكاد يقطع السلسلة، لكن صاحبنا كان يربت عليه ، فلا يهدأ إلا عندما تغادر القطة المقهى مذعورة من غضبة هذا الوحش الكاسر .
كنا فى البداية نتضايق من تواجد الكلب معنا ، لكننا ما لبثنا أن تعودنا عليه ، ولم نعد نأبه لدهشة رواد المقهى ، أو ابتعادهم عنا . بل كان هذا يريحنا لأنه يتيح لنا فرصة أكبر للخوض فى أحاديث حرجة وحساسة.
قال لى يوماً :
– إن طعام الكلب وأدويته تكاد تبلغ نصف راتبى تقريباً. ظننته يشكو ، فقلت له :
– ولماذا تحتفظ به ؟
نظر إلى بغضب وقال :
– إنه من أثر المرحومة ، وأصبح بالنسبة لى رفيقاً لا أستغنى عنه . إنه يناولنى فوطة الحمام ، ويحضر لى الجريدة التى يضعها البواب تحت باب الشقة ! !
حين دخلت الصالون ، وجدت اثنين من أصدقائنا فحمدت الله ، ثم ما لبث أن دخل رجل عجوز بجلباب أزرق ، عرفت فيما بعد أنه الذى سيقوم بأخذ الكلب ودفنه فى صحراء الهرم . رحنا نواسيه بكلمات متقطعة ، وعندما خرج الرجل بالكلب ، انفجر صاحبنا فى بكاء شديد ، بلغ من شدته أننى لم أعد أعرف : هل يبكى على فراق زوجته ، أم على فراق الكلب ؟ !
محاولة قـتل
لم يعد أمامه سوى حل واحد للتخلص من ذلك القط اللعين الذى حوّل حياته إلى جحيم! فهو يدخل من شباك المطبخ، ويقفز من بلكونة الصالون، ويتسرب من بين قدميه وهو يفتح باب الشقة. . وفى كل مرة يلتهم الطعام ، ويكسر الأوانى ، ويبول فوق السجاجيد ! اشترى السم وخلطه بكمية لا بأس بها من اللحم المفروم ، ووضعها فى طبق على شباك المطبخ ، ثم جلس فى حجرته ينتظر قدوم القط . مرت ساعة، وساعتان ، وليلة كاملة .. وعندما قام فى الصباح ليتفقد طبق اللحم لم يجده . نظر من النافذة، فرأى كلب البواب يلتهمه . . أما القط فكان جالساً ينظف فروته بهدوء على الكنبة فى الصالون !
فى معمل التحاليل
لم يكن يتوقع على الإطلاق أن مجرد حالة عابرة من حرقان البول سوف تؤدى إلى تلك السلسلة الطويلة من الكشوف والفحوصات الطبية ، وما يسبقها ويتبعها من إجراءات إدارية ، وزيارات أقارب وزملاء، قلبت حياته رأساً على عقب . جلس فى معمل التحاليل منتظراً النتيجة، وراح يتابع المترددين فوجدهم أكثر مما كان يظن . أعداد هائلة ومستسلمة ، كل منهم يتسلم مظروفاً يحتوى على ورقة مكتوبة بالكمبيوتر ، وفيها أرقام زرقاء وحمراء ، تشير إلى مدى خطورة الحالة ، دون أن توضح للمريض أى شئ عن حالته ! بجواره ، جلس رجل عجوز ، راح يثرثر عن الصحة والعمر، وأن هذا هو التحليل الرابع الذى يكلفونه به ، ثم مضيفاً :
– أن العلاج لم يؤد إلى أى نتيجة !
نهض واقفاً واتجه ناحية الباب . نظر إليه السكرتير مستفسراً ، فقال له :
– عندى مشوار وسأعود بعد ساعة .
لكنه كان قد صمم على الخروج دون عودة !
قرآن الفجر
حين انهزم الفريق الذى يشجعه ، كان أقسى ما يخشاه هو الاستهزاء الذى سيقابله به زملاء العمل ، وهو الذى عاش بينهم واثقاً من فريقه ، كما كان واثقاً من نفسه .
اللعنة ! ما الذى أوقع الفريق فى تلك الحفرة التى وضعت جبهته فى الأرض ؟ كيف يقابل السعاة ؟ وبماذا يرد على شماتة القائلين له: تشجعْ ! بات ليلة كئيبة ، ولم يطرف له جفن . راح يقلب محطات الراديو على كل الموجات فلا يصدر منها سوى موسيقى جنائزية ، وكأن الكون كله قد مات !
قريباً من الفجر ، بدأ يسمع خطوات جاره على السلم وهو فى طريقه إلى المسجد . قرر لأول مرة أن يذهب ليصلى الفجر جماعة . كانت نسمة باردة تنساب فى الشارع ، وضوء عامود النور يفرش المكان بالضوء. آنسه أن يرى بعض الأشخاص يسيرون مثله
فى اتجاه المسجد . هناك قابله الجميع بالترحاب ، وأفسحوا له حتى وقف فى الصف الأول . انساب صوت الإمام ندياً بقرآن الفجر . شعر بسعادة غامرة تفترش جوانب صدره. عاد مع جاره إلى المنزل. سمعه يقول:
– منذ عشرين سنة لم أتخلف عن صلاة الفجر.
ثم أضاف وهو يودعه:
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)
رفيق السجن
انغلق باب الزنزانة أخيراً عليهما بعد يوم طويل من الإجراءات الصارمة . نظر إلى وجهه فوجده شريراً بالفطرة . أثار سكاكين وبقايا جراحات توغلت فى الحاجب حتى قسمته نصفين . . وعندما وصل الطعام رآه يأكل بكل أصابعه ، ويتساقط ما يتبقى على صدره، أما الصوت الذى كان يصدره فهو أشبه بشخير النائم.. هو رفيق السجن الذى عليه أن يقاسمه الزنزانة لمدة ثلاث سنوات. ومَنْ يدرى فإذا انفلتت أعصابه ، قد تزيد إلى عشرين ! سأله وهو يتنازل له عن حصته من الطعام :
– كم سنة عليك ؟
أجاب بعدم اكتراث :
– تأبيدة !
لم يشأ أن يستفسر عن حجمها : هل هى تأبيدة كبرى أم صغرى ؟ سأله ثانية :
- هل تفضل السرير الأعلى أم الأرضى ؟
لم يرد ، وأشاح بوجهه أن اختر لنفسك ما تشاء . طبعاً هذا الحيوان يمكن أن ينام حتى على الأرض . فجسده يبدو أنه لا يتأثر بالحرارة أو البرودة.. وعضلاته قوية بالطبيعة . صعد لتهيئة السرير الأعلى ، حتى يتمكن من مراقبته ، ثم استدار ناحية الحائط قائلاً لنفسه :
– أكيد أن مزاملة هذا الشخص هى عقابى الحقيقى.. وليس السجن !
ساعى البريد
سلّم ساعى البريد كل الخطابات المسجلة إلى أصحابها فى القرية ، ولم يتبق معه سوى بعض الخطابات العادية . كان النهار قد انتصف ، وعلى رأسه وحده سلّطت الشمس كل أشعتها ، فراح العرق يتصبب من جبهته ويسقط فى عينيه . استحضر ماضيه ، ولعن اليوم الذى أوقعه فى تلك المهنة. نظر يميناً ويساراً وإلى الخلف، ثم بحركة غاضبة قذف بالخطابات المتبقية. . فى الترعة!
عندما وصل إلى المنزل ، كان أبوه وأمه وإخوته حول الطبلية قد بدأوا تناول الغداء . أفسحت أمه مكاناً له إلى جوارها ، وقدمت له رغيفاً صحيحاً . سأله والده :
– هل وزعت الخطابات يا بنىّ ؟
أجاب بفتور :
– طبعاً يا أبى ، كما أفعل كل يوم. .
حديقة الحيوان
كان يوماً ثقيلاً بدون مواعيد ولا أقارب ولا أصدقاء . وفجأة وجد نفسه أمام حديقة الحيوان . لم يكن قد دخلها منذ عشرين سنة. قطع تذكرة ومشى مع الناس الذين كانوا - على العكس منه - سعداء للغاية. توقف معهم أمام أقفاص الطيور ، وجبلاية القرود ، وبيت الفيل . . جعله الحارس يطعم الزرافة بيده . وقف طويلاً أمام الأسد ، الذى تبادل معه نظرة ذات مغزى . عندما تعب، جلس على العشب فى ركن منعزل . أرسلت إليه الأسرة المجاورة بابنتها الصغيرة ومعها سندوتش جبن وبرتقالة . . شكرها على الهدية ، وتناولها بشهية . دعته الأسرة للجلوس معهم فرحب . لديهم فتاة جميلة وناضجة. لعب معها الورق . اقتربت الساعة من الخامسة ، وبدأ حراس الحديقة يطلقون صفارات الإغلاق.
ودّع بامتنان بالغ كل أفراد الأسرة ، التى جعلته يقضى يوماً لم يكن فى الحسبان !
على البلاج
استلقى على كرسى البلاج ، وراح ينظر إلى آخر المدى، حيث الخط الذى يلتقى فيه البحر بالسماء . وقال لنفسه لقد آن الأوان لكى يتمتع بإجازة هادئة ، بعيداً عن ضغوط العمل ، وانفعالات المكسب والخسارة. أعجبه أن يشاهد النوارس تعلو وتهبط دونما صراع فيما بينها . ماذا لو كان منافسوه على هذا النحو ؟ ألا يتسع المجال للجميع؟ لكنهم يفرضون الصراع عليه فرضاً . وهو لن يتزحزح عن موقفه . ومن العار أيضاً أن ينهزم. لابد من المواصلة . وسوف يستخدم كل ما لديه من أسلحة . واستغرقه التفكير ، فأغمض عينيه ، وغاب بعيداً عن السماء والبحر .
الاجتماع الضائع
وصل قبل الموعد بساعة كاملة . لم يصعد إلى مكان الاجتماع . راح يتجول بجوار المكان . جلس على أول مقهى. طلب شاياً فلاحظ أن الجرسون متردد . نظر حوله فأدرك أن المقهى مخصص لتناول الشيشة . حسناً، أعطنى واحدة ! ابتسم الجرسون ، وما لبث أن وضع إلى جواره الشيشة ، وراح يرصّ الحجر بمهارة، ثم انصرف بأسرع ما يمكن . أمسك بالَّلىّ ، وقرب المَبسم من فمه ، متظاهراً بأنه خبير ! فى البداية لم يجرؤ أن يأخذ نفساً ، ثم تشجع عندما رأى كل من حوله يفعلون ذلك. ملأ الدخان صدره ، وشعر برأسه يصعد ويصعد حتى التصق شعره بسقف المقهى ! راح يضرب بقدميه الأرض ليحس بأنه متماسك ! لمح بعض النظرات ترمقه ، وصاح بعضهم على الجرسون ليحضر له فنجان قهوة سادة . شربه برشفة واحدة . غادر المقهى وفى رأسه صداع متقطع . أشار لأول تاكسى وأعطاه عنوان المنزل . نظر فى ساعته. كان الاجتماع قد بدأ منذ ساعة على الأقل !
هدية من السماء
الأحد القادم عيد ميلادها . ماذا يقدم لها هذا العام ؟ راح يبحث فوجد أنه قد استنفذ كل الأفكار الجديدة والطريفة التى فاجأها بها فى أعياد ميلادها السابقة: الخاتم والإسورة والبروش ، والفستان والشال وبالطو الفراء ، والدعوة إلى فيلم ومسرحية ورحلة . .
أسهل شئ هو الورد ، لكنه يقدمه من وقت لآخر كلما حدثت بينهما مشكلة . فكر فى شراء رواية أو ديوان شعر لكنه عاد فتذكر ضجرها من القراءة ، واستبعد شراء لوحة فنية لعدم توافر مكان لها على جدران الشقة . لم يبق إلا أن يدعوها على العشاء فى باخرة نيلية . وعلى الفور طلب من سكرتيرته أن تحجز له مكانين ، لكنها ما لبثت أن أخبرته أنها محجوزة بالكامل . وبينما هو مشوش الذهن ، وأقرب ما يكون إلى اليأس من هدية ميلاد هذا العام ، رن جرس التليفون ، وأخبره أحد أصدقائه المقربين بأن قطته السيامى قد أنجبت أربعة ، وبإمكانه أن يأخذ واحدة منها . شكره بشدة وتنفس طويلاً وهو يحمد الله على تلك الهدية التى هبطت عليه من السماء!
دعوة غداء
عندما دُعى للغداء فى منزل أحد زملاء العمل ، لم يكن يدرك أن المناسبة الحقيقية للدعوة سوف تأتى بعد الغداء بحوالى ساعتين ، حيث بدأت المباراة بين فريقين كبيرين . ولأنه ممن لا يشجعون الكرة فقد جلس فقط مجاملة لباقى الزملاء، الذين انقسموا هم أيضاً إلى فريقين متخاصمين ، يتبادلان ألفاظ السخرية والاستهزاء ، ويشوّح أحدهما فى وجه الآخر ، حتى كادا فى بعض الأحيان يشتبكان فى مشاجرة حقيقية ! لم يكن أمامه سوى أن يقوم بدور التهدئة ، ومحاولة تقريب وجهات النظر التى لم تكن لتلتقى أبداً . ومن العجيب أن الجالسين كانوا يطلبون الكثير من صاحب الدعوة . فالبعض يطلب قهوة ، والبعض يطلب سجائر. وهناك من طلب كيس لب، أو قرصين أسبرين . ولحسن الحظ انتهت
المباراة بالتعادل ، وبدأ الحاضرون فى الانصراف دون أن يشكروا صاحب الدعوة. أما هو فشد على يده قائلاً:
– أرجو ألا نكون قد أتعبنا أهل البيت .
فوجئ بإجابته :
– ولا يهمك . . إنهم متعودون على ذلك ! !
أسلوب حياة . .
منذ أحيل إلى المعاش ، أصبح يصحو مبكراً، فينزل لشراء الفول والطعمية والخبز للأولاد ، ويحضر الجورنال الذى يظل يقرأه حتى منتصف النهار . تضايقت زوجته فى الشهور الأولى من تواجده فى المنزل ثم ما لبثت أن تعودت على أسلوب حياته الجديد، وكان قد احتدم الشجار بينهما فى البداية حول ضرورة البحث عن عمل حر ، ثم ما لبث أن هدأ وكاد ينتهى تماماً عندما أدركت الزوجة أن ما يعرض عليه من أعمال لا تليق به على الإطلاق . فبعد أن كان مدير إدارة ، هل يعقل أن يقف فى محل موبيليا ليستقبل الزبائن ، لقاء نسبة من صفقات البيع التى ينجح فى إبرامها ؟ !
كانت تنظر إليه أحياناً بغضب وهو منكب على الجورنال يقرأ كل سطر فيه ،حتى صفحة
الإعلانات والوفيات ، وكانت فى أحيان أخرى تعطف عليه ، فتسأله إن كان يريد كوب شاى ، قبل أن يغلق الجورنال، وينطلق إلى المسجد المجاور لصلاة الظهر، لكى يعود بعدها لمتابعة مباريات كرة القدم فى التلفزيون ، ثم يتعشى ، ويتناول دواءه ، وينام..
الأخوان
ترافقا فى نفس الغرفة منذ الطفولة الباكرة ، وفى المراهقة ، وطوال الشباب . وها هو يتزوج ، ويترك مكانه على السرير المقابل . كيف ستكون الحياة من بعده ؟ كان يفضى إليه بكل همومه . وهو الذى كان يتصدى لحل جميع مشكلاته ، حتى مع والدهما . أما حبه العاثر فهو الذى أخذ بيده حتى تخلص منه ، أو كاد. . مع مَنْ سيتحدث إلى منتصف الليل ، وحتى ينام؟ بدت الغرفة فى الليلة الأولى واسعة ، وفارغة ، ومليئة بالرطوبة . ترك النور مضاء ، وحاول القراءة فلم يستطع . مر على محطات الراديو فلم يعجبه شئ . راودته مشاعر مضادة تجاه أخيه الأكبر ، الذى خان صحبتهما الطويلة بهذا الشكل المفاجئ . لكنه كان عليه أن يدرك ذلك منذ لحظة الخطوبة ، ومـا تلاها
من الإعداد للزواج . . سنتان كاملتان وهو يحدثه عن هذا الحدث الذى لم يشعر بفداحته إلا الليلة . . فى الصباح ، لم يعرف أنه لم ينم بالكاد سوى ساعة أو بعض ساعة . فتحت أمه عليه الباب لتقول له :
– " عقبال ما اشوفك يا حبيبى عريس زى أخوك "!
ذهاب - عودة
مضى وقت طويل جداً دون أن يتمشى وحده على كورنيش النيل . وأمام مبنى التليفزيون وجد زحاماً شديداً فانحشر فيه ، وقطع تذكرة فى الأتوبيس النهرى الذى يذهب إلى القناطر. راح يمنى نفسه بمغامرة مع فتاة من بين هذا الحشد الكبير . لكن عندما تحرك القارب، وجد كل فتاة فى صحبة شاب . كانوا يرقصون ويغنون وهم فى غاية السرور . لمح فى نهاية المقاعد شاباً فى الثلاثين وهو منفرد بسيدة فى الخمسين . تأملها فلم يجد فيها أى مسحة من الجمال ، لكنها كانت ترتدى كمية كبيرة من (الغوايش) فى يدها السمراء الممتلئة . كانت متمنعة جداً، والشاب لا يتوقف عن الهمس فى أذنها . بمرور الوقت راحت تصغى لما يقول دون أن تنظر إليه . إهمال ولا مبالاة ، يقابلهما مثابرة وإصرار .
عندما وصل الأتوبيس إلى القناطر ، وجد نفسه يتبعهما دون أن يشعرا به . الشاب يشترى الترمـس
ويعطيه للسيدة . ثم يشترى عود قصب ويكسره لها ، وأخيراً يدعو أحد المصورين لكى يلتقط لهما صورة. يبدو أن السيدة استجابت. خفت حدة المتابعة ، ولم يعد لها معنى !
فى طريق العودة ، كانا يحتلان المقعد الأمامى ، تعمد الجلوس خلفهما مباشرة . راحت السيدة تتحدث والشاب صامت، وعندما وجدته قد استغرق فى النوم، أخرجت من حقيبتها منديلاً وفردته على وجهه!
موت أستاذ
فى اللحظة التى أعلن فيها حصوله على الدكتوراه ، هوى على يد أستاذه يقبلها . ويومها اندهش الحاضرون، لكنهم أثنوا على حسن أدبه ، وشدة امتنانه لهذا الأستاذ الذى تبناه منذ كان طالباً فى الجامعة ، وشجعه على التفوق ، واختاره فى نفس القسم العلمى الذى يرأسه ، كما قدم له الكثير من النصائح والتوجيهات حتى جعله ينطلق فى طريقه مثل الصاروخ ، ويسبق سائر زملائه.
دار الزمان دورته . وأحيل الأستاذ إلى المعاش ، وأصبح يحضر إلى القسم كأستاذ متفرغ ، فيلقى معاملة يمتزج فيها العطف بالعرفان ، ولا تخلو أحياناً من بعض الضجر ، يسرى فى كلمات بعض الأساتذة الشبان، أو يتمثل فى اللامبالاة من جانب المعيدين الجدد.
كبر تلميذ الأمس ، وأصبح رئيساً للقسم . فرح الأستاذ كثيراً، وتوقع أن يلقى على يديه مزيداً من الاحترام ، لكنه وجده قد صار أعلى صوتاً ، وأكثر عدوانية . وكانت المفاجأة حين عقد أول اجتماع ، فطلب من أستاذه القديم أن يخرج من الجلسة لمناقشة موضوع خاص! خرج الأستاذ محبطاً ، وذهب إلى بيته وقلبه فى صدره ينتفض . لم يأت عليه الليل حتى كان قد فارق الحياة !
تصبحين على خير !
رجعا من الحفلة فى غاية الإرهاق ، لكنهما ظلا ساهريْن يتحدثان عن الأصدقاء القدامى ، والجدد الذين تعرفا عليهم . راحت زوجته تتحدث بدون توقف عن الفساتين والحلىّ والإكسسوارات، وتنتقد الكثير من التصرفات والتعليقات ، وهو سارح فى امرأة واحدة، لم تستطع زوجته أن تجد فيها عيباً . وكيف يوجد ؟ وهى كاملة الأوصاف : الشعر ، والوجه ، والصدر، والخصر، والساقان . . أما حديثها فيأخذ بالألباب ، ويتمنى من يسمعها ألا تتوقف أبداً عن الكلام .
وفجأة سكتت الزوجة ، ثم واجهته بحسم :
- ما رأيك فى فلانة ؟
- فلانة من ؟
– لا تتظاهر بالبراءة.
– أبدا والله، هل تقصدين ...
– أجل أقصدها . رأيتك تلتهمها بنظراتك ، وطوال الطريق وأنت تفكر فيها !
- هل تقرأين أيضاً أفكارى ؟ أرجوك دعينا من دوشة الحفل ، فإن النوم يغالبنى .
– لا نوم حتى تصارحنى !
– بأى شئ ؟
– أنك معجب بها .
– أقسم لك إنها امرأة عادية ، وكل ما فى الأمر أنها كانت تتحدث وكان علىّ أن استمع إليها .
– طيب احلف أنك مازلت تحبنى ؟
– والله أحبك ، ولا أحب أحداً سواك .
ثم وهو يلفها بذارعه :
– وسوف أحبك حتى آخر العمر . لكن دعينا فقط ننام ولو ساعتين . . تصبحين على خير !
الهرم الأكبر
فى المرة الأولى التى ذهب فيها إلى الهرم ، لم يره إلا من بعيد. كان الطريق إليه غير مسفلت ، ولا يوجد على جانبيه أى حنفية ماء ، كما أن زجاجات المياه المعدنية لم تكن قد ظهرت بعد! أحس بالعطش الشديد فى منتصف الطريق . صمم على العودة مع اثنين من أصحابه . جلس الثلاثة يتحدثون فى انتظار باقى زملاء الرحلة . عاد إلى المنزل مكتفياً بمتعة الصحبة .
فى المرة الثانية ، كان برفقة أحد الأجانب . راحا يتجولان بالسيارة حول الأهرامات الثلاث . وتوقفا طويلاً عند الهرم الأكبر، الذى بدا عملاقاً يتحدى الزمان. أما أبوالهول فتمدد وسط الصحراء بجسد أسد، ووجه إنسان جميل .عاد إلى المنزل وهو يشعر بالزهو من إعجاب الأجنبى بأهم معالم وطنه !
أما المرة الثالثة ، فجلس إلى جوارها على أحد أحجار الهرم الضخمة ، وراحا يرصدان خطوات الحضارة ومسرى الخلود! غربت الشمس فأمسك بيدها وراحا يتحدثان عن المشاعر المتبادلة ، وكيف تتحول إلى حب . .
مرت الأيام . . والهرم الذى فى صدره يكبر، حتى أصبح يضارع هرم خوفو الأكبر !
الشقة المتميزة
كان للشقة الجديدة التى اشتراها فى الدور الأرضى عيوب كثيرة ، راحت تشكو منها زوجته . أما هو فقد كان يجد فيها ميزة كبيرة: فمن العين السحرية يستطيع أن يرى كل نساء العمارة وهن يخرجن ويدخلن، حتى أصبح على دراية كاملة بهن ، وأيضاً بما تتفرد بهن البعض من مفاتن. وكان من أشد ما يحزنه أن تقيم زوجته علاقة مع إحدى الجارات القبيحات ، فى حين أنها تحرص على عدم الاختلاط بالجميلات . وذات يوم طرقت الباب مدام (. . . ) ساكنة الدور الرابع ! استقبلتها زوجته بالكثير من التحفظ ، ثم طالت الجلسة، فحل محلها انسجام أسعده إلى أبعد حد . بعد أن انصرفت سألها بلا مبالاة عن سبب الزيارة ، فراحت تحكى له عن عمل زوجها الدائم فى الخارج ، وتأخره أحياناً فى إرسال الشيكات ، ومشكلات الأولاد التى ينبغى أن تواجهها وحدها ، لأن أهلها يعيشون فى البحيرة .
سعد كثيراً بهذه المعلومات ، وراح يتلمس الطريق لاستغلالها ، ولم يكن يتصور أنه سيتواجد فى شقة صاحبتها بعد أيام قليلة فقط . أما هى فقد استقبلته بترحاب شديد ، وعرفت أبناءها به ، وعند الباب قالت له هامسة :
– دعنا نراك من وقت لآخر، بشرط ألا يسبب ذلك أى إزعاج للمدام . .
هذا بالضبط ما كان يود أن يسمعه . نزل على السلم قفزاً ، وعندما دخل شقته بادر زوجته قائلاً :
– هل تعلمين أن هذه الشقة التى لا تعجبك . . قيل لى إنها تساوى ضعف ثمنها !
صوت من الماضى
عقدت الدهشة لسانه حين أخبره السكرتير أن مدام (...) قد اتصلت به ، وهو فى الاجتماع ، وأنها سوف تعاود الاتصال بعد ساعة. لم يجلس على كرسى المكتب ، وألقى بجسده على الأريكة ، ثم راح يتذكر كيف بدأت علاقته بها ، وكيف تطورت ، وكيف انتهت؟! من المؤكد أنه هو الذى خرج من التجربة مجروحاً ، وأنها هى التى اختارت مصيرها بنفسها . بعد فترة طويلة ، التمس لها العذر ، فقد فضّلت الآخر عليه ، لأنه لم يكن يملك يومها سوى مجموعة من الوعود بحياة هانئة يظللها الحب . أما هى فقد رغبت فى الحياة العملية التى تقوم على المال . وهذا ما دفعه إلى أن يدوس على مشاعره من أجل جمعه وتكديسه ، حتى أصبح أغنى من زوجها بمرات . . لكن ماذا وصل إليه ؟ بل إنه يتمنى أن يعرف ماذا وصلت هى إليه ؟ يبدو
أن الحياة كانت قاسية عليهما معاً ، وأن طريقيهما سيتقاطعان فى نقطة حاسمة. ووجده يسأل نفسه: هل يمكن أن يجدد علاقته بها، متنازلاً عن أسرته ؟ دق جرس التليفون . جاء صوتها عميقاً ودافئاً كما توقعه . سألها عن أحوالها لكنها أسرعت بعرض مشكلتها التى لم تجد أمامها من يحلها سواه : ابنها يرغب فى الالتحاق بأحد البنوك ، ويحتاج إلى توصية منه . قبل المعاونة بترحاب شديد ، ووجد نفسه يقول لها :
– اعتبرى المسألة منتهية . إنه مثل ابنى تماماً ! !
الزوج الغاضب
كيف فعل هذا بنفسه ؟ لم يشعر إلا وهو يحلف بالطلاق على ألا ينام تلك الليلة فى البيت . صمتت زوجته تماماً . وسكت جميع أبنائه وبناته ، والمتزوجون منهم قالوا له : حسناً . تعال إذن عندنا. لكنه رفض ، وارتدى ثيابه ، وخرج غاضباً . سار فى الشوارع حتى تعب ، فجلس على مقهى فى ميدان الحسين . راح يشاهد الناس والباعة والسائحين . ابتعد مؤقتاً عن مشكلته . لكنه عاد يسأل نفسه : لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد ؟ لقد كان الخلاف مع أم الأولاد يحدث من وقت لآخر ، لكنه فى هذه المرة دفعه إلى أقصى مدى ! ثم عاد يتساءل : وماذا سيفعل الآن ؟ وأين يقضى الليلة ، وقد رفض المبيت عند أحد أبنائه وبناته ؟ أمامه لوكاندات الحسين . دخل واحدة منها . سأل عن حجرة مستقلة فوجد. سأل عن السعر فرآه مناسباً جداً. لكن هناك مشكلة صغيرة ، وهى أنه من سكان القاهرة ، وتشترط اللوكاندة أن يأتى لهـا بإذن
خاص من قسم البوليس ؟ لماذا ؟ هكذا اللوائح ! خرج متوجهاً إلى القسم . فى الطريق أحس بإرهاق شديد. أسند جسده إلى سور مسجد عتيق . فى آخر الشارع ظهر اثنان من أبنائه، فأدرك على الفور أنهما يبحثان عنه . حمد الله من أعماق قلبه. عندما وصلا إليه لم يرفض السير معهما . قال الابن الأكبر :
– والله يا بابا سوف ترتاح عندى جداً . وسأبعد الأولاد عنك تماماً.
لكنه سعد جداً عندما قال الابن الأصغر :
– إن ماما لم تكف عن البكاء منذ خرجتَ . .
لقاء ناجح . .
حان دوره . بعدم اكتراث أشارت له السكرتيرة المتأففة . حشد كل ثقته فى نفسه ونقر على الباب بأدب جم ثم فتح ودخل . الحجرة واسعة ، ومكيفة ، ومليئة بالصور والتذكارات ونباتات الظل ذات الأوراق العريضة. لم ينظر إليه المدير. سمعه فقط يقول :
– تفضل . أى خدمة ؟
رد بتلعثم شديد أنه منذ فترة طويلة ، كان يرغب فى رؤية سعادته ، وأن الظروف وحدها هى التى كانت تحول دون ذلك ، ثم إن سعادته سافر إلى الخارج لمدة شهرين أو أكثر . قاطعه المدير:
– وها أنت قابلتنى ، ما هو طلبك ؟
أجاب بأنه يحمل للشركة حباً جماً ، ومشاعر عميقة جداً، وأنه أعطى لها كل حياته إلى حد أن زوجته تعاتبه كثيراً على عدم السفر إلى الخارج ، أو العمل بعد الظهر فى مكان آخر لتحسين دخل الأسرة بسب تعلقه الشديد بالشركة ، ثم وجد نفسه يقول للمدير:
– والله العظيم يا باشا إننى أحبك ، وقد كتبت فى مذكراتى أنك أعظم إنسان عرفته فى حياتى ! !
طارت من ذهن المدير كل المشاغل الأخرى ، وراح يصغى لهذا الموظف الذى لم يقابله قط . ما سبب ذلك كله ؟ وما الهدف الذى يسعى إليه؟ لكنه تحت تأثير كلمات الثناء والمديح المتواصلة سأله بهدوء :
– وماذا تريد يا أستاذ . . .
– صبرى يا باشا . . خادمك الأمين صبرى . كل ما أطمع فيه أن تلحقنى بمكتب سيادتك لكى أخدمك طول العمر. وسوف تجدنى رهن إشارتك
– حاضر يا سيد صبرى . . اذهب الآن إلى مكتبك ، حتى أهيئ لك مكاناً عندنا .
ألقى بنفسه على يده فقبلها، وعندما خرج ، نظر للسكرتيرة المتأففة ، وهو يتساءل: ماذا ستفعل عندما أزاملها فى المكتب ؟!
زيارة الأحلام
بمجرد أن أعلن الخبر لأسرته فى المنزل ، عن زيارة الشارونى بك ، حتى راح كل واحد منها يتخيل الحلم الذى سوف يتحقق من هذه الزيارة . قال الابن الأكبر لنفسه : تلك هى الفرصة التى جاءت إلى بابنا . فسوف أعرض عليه مشروعى لكى يقوم بتمويله ، وقال الإبن الأصغر ، المتخرج من الجامعة حديثاً : الآن يمكن أن يقوم بتعيينى فى إحدى شركاته، وسوف أقول له إننى أفضل شركة سياحية ، حتى تتاح لى كثيراً إمكانية السفر إلى الخارج . وتوقعت الإبنه الكبرى خيراً، لأن الشارونى بك، هو الذى يستطيع أن يقوم بنقل زوجها إلى العاصمة، بعد أن باءت كل المحاولات السابقة بالفشل . أما الأم ، فقالت لنفسها : ما سبب هذه الزيارة غير المتوقعة ؟ إنها تعلم أن الشارونى بك له ثلاثة أبناء ، وأن الأكبر منهم لا يزيد عن سن ابنتها الثانية سوى عام أو عام ونصف . لماذا لا تكون هذه الزيارة لكى يتعرف على ابنتها ، ولعل وعسى يخطبها لابنه البكر . . وفجأة سألت زوجها :
– هل الشارونى بك سيأتى وحده أم معه أحد ؟
– لا أدرى، فقد طلب منى العنوان وحدد الموعد فقط.
– ألم تسأله إن كان سيصحب ابنه أم لا ؟
– ولماذا يا امرأة . . هل هى زيارة أم خطبة زواج ؟ مصت شفتيها قائلة :
– هكذا أنت ، لا تريد أن تسعى أبداً فى مصلحة أبنائك !
عندما جلس الشارونى بك معه فى الصالون ، تزاحم أفراد الأسرة خلف الباب لمتابعة الحديث ، الذى ظهر أن الغرض الأساسى منه هو البحث عن شخص يقبل أن يتبرع بكليته ، لقاء مبلغ كبير من المال !
الاسطوانة المشروخة
انتهى العزاء ، وصعد أهل المتوفى إلى الشقة ليستريحوا من عناء يوم شديد الإرهاق. كانت الزوجة ما تزال ذاهلة والابن الأكبر صامتاً . أما أزواج البنات الثلاث فراحوا يتحدثون بصوت عال ، وصرح بعضهم بأنه جائع. أحضر العشاء ، والتف الجميع حول المائدة التى امتلأت باللحوم والدجاج . قال زوج الصغرى لحماته :
– والنبى يا حاجة لابد أن تأتى لتقيمى عندنا عدة أيام . فبادره زوج الوسطى :
– هل جننت ! المفروض أن تظل فى البيت هنا أسبوعاً على الأقل لتلقى العزاء !
وهنا أسرعت الصغرى مدافعة عن زوجها :
– إننا فقط نريد أن نخرجها من الحالة التى هى فيها !
قال زوج الكبرى :
– الأصول أن تبقى فى البيت حتى الأربعين ، وأن نكون جميعاً إلى جوارها ، فسوف تحتاج لاستخراج إعلام الوراثة والعديد من الأوراق .
وعقبت الابنة الكبرى:
– وحتى يأخذ كل واحد حقه بدون نزاع ..
هنا فقط رفعت الزوجة الذاهلة وجهها ، وتبادلت مع ابنها الكبير نظرة حزن مليئة بالدموع !
تسريحة الكوافير
تجاوزت الأربعين بسنتين ، وها هى لأول مرة فى حياتها تذهب إلى الكوافير . قالت لها القريبات والجارات :
– لابد من ذلك .
وشهقن :
– كيف تحضرين فرح ابنتك بدون تصفيف شعرك . الكل سيتكلم !
أخيراً اقتنعت مضطرة ، واستأذنت زوجها الذى لم يمانع . فهى ستذهب مع العروس وتعود بها . كانت بيضاء البشرة ، ولها شعر فاحم يتدلى فى ضفيرة مكتنزة حتى وسطها . وعندما شاهدها الكوافير اندهش من جمالها ، وصمم أن يجعل منها تحفة تسر الناظرين.
تزوجت قبل العشرين . ولم تحضر من قريتها إلى العاصمة إلا فى صحبة زوجها ، وظلت فى منزلها ترعاه ، وتربى الأولاد حتى تخرج الولد والبنت مـن الجامعة ، وما زال الصغير فى الإعدادى . لم تبهرها حياة المدينة ، ولم تألف الحفلات . لذلك حافظت على نظام معيشتها أقرب ما يكون إلى الريف ، لولا ما أدخله الأولاد على البيت من تحسينات . كانت تخشى جداً من خروج ابنتها مع زميلها قبل الخطبة . لكن الله استجاب لدعائها وعمل الولد بأصله . الزواج يتم الليلة . وتفرغ من مشكلات البنت.
فى الحفل ، كانت قبلة الأنظار . وراح المعازيم يسألون: من هذه المرأة الجميلة ؟ زوجها نفسه أحس بالزهو لكنه تظاهر بعدم الرضا . كثير من النساء سألنها عن الشامبو الذى تستخدمه،والكوافير الذى تذهب إليه. . كانت تتهرب من الإجابة لأنها لا تعرف . عندما عادت إلى المنزل ، ودخلت حجرتها، سألت زوجها بخبث:
– هل تعجبك هذه التسريحة ؟
– لا بأس . لكن الحمد لله أننا زوجنا البنت !
حياة خلف النافــذة
كانت سعادته بالغة حين اختار عصفوران الضلفة المغلقة من نافذته ليقيما خلفها عشهما الجديد. وجد فى الحدث فرصة نادرة لملاحظة العصفورين عن قرب ، ومشاهدة ما يحدث فى العش من خلف الضلفة ، بل قرر ألا يفتح ضلفة النافذة الأخرى حتى لا يزعجهما. كان يجلس فى العمل وهو يفكر فى العصفورين : كيف يتبادلان الحب ؟ ومتى تضع العصفورة بيضها فى العش ؟ وذات يوم نظر من خلف الضلفة فوجد بيضتين صغيرتين ، لم تلبث أن جاءت العصفورة فجلست عليهما . أما العصفور فكان يأتى ويروح حاملاً لزوجته حبة قمح أو فراشة ميتة .. عدة أيام وفقس البيض كائنين من لحم أحمر ليس لهما عيون ، فقط أفواه مفتوحة تستقبل الطعام
من والديهما بشراهة . . ثم عدة أيام أخرى واكتسيا بالريش، وأصبحا لا يتوقفان عن الزقزقة. شاهدهما وهما يحاولان الطيران ، بل رآهما وهما يطيران من العش ولا يرجعان إليه . لم يلاحظ أى حزن على الأبوين اللذين راحا يهيئان العش من جديد لاستقبال بيضتين جديدتين . .
مرضى لا يشتكون
لم يكن طالباً متفوقاً فى كلية الطب . لذلك تخرج فيها بأقل تقدير ، ثم عمل فى وزارة الصحة. لفّ ودار فى عدد كبير من القرى والمحافظات . وأخيراً استقر به الحال فى العاصمة . فكر فى فتح عيادة خاصة ، وساعدته مدخراته فى الفوز بمكان متميز على مقربة من وسط البلد . استدعى مهندس ديكور لتجميل المكان حتى أصبح فى أبهى صورة. حدد الكشف بخمسين جنيهاً والمستعجل بسبعين . قبل المرضى ولم يشتكوا . فى نهاية العام احتاج إلى تغيير شقته فى المعادى . رفع الكشف إلى سبعين ، والمستعجل إلى مائة . استمر إقبال المرضى . ارتبط بمشروع زراعى على الطريق الصحراوى . المشروع يحتاج إلى المزيد من المال باستمرار. جعل العادى مائة ، والمستعجل مائة وخمسين. اتصل به
أحد أستاذته السابقين معاتباً :
– ما هذا الذى تفعله ؟ لقد أصبح أجرك يتساوى مع أكبر أطباء البلد !
رد بهدوء شديد :
– أستاذنا الفاضل ، مرضاى لا يشتكون . وكذلك المرضى لدى أكبر أطباء البلد !
قانون الصدفة
ما الذى دفعه فى هذا الوقت بالذات حتى يتوقف لدى هذا الشخص بالذات لكى يملأ ولاعته بالغاز ؟ لا شك أنه القَدَر المكتوب عليه منذ الأزل . فقد داهمت الشرطة المكان ، وحملت كل من التف حول مصلح الولاعات إلى قسم الشرطة، وهناك تكشفت المصيبة . فالرجل موزع مخدرات تحت ستار ملء الولاعات بالغاز. وبالتالى فإن الزبائن يلتفون حوله بحجة ملء ولاعاتهم بينما هم فى الواقع يحصلون منه على المطلوب ! فى قسم الشرطة لا يجدى القَسَم بسائر المقدسات ، ولا التمسح بكل العلل والمبررات . . فقط الوظيفة شفعت له فى الاتصال بأحد الأصدقاء الذى أسرع بالوقوف إلى جواره ، أما الفرج الأكبر فجاء فى اليوم التالى من اعتراف التاجر نفسه أمام النيابة أن هذا الرجل المحترم ليس من زبائنه !
بعد المعاش
لم يكن يوم خروجها على المعاش صعباً . . الأصعب منه كان بعد ذلك بأسبوع ، حين ذهبت إلى النادى ، وجلست فى ركن منعزل ترقب الجالسين ، وترشف من فنجان القهوة السادة . تذكرت بشدة زوجها المتوفى منذ سبع سنوات . لكنها طمأنت نفسها بوجود بناتها المتزوجات، وأحفادها الثلاثة . . ومع ذلك أدركت أنها سوف تشعر بالوحدة أكثر مما مضى . وعليها وحدها أن تقاوم أيام الصيف الطويلة ، وليالى الشتاء الجامدة . يبدو أن عليها أن تسرع بالاندماج فى أى شلة من نساء النادى بشرط ألا يتدخلن فى تفاصيل حياتها . هل كان أخوها الأكبر محقاً حين نصحها بالزواج من صديقه الأرمل ؟ كيف هو الآن ؟ هل تزوج؟ إن أخاها لم يتصل منذ فترة ، عليها أن تعاود الاتصال حتى تطمئن عليه ! !
القطة الشرسة
تعرف عليها فى سباق الخيل . كانت وحدها ، وجميلة جداً، ومتوترة للغاية . حاول تهدئتها فاستجابت، وأمسك بيدها فاستكانت كقطة وديعة. كانت قد خسرت كل ما راهنت عليه . تشجع فدعاها على الغداء . قبلت بامتنان .عرف منها أنها من أسرة ثرية جداً ، وأنها مطلقة مرتين.
– كيف حدث هذا ؟
– أجابت ببراءة :
– قسمة ونصيب ! ليس لى مع الرجال حظ .
– لكن ألا تفكرين فى الزواج من جديد ؟
– إذا ظهر من يفهمنى جيداً . فأنا بسيطة جداً ، لكننى متعلقة بالسباق . لا أستغنى عنه أبداً . ماما هى السبب . كانت تصحبنى وأنا طفلة ، وهى التى أودعت فى نفسى حب الرهان. وعلى فكرة بابا يعطينى كل ما أنفقه فى السباق .
– لكن ألا توجد هواية أخرى تحولك عن ذلك ؟
– جربت كل شئ. الخيل هى حياتى. ولا أجد نفسى إلا فى الرهان عليها.
كانت تتحدث بعصبية ويداها ترتعشان، بدأ يفهم لماذا تركها الزوجان السابقان . وفى طريق عودته ، تخيل نفسه فى مكانهما . ماذا يفعل مع هذه القطة المدللة . . بل إنها قطة شرسة ، لا يستطيع أحد أن يثنيها عما تريد؟ أخرج من جيبه ورقة أرقام التليفونات، التى أعطتها له ، ومزقها قطعاً صغيرة . قذف بها من نافذة السيارة ، وراح ينظر إليها وهى تتطاير فى الهواء !
فاهمه يا خضرة ؟ !
أخيراً تحققت رغبتها فى الحصول على خادمة . كان أهم مشوار لديها أن تصحبها معها إلى النادى لكى تشاهدها جميع الصديقات ، اللاتى كن يتفاخرن أمامها بامتلاك خادمات، بينما كانت لا تستطيع أن تجاريهن فى ذلك ! الآن هى سيدة كاملة، ولها خادمة تراعى طفليها، وتحمل لها الحقيبة. لم يكن أمامها سوى مشكلة واحدة صغيرة، لكنها بدت لها صعبة للغاية : أن تهندم الفتاة ، وتختار لها اسماً عصرياً بدلاً من (خضرة) الفلاحى! وقع اختيارها على (سوسن) . فى المنزل راحت تحفظها بصعوبة اسمها الجديد ، وكذلك أجبرت طفليها على نطقه ، وعندما أخبرت زوجها بذلك سكت ولم يعلق . أمام صديقاتها فى النادى نادت على الفتاة باسمها الجديد فلم ترد . قالت إحدى صديقاتها بتهكم
– يبدو أن الفتاة طرشاء !
أقسمت لهن أنها تسمع . تعجب الجميع منها: كيف تسمع اسمها ولا ترد ؟ !
فى الطريق شدت أذن الفتاة بغيظ قائلة لها :
– إياكِ ألا تردى مرة أخرى حين أناديك بـ سوسن. فاهمة يا خضره !
فى المصيف
قرر أن يخرج إلى المصيف هذا العام . فقد استطاع أن يدخر كل ما حصل عليه من مكافآت تشجيعية ومنح ، مضيفاً إليها نصيبه من إيجار الأرض . كانت أسرته فى غاية الفرح : الزوجة، والبنتان والولد الصغير . وقبل يوم السفر سهروا طوال الليل وهم يضعون كل حاجياتهم فى السيارة الـ 128 حتى امتلأت عن آخرها ، وفوقها وضعوا عجلة الولد بجوار الشماسى .
كان اليوم الأول على البلاج أكثر من رائع ، نزل مع البنات إلى البحر ، أما الزوجة فكانت تجلس مع الولد على الشاطئ، موفرة لهم المناشف ، والسندوتشات ، وترمس الماء. فى المساء أخبرته عن رغبة الأولاد فى أكلة سمك . ذهب من الصباح الباكـر إلـى محـل السمـك ، فوجـده مزدحمـاً بالمصطافين . وبينما راح يدقق فى الأسعار فوجئ بيد تسقط على كتفه ، ثم قبلات وعناق وأسئلة عن متى عاد من الخارج ؟ وكيف وجد القاهرة ؟ وأين ينزل فى المصيف ؟ وعندما اقترب دورهما تقدم صديقه القديم فطلب بصوت عال : أربعة كيلو جمبرى وخمسة كيلو بورى وثلاثة كابوريا وأن يحملهم الولد إلى المرسيدس البيضاء . . أما هو فقد همس فى أذن البائع:
– اثنين كيلو سردين ! ثم نظر إلى صديقه كأنما يعتذر:
– أصل الأولاد عندى لا يحبون السمك !
حلم ليلة صيف
صحا من النوم ، وقد اكتمل الحلم الذى مر به فى الثلث الأخير من الليل . وجد قلبه يدق بعنف لأنه كان يجرى فى المشهد الأخير ، محاولاً الهرب من الموقف المحرج الذى وقع فيه . كان له جار يصغره كثيراً ، ولديه فتاة فى سن المراهقة ، وكان عندما يرى وجهها فى الشرفة يحس أنه أكثر الوجوه إضاءة فى العالم . كانت الفتاة تنمو وهو يراقبها ، وكثيراً ما لاحظت ذلك فكانت تبتسم له . . وأخيراً حدثت المعجزة: تعارفت الأسرتان ، وطلب منه والدها أن يساعدها فى دروس اللغة الإنجليزية. أصبحت تأتى إليه فى المنزل، ويظل يشرح لها على مدى الساعات من غير أن يحس بمرور الوقت، ودون أن يملّ من النظر إليها . . كيف يحدث ذلك ؟ إنه فى الخمسين وهى فى السادسة عشر! ! وعندما انتهى الامتحان ، ونجحت ، توقفت عن المجئ . قرر فى إحدى ليالى الصيف أن يقابلها بأى شكل: أشار إليها من النافذة أن تأتى ، فقالت إنها لا تستطيع . قرر أن يذهب هو إليها . فتحت له باب الشقة فدخل . همست إليه أن والديها فى حجرتهما فلم يهتم . استقر فى غرفتها وجذبها بكل شوق إليه. . سمع وقع أقدام تقترب من الحجرة . أشارت إليه أن يختبئ فى الشرفة . سمع صوت والدها يتحدث إليها . جمد الدم فى عروقه. قفز على عامود النور الملاصق للبيت وهبط عليه . أسرع يجرى فى الشارع وهو بالبيجامة. دخل غرفته ، وألقى بجسده على السرير ، استيقظ وقلبه يدق من الخوف !
الإنسان المحمول
أقسم لى أن فلاناً ، صديقنا القديم ، قد أصبح مدمناً للتليفون المحمول بصورة جنونية ، وعندما سألته :
- ما معنى هذا الجنون ؟ وإلى أى حد ؟
أجابنى بكل تأكيد :
- إنه لا يتركه من يده صباح مساء . يدخل به دورة المياه ، ويضعه إلى جواره على المخدة ، ويتكلم فيه وهو جالس فى السيارة ، أو سائر على قدميه . . والمصيبة أنه لا يرد فقط على المكالمات ، بل إنه عندما لا يسمع من يحدثه، يقوم هو بطلب المكالمة ، وحين يجد وقت فراغ ، يبعث برسائل مسجلة .
لم أجد فى حالة صاحبنا شذوذاً خارجاً إلى الحد الذى وصف لى ، لكننى انتظرت حتى جاء لزيارتى على الغداء . وكل ما لاحظته فى البداية أنه يمسك المحمول بيده ، ولا يضعه إلى جواره ونحن نتحدث . وعندمـا
وضع الطعام ، راح يأكل بيده اليمنى ، بينما المحمول فى اليسرى . وبالتأكيد كان يجد صعوبة فى استخدام يد واحدة على المائدة . قلت له :
– لماذا لا تترك المحمول جانباً ؟
– لا توجد مشكلة .
ووضعه أمامه بين الأطباق . لكنه عندما رن أسرع بالتقاطه ، وراح يتحدث فيه . خمس دقائق ، عشر. . وأنا آكل وحدى ، بينما هو يتحدث . والعجيب أنه طوال هذا الوقت لم ينظر إلى ، حتى يلاحظ ضيقى من تصرفه . أو لعله كان يدرك ذلك فلم يفعل .
فى الطريق إلى الباب ، سلمت عليه بفتور . لكنه أيضاً لم يلاحظ . وعندما أغلقت الباب وراءه ، سمعته يتحدث فى المحمول وهو على السلم . .
دموع الفرح
كان العام هو أسوأ أعوام حياته . فقد كان لديه ثلاثة أبناء على وشك اجتياز مراحل التعليم الثلاث : الأصغر فى الابتدائية ، والأوسط فى الإعدادية ، والأكبر فى الثانوية العامة ، ولأنه لم يستطع أن يوفر لهم كل ما يحتاجونه من الدروس الخصوصية ، فقد وضع يده على قلبه ، وتحمل ضجر وشكوى زوجته، التى كانت لا تنام الليل ، خوفاً على مصير الأولاد . قبل الامتحان بأسبوع ، جمعهم فى حجرة النوم وقال لهم :
– اسمعوا يا أبنائى . أنتم تعلمون أنكم أغلى ما أمتلكه فى الحياة ، وقد حاولت أن أهيئ لكم ولأمكم حياة كريمة ، لكننى لم أستطع أن أجعلها رغدة . . فاليد قصيرة ، وأنتم تعرفون الأحوال . لذلك أرجو أن تعتمدوا على أنفسكم ، ويبذل كل منكم أقصى ما يستطيع حتى يطيل رقبتنا أمام الناس . .
تأثر الأولاد كثيراً من تلك الكلمة ، وخرجوا من الحجرة ، وهم مصممون على العمل وبذل الجهد والاعتماد على النفس . عندما ظهرت النتائج كانوا كلهم فى المقدمة . ملأت الأم البيت بالزغاريد ، وراح الأب يمسح دموعه من الفرحة
لحظة اتخاذ القرار
جلس فى مكتبة الفخم يتأمل الأثاث وتوزيع الأضواء، ويستعرض شريط حياته الذى يمتلئ بسنوات اليأس ، وأيام الانكسار . دخل مدير المكتب ، وفى يده ملف ضخم ، أخرج منه ورقة ترشيحات رؤساء مجالس إدارة الشركات التابعة له:
– هذا الموضوع مستعجل يا باشا . .
– حسناً دعه هنا ، واتركنى ربع ساعة .
كان عليه أن يختار من بين ثمانية عشر اسماً ستة أشخاص لست شركات . هناك أربعة عليهم توصية، أشّر عليهم بسرعة . أما الخامس فتوقف عنده قليلاً ، ثم قبله لعدم أهميته . بقى السادس ، ينافسه اثنان يصغرانه سناً ، ويقلان عنه فى الخبرة . لكنه كان أحد الذين عارضوه أثناء الأزمة ، وصرحوا بذلك فى الجرائد . فكر أن يختار التالى له مباشرة ، لكنه عاد فقال لنفسه : ولماذا لا آخذ الثالث نكاية فيه ؟ ! ضغط على الجرس . دخل مدير المكتب . سلمه ورقة الاختيارات النهائية تمهيداً لإصدار القرار ، ثم راح ينظر فى أثاث مكتبه الفخم ، ويتأمل توزيع الأضواء !
أمام التلفزيون
جلس أمام التلفزيون ليشاهد برنامجه المفضل . استمرت الإعلانات لأكثر من عشر دقائق . حول على قناة أخرى فوجدها تبث برنامجاً طبياً عن عسر الهضم الذى يعانى منه . حاول أن يصغى باهتمام للطبيب الذى ظهر أنه خبير فى الموضوع ، لكن المذيعة كانت تقاطعه باستمرار ، إلى حد أن الرجل اضطر أن يقول لها : لو سمحت، أود فقط أن أكمل هذه النقطة . . لكن الطبيب مع الأسف لم يتحدث إلا عن أعراض المرض ، وكلها صحيحة لأنه يحس بها ، ويتألم منها . كان يتمنى أن يسمع منه علاجاً أو حتى مجرد نصيحة ، لكن المذيعة أسرعت بسؤال الطبيب عن الأغنية التى يفضلها ، وعلى الفور بدأت الأغنية . . عاد يضغط على (الريموت) لمشاهدة برنامجه المفضل . كان قد مضى منه الكثير . وفجأة رن جرس التليفون ، وأخبره أحد الأصدقاء بضرورة فتح قناة أخرى علـى وجـه السرعة . حول إليها . وجد فيها رئيس المؤسسة يجلس فى حوار مفتوح على الهواء ، والمشاهدين يطرحون عليه الأسئلة . فكر أن يفعل مثلهم لكى يكتسب رضاه ، لكنه أحجم خوفاً من اتهام زملائه له بالنفاق . استمرت الأسئلة تتوالى والرجل يجيب . أحياناً لا يقول الحقيقة . لكنه يبدو واثقاً من نفسه . شعر بالزهو لأن اسم مؤسسته يتردد فى التلفزيون . سأل المحاور رئيسه عن الأغنية التى يفضلها . جاءت الأغنية . راح يتابعها حتى النهاية . .
رحلة قطار
لم يكن يتوقع على الإطلاق أن تشمل رحلة واحدة بالقطار كل تلك الأحداث التى مرت به . فى مدخل المحطة حاول أحد اللصوص أن يسرق حافظة نقوده . وحين جلس فى البوفيه غالطه الجرسون فى الحساب . وعندما توجه إلى مقعده ، مع رقم تذكرته ، وجد شخصاً قد احتله ، ورفض رفضاً قاطعاً أن يتركه ، حتى تدخل الركاب ، وأجلسه أحدهم فى مكانه . جاءت فتاة على درجة عالية من الجمال وجلست إلى جواره . فى البداية كان متحفظاً ، ثم ما لبث أن تبادل معها بعض العبارات فوجدها متفتحة جداً. راحت تحدثه عن أسرتها ، ووجهتها ، وسبب سفرها الحالى . الأبوان منفصلان . وهى تعيش مع والدها فى القاهرة ، وتذهب مرة كل شهر لزيارة أمها فى الإسكندرية . الأم تزوجت من رجل ثرى ، يلح عليها فى الإقامة عندهما ، لكنها تفضل والدها لأنه مريض . زاد إعجابه بشخصيتها . تجرأ فسألها :
– هل أنت مرتبطة ؟
– مخطوبة مرتين. وفى كل منهما كنت أنا الضحية . الأول كان مدمناً ، والثانى ظهر أنه متزوج .
لا يدرى كيف صدقها . قبل أن يتوقف القطار ، طلب منها رقم التليفون . أعطته رقمين . لكنه لم يعثر عليها أبداً فى أىّ منهما ! !
استدعاء
نهض من نومه بعد العصر منزعجاً على دقات عنيفة على الباب . فتح فوجد ضابطاً بملابس مدنية وخلفه بعض الجنود . طلبوا منه أن يرتدى ملابسه بسرعة و يصحبهم إلى حيث هو مطلوب . حاول طوال الطريق أن يعرف السبب فلم يرد على أسئلته أحد. التزم الصمت ، وراح يفتش فى ذاكرته عن أى حادثة شارك فيها أو حتى شاهدها . . طوال حياته وهو يسمع ويقرأ عن المصائب لكنه لم يشارك أبداً فى أى منها . إنه حتى لا يحب الخوض فى أحاديث السياسة ، وعندما كان فى الجامعة ، التزم جيداً بنصائح والده بضرورة البعد عن المظاهرات ، التى قد تؤثر على مستقبله عند التعيين، والآن حين يشكو زملاؤه فى العمل من ضعف المرتبات ، وارتفاع الأسعار يبدى لهم الموافقة ، لكنه لا يتفوه بكلمة واحدة فى الموضوع. المجال الوحيد الذى يسمح لنفسه بحرية النقد فيه هـو المسلسـلات التليفزيونية ! توقفت سيارة الشرطة أمام مبنى شديد الحراسة، وبعد أن صعد العديد من السلالم ، جلس أمام ضابط فى غاية الأدب راح يتحدث معه فى أمور عادية، وأخيراً قدم له صورة وقال له:
– هل تعرف هذا الشخص؟
أكد أنه لا يعرفه ولم يره قط فى حياته. شكره الضابط على حسن التعاون ، واعتذر له عن الإزعاج ، ثم أمر أحد الجنود بتوصيله إلى باب المبنى . لم يشأ أن يعود بالتاكسى ، وفضل أن يتمشى فى طرقات الليل الساكنة تماماً ، لكى يجد لنفسه إجابة مقنعة عن سبب استدعائه : هل كان حقاً لمجرد هذا السؤال؟ !
بعض الماكياج
ترددت أكثر من مرة على الإدارة لكى تنهى سلسلة الإجراءات الطويلة لصرف معاش زوجها . كانت فى فترة الحداد، مازالت ترتدى السواد، ولا تضع على وجهها أية مساحيق . زادت معاناتها إلى حد أنها فكرت فى تقديم رشوة لتمضية الأمور ! قالت لها إحدى صديقاتها :
– إياك أن تفعلى!
لكنها عادت فسألتها :
– كيف تذهبين إلى هناك ؟
أجابتها:
– عادى . أرتدى فستانى الأسود ، وأتعمد أن أكون فى حالة مزرية حتى ينظروا لحالتى بعين العطف !
قالت صديقتها :
– فلنجرب الأسلوب الآخر .
سألتها :
–ما هو ؟
– عندما تنوين الذهاب ، أخبرينى فقط لأذهب معك . .
بعد عدة أيام ، كانت الصديقتان على باب الإدارة. فغر الموظفون أفواههم . تبادلوا النظرات ، وسرت بينهم بعض ألفاظ الدهشة والإعجاب . اقتادهما الساعى مباشرة إلى مكتب المدير. ثم خرج فعاد بكوبين من العصير . رن الجرس . خرجت الأوراق ودخلت. انتهت المسالة تماماً. كانت صاحبة المعاش فى ذهول تام ، وعندما سألت صديقتها :
– كيف حدث هذا ؟ !
– أبداً ، بفضل بعض المكياج !
انسحاب فنانة
بدأت منذ الخطوة الأولى لصعودها سلم الشهرة تفكر فى لحظة النزول منه . كان جميع أصدقائها وصديقاتها يقولون لها إنها مجرد وساوس ، ولأنك حساسة فأنت تضخمين المسائل . لا تفكرى فى المستقبل، وعيشى اللحظة الحاضرة . لكنها ظلت متوترة ، ولم تسعد بأى نجاح تحققه ، وكلما شاهدت الجمهور يصفق ، قفز إلى ذهنها أنها تسير فى طريق طويل ، ومزدحم بكائنات غريبة لا يعرفها منهم أحد !
بعيداً عن الوسط ، قررت أن تذهب إلى طبيب نفسى كبير ، وما لبثت أن أقنعته بأن تكون الجلسات فى شقتها . كانت تستلقى على الكنبة وتظل تحكى وتحكى حتى أفرغت كل ما فى ذاكرتها . كتب لها الطبيب عدة حبوب مهدئة ، ومنومة ، ونصحها بتغيير الجو ، والرحلة إلى الخارج من وقت لآخر . اعتـذرت عن معظم الأعمال التى عرضت عليها بسبب علاجها الذى أخفته عن الجميع . أصبحت مقلّة جداً فى أعمالها، وكانت تتابع فنانات أصغر سناً وأقل موهبة يصعدن وينتشرن وهى فى عزلتها هادئة . بمرور الوقت ، أهملها المخرجون تماماً ، ولم يعد يذكرها سوى عدد قليل من قدامى المعجبين !
الأخت الحاسدة
لم تبدأ غيرة الأخت الكبرى إلا عندما تقدم لخطبة الصغرى شاب أكثر مالاً ومركزاً ووسامة . راحت تؤكد لها عدم مصداقيته حتى تم الزواج. وكانت كلما تحدثت إليها عن أمر تافه فى حياتها الزوجية حوّلته إلى كارثة . وبمرور الوقت ، تحولت الغيرة إلى حسد أسود ، أحال حياتها جحيماً . قال لها زوجها :
– لماذا أصبحت حزينة هكذا ؟
أجابته دون تفكير :
– ألا ترى ما لديها ؟ !
– كل إنسان ونصيبه.
– لكنها الصغرى ، وليست أجمل منى .
سكت الزوج مرغماً . وتوالت الأمراض ، وتعددت العمليات الجراحية ، والأخت الصغرى تقدم الكثير من المساعدة والدعم . .
ذات ليلة قرب الفجر ، اقتربت الصغرى من السرير تتحسس حرارتها فإذا بها تمسك بيدها ، وتضغط عليها بأقصى قوتها قائلة :
– سامحينى على كل ما فعلته بك .
سحبت يدها مؤكدة :
– إنك لم تفعلى شيئاً على الإطلاق .
– أرجوك سامحينى حتى أموت وأنا مرتاحة .
– لا تقولى شيئاً من ذلك .
– أنت لا تعرفين شيئاً .
– بل أعرف أنك أعز أخت لى فى الدنيا !
سنوات الحكومة
فى السنة الأخيرة من عمله فى الحكومة ، أصبح سريع الغضب، كثير النرفزة ، ينفر من الناس ، ولا يتحمل أى دعابة . وصار يصحو مبكراً ، فيجلس فى البلكونة ليستنشق نسمة الصباح الباردة ، ويشاهد أولى حركات الشارع .
قبل السادسة ، يصل تحت المنزل وبالقرب من الناصية بائع فطير فى سيارة نصف نقل صغيرة ، ومحملة بالصوانى . ينزل فيفرد جوانبها حتى تصبح مطعماً ، ثم يضع عليها صوانى الفطير ، تتوسطها صاجة التسخين ، تحتها موقد بوتاجاز . يتجمع بعض الزبائن لكنه لا يبدأ البيع لهم إلا بعد استكمال باقى الطقوس : يخرج رزمة أوراق متوسطة وصغيرة . المتوسطة لفطيرة الجنيه ، والصغيرة لفطيرة الخمسين قرشاً. ثم يشعل البوتاجاز ، ويرش الصاجة ببعض قطرات من الزيت ، ويضع فوقها كمية من الفطير .
عندما ينتهى يبدأ فى تقبل الطلبات ، دون أن ينظر لأصحابها . يتناول فقط النقود، ويلف لكل زبون فطيرته مصحوبة بكيس صغير من السكر. البعض يأخذها ويجرى ليلحق بالأوتوبيس الذى يقله إلى عمله، والبعض الآخر يلتهم الفطيرة وهو واقف بجوار العربة.
كم يكسب هذا الرجل فى اليوم الواحد ؟ راح يعد الصاجات فوجدها سبعاً ، على كل منها حوالى مائة فطيرة . فى الثامنة والنصف تكون كل الصاجات قد فرغت ، ويتحول المطعم الصغير إلى عربة ، يقودها الرجل ويمضى . . ما أجمل هذا العمل ! وما أكثر ربحه! كما أنه محترم ، ولا يستغرق سوى ساعتين ونصف. وراح يتساءل: هل ضاعت سنوات عمره فى الحكومة هباء ؟ !
رد مجاملة
نشأ الاثنان فى حى واحد . واستمرت صداقتهما رغم تفرق الطرق بهما فى الحياة . الأول أصبح من مشاهير كرة القدم ، ثم عندما اعتزل أصبح مدرباً لفريق كبير . أما الثانى فعمل فى مجال البنوك حتى أصبح مديراً لبنك كبير . كانا يتبادلان الزيارة ، وبمرور الوقت تحولت إلى مجاملة فى المناسبات . وكانت أكبر مجاملة قدمها مدير البنك لصديقه المدرب ذلك القرض الذى أتاح له امتلاك فيلا رائعة فى إحدى المدن الجديدة. ثم جاء الدور على المدرب ، فقد التحق ابن الأول بفريق للكرة فى النادى، ولم يكن موهوباً تماماً لكى يلعب فى الفريق الأول، لكنه ضمّه إليه ، وحانت المباراة الحاسمة فأشركه فيها. نزل الولد إلى الملعب ، فأضاع على زملائه الكثير من الفرص حتى انهزم الفريق . أجمع الجمهور على أنه لولا هذا اللاعب لأمكن الفوز ، أو حتى التعادل . . وتساءل الكثيرون عن سبب إبقائه طوال المباراة ، لكن أحداً لم يعرف أبداً أن ذلك لم يكن مجاملة . . بل رد مجاملة .
دخان الرسائل
بعد أن فاض به الجوى والألم ، وتعذر على لسانه أن يصارحها ، قرر أن يكتب لها قائلاً : "حبيبتى.. . " ثم شطبها وكتب " عزيزتى . . . فضلت أن أبعث إليك بهذه الرسالة لكى أعبر لك فيها عن مشاعرى التى حاولت كثيراً إخفاءها، لكننى لم أستطع " ثم توقف متسائلاً : كيف يمكن أن يكون رد فعلها ؟ وأجاب : إنه لن يخرج عن أمرين : إما أن تسعد وتستجيب وتدخل معى فى جنة الأحلام التى صنعتها لها، وإما أن تغضب غضباً شديداً فتقطع تلك العلاقة الجميلة التى تظللها الصداقة بيننا. ترك ما كتبه ، وراح يكتب فى ورقة أخرى " عزيزتى . . . لست أدرى ما الذى يدفعنى للكتابة إليك على الرغم من لقاءاتنا اليومية ، وكذلك على الرغم من اتصالاتنا التليفونية فى أى وقت . . أرجو أن تعذرينى لأننى أريد الإفصاح بالكتابة عما أحس به دون حرج المواجهة . . " وهنا تساءل : ألن يكون ذلك نوعاً من الخضوع الذليل أمامها وهى التى تحكى له كثيراً وبسخرية عن الرجال الذين يصارحونها بإعجابهم ؟ ! راح يعبث بالقلم ، ويرسم على الورقة دوائر ومثلثات ، ووجد نفسه يكتب : "ملعون الحب ! إنه لا يكتفى فقط بتمزيقنا، ولكنه أيضاً يضع جبهتنا فى الأرض " ثم أمسك بالورقتين وراح يقطعهما قطعاً صغيرة ، وكلما وجد كلمة كاملة قطعها من الوسط خوفاً من أن تراها زوجته . وأخيراً قرر أن يشعل فيها النار ، ثم يلقيها فى دورة المياه . عندما تصاعد الدخان جاء صوت الزوجة من الحجرة المجاورة :
– ما هذه الرائحة ؟
اضطرب قليلاً ثم قال بصوت عالٍ:
– إنها بعض أوراق المكتب أريد التخلص منها .
ردت الزوجة محذرة :
– طيب حاسب على زجاجة الفنيك اللى عندك من النار!
محاولة
لم تعد أمامه سوى فرصة واحدة : إما أن ينجح فيها أو يفشل إلى الأبد . لذلك فقد حشد هذه المرة كل قواه ، واستعان بكل معارفه حتى أنه لم يتردد فى أن يلجأ أحياناً لبعض الخصوم ، إن لم يكن للمساعدة ، فعلى الأقل لكى يكفوا أذاهم عنه . كان يقوم فى الليل ليجلس فى سريره مستعرضاً أدق التفاصيل ، ومحاولاً وضع إجابة لكل سؤال . بل إنه كان ينهض فى أحيان أخرى ليجلس على المكتب ، ويعيد قراءة أوراق الملف للمرة الألف . . وأخيراً قال لنفسه : لقد فعلت كل مافى وسعى . ولم أترك أى ثغرة فى الموضوع ، ولم يبق علىّ الآن سوى أن أجلس بهدوء وأراقب سير الأمور..
كان كمن يراهن على حصان جيد فى سباق. لكنه لم يكن متأكداً من ضربة الحظ، أو حالة الطقس . وفى النهاية جاءت النتيجة وسطاً بين الفشل والنجاح . لم يحدث تماماً ما يريد ، لكنه أيضاً لم يخسر كل شئ . هنأه الكثيرون على صدق المحاولة. ونظر إليه بعض الحاقدين على أنه خرج منتصراً . لكنه عندما عاد إلى منزله ، تمدد بكامل ملابسه على السرير ، ولأول مرة منذ عدة شهور ، راح فى نوم عميق بدون أحلام !
الوظيفة الأفضل
حمى وطيس المعارك فى المؤسسة حتى أصبحت مهددة بالانهيار ، وانتشرت أخبار الخلافات بين الموظفين فى كل الجرائد ، ولم يعد يطيق من يسأله فى المقهى عما يحدث ، وما هو موقفه ، وأين الحقيقة ؟ كره المقهى ، وراح يتردد على مسجد بعيد عن الحى ، ليقضى فيه بهدوء الفترة من العصر إلى العشاء . . هناك انغمس فى الصلاة، ووجد فى صلاة الجماعة راحة لا حد لها . كان الإمام حسن الصوت فراح يذوب فى تلاوته ، وتمنى أن يجلس إليه . لم يمر وقت طويل حتى توطدت بينهما الصحبة ، وصار من أتباعه . كان الرجل يفسر القرآن بعد المغرب ، ويجيب على أسئلة المصلين بعد العشاء . . اشترى العديد من الكتب الدينية التى أوصاه بها ، وأصبح يحملها معه فى العمل ، ويقرأ فيها كلما هدأت الواجبات . لم يعد
يسمع ضجيج المعارك فى المؤسسة ، وانقطعت عنه أخبار المتنافسين . صار حريصاً على مواعيد المسجد أكثر من حرصه على موعد العمل . كان إذا غاب الإمام قام هو مكانه ، وراح الناس يسألونه فيجيب . قيل له: كيف تفتى وأنت بدون لحية ؟ فأطلقها . ساعده الإمام فى الحصول على تصريح بالخطابة فى مسجد مجاور . أقبل الناس عليه وزاد أتباعه . ذات صباح، قرأ فى الجريدة عن حل المؤسسة التى يعمل بها ، صاحت زوجته باكية. أما هو فتمتم قائلاً :
– الحمد لله الذى أبدلنا خيراً منها .
شاى بالنعناع
عادوا من تشييع الجنازة . كانوا أربعة . قال أحدهم :
– أنا جوعان . ورد الآخر :
– أعرف مطعماً جيداً فى هذا الحى .
جلسوا متقابلين . سجل الجرسون طلباتهم ، وما لبثت المائدة أن امتلأت بالمياه المعدنية ، والسلَطات ، وأخيراً جاء الكباب والكفتة .
قال أحدهم :
– ليته كان معنا الآن ! فقد كان أكثرنا ضحكاً .
وقال الثانى :
– لكنه فى الفترة الأخيرة فقد الكثير من حاسته على الفكاهة. وأسرع الثالث قائلاً : المشكلة أنه عرف متى سيموت ؟
وتساءل الرابع :
– كيف يشعر الإنسان عندما يعرف موعد وفاته ؟
أجابه الأول :
– تسود الدنيا فى عينيه ، ويفقد الإحساس بطعم الحياة، ولا يطيق أن يفعل أى شئ ، أو يكلم أحداً !
رد عليه الثانى :
– وهل جربت أنت ذلك؟
– كلا ، لكننى قرأت عن الموضوع ، كما أننى شاهدت أحد الأفلام !
وقال الثالث :
– عموماً الدنيا لا تستأهل كل هذا العناء الذى نحن فيه.
وعلق الرابع :
– لكنك إذا خيرّت بينها وبين الموت لن تتنازل عنها بسهولة، بل تجد نفسك متمسكاً بها لأقصى درجة ..
وكانت الأطباق قد فرغت تماماً من الطعام ، ولم يبق سوى بعض البقايا ، فنادوا على الجرسون :
– ارفع يا بنى هذه الأشياء ، وأحضر لنا شاياً بالنعناع !
بدون تكييف
جاءت إليه من إدارة أخرى فى موضوع عام ، وعندما وجدها سيدة كبيرة فى السن أجلسها وسألها عن حالها وحال مكتبها فاندفعت فى البكاء . قدم لها عدة مناديل ورقية لتمسح دموعها وطلب لها عصير ليمون . تناولت القليل منه فهدأت . سألها عن السبب : قالت بصوت متقطع :
– أنا رئيسة مكتب ، أعمل فى المكان منذ ثلاثين سنة، ولدى أكثر من سبعة موظفين . وعندما يأتى الصيف يصبح المكتب جحيماً من الحر لا يطاق ، وليس لدينا تكييف . تصور أننى أترك الموظفين واحداً وراء الآخر لكى يذهب ثلث ساعة أو نصفها إلى أحد المكاتب المكيفة حولنا ليرتاح فيها قليلاً . . ومع ذلك، فالموظفون عندى يتهموننى بأننى أحابى بعضهم، فأتركه خمس دقائق زيادة عن الوقت المحدد. .
سألها :
– ولماذا لم تطلبى تكييفاً لمكتبك ؟
– يا ما طلبت، وكلما جاء مدير جديد وعدنى ، ولم ينفذ وعده .
– لكن العمل الذى تقومون به مهم جداً للإدارة كلها .
وجد نفسه مدفوعاً لتبنى الموضوع . ذهب لمقابلة المدير العام ليطلب منه تكييفاً لهذا القسم المحروم، لاحظ لأول مرة أن فى مكتبه وحده . . أربعة مكيفات !
اشتراك الرحلة
وعد ابنه إذا ذاكر واجتهد ونجح بتقدير متقدم أن يخرجه مع زملائه فى رحلة الكلية . حقق الولد كل ما يتعلق به ، ولم يبق على الأب سوى أن يدبر قيمة اشتراك الرحلة ومصاريف الولد فيها . كان سعيداً جداً بالإنجاز الذى حققه ، وراح يدعو له بمستقبل أكثر إشراقاً ، ويحلم بأنه سيكون من أكبر المهندسين فى البلد . دبر المبلغ المطلوب من مصادر عديدة : مكافآت وحوافز وتوفير أجرة التاكسى ، وتقليل السجائر ، وتجنب الجلوس على المقهى. راح يستعجل الساعات ليعود إلى المنزل ويعطى ابنه المبلغ أمام أمه ، التى كانت تتابع خطوات توفيره برضا مشوب بالإعجاب . قبل موعد الانصراف بنصف ساعة مر عليهم فى المكتب أحد كبار الموظفين بالمصلحة ، وبصحبته سكرتير المدير .
– ماذا حدث؟
– ابن المدير نجح ، ونريد أن نقدم لسيادته هدية تليق بمقامه . وقد فكرنا فى الورود ، والشيكولاته ، وطبق الفضة، لكن الرأى استقر أخيراً على كمبيوتر ، يلعب عليه الولد ، وكما تلاحظون الفكرة مبتكرة! وافق كل الزملاء فى المكتب .
لكنه سأل :
– كم المساهمة ؟
– أقلها (200) جنيه ولا حد لأقصاها . وكله سيسجل فى الكشف .
نظر فى الأسماء فوجد التنافس شديداً ، والمبالغ عالية . أخرج الـ (300) جنيه المخصصة للرحلة من حافظته ، وسلمها للسكرتير الذى أسرع بتسجيل اسمه فى الكشف !
نهر الحياة
لم يدرك مأساة خَلَف البنات إلا بعد أن تخرجت بناته الثلاث : اثنتان من الجامعة ، وواحدة من الدبلوم. كان كل همه طوال حياته أن تحصل كل واحدة منهن على شهادة . . سلاح فى يدها ضد الزمن ! لكن ها هو الزمن يتحداه ، وتصبح الفتيات الثلاث معرضات لرياحه وعواصفه . . البنت الكبرى خطبت مرتين وفسخت خطبتها . والوسطى يدور حولها كثير من الشبان دون أن يتقدم واحد منهم . أما الصغرى فقد عرض عليها صاحب العمل الزواج فوق زوجته ، والمصيبة أن البنت موافقة على ذلك !
كان متشدداً جداً فى شروط من يتقدم للزواج من بناته ، لكن زوجته راحت تلح عليه قائلة :
– إن الدنيا تغيرت ، وعليه أن يقبل بأدنى الشروط .
أصبحت أخبار حوادث الاغتصاب ترجّه بعنف ، ويتخيل أحياناً أنها من الممكن أن تقع لإحدى بناتـه .
فيكاد يفقد عقله . ظهرت عليه علامات الشيخوخة فأصبح يفضل الوحدة ، ويطيل الصمت . قال له أحد قدامى أصدقائه :
– أخرج الموضوع من دماغك . المسألة قسمة ونصيب.
لم يوافق تماماً على كلامه ، ومن العجيب أن كل واحدة من البنات عندما جاءت له بعريس متوسط الحال ، وجد نفسه بدون اختيار مضطراً للقبول . تزوجت البنات الثلاث ، وتوالت مواليد الأحفاد حتى صاروا عشرة . . راح يوزع عليهم النقود الجديدة فى العيد . بعد انصرافهم، قالت له زوجته :
– ألست سعيداً بهم ؟
أجابها :
– صحيح ، إن الإنسان ليس سوى قطرة واحدة فى نهر الحياة !
عشق اضطرارى
ذهب إلى العمل فى إحدى دول الخليج . المنصب محترم . والأجر يفوق عشرة أضعاف ما كان يتقاضاه فى بلده . اعتبرها فرصة العمر ، وصمم على ألا تضيع . بذل أقصى ما يستطيع فى عمله . وكان يسمع أخبار الكسالى والمتلاعبين تنتهى عقود عملهم قبل موعدها . ازداد حرصاً على عدم الوقوع فى الخطأ. وكان لا يغادر المكان إلا متأخراً. لوحظت جديته ، وبدأ يسمع الثناء عليه قليلاً قليلاً ثم أخذ يزداد ويستقر .
بعد أربع سنوات متواصلة من العمل أحس فجأة بجفاف عاطفى كاد يقضى عليه . انسدت نفسه عن العمل، وأصبح يلجأ إلى الأجازات المرضية لينفرد بنفسه. نصحه بعض أصدقائه بشراء فيديو ليقضى أمامه وقت فراغه الطويل . كان يشاهد أربعة أو خمسة أفلام فى الليلة الواحدة . أثار دهشة الهندى الذى يعمل فى محل تأجير الأفلام من كثرة ما استأجره . .
تحول إلى محل كاست . شاهد العديد من وجوه المطربات على أغلفة الشرائط . تخير واحدة أعجبته عيناها الواسعتان . فى البداية لم يفهم لهجتها ، ثم راح يتعود عليها ، وأصبحت هى مطربته المفضلة . ملأ صندوق سيارته بأغانيها . أصبح يفكر فيها ويبحث عن أخبارها فى الجرائد ، ويترقب ظهورها فى التلفزيون . عادت حياته لتوازنها الأول . وأمضى عامين آخرين قبل أن يعود إلى بلده !
حب الشيخوخة
استدعى أعز أصدقائه ليبحث معه سر تعلقها به على هذا النحو، الذى أصبح يحيره بالفعل . ما الذى يجعلها وهى فى نصف عمره تقريباً تندفع بكل عواطفها إليه ، ولا يكاد يمر يوم حتى تراه ، أو تتصل به . أكد لصديقه أنها على استعداد كامل لأن تفعل أى شئ من أجله ، وأنه أصبح محور حياتها . أصغى الصديق العاقل وقال :
– لعلها عقدة الكترا .
– وما هى ؟
– إنها التى تفسر تعلق الفتاة بالرجل الذى يشبه أباها .
– لكننى لا أشبهه . لقد أطلعتنى على صورته .
– إذن لعله حرمانها القديم من حنان الأب .
لكنه راح يؤكد له أن المسألة تجاوزت إطار العواطف إلى جنون الجسد . هنا قال الصديق بغضب :
– لابد أن توقف هذه المهزلة .
أجاب بانكسار :
– لا أكذبك أننى أيضاً راغب فيها .
– هل جننت ؟
– أبداً ، لكن هل تصدقنى إذا صارحتك بأنها تشبع كبريائى ، وتعيدنى أكثر شباباً وحيوية .
ارتفع صوت الصديق :
– وأسرتك ! زوجتك وأولادك ؟
– لم يعد أحد منهم يهتم بأحد . أصبحنا نعيش مثل الجزر المنعزلة ، لذلك فإننى معها أجد نصفى الآخر.. إنها بالفعل حب حقيقى . أرجوك ، حاول أن تفهمنى.
لم يتراجع الصديق أبداً عن موقفه ، وقبل أن ينهض نظر طويلاً إلى لون شعره الأبيض ، وقال :
– ألا تدرك أننا قد تجاوزنا الستين ؟
لم يرد . أضاف الصديق :
– وأنت تكبرنى بعامين !
الفرصة الضائعة
أعجب بها من النظرة الأولى ، وظل الإعجاب يتزايد كلما تعرف عليها. كانت كالماسة التى تشع من كل الوجوه . ولا يكاد يوجد فيها أى عيب . جالت بذهنه فكرة الارتباط بها ، لكنه تراجع لشدة جمالها ، وعلو منصبها ، ومكانتها المتميزة فى المجتمع . كان فى بداية طريقه يتلمس معالم النجاح ، ولم تكن صورة المستقبل واضحة تماماً . لكنها كانت تشجعه ، وتقول له أحياناً : سيكون لك مستقبل باهر .
كان يعتبر ذلك مجرد مجاملة ، تنطوى على نصيحة من الأعلى للأدنى . لذلك كانت كرامته ترفع صوتها محذرة من أن يخفض الرأس أمامها. وهكذا اختلطت مشاعره العميقة نحوها بمزيج من الحذر ، والتحدى ، والاعتزاز بالنفس.
ذات يوم طلبت لقاءه ، أسرع إليها فوجدها جميلة كالعادة. أكدت له أنه من أفضل أصدقائها الذين ترتاح إليهم ، وتحترم رأيهم . توقع منها اعترافاً قد يغير مجرى حياته . لكنها راحت تحدثه عن (فلان) ، الذى تقدم إليها ، وهى لا تمانع ، لكنها تريد مَنْ يزيد قلبها اطمئناناً . تغلبت الصداقة على الحب ، فراح يمتدح الرجل ، ويعدد مزاياه . شكرته على سديد رأيه، وأوصلته إلى الباب. فى الشارع ، وجد أنه لو كان قد تقدم إليها لقبلت به . لكنه بغبائه أضاع الفرصة.
الضّجَر
لم يتبق من جيله سوى اثنين . أحدهما ملازم للفراش ، والثانى ما زال متماسكاً ، يسافر كل عام ليزور أبناءه فى الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك عندما يشعر بالوحدة ، لا يجد أمامه حاضراً سوى صديقه المريض ، الذى يفرح كثيراً بزيارته ، لكنه ما يلبث أن يغيب عن الوعى ، ويروح فى إغفاءة طويلة. كان فى البداية يتوقف عن الكلام ، وينصرف بهدوء ، لكنه فى الفترة الأخيرة لم يعد يفعل ذلك ، فهو يظل يتكلم إليه وهو نائم ، أو غائب عن الوعى . ماذا يهم ؟ المهم أنه يفرغ لديه شحنته الانفعالية ، الناقمة على الزمن ، والناس .
– تصور أن سائق التاكسى كاد يضربنى عندما أعطيته جنيهاً ونصف . أنت تعلم أن المشوار لا يساوى أكثر من خمسين قرشاً. لكن سائقى هـذه الأيام أصبحوا ملاعين . وبالأمس لم أستطع النوم من لدغات الناموس . إنهم فى الحى لم يعودوا يرشون الشوارع كما كانوا يفعلون على أيامنا ! ومنذ أسبوع أقاموا لحفيدة أختى فرحاً فى فندق كبير ، لم أستطع أن أجلس فيه أكثر من نصف ساعة ، وكدت أفقد سمعى من ارتفاع صوت الموسيقى !
وعندما يصحو صديقه المريض من غفوته يسأله عن صديقهما الثالث ؟ فيجيب بانفعال :
– وهذا أيضاً ، لا أدرى ماذا يعجبه فى أمريكا ؟ كل سنة يقضى فيها ثلاثة شهور . أقسم لك أن أبناءه لا يرتاحون لرؤيته ، لكنه يفرض نفسه عليهم ، تماماً كما يفعل معنا !
الأوراق القديمة
صحا من نومه ، وهو يقول لنفسه : هذا يوم أجازة كامل ، سوف أستغل كل ساعاته فى النوم والراحة . وبتثاقل شديد راح يعد فطوره ، ثم يعدل الكرسى الهزاز فى الشرفة ويستلقى فوقه ، متجولاً فى الجريدة وهو يأكل ، وبجواره كوب الشاى بالحليب . وفجأة رأى ما كان ينتظره منذ عام كامل : إعلان فى الصفحة الأخيرة عن الجائزة، وقيمتها ، وشروط التقدم لها ، والموعد المحدد لانتهائه . راح يتأمل عنوان الجائزة وهو سعيد للغاية ومتفائل. كان متأكداً من أنه الشخص الوحيد المؤهل للفوز بها . ومن غيره أحق ، والكل يعرفون تاريخه ، وقيمة أعماله ؟ عاد يتفحص شروط التقديم فوجدها تتطلب إحضار أوراق وشهادات موثقة ، بعضها لديه ، والبعض الآخر من جهات مختلفة . لا يهم . لكن عليه أن يبدأ أولاً بما لديه. قام إلى مكتبته ، وراح يتصفح الملفات القديمة . استوقفته الكثير من الأوراق – الذكريات التى ترجع إلى ثلاثين أو أربعين سنة . أخذ يقرأها مستعيداً تلك اللحظات النادرة فى حياته. كانت الأوراق كثيرة جداً . حملها إلى الشرفة، وراح يعيد قراءتها بكل اهتمام . الورق اصفر لونه ، وتمزقت أطرافه ، لكنه مازال شاهداً على كل ما حدث من هزيمة ونصر ، نجاح وفشل ، حب وانكسار ، تنافس وانسحاب . . كانت الساعة تقترب من السادسة، والشمس فى طريقها للمغيب ، وبدأ يشعر فى ظهره بألم روماتيزمى كان قد توقف منذ فترة .. وكاد يلعن الإعلان الذى جعله يضيع اليوم فى أوراقه القديمة
مراقبة
كان له عم شديد المرح ، وفى جعبته الكثير من الحكايات . حدثه ذات يوم عن المرأة التى كانت تخون زوجها ، مستخدمة حبل الغسيل لتعلق عليه منديلاً يثبت لعاشقها أن زوجها غير موجود فى المنزل . فإذا حضر أسرعت بنزعه من الحبل . سأله :
– وهل استمرت حيلتها ؟
– كلا ، فقد افتضح أمرها حين وصل زوجها من سفر بعيد على غير توقع ، وفتح الشقة فوجدها متلبسة !
مرت سنوات طويلة ، وفى الشقة المقابلة من الشارع ، وأثناء متابعته للجارة الحسناء ، راح يلاحظ مشهداً شديد الغرابة: تخرج الجارة تارة فتعلق بنطلون زوجها ، وتخرج تارة أخرى لتعلـق الإيشارب الأحمر ، ومع مرور الوقت وجد أن البنطلون والإيشارب لا يجتمعان قط على حبل غسيل، ثم راح يلاحظ أن الإيشارب عندما يعلق ، يُغلق شيش البلكونة ، فى حين يبقى مفتوحاً أثناء تعليق البنطلون. أصبحت ملاحظة الجارة، وحبل غسيلها ، وما يعلق عليه . . شغله الشاغل على مدى عدة شهور . . وكم حاول أن يتابع زوار البيت الداخلين أو الخارجين فلم يستطع . فكر أن يكتب للزوج خطاباً ينبهه فيه إلى ما يجرى فى بيته لكنه عاد فأحجم . وكان أحياناً يحاسب نفسه على متابعته للجارة لأنها جميلة ، ولأنه هو نفسه كان معجباً بها ، ذات مساء ، راح يرقب الشرفة ، وجدها تجلس مع زوجها ، وقد راحا يلعبان الكوتشينة ، ويرشفان الشاى . . أما حبل الغسيل فلم يكن عليه أى شئ !
فضفضة
جاء على غير موعد ، كان فى أشد حالاته حزناً وانكساراً . قدمت إليه الشاى فلم يقربه ، وقال :
– أتيت إليك لأنك الوحيد الذى يمكن أن يساعدنى . قلت:
– خيراً :
– ومن أين يأتى الخير ؟ ! تمت خصخصة الشركة ، وتقرر الاستغناء عن 75% من الموظفين والعمال.
لم أجرؤ أن أسأله إذا ما كان هو منهم ، لأن حاله ينطق بذلك. أضاف :
– طبعاً ، ستوزع علينا مكافآت ، لكنها لن تكفى لإنشاء أى مشروع صغير ، وحتى إذا كانت تكفى ، فمن أين الجهد والخبرة والصحة التى تساعد على ذلك ؟
قلت له:
– لا تيأس بهذا الشكل . فالله هو رازقنا جميعاً ، ولابد أن نثق فى أنه إذا أغلق على عبده باباً ، فتح له باباً آخر .
قال :
– ما يضايقنى أننى كنت من أشد المخلصين للشركة، وأننى من بين قلة قليلة لم تمتد أيدينا على شئ منها، كما كان يفعل كثير ممن أبقوا عليهم !
وجدتنى أشاركه المأساة ، ورحت أؤكد له أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً . نهض قائلاً :
– عموماً أنا رجل مؤمن . وأنا واثق تماماً فى تدبير الله. لكننى أحببت فقط أن أفضفض أمامك ، بدلاً من أن أنفجر وحدى من الحزن ، أو من الغضب !
صداقة لها جذور
جلس ثلاثتهم على المقهى يتحدثون . قال أحدهم :
– هل تعلمون يا جماعة أن هذا العام يوافق مرور ثلاثة وثلاثين عاماً على صداقتنا ؟ !
قال الثانى :
– اللهم لا حسد . لكن موعدنا فى الخميس الأخير من كل شهر لم تمض عليه سوى خمسة أعوام فقط .
وعقب الثالث :
– فى تصورى أننا نتفرد بهذه الصداقة الطويلة ، دون أن يعكرها أى نزاع أو خصام .
قال الأول :
– لعل السبب يرجع إلى أن كلا منا مشى فى طريق لا يتعارض مع طريق أى من الآخرين ، بل إنه يتكامل معه . فأنا مثلاً بدأت طبيباً صغيراً فى الريف ، ثم أصبحت لى عيادة كبيرة فى العاصمة ، ولم أتأخر عن تقديم أى عون لمن طلبه منكما.
وقال الثانى :
– وأنا تدرجت من وظيفة مدرس إعدادى حتى أصبحت وكيل وزارة فى التربية والتعليم . وكل أبنائكما مروا على لمساعدتهم فى الاستعداد لامتحان الشهادات .
وقال الثالث :
– وأنا ما زلت أذكر كيف بدأت عامل نسيج ، ثم انتقلت للعمل عند والد زوجتى فى محل قماش ، حتى أصبح لى محلان كبيران فى وسط البلد . . ولعلكم لا تنكرون أننى زودتكما بأفضل صوف لتفصيل البدل .
عاد الأول يقول :
– لكن الملاحظ أن أحداً لا يمن على الآخرين بما فعله لهما .
قال الثانى :
– وهذا أروع ما فى صداقتنا ، التى ندعو الله تعالى أن يحفظها علينا .
الجيت سكى
فى الاستراحة ، راح ينتظر مع أسرته خروج الطبيب من غرفة العمليات . كانت زوجته قد تورمت عيناها من البكاء . والبنتان ذاهلتان تماماً بسبب وقوع الحادثة أمامهما ، أما هو فكان يفكر فى حالة الولد ومستقبله ، وعندما طاف بذهنه هاجس احتمال موته كاد يشل تفكيره بالكامل ، لكنه عاد فتماسك ، لكى يمنع زوجته وابنتيْه من الانهيار. أشارت ساعة الحائط إلى أن العملية تجاوزت الساعات الثلاث، وكلما خرجت ممرضة حاول أن يعرف منها شيئاً ، لكنها لم تكن تجيب . فقط " اطمئن يا بيه " . . حاول أن يقرأ ما يحفظه من القرآن ، لكنه لم يجد معه سوى الفاتحة ، التى كررها عشرات المرات. سمع زوجته تتمتم :
– وأين كان هذا مخبأ لنا ؟ " .
نظر إليها بغيظ ، وقال لنفسه : أليس هذا بسببها . كانت شقة العجمى جيدة ، لكنهـا صممت أن نشترى شاليه فى الساحل الشمالى . ولكى تتشبه بالأغنياء ، أجبرتنى على شراء (الجيت سكى) للولد . الولد ضعيف ولم يكن يحق لنا أن نتركه يقوده فى البحر بتلك السرعة الجنونية . كانت تقول لى: دعه يفعل مثل باقى الشباب . كان الارتطام بالصخور مروعاً. وربنا يستر عليه . . بعد خروج الطبيب بأربع ساعات كاملة مرهقاً ، ومتجهماً . قال له بكل ثبات :
– ابنك سينجو . . لكنه يحتاج إلى علاج طبيعى لفترة طويلة ، قد تصل إلى سنة احتضن الزوجة والبنتيْن، وانخرط الأربعة فى بكاء شديد !
القرية النائية
لم يكن يتخيل على الإطلاق أن تلك القرية النائية ، التى عين فى الوحدة الطبية بها سوف تشكل جزءاً أساسياً من حياته . فى الشهور الأولى رأى كل شئ حوله يبعث على القرف والاشمئزاز ، حتى أنه لعن اليوم الذى تفوق فيه ، والتحق بكلية الطب . أين الآمال الكبرى فى عيادة فسيحة بوسط البلد ، والذهاب إلى النادى ، وتكوين صداقات وعلاقات مع أرقى عائلات العاصمة ؟ تبخرت كلها ، وهو يجلس فى تلك العيادة الحقيرة ، التى توجد فى سقفها مروحة لا تعمل ، ويقف على بابها تمرجى بجلباب أزرق ، وطاقية صوف . أما المترددات على العيادة فكلهن بلا استثناء سيدات عجائز، أو متوسطات العمر بكروش منتفخة ، ورائحة ممزوجة بالطين وروث البهائم.
وذات يوم ، دخلت مع خالتها فتاة فى حوالى العشرين . عيون خضراء واسعة ، وضفيرتان تتدلـى إحداهما على صدرها ، والأخرى على ظهرها حتى أسفل الوسط . لم يرفع عينه عنها طوال الوقت. أما هى فكانت تبتسم بهدوء ، وتنظر إليه بثبات . فور خروجها نادى على التمرجى ، وراح يمطره بالأسئلة عنها .
– آه البنت أم عينين خضره بنت عم فاضل ، صاحب الطاحونة . ناس طيبين وفى حالهم . ولهم ولد سافر إلى العراق منذ عدة سنوات وانقطعت عنهم أخباره .
كان يريد أن يلتهم كل خبر ، وراح يتلذذ بكل التفصيلات ، التى لم يخرجها التمرجى الملعون إلا بصعوبة . فى الزيارة التالية لخالتها سألها عنها، ولماذا لم تحضر معها ؟ وهل هى مخطوبة ؟ وإذا تقدم هل يوجد مانع ؟ كان الطريق خالياً ، ولم تمض عدة أيام حتى كان يجلس إلى جوارها فى كوشة الفرح . . ولم يعد يكره القرية التى عين فيها .
المأمورية
عندما أبلغه الزملاء أن رئيس القسم قد رشحه للسفر فى مأمورية الإسكندرية أحس بفرحة كبرى ، ثم راح يسأل نفسه : كيف ؟ ولماذا ؟ ذهب إلى الرجل فشكره ، واستلم منه المظروف ، وتذاكر القطار، وحجز الفندق. فى بيته بدأت حركة دائبة لتوضيب شنطة السفر . وعندما تبين أن شراباته قديمة ، نزلت زوجته فاشترت له زوجين جديدين . كما أرسل ابنه لشراء أمواس الحلاقة .
فى الصباح الباكر كان يغادر الشقة ، وقد تزاحم حوله البنات والولد وأمهم . قال بهدوء : أشوف وشكم بخير . وعلى السلم سمع ابنته الكبيرة تقول :
– خللى بالك من نفسك يا بابا .
أما الصغيرة فقالت :
– أوعى تنسى تجيب لى حاجة حلوة .
نهرتها أمها فابتسم ، ووضع نفسه فى التاكسى الذى أقله إلى محطة مصر ، ومنها استقل القطار التوربينى إلى الإسكندرية . وهناك قرر أن ينهى المهمة فى اليوم الأول بدلاً من الثانى ، اتجه إلى الإدارة ، وسلم المظروف ، ثم خرج ليشرب هواء البحر بملء رئتيه .
هكذا يكون أمامه ثلاثة أيام بليلتين . الفندق بالغ الفخامة . والإقامة كاملة . وعندما استلقى على السرير الوثير قال لنفسه : هل كل هذه الرحلة من أجل تسليم مظروف ؟ وبسرعة أبعد الإجابة عن خاطره ، فقد طرق عليه الباب عامل الفندق ، حاملاً صينية طعام تحتوى على ما لذ وطاب ، وخلفه عامل آخر ، يحمل سلة فواكه تحية من مدير الفندق . أحس بالكثير من الزهو بنفسه ، والامتنان الشديد لرئيس القسم الذى رشحه لهذه المأمورية .
بينهما . .
جلسا فى كازينو على النيل مثل باقى العشاق . راحت تتحدث كثيراً عن زواج أختها ، وأن صديقتها المفضلة سوف تتزوج قريباً . . كان يصغى حيناً ويلقى بخياله فى مياه النهر أحياناً كثيرة . طلب لها أكثر من مشروب . تناولتها كلها . سألها إن كانت تريد طعاماً ، فاعتذرت بالرجيم . حمد الله أن الوقت قد حان لكى ينصرفا . أوصلها إلى منزلها ، قبل أن يتركها سألته للمرة الثالثة عن سبب شروده ، أجاب باقتضاب :
– تعرفين مشاكل العمل .
أكدت عليه أن يتلفن لها . فى أثناء العودة ، راح يتذكر تاريخ علاقته معها ، وكيف كانت فى البداية متمنعة عليه جداً . إنها الآن هى التى تطارده ؛ وبصورة تدفعه إلى الزهد فيها . . لماذا ؟
منذ تعرف على الأخرى وهو مجنون بها . إنها تشبع حواسه ، ولا تتحدث معه إلا بلغة الجسد . كـان محروماً فاندفع نحوها بكل رغباته التى لم تبخل هى الأخرى فى إشباعها . كان يدرك فى أعماقه أنها علاقة لن تدوم ، لكنها فرصة لا تكرر . وعليه أن ينتهز كل لحظة فيها. من العجيب أنه كلما ارتوى أحس بالعطش ثانية . كانت توصله أحياناً إلى حالة من الدوار، الذى يعقبه صداع متواصل ، لكنه كان يستعذب الألم ، وينسى الدنيا ونفسه وصحته عندما يلقاها . .
هل يمكن الجمع بينهما ؟ أمنية لا يمكن أن تتحقق . متى يحسم باختيار إحداها ؟ كان أضعف من اتخاذ القرار . ولم يدرك أنه يسير فى شارع ذى اتجاه ممنوع إلا عندما صدمته بعنف سيارة . فى المستشفى كانت الأولى بجواره . أما الأخرى فلم تكلف نفسها أن تتصل بالتليفون !
اكتشاف
استلقى على ظهره فوق السطوح ، وراح يرقب النجوم التى امتلأت بها السماء ، ويفكر فى امتداد الكون الفسيح ، وكيف خلق الله السماوات والأرض . سمع نداء زوجته عليه ، فلم يرد متعللاً بأنه راح فى النوم . كان الجو حاراً جداً ، ولا توجد نسمة واحدة تخفف من الرطوبة التى زادت من إفراز العرق . مسح وجهه بكمه أكثر من مرة، وفجأة لاحظ نجمة تسير بانتظام بين باقى النجوم . راح يتأملها مندهشاً ويتابعها بكل اهتمام . كان العرق الناتج من رطوبة الجو يتزايد سقوطه فى عينيه ، وحاول جاهداً أن يصمد حتى لا يفقد موقع النجمة المتحركة بثبات . كاد ينادى على زوجته وأولاده لكى يشهدوا معه تلك الظاهرة الفلكية الفريدة: نجمة بين النجوم ، وهو وحده الذى
رصدها ، وما زال يتابعها . . ماذا لو حملت هذه النجمة اسمه ؟ ألا يحدث ذلك فى علم الفلك ؟ من يكتشف شيئاً يطلق اسمه عليه . وبينما هو كذلك ، صعد ابنه لكى يقول له أن أمه تريده فى المطبخ ، ليساعدها فى تغيير أنبوبة البوتاجاز . أشار إلى ابنه ألا يرفع صوته ، وأخذ بيده مشيراً إلى نجمته المكتشفة . لم يفاجأ الولد كثيراً ، وقال ببساطة:
– يا بابا . . هذا قمر صناعى !
روقان بال
صحا من نومه فأحس بحالة من اللامبالاة ، راحت تزداد حدتها كلما مارس أحد طقوسه فى الصباح. حنفية المياه غير محكمة وتحتاج إلى جلدة. ومرآة الحوض مكسورة ، وأصبحت غائمة . وفرشاة الحلاقة تساقطت معظم شعراتها ولم يعد فيها سوى القليل . أما ترابيزة السفرة فقد تمزق المفرش من فوقها ، وتلوى من الأسفل . واللوحات المعلقة التى تصور مناظر النيل ، والأهرامات ، وبرج القاهرة لم تعد ألوانها بنفس البريق السابق . بدت كلها باهتة . سألته زوجته : ألم تتأخر عن العمل ؟ أجابها بفتور : سآخذ إذناً بساعة .
خرج من المنزل ، وظل يمشى فى الشوارع حتى تعب ، فجلس على مقهى . طلب قهوة سادة ، فأحضرها الجرسون بسكر زيادة. لم يعترض ، وراح يرشفها متأملاً شريط حياته التى مرت دون أن يفعل فيها شيئاً ذا قيمة . ما جدوى الاستمرار ؟ وهل الباقى يسمح بأى مبادرة ؟ لقد ضعفت الصحة، وتراكمت الأمراض المتناقضة على الجسد الذى لم يعد يتحمل المزيد.
راودته فكرة شريرة لكنها بدت براقة : ماذا لو انسحب تماماً من الحياة ؟ ! إنه متأكد أنه لن يضر أحداً: لا أسرته ، ولا أصدقاؤه ، ولا زملاؤه فى العمل . ماذا يقدم لهم ؟ لا شئ ! ماذا ينتظر منه ؟ لا شئ . وبينما هو مسترسل فوجئ بمن يهز كتفه بعنف :
– ماذا تفعل هنا أيها التلميذ المزوغ ؟
كان أحد زملائه فى العمل . لم يكد يجلس حتى راح يشكو من مشكلات الأولاد ، والدروس الخصوصية، وصعوبة إيجاد عمل إضافى . . وفجأة توقف وقال له :
– هل تعرف أننى أحسدك على روقان بالك !
أوبرا عايده
زارنى فى الصباح الباكر ، وهو فى غاية الحزن . لم أشأ أن أسأله عن سبب الزيارة لكنى رحت أعرض عليه الإفطار، والشاى والقهوة . رفض كل شئ، وفجأة وجدته يقوم إلى باب الحجرة فيغلقها ، ثم يقترب منى ويقول :
– لدى سر أخشى أن أبوح به ، حتى لا يتهمنى أحد بالجنون أو الغباء أو التخلف أو بها جميعاً !
فزعت فسألته :
– إلى هذا الحد ؟
أجاب :
– وهو يكاد يحطم أعصابى ، كما أنه أثر بالفعل على حركة الهضم لدى .
قلت له :
– وما هو هذا السر ؟
– تعاهدنى أولاً على ألا تغير موقفك منى إذا عرفته ، وألا يؤثر ذلك على صداقتنا .
بدأت بالفعل أنزعج . وتهيأت تماماً لسماع كارثة. همس بانكسار :
– أنا لا أحب أوبرا عايدة.
قلت له :
– نعم ، ماذا قلت ؟
قال بصوت أعلى قليلاً :
– أنا لا أحب أوبرا عايدة .
كدت أنفجر من الضحك ، لكننى تماسكت ، وقلت له :
– وماذا فى ذلك ؟ ! أنت حر فيما تحب وتكره .
أجاب :
– كلاً . فإن رأيى يخالف المجتمع كله . ولم أجد أحداً حتى الآن قد صرح به ، كما أننى لم ألتق بإنسان يتفق معى فى هذا الإحساس .
حاولت تهدئته قائلاً :
– أعتقد أن السبب فى ذلك هو جهلك باللغة الإيطالية التى تغنى بها الأوبرا .
– حسناً ، ولماذا تعرض علينا ؟
– إنها تعرض للأجانب الذين يفهمونها .
– طيب ولماذا تذاع فى التلفزيون ؟
– لمحاولة إشاعة الذوق الفنى ، والإطلاع على عمل عالمى كبير .
– لكننى ومعظم أبناء الشعب الطيب لا نتكلم الإيطالية ، فلماذا تفرض علينا مشاهدتها ؟
صحت بانفعال :
– يا سيدى ، شاهد شيئاً آخر.
– انظر . . ها أنت بدأت تغضب منى بسبب رأيى الذى صارحتك به .
– أبداً والله . أنت معك الحق . لكننى أحاول أن أخفف عنك . نهض واقفاً وقال بانكسار:
– عموماً . . أرجو أن تحتفظ بهذا السر ، ولا تحدث به أحداً !
المفاجأة
أحست بسعادة كبيرة حينما قالت لها زوجة البواب إن السكان الجدد فى الشقة الأعلى ، ليس لديهم أبناء سوى شاب واحد ، يبدو أنه موظف . كانت معظم المشاجرات مع زوجها فى الفترة الأخيرة حول مطالبته بالبحث للبنتين عن عرسان . وكانت حجته تعتمد على أن كل شئ قسمة ونصيب ، وأنه لا يستطيع أن يعرض بناته على أحد للزواج . أما هى فكانت أكثر إيجابية. لم تترك دعوة لعرس دون أن تذهب مع ابنتيها ، بعد أن تشرف بنفسها على تزيينها ، ووضع اللمسات الجمالية لكل منهما . وكانت طوال الطريق توصيهما بالابتسامة، والرد المهذب على أى سيدة عجوز ، فقد تكون أما أو جدة لشاب مقبل على الزواج . .
عندما وصل زوجها من العمل ، أخبرته أن الواجب يقضى بتهنئة السكان الجدد فى الشقة الأعلى . حسب الزوج أن الزيارة بعد يوم أو يومين لكنها أكدت
عليه أن تكون فى مساء اليوم ، وأنها قد أحضرت بالفعل تورتة لتقديمها فى تلك المناسبة. تحامل على نفسه حتى لا يغضبها ، فيرتفع عندها الضغط والسكر ويحدث لها ما لا يحمد عقباه . فوجئ وهو يرتدى ملابسه أن البنتين أيضاً ستذهبان معهما . حين سألها :
– وما لزوم ذلك ؟
أجابته:
– اسكت أنت .
عندما جلسوا مع السكان الجدد وجدوهم غاية فى الأدب والذوق ، وراحت أم الشاب تتحدث عن فضائل ابنها ، ومثابرته فى العمل ، ثم سكتت فجأة ، وقالت :
– لكن المسكين يقطع قلبى . . عندما تفاجئه أزمة الربو !
حديث صديقين
جلس يستمع لصديقيه . قال الأول :
– لم يعد سوق العقارات كما كان. فقد زادت تكلفة البناء، وسعر الأرض ، ولم يعد يوجد المشترى الذى يدفع (كاش) .
وقال الثانى :
– نفس الشئ بالنسبة لقطع الغيار. فهى تكلف الكثير من المشقات والسفر والجمارك ، ومعظمها أصبح مضروباً ، وأخيراً فإن أصحاب السيارات لم يعودوا يشترونها إلا فى أضيق الحدود .
عاد الأول يقول :
– لقد وضعت فى عماراتى ما يقرب من عشرين مليوناً، وكل همى أن أستعيدها ، وليس أن أكسب منها شيئاً. رد الثانى :
– وحياتك ، نفس المبلغ تقريباً ملقى عندى فى المخازن، التى أصبح يُرهقنى إيجارها الشهرى.
قال الأول :
– والمصيبة أن العمر يتقدم بالإنسان ، والأمراض لا تتركه ، ولا تكاد تقيم فى مستشفى أسبوعاً إلا وتطلب منك مبالغ خرافية .
قال الثانى :
– فى الأسبوع الماضى فقط ، دفعت لزوجتى أشعة وتحاليل بأكثر من عشرة آلاف جنيه . . وهنا وجد ثالثهم من الضرورى أن يتدخل فقال بانفعال:
– ألف سلامة ، وهل شُفيت ؟
أجاب :
– أبداً ، كانت فقط تعمل تشيك .
سكت محرجاً . أحس الأول بذلك فقال له :
– أنت يا عم مرتاح من هذه الهموم .
قال لهما مبتسماً :
– ربنا يكون فى العون. لكنه راح فى سره يلعن اليوم الذى عرفهما فيه!
مسألة محيرة
جلس الثلاثة يتحدثون . وفجأة سأل أحدهم :
– أريد أن أعرف يا جماعة إجابة سؤال يؤرقنى منذ مدة طويلة .
– ما هو ؟
– هل يمكن أن تقوم صداقة مجردة بين رجل وامرأة ؟
أجاب الأول بسرعة :
– مستحيل . أى علاقة بين رجل وامرأة لا تخلو من الاستلطاف الذى ينبع من الاشتهاء ، وهذا يؤكد أنه لا توجد على الإطلاق صداقة بين الرجل والمرأة.
وقال الثانى بهدوء :
– لكن هذا لا يحدث فى كل الحالات. فأنا شخصياً أعرف رجالاً ونساء ، تقوم بينهم صداقات رائعة .
قال الأول :
– ما تصفه بالروعة هو نفسه القناع الذى يخفى به كلا
الطرفين ما يحس به جسدياً .
قال له الثانى :
– مشكلتك أنك تحكم على الآخرين من خلال ما تحسّ به أنت .
صاح الأول غاضباً :
– يا عم اسكت . . المسألة فى حقيقتها لعبة ، وهى تبدأ عند الرجل والمرأة منذ الطفولة ، حتى وهم يلعبون لعبة العرايس والعرسان . بذمتك ، ألم تلعبها ؟ !
قال الثانى :
– أنا معك فى أن أى علاقة لا تخلو من جانب حسّى ، لكنك تعمم وتصدر أحكاماً قاطعة .
أجاب وهو ينظر بعيداً :
– لأننى متأكد منها .
التفت الثانى إلى صاحب السؤال :
– ولماذا أنت بالذات متحير فى ذلك ؟
– لأننى أعرف زميلة فى العمل ، وقد مضت فترة طويلة ، ونحن نتبادل المجاملات ، ونتصارح فى كثير من الأمور. وقد أخذت علاقتنا تقوى إلى درجة لم أعد أستطيع معها أن أقول : هل هذا حب أم صداقة؟
قال الأول :
– يا سيدى إنه حب . حاول فقط أن تقّبلها وسوف تجد أنها لن تعترض .
قال الثانى :
– وربما تصفعه ، وتكتب فيه شكوى تفصله من العمل.
أطرق صاحب السؤال وهو يتمتم :
– والله المسألة ما زالت محيرة ! !
رُبَّ صدفة . .
لم يكن يتصور أو حتى يحلم أن يكون لقاؤه بها، بعد تلك السنوات الطويلة، بأفضل مما حدث . اصطحبته المضيفة إلى مكانه فى الطائرة فوجد نفسه فى المقعد الموازى ، وليس بينهما سوى ممر . أبدى دهشته بلقاء الصدفة ، وراحا يتحدثان بتحفظ عن تأخر موعد الإقلاع ، وإجراءات التفتيش ، والسوق الحرة . تجرأ قليلاً فسألها عن سبب الرحلة أجابته :
– أنها ذاهبة لتحل محل زوجة أخيها لرعايته فى المستشفى العالمى.
أسرع مهللاً:
– ياه ، إننى عادة أنزل فى الفندق المجاور لها . استمرت :
– لقد قضت المسكينة أكثر من شهر ، وهى مضطرة للنزول إلى مصر لرؤية أولادها
راح يقول وقلبه ينتفض من السعادة :
– طبعاً أنا فى خدمتك . وألف سلامة للأخ العزيز .
توقفت بينهما المضيفة ، فلم يسمعها تشكره . بعد أن انصرفت وجدها تقلب صفحات مجلة . راح يفكر فى إعادة مواصلة الحديث ، لكنه لم يجد ما يقوله . ألقى برأسه إلى مسند المقعد ، وعاد بذاكرته إلى ذلك الأخ الذى أنذره بضرورة قطع العلاقة وعلى الفور. كان مركزه حينئذ يسمح بالإطاحة به ، وتشريد عائلته . وجد من السلامة أن ينسحب ، أما هى فكانت أكثر شجاعة، وعرضت عليه أن يتزوجاً ويضعا أسرتها أمام الأمر الواقع ، لكنه رفض ، بل الأحرى أنه جَبَن . . نظر إليها خلسة فوجدها أكثر جمالاً واكتمالاً. طبعاً هى الآن متزوجة ، ولديها أولاد، وربما أحفاد . تمنّى أن يمد يده فيمسك بيدها كما كانا يفعلان دائماً ، لكنه تماسك قائلاً لنفسه : عندما ينزل لابد أن يكون هناك لقاء طويل بيننا ، ومن يدرى ماذا سيحدث ؟ مرت المضيفة ثانية فحجبت عنه الرؤية . وعندما ابتعدت وجدها نائمة . الآن فقط يمكنه أن يتأملها باطمئنان . لكنه لم يفعل . وأغمض عينيْه لكى يسترجع كل تلك الأيام الجميلة التى مرت بهما . راح يلوم نفسه: لماذا انسحب بسرعة عند أول تهديد؟ وكيف تركها تفلت من بين يديه بتلك السهولة ؟ ثم ماذا كانت مسيرة حياته لو أنه تزوجها؟ أحضرت المضيفة الطعام . راح يتناوله ، وهو يفكر فيما سيفعله عند هبوط الطائرة !
الأجازة الأطول
لم يصدق نفسه عندما سمح له طبيب العمل بأجازة مرضية لمدة أسبوع . راح يراجع الورقة ، ويتحقق من التوقيعات وختم النسر فى أسفلها. وعندما خرج إلى الشارع أحسّ بلفحة باردة من الهواء ، استنشقها بفرح كطفل! أجمل ما فى الأمر أن أسبوع الأجازة يتوافق مع أسخف فترات العمل بالإدارة وأشدها ازدحاماً بالعمل . هكذا يضرب رئيسه المباشر فى الصميم . أما زميلاه الحاقدان فسوف يغرقان فى ملفاته بالإضافة إلى ما لديهما. إنهم جميعاً يستحقون. فهو أكثر الموظفين عملاً وجهداً وأقلهم مكافآت وحوافز. وقد هدى الله الطبيب ، فلم يكد يسمع أولى كلمات الشكوى حتى سمح بأسبوع وكأنه أحس بالظلم الواقع عليه . أسبوع كامل يلازم فيه البيت، ولا يصحو قبل العاشرة ، وربما يصحب زوجته والولدين إلى زيارة أمه فى القرية . لكن ماذا يقول لزملائه حين يزورونه ؟ إنها نصيحة الطبيب بضرورة استنشاق هواء الريف.
كان يخطو فى الشارع بخفة غزال ، ولم يشعر أنه بصحة جيدة كما هو فى هذا الوقت بالذات . عند عبور الشارع صدمه موتوسيكل يقوده شاب ممن يوصلون الوجبات السريعة . التف حوله الناس، وتحسسه البعض ، وسمع من يقول إن ساقه مكسورة . استدعوا الإسعاف . وفى المستشفى أخبره الطبيب أن الجبس لن يتم فكه قبل مرور شهر كامل قال بصوت خفيض :
– والعمل يا دكتور ؟
– طبعاً سنعطيك أجازة طويلة . شهراً على الأقل . .
نجدة السماء
حدث هذا فى أوائل الستينات . لم يتبق معه من العيدية سوى سبعة قروش . كان أصدقاؤه قد تواعدوا على الذهاب إلى السينما . لا يقل ثمن التذكرة عن عشرة قروش ، هذا بالإضافة إلى ما يلزم لشراء السندوتشات والمشروبات، وأكياس اللب والفول السودانى . لم يجد لديه الشجاعة ليعتذر إليهم ، حتى ولو بالمرض ! ألم يكن هو صاحب الفكرة ؟ مشى مطرقاً ، وهم يمرحون . لاحظ أحدهم صمته فاقترب منه سائلاً :
– ماذا يضايقك ؟
– لا شئ .
لولا أنه من الأصدقاء الذين لا يتوقفون عن الثرثرة لأخبره عن المأساة . قبيل الوصول إلى السينما صاح أحدهم :
– أنا اشترى لكم السندوتشات، أعطونى فقط ثمنها .
أخرج كل منهم خمسة قروش. فعل نفس الشئ ولم يتبق معه سوى قرشيْن . لعن الأقارب الذين تخلفوا عن زيارتهم فى العيد. وحتى الذين جاءوا ماذا أعطوه؟ لم يتجاوز مجموع ما حصل عليه ثلاثين قرشاً . انتهى نصفهم فى اليوم الأول ، وربعهم فى الثانى . وها هو اليوم الثالث لا يريد أن ينتهى على خير . . قبل وصولهم إلى السينما بخطوات ، اقترب منه أصغر الأصدقاء وهمس فى أذنه :
– هل تقبل أن تحتفظ معك بنقودى ، فأنا أخشى عليها من الضياع .
ودسَ فى جيبه مائة وخمسين قرشاً. أحس على الفور أنها نجدة من السماء !
النبوءات الثلاث
زاره فى مكتبه لأول مرة . راح يحدثه أنه سمع عنه الكثير ، وكان يتمنى منذ وقت طويل أن يراه وجهاً لوجه. وفجأة توقف عن الحديث ، وقال له : تسمح تعطينى كفّك . كاد يرفض فى البداية ، لكنه استسلم تحت إصراره ، ونظرة عينيه البراقتين. أمسك كفه بأطراف أصابعه وقال :
– ستكون فى حياتك زوجة أخرى .
ثم أردف :
– وستنتقل من مجال عملك هذا إلى عمل آخر مغاير تماماً .
سحب كفه منه ، ونهض واقفاً ، لكن الرجل استمر بثبات محدقاً فى عينيْه :
– وسوف يخونك صديق من أقرب المقربين إليك .
قال له بحدة :
– أسعدنى لقاؤك ، واسمح لى الآن فأنا فى انتظار مكالمة هامة .
لم يشعر بالحرج وهو يخرج ، وعند الباب التفت إليه مبتسماً وقال :
– لا تعلق أمالاً كبيرة على تلك المكالمة !
تنفس براحة عندما خرج ، وطلب من السكرتيرة أن تعطيه المكالمة بمجرد وصولها . لم تمض دقائق ، حتى دخلت السكرتيرة منزعجة :
– تصور يا أستاذ أنهم اتصلوا ليقولوا إن طائرة الوفد مختطفة .
– وأين هى الآن؟
– لا يعرف أحد وجهتها ويبدو أنها سقطت .
تذكر كلام الرجل وهو ينصرف . وراح يفكر فى كل ما قاله ، ووجد قلبه يغوص فى صدره : هل صحيح أن باقى نبوءاته ستتحقق ؟!!
مشاعر متباينة
لم يكن يعطى لها كثير اهتمام عندما تحدثه عن إمكانية اختيارها فى منصب حزبى كبير . كما لم يكن يتصور أن يحدث لها ذلك . لكنه كان يتفوه ببعض عبارات التشجيع ، ويختمها بقوله إنها تستحق أكثر من ذلك بكثير . وفجأة حدث غير المتوقع ، وظهر اسمها بين عشرة أعضاء فى الجريدة الرسمية . وراح المهنئون يتوافدون ويتلفنون وهو لا يكاد يصدق ما يحدث . كان ينتظر المساء بفارغ الصبر ليخلو إلى نفسه بجوارها ويعيد بناء الأمور . كيف ستمضى حياتهما ؟ وهل سيتحمل شهرتها وخموله ؟ أما فى مجال عمله ، فقد راحت نظرة المحيطين به تختلف ، وزاد احترامه كثيراً، حتى رؤساؤه أصبحوا يجاملونه ، وانفتحت أمامه أبواب بعض اللجان التى كانت مغلقة منذ سنوات . أسعده ذلك كثيراً ، كما أسعده أكثر محاولات التقرب إليه ، لقضاء خدمة ، أو الحصول على توصية من المدام . .
فى المنزل راح يراقب باهتمام ماذا سيحدث للنظام السارى منذ الزواج : إعداد الوجبات فى مواعيدها ، والاهتمام الخاص بطبق السلطة ، والعناية الفائقة بملابسه ، وكى القمصان ، ووضع الشرابات فى مكانها المحدد . . وجد الأمور تسير كالمعتاد . أحس بالخجل من نفسه . لكن ما كان يغيظه هى الدعوات الرسمية الموجهة إليها على العشاء. كان يصمت تماماً وهى تحدثه فى منتصف الليل عن لقاءاتها مع كبار المسئولين فى البلد ممن يتابع أخبارهم فى وسائل الإعلام . ولم يعد يجد ما يحدثها عنه سوى انشغاله على مستقبل الولد والبنت ، أما هى فكانت تبدو مطمئنة تماماً من هذا الجانب . أحس بضرورة العودة إلى أصدقائه القدامى الذين انقطعت علاقته عنهم، ووجد لديه شعوراً جارفاً يدفعه دفعاً للحنين إلى الماضى . .
الحاجة إلى الدعاء
استمرت علاقتهما لأكثر من سنتين . صداقة يسودها الاحترام إلى جانب مشاعر مشتركة تجاه كل ما يجرى فى الإدارة من أحداث ، حتى قبول أو رفض كل منهما للأشخاص كان متحداً . وفى المنزل ، كانت اتصالاتهما التليفونية يومياً لا تتوقف عن تحليل كل ما يمر أمامهما وحولهما، لكنه فى الفترة الأخيرة ، راح يراها كثيراً فى أحلامه وهو نائم. ما هذا الذى يحدث؟ حصل على أجازة ، وسافر مع أسرته إلى القرية . قال لنفسه : هناك تصبح الفرصة متاحة لإعادة تقييم الأمور. لم يمض سوى يوم واحد حتى وجد أنه أخطأ بالابتعاد عنها . وتمنى لو اتصل بها من القرية . لكن التليفونات غير متوافرة . كاد يقول لزوجته إنه قد سئم القرية ويرغب فى العودة إلى البيت، لكنه وجدها مع الأولاد فى غاية السعادة . سكت واجماً ، وانكفأ على نفسه . لم يكن هناك من حل آخر سوى أن يعترف لها عندما يعود بحقيقة مشاعره . وحينئذ : إما أن ينتهى ما بينهما ، أو ينفتح طريق آخر ، لا يعرف بالضبط إلى أين يؤدى . لاحظت أمه أنه لا يأكل بشهيته المعتادة ، اقتربت منه وربتت على كتفه قائلة :
– ما الذى يشغل بالك يا بنى ، زوجتك بنت حلال. وأولادك مثل الزهور . ربنا يفتح عليك ، ويهدّى سرك..
أحس براحة كبرى، وقال لها بانكسار شديد :
– آه يا أمى . . كم أنا محتاج فعلاً إلى دعائك ! !
النصيحة الواجبة
ظلت تلح على زوجها فى استحضار شغالة . عثرت أخيراً على واحدة . البنت من الريف . وأهلها منكسرون . صحيح أنها جميلة بعض الشئ ، لكنها فيما يبدو بلهاء . تقبل الزوج مرغماً أجرتها التى ستؤثر حتماً على ميزانية البيت. أما هى فأكدت له أنها ستشارك فيها بجزء من مرتبها . فى الأيام الأولى ، سار كل شئ على ما يرام . البنت شغالة بجد ، وأصبحت كل المتطلبات متوفرة . النظافة ، ودفع فواتير النور ، والغاز ، وإحضار الخضار ، وحتى إعداد بعض الوجبات . أما العناية بالأولاد فقد بلغت الغاية. البنت تحبهم جداً ، وتظل تلاعبهم طوال الوقت ، إلى درجة أنهم تعودوا عليها ، ولم يعودوا يزعجون الزوجة فى حجرتها وهى تنام بعد الظهر.
بمرور الوقت بدأت النعمة تظهر على البنت ، وخاصة بعد أن أصبحت ترتدى بعض الفساتين القديمة للزوجة : المقاس متقارب ، لكـن المطلوب أن تغلـق فتحة الصدر قليلاً . وذات يوم ، أبدى الزوج ضيقه من ارتداء البنت نفس فساتين الزوجة ، وعلق متهكماً :
– حتى لا أخلط بينكما !
ظلت العبارة تتردد فى إذن الزوجة ، ثم استقرت أخيراً فى قلبها . بدأت تنظر للبنت بعين أخرى. الشباب ، والصحة ، والحيوية ، ثم ضفائرها المكتنزة بدون مقويات أو شامبو . . وراحت تلاحظ نظرات الزوج إليها ، وأسلوب تعامله معها . وفى العمل ، احتلت البنت جزءاً كبيراً من تفكيرها . ماذا لو ذهب الزوج . لأى سبب إلى الشقة ، وتواجدا وحدهما؟ رأتها إحدى الزميلات غارقة فى همها فسألتها عن السبب . صارحتها بشكوكها . قالت لها :
– أنت مجنونة . . اطرديها فوراً ، بدلاً من أن تخرب بيتك !
عادت إلى العمل وهى مصممة على تنفيذ النصيحة .
المطلوب
زارنى ذات مساء وهو محطم تماماً ، وفى حالة مذرية . عرضت عليه مساعدتى بكل ما أستطيع . نظر فى عينى طويلاً ثم قال :
– خلاص . . لم أعد أحتمل أن أكتم سرى عن الأصدقاء، وخصوصاً أنت
قلت له :
– ثق أننى سأشاركك فيه ، ولن أبوح به لمخلوق. قال:
– أنا مطلوب فى ثأر . .
أذهلتنى المفاجأة تماماً ، لم أجد كلمة واحدة أقولها له . ورحت أذكر كيف بدأت علاقتى به فى الكلية، عندما كان أكثرنا مرحاً وانطلاقاً . كان يضحك من قلبه . وكان يشارك الجميع مشاكلهم . أما شهامته فكانت مضرب المثل . لم يتخلف عن عزاء زميل ، أو الوقوف إلى جانبه فى مسألة مادية ، أو عاطفية . ولأنه كان من أسرة ميسورة ، فإن أموالـه فاضـت بسخاء على الجميع . أكبرته كثيراً عندما علمت أنه يشترى الكتب لبعض الزملاء من ذوى الحالات الصعبة. قلت له :
– لكننى أعرفك الآن من أربع سنوات ، ولم يحدث شئ. فلماذا الخوف ؟
– كان وجودى فى الكلية غطاء جيداً لى . لكننا الآن على أبواب الامتحانات ، وعندما نتخرج ، سوف يتعقبوننى .
– من هم ؟ أولاد عمومه لهم ثأر علينا.
– ولماذا أنت بالذات ؟
– لأن المقتول منهم كان خريج جامعة ، ولابد أن يكون المقابل على نفس المستوى . هذه هى التقاليد لدينا .
رحت ألعن التقاليد ، وأحسست بضيق شديد ، كاد يجفف الريق تماماً فى حلقى .
مضت فترة الامتحانات ، وظهرت النتيجة . نجحنا كلنا ، ثم افترقت بنا الطرق فى وظائف مختلفة . قابلته مرتين أو ثلاثة ، كان مرحاً كعادته ، لكنه أصبح أكثر اتزاناً وميلاً إلى الصمت . وفى أحد أيام الجمعة ، بينما أشرب شاى الصباح وأنا أتصفح الجريدة ، وجدت نعيه يملأ عاموداً كاملاً : على أثر حادث أليم ، فقدت أسرة (كذا) زينة شبابها (فلان) . . . ومرة أخرى أحسست بجفاف الريق فى حلقى . .
دقة توقيت
أعلن عن فوزه بالجائزة وهو على فراش المرض . توافد المهنئون، واتصل كبار المسئولين ، وامتلأت الشقة بباقات الورود ، وراحت ابنته الكبرى تجمع الكروت ، أما زوجته فكانت حريصة على أن تطلع عليها الأقارب والجارات .
فى المساء هدأت الضجة قليلاً ، وبدأ الألم يتزايد ، فاتصلوا بالطبيب. حضر على الفور ، وأعطاه بنفسه حقنة مهدئة ، وأوصى بعدم الإزعاج . قضى الجميع ليلتهم وهم قلقون عليه ، وراحوا بهمس يتحدثون .
قال الابن الأكبر :
– من الآن علينا أن نمنع عنه التليفونات .
وقالت البنت الوسطى :
– المشكلة فى الضيوف الذين يزورونه .
أما الأم فتمتمت :
– لا أدرى أين كان هذا مخبأ لنا ؟ !
حاول الابن أن يخفف عنها فقال :
– لكن يا ماما الجائزة جاءت . ومن المؤكد أن مبلغها الضخم سوف يحل لك مشاكل كثيرة .
وسألت البنت الكبرى :
– ألا يمكن أن يؤدى حصوله على الجائزة إلى اهتمام الدولة به ، وعلاجه بالخارج .
قاطعتها الأم :
– اسكتى يا بنت . . خارج ايه ؟ ! ربنا يشفيه ، ويقوم لنا بالسلامة .
نامت الأم فى حجرة البنات . عند الفجر ، قامت للاطمئنان عليه . فتحت باب الحجرة بهدوء شديد . اقتربت من السرير ونادته بصوت خفيض. لم يرد . وضعت يدها على صدره . وجدته بارداً ، وليس به نبض. أطلقت صرخة مدوية أيقظت جميع أهل البيت ، وراح الجيران يتوافدون للعزاء . .
تسريب القطة
عاشت معهم عمراً طويلاً ، منذ أهديت إليهم وهى تكاد تلحس حبات اللبن من فنجان القهوة ، حتى أصبحت ناضجة . ولدت عدة بطون . وكانت لها معهم حكايات كثيرة أصبحت ذكريات يحكونها للضيوف ، فتملأ السهرات ضحكاً وفرفشة . هل تذكر يا فلان عندما أكلت زوج الحمام من المطبخ ، وجعلتنى فى نصف هدومى أمام المدير وزوجته ؟ وهل تذكرين يا فلانة عندما اختبأت فى دولاب الملابس ، وحين أردت فتحه اندفعت فى وجهى فجرحتنى ولم أذهب يومها للحفل المقام لتكريمى ؟ لكنها فى كل الأحوال ، كانت وديعة ومسلية . وأجمل ما فيها أنها لم تخربش أحداً من أطفال الضيوف ، الذين كانوا يتجاوزون معها كل حد فى اللعب والمضايقة.
لكن المحظور جاء أخيراً من الطبيب الذى أوصى بضرورة التخلص منها ، لأنها تسبب خطورة على حمل المدام . كان عليه أن يتخلص منها بأى شكل: بالإهداء إلى أحد المعارف ، أو بتسريبها فى أحد الشوارع البعيدة . لم يقبلها أحد ممن يعرفهم ، لأنها كانت كبيرة على أولادهم ، لم يبق إلا أن يضعها فى حقيبة ، ويحملها معه ، وقلبه يتقطع لفراقها على هذا النحو المهين .عند أول خرابة فتح سوستة الحقيبة ، فوجدها تنظر إليه بانكسار ، أغلقها ومشى . . ظل يمشى حتى وقفتْ بجواره سيارة ميكروباص ، ركبها وظل جالساً حتى آخر الخط . المكان فسيح ، ولا يوجد أى مبنى . لم يطاوعه قلبه على إخراجها من الحقيبة . فتح السوستة وتركها بجوار الموقف ، واستقل الميكروباص عائداً . سمع وهو بداخله من ينادى - يا جماعة . . فيه حد نسى شنطة فيها قطة . بلع ريقه الذى كان بطعم الملح ، ولم يرد !
نفس الطريق
يوم خرج من حبه الأول ، كان واثقاً من أنه لن يقع مرة أخرى فى الحب ، وأنه فقد قلبه الذى كان ينبض بعنف فى حالتى اللقاء والهجر . مر أكثر من عام ، وفجأة لمح وجهها فى الشرفة ، فلم يستطع الإفلات من سحرها . كانت هادئة ورزينة ، أما الوصول إليها فكان صعباً للغاية . راح يتحين الفرص للقائها ، وفى سبيل ذلك، ارتكب أكثر من حماقة . وجد نفسه يمضى فى طريق لا يقل خطورة عن الطريق الأول ، وأنه يكاد يكرر نفس النهج . كتب إليها عدة رسائل تفيض شوقاً ، وتعتمد على الصدق . الصدق يدخل بسهولة قلب المرأة ، ويرغمها أخيراً على الاستسلام . وذات يوم ، جاءه الرد بالإيجاب ، وأصبح الطريق أمامه ممهداً لكى يبدأ معها المشوار من الخطوة الأولى. فى هذه المرة ، كان أكثر مباشرة ، فتحدث عن الشبكة والمهر والزواج والشقة . . ولأنه لم يكن مستعداً ، راحت تطالبه بالإنجاز . أى إنجاز وهو فارغ الجيب لا يملك إلا راتبه ؟ ! وجدت نفسها مضطرة لكى تحكى له عن العرسان الذين يتقدمون إليها ، وإلحاح الأسرة ، ونظرات الجيران . . وجد نفسه فى نهاية الطريق الذى قاده إليه حبه الأول . وقف وظهره للحائط، لا يقوى أن يرفع ذراعه بالوداع ، وهى تنصرف دامعة العينين . قال لنفسه : سوف تنسانى كالأولى . . ثم وهى تختفى فى نهاية الشارع : وسوف أنساها كالأولى . .
رسائله إليها . .
كتب إليها يقول :
" يا أغلى من حياتى . . كيف تستطيع الكلمات المكونة من حروف ، والمسطرة على الورق أن تنقل إليك نبض قلبى ، ولهيب شوقى ، وحنينى المتزايد إلى رؤياك ؟ وهل يمكن لأى وسيلة أخرى أن أستخدمها لتعبر لك عن لهفة روحى ، وعطش جوارحى إلى لقائك؟ وبأى طريقة أقول لك إننى قد أصبحت أسير جمالك ، وعاشقك الذى يذوب وجداً على باب قصرك ، ويكفيه أن تلقى عليه من شرفتك العالية نظرة واحدة لكى تمنحيه الأمل ، الذى به يبقى ..."
وفى مرة ثانية كتب إليها يقول :
" إن إطلالتك علىّ مثل إطلالة الشمس على كهف عميق فى جوف الجبل ، كهف بارد من الرطوبة ، مملوء بالظلمة . لكنك عندما تدخلين بأشعتك الساطعة والدافئة إليه ، فإنه يضئ ويهتز بالحياة بعد السكون والوحشة . لا أقدر أن أستغنى عنك بأى شئ ، حتـى
ولو كان أغلى كنوز الأرض . فقد أصبحت لى مثل الماء والهواء والشمس والفضاء ، بها أعيش ، وبدونها أنتهى ..."
أما فى المرة الثالثة ، فكتب إليها قائلاً :
" لقد تأكدت أننى مشرف على الهلاك ، طالما أنك هكذا تبتعدين عنى ، وترتفعين رويداً رويداً عن الأرض التى أمشى عليها . ما أقسى ما أعانيه من ظلمات اليأس ، وألم الفراق ، واعتصار الروح عندما لا تحنو عليها يد مَنْ تحب ! لقد جفوت من أجلك أهلى، وابتعدت عن أصدقائى لأنهم جميعاً كانوا يشغلوننى عنك، وأنا حريص على أن أكون بكل جوارحى لك أنت وحدك ، وليس لأحد سواك ..."
وفى المرة الرابعة ، كاد يكتب ، لكنه قال لنفسه: وما فائدة هذه الرسائل ما دامت لا تصل إليها ، ولا تعرف شيئاً عنها . ثم عاد يقول : وماذا لو وقعت فى يد أحد ممن أعرفه ، وسألنى : من هى ؟ هل سيقتنع فعلاً بأنها لا وجود لها ؟ !
صلة الرحم
كان المتحدثون فى البرنامج ثلاثة. هو وزميلان: رجل آخر وامرأة . وحرصت المذيعة أن تقدمه فى أبهى إطار : المؤهلات ، والمنصب ، والجمعيات التى يشارك فيها ، واللجان التى يرأسها. وراح زميلاه يتحدثان عن أهمية الأقارب فى حياة الإنسان ، وروعة صلة الرحم التى تدخل على قلوبهم الفرحة والامتنان .
قال الزميل :
– إننى أخصص العيدين وشهر رمضان للأهل . أفتح بيتى لهم ، أو أسافر إليهم فى القرية حيث أزورهم واحداً واحداً.
وقالت الزميلة :
– إننى أجعل كل ما أحصل عليه من مكافآت مناصفة بينى وبين أقاربى ، حتى ولـو من بعيد . وكمـا
يقول المثل : اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع. ولا تتصورا مدى السعادة التى يشعرون بها لمجرد اتصالى بهم فى التليفون.
وعندما أعطيت له الكلمة . قال :
– إن صلة الرحم تعبير لا يوجد إلا فى لغتنا العربية، وديننا الحنيف ، ومهما حاولتم البحث عن ترجمة محددة للتعبير العربى فى أى لغة أجنبية لن تجدوها . وهذا دليل واضح على أننا ، دون شعوب العالم كله ، ننفرد بتلك الخصلة الأخلاقية الفريدة .
كان يتحدث وعيناه مغمضتان. لم يجرؤ أن يفتحهما حتى لا تشاهده أخته الكبرى قعيدة الفراش منذ سنوات . . لم يذهب إليها منذ عدة مواسم ، وحين تطلبه فى التليفون يشير لزوجته أو أبنائه أن
يقولوا لها إنه غير موجود . عندما انتهى البرنامج،
سلم على الضيوف ، وفى السيارة قال للسائق :
– لن نعود إلى البيت، سنذهب أولاً إلى باب الشعرية.
اندهش السائق ، لكنه استمر :
– هناك شخص لابد أن أمر عليه أولاً . قال السائق:
– لكن الشوارع هناك ضيقة ، حضرتك عارف العنوان؟ رد قائلاً :
– ستقف أنت فى الشارع الرئيسى ، وأدخل أنا ماشياً إلى هناك . ربع ساعة فقط . لن أتأخر كثيراً.
تحسس النقود التى فى جيبه، ليتأكد أنها ستكفى لأداء الواجب الذى أهمله طويلاً . .
أسئلة فجرّها الماضى
لم يكن يتصور أن تتطور الأمور على هذا النحو. مجرد زيارة إلى موطن صباه ، التقى خلالها ببعض أصدقاء الطفولة ، وزار الشقة التى عاشت فيها أول أميرة ظهرت فى حياته . كان حبه لها صافياً كالندى ، رقيقاً كأوراق الورد ، لكنه ظل محفوراً بقلبه كالكتابة بالمسامير على أحجار الهرم . تبادل الذكريات مع أصدقاء الأمس البعيد ، وضحك معهم على النوادر ، وتأسف لما وقع من المآسى لبعض الأسماء . وبحذر شديد ، سأل عنها فوجدها قد أصبحت أرملة . كيف ؟ توفى زوجها فى حادث سيارة . وأولادها ؟ ابن فى الجامعة ، وابنة تزوجت منذ عام . كاد يقول : وأين هى الآن ؟ لكنه أجل السؤال إلى فرصة أخرى . تماماً كما كان يفعل فى الماضى . عاد إلى منزله ، لاحظت الزوجة والأولاد وجومه فلم يحدثوه . أغلق على نفسه باب الحجرة ، وفتح نافذة الذكريات التى لم تجعله يتمكن من النوم طوال الليل . نهض أكثر من مـرة ، وحاول القراءة فلم يتمكن . ظلت صورتها وهى صبية تبتسم له ، وراح يتخيلها بعد أربعين سنة ! كيف تبدو الآن ؟ وبأى حجة يقابلها ؟ وهل ما زالت تحمل نفس المشاعر التى يحملها لها ؟ هل يمكن أن يرتبط بها ؟ وماذا سيفعل مع أسرته ؟ أيمكن أن يضحى بها ؟ وكيف يواجه زملاءه فى العمل ؟ وعلى أى شكل ستكون نظرة رؤسائه ؟ قرب الفجر دخلت عليه زوجته فوجدته صاحياً . قال لها معتذراً :
– يبدو أن ألم الظهر قد عاودنى من جديد .
أسرعت بإحضار المرهم ، وراحت تدلك ظهره، بينما ظل مستغرقاً فى الأسئلة التى فجرها ماضيه البعيد..
السيناريو الذي حوله
بدأ يمارس فن التمثيل منذ كان فى العاشرة من عمره. اكتشفه أحد المخرجين وهو فى المدرسة ، وأسند إليه دوراً فى فيلم ، جعله محط أنظار المخرجين، فصاروا يطلبونه لأدوار مماثلة . كبر وأصبح نجماً . كثرت حوله المعجبات ، فتعددت مغامراته، وملأت أخباره الصحف والمجلات . أما أصدقاؤه المقربون فكانوا كلهم من الوسط الفنى. لم تكن تدور أحاديثهم إلا عن الفيلم الماضى ، والاستعداد للفيلم الجديد . .
ذات يوم ، جاءه سيناريو لفيلم عن إحدى الشخصيات التاريخية . فيلسوف دفع حياته ثمناً لآرائه. كيف ؟ لم يجد فى السيناريو كل ما أراد معرفته . استعان ببعض المراجع . ستة أو سبعة كتب ضخمة إلى جانب مؤلفات الفيلسوف . أغلق على نفسه باب الحجرة وراح يقرأ . اعتذر عن مقابلة الأصدقاء فى موعدهم اليومى ، واستمهل المخرج بعض الوقت ليستوعب الشخصية على نحو أعمق . ولأول مرة ، انفتح أمامه عالم كان يجهله تماماً . الفيلسوف رأيه صحيح ، والمجتمع كله كان على خطأ . والعجيب أنهم اتهموه بالخبل والجنون ثم بالخيانة العظمى ، وأخيراً أقدموا على إعدامه وإحراق كتبه ، لكنهم بعد أكثر من مائة عام تبينوا أنهم أخطأوا ، وأن الرجل كان يريد لهم الصلاح . أعادوا نشر كتبه، وأقاموا له تمثالاً فى نفس الميدان الذى أعدم فيه . .
راح يستعرض شريط حياته . ماذا فعل ؟ وماذا قدم للناس ؟ وهل ما ينطق به أمام الكاميرا يوازى ما يفعلونه فى حياتهم ؟ إنه مجرد دمية يحركها كل من المؤلف والمخرج مثلما يشاء . أين أراؤه الخاصة ، وأين أفكاره ؟ إنه لم يعلنها قط ، وحتى فى الأحاديث الصحفية يكون هناك من ينقحون كلامه ، بهدف المحافظة على اسمه الفنى ؟ هكذا مضت حياته هباء ، وسوف يمضى الباقى منها . . مجرد خيالات على حائط يراها الناس فى الظلمة ، ثم يخرجون بعدها لممارسة حياتهم فى النور . استعجله المخرج كثيراً لكنه ظل يعتذر ، وأخيراً قدم اعتذاره النهائى عن الفيلم قائلاً: إنه بحاجة إلى فترة ينفرد فيها بنفسه ، لكى يراجع أموراً كثيرة فى حياته !
( نهاية الكتاب )
|