أ.د. حامد طاهر

‏١٠ ديسمبر‏، الساعة ‏٧:٣٣ م‏ ·

حلم الخلود
(مقال فلسفي)
للدكتور حامد طاهر
عندما خلق الله الإنسان حدد حياته بفترة زمنية معينة وهو الذي يقرر متى يولد ومتي وأين يموت، لكن الإنسان منذ خلق وحتى اليوم ما زال غير مقتنع بتلك الفترة المحدودة من حياته وظل يطمع في مد هذه الفترة لتخرج من إطار الزمن المحدود ليدخل في آفاق الخلود غير المحدود.
ظهر ذلك بوضوح لدى كل من أبينا وأمنا: آدم وحواء، حين أغراهما إبليس بمخالفة أمر الله تعالى بعدم الأكل من شجرة معينة في الجنة، معللًا ذلك بأن يصبحا من الملائكة (الذين لا يموتون) أو يكونا من الخالدين! وهذان هما الدافعان اللذان جعلاهما يسرعان بالأكل من الشجرة المحظورة وعندئذ حدث لهما ما حدث، فعاقبهما الله تعالى بالهبوط إلى الأرض ليعيشا فيها حياة "محدودة" السنوات.
وإذا استعرضنا تاريخ البشرية القديم وجدنا ظاهرة السعي إلى الخلود، أو محاولة التلبس به – تتمثل في نماذج معينة، بعضها خرج إلى الوجود في معالم معمارية ضخمة، كما في (الأهرامات المصرية)، وبعضها الآخر سرى في أساطير كبرى ، كما ورد في (أسطورة جلجامش) البابلية، والتي ترجع إلى حوالي أربعة آلاف عام.
أما المصريون القدماء فقد استطاعوا فتح نافذة في الجدار المستحيل للخلود تتيح لهم الأمل في العودة من الموت إلى الحياة مرة أخرى. وهي ما اشتهر –خطأً- لدى معظم الباحثين في الحضارة المصرية القديمة بفكرة البعث التي وجدوها تتشابه مع فكرة البعث التي قررتها الأديان السماوية وأهمها الإسلام. إن البعث المصري هو عودة إلى الدنيا في حياة أخرى. وهي قريبة من فكرة التناسخ الراسخة عند الهنود. أما فكرة البعث الديني فتعني نهاية كاملة للدنيا ، وبداية لحياة جديدة في وضع آخر تماما.
وبالنسبة إلى ملحمة جلجامش التي وصلت إلينا محفورة بالخط المسماري على ألواح من الطين ، وجاءت لحسن الحظ شبه مكتملة ، فإنها تروي مغامرة عجيبة ، بطلها القوي والجميل الذي غيَّب الموت أعز أصدقائه فاهتز لذلك كثيرًا وكره الموت الذي اعتبره عدوا له، ولذلك حرص على أن يتحداه بالبحث عن الخلود الذي ينتصر على الموت، فقام برحلة أسطورية عانى من خلال أهوالها الكثير من المتاعب، حتى وصل إلى الشخص الذي أهداه (نبتة الخلود) ففرح بها كثيرا. وفي طريق عودته حاول أن يستريح قليلا فنزل يستحم في إحدى البحيرات، فجاءت حيَّة وسرقت منه النبتة، عندئذ أدرك أن لا سبيل إلى تحقيق حلمه المستحيل! كما تأكد له صدق ما أخبرته به إحدى العرافات، التي كان قد قابلها في طريقه، من أن الإنسان –البشري- لم يخلق أبدا للخلود، وأن طبيعته تستلزم أن ينحصر وجوده في الدنيا في الفترة الكائنة بين ميلاده وموته.
أما فكرة البعث في الأديان السماوية فأوضحها الفكرة الإسلامية التي تعد هي الدعامة الثانية لعقيدة الإيمان بالله الواحد. وهي مبسوطة في القرآن الكريم من خلال العديد من الآيات، وبأوضح بيان. وتقوم على أساس أن الله تعالى –الذي خلق الإنسان وكرمه- قد منحه عمرا محدودا، وأنه عندما يموت يوسّد جسده التراب، وتصعد روحه إلى خالقها، وتظل في مكان (لا نعلمه) حتى يحين يوم القيامة فتختفي السماوات والأرض وتبعث تلك الأجسام جميعا من مقابرها، بعد أن تردّ إليها أرواحها، وتقف في مكان (الحشر) منتظرة حساب كل منها على ما فعله صاحبها من خير أو ما ارتكبه من شر. وهنا ينقسم الجميع إلى فريقين: أحدهما في جنة خالدة، عرضها السماوات والأرض، والأخرى في جحيم دائم، وقوده الناس والحجارة!
إن فكرة أو عقيدة البعث الديني –لمن يتأملها جيدا- ليست فقط هي التي تضبط أفعال الإنسان، وتحد من رغبته الجامحة في هذه الدنيا ، ولكنها في المقابل تفتح أمامه باب الأمل واسعًا ليتخلص من (وهم) خلوده فيها، ليعلم أن نهاية الدنيا المحدودة تأتي بعدها بداية أخرى لخلود دائم، وهكذا فإنها تختلف كثيرا عن فكرة البعث المصرية التي تعيد الإنسان إلى هذه الدنيا نفسها من جديد. كما أنها تبتعد بكل تأكيد عن محاولة جلجامش الفاشلة، التي قامت على اعتقاد أن الخلود لا بد أن يتحقق في حياة الإنسان العابرة.
ومع ذلك كله، أو حتى بعده، يبقى أن الإنسان هو الإنسان: المخلوق الناكر للجميل، والطامع دائما لما ليس من حقه. وكما هو مشاهد للعيان: يسعى البعض إلى التمسك بإبقاء ذكره لما بعد الموت! والبعض يسعى إلى إنجاب ذرية تكون بعد وفاته امتدادًا له! والبعض يسعى إلى تكديس ثروة أضخم بكثير مما يلبي احتياجاته الشخصية! والبعض يحرص أشد الحرص على امتلاك المنصب والجاه، وقد نجده يوصي بأن يقام له ضريح فاخر أو ينصب له سرادق ضخم! وقد يغيب عن الكثير منا أن البخل يعتبر أحد الدوافع الخفية للخلود ، فالبخيل يضنّ بماله على أهل بيته وأقاربه والمحتاجين من حوله معتقدًا أن ماله هو سنده الوحيد في الحياة وسيبقى معه إلى ما بعد الموت!
تلك هي عموما بعض مظاهر التمسك أو التلبس بفكرة الخلود وهي ليست جديدة على بني البشر الذي وقع أبوهم نفسه فيها وعوقب عليها، لكنها استمرت على مدى العصور وما زالت حتى اليوم.

التعليقات (0)

الإسم

التعليق

تصغير | تكبير

أضف تعليق