طبيعة الإنسان فى القرآن
أ.د. حامد طاهر
تمهيــد :
سبق أن كتبت بحثا مفصلا عن (نظرية خلق الإنسان فى القرآن) مستخدما منهجا يقتصر فقط على الآيات القرآنية الواردة فى الموضوع ،والتى تتناول مراحل خلق الإنسان (قبل ، وأثناء ، وبعد الخلق) وذلك دون الرجوع أوالمقارنة بنظرية داروين فى التطور،والتى أفاض فيها معظم الباحثين العرب، وفى رأيى أنها لم تثبت صحتها بالكامل حتى اليوم - انظر البحث على موقعى بالإنترنت[ www.hamedtaher.com ] وعدد زواره حتى الآن 1132796
وفى هذا البحث الحالى ، حاولت أن أتتبع ــ بنفس المنهج ــ الصفات التى وردت فى القرآن الكريم متعلقة بطبيعة الإنسان . والملاحظ أن معظمها صفات سيئة تطلعنا على حقيقة الإنسان ، وتجعلنا نتوقف عن الدهشة من سلوكه وتصرفاته مع بنى جنسه من ناحية ، وفى البيئة المحيطة به من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أن الله تعالى قد كرّم الإنسان ، وخلقه فى أحسن تقويم ، وسخر له ما فى السماوات والأرض ، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ، فإن صفاته السيئة تلك هى الغالبة عليه ، وهى التى تدفعه إلى نكران الجميل ، وعدم الاعتراف بالنعم الإلهية التى تحيط به من كل جانب ، وتجعله ينخرط فى مسالك الكفر والشرك والنفاق ، وبذلك يستحق غضب الله وعقابه ، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم فى كثير من آياته :
(وما أكثر الناس ولوحرصت بمؤمنين) [ يوسف103]
(إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) [ الأنبياء98]
(ولكن حقّ القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) [السجدة13]
(فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة) [البقرة24]
لكن المؤمنين الذين توصلوا إلى معرفة الخالق بعقولهم ، وجاءتهم الرسل لتؤكد لهم ما توصلوا إليه ، هم الذين سوف يتغلبون على مكائد الشيطان ، ويستحقون الجائزة الكبرى من الله تعالى ، وهى الخلود فى الجنة ، والتمتع برضوان الله .
خلق آدم وهبوطه إلى الأرض :
عندما شاءت إرادة الله أن يجعل فى الأرض خليفة ، عرض الأمر على الملائكة ، الذين سألوه متعجبين :
ــ (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ؟!
أجابهم جل وعلا بقوله :
ــ (إنى أعلم ما لاتعلمون )[البقرة 30]
وتمّ خلق آدم من طين الأرض (من حمأ مسنون ، من صلصال كالفخار) ومع ذلك جاء فى أحسن تقويم (الذى خلقك فسوّاك فعدلك ، فى أى صورة ما شاء ركّبك) [الانفطار7] ونفخ فيه من روحه ، فدبّت فيه الحياة ،وعلّمه الله الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة فلم يعرفوها عندئذ أمرهم بالسجود لآدم ، فأطاعوا كلهم ما عدا إبليس الذى اعترض بأفضليته على آدم ، المخلوق من الطين ، بينما هو قد خلق من النار !ولذلك استحق غضب الله ، ولعنته ،لكن إبليس طلب من الله أن يتركه حيا إلى يوم القيامة متوعدا آدم وبنيه أن يضلهم عن سبيل الله ، وقد استجاب الله له ، لكنه أخبره أنه لن يكون له سلطان على المؤمنين الأتقياء .
ثم أمر الله آدم وزوجته أن يسكنا فى الجنة ، ويتمتعا بخيراتها واشترط عليه ألا يقرب شجرة معينة لكن إبليس ظل يغويهما بالأكل منها على اعتبار أنها شجرة الخلد ، والتى تمنحهما الملك الذى لا يبلى .. ولذلك أخرجه الله من الجنة وأنزله مع زوجته وإبليس إلى الأرض ليبدأ بين الإنسان والشيطان صراع طويل لن ينتهى إلا بقيام الساعة :(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ، ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين) [البقرة 36]
إبنا آدم :
فوق الأرض ، قدّم كل من إبنىْ آدم : هابيل وقابيل قربانيْن لله تعالى وحين وجد قابيل أن قربانه لم يقبل مثلما قبل قربان أخيه غضب منه ، ودبّ الحسد فى قلبه ونتيجة لذلك أقدم على قتله وكانت تلك أول جريمة قتل فى تاريخ البشريةحتى أن القاتل لم يعرف أن يوارى جثة المقتول فى التراب إلا بعد أن شاهد غرابا يقوم بدفن غراب ميت ! وقبل أن نسترسل فى استعراض جوانب طبيعة بنى آدم نتوقف قليلا لنلخّص المخالفات التى ارتكبت فى تلك المرحلة المبكرة من بداية االبشرية :
ــ عصيان آدم لأمر ربه فى عدم الأكل من الشجرة المحرمة عليه .
ــ استجابته لإغواء إبليس له فى الأكل منها ، وضعف عزيمته .
ــ حسد قابيل لأخيه ، والإقدام على قتله .
والسؤال الآن :
هل خلْق الله للإنسان كان لغاية ، أم أنه كان عبثا ؟
يقول الله تعالى (إنا كل شىء خلقناه بقدر) [القمر49]
(وكل شىء عنده بمقدار) [الرعد8]
ويقول : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى) [القيامة 36]
ويقول : (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير، الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [الملك 2،1]
ويقول أيضا : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات 56]
والحقائق الكبرى فى القرآن تؤكد :
أن الله تعالى هو مبدع الكون ،وهو خالق الإنسان ،والمتكفل برزقه وبالتالى كان على هذا الإنسان أن يفكر بعقله بأن من فعل ذلك له .. يستحق إفراده بالعبادة لكن الإنسان أغمض عينيه ، وأوقف عمل عقله ،وحين جاءته الرسل لتأخذ بيده عارضها وكذّبهاوفضّل أن يتبع أسلافه فى معتقداتهم الوثنية فوقع فى الكفر ، والشرك ، والضلال ..
أوصاف الإنسان فى القرآن :
تكثرفى القرآن الكريم الآيات التى تصف جوانب الشر فى الإنسان ومنها : الكفر ، والشرك ، وجحد النعمة ، والميل إلى الجدل ،والخصومة ، والشعور بالكبْر والتجبّر ،والظلم ، والجهل ، والبخل، والخسران ..
ومع أن الله تعالى كرّم الإنسان بخلقه فى أحسن تقويم
(لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) [القيامة4]
فإنه لم يعتبر هذه الأفضلية ،
وكفر بالذى خلقه على هذه الصورة :
(إن الإنسان لكفور( [الحج66] ، (فإن الإنسان لكفور) [الشورى49]
(إن الإنسان لكفور مبين) [الإسراء67]
ويصل الأمر مداه حين تقرر الآية : (قتل الإنسان ، ما أكفره ! ) [عبس17]
ولهذا صدق عليه قول الله تعالى :
(ولقد خلفنا الإنسان فى أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين .إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) [التين4ــ6]
وعلى الرغم من أن الإنسان ليس هو أقوى المخلوقات بل إنه ضعيف الجسم والقدرة ، فإنه إذا أصاب الغنى أو السلطة طغى وتجبّر (وخلق الإنسان ضعيفا) [النساء28] (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) [العلق7،6] وما نماذج فرعون والنمرود عنا ببعيدة .
إن بداية خلق بنى آدم عموما تتكون من نطفة هيّنة بسيطة لكن الإنسان ينسى ذلك أو يتجاهله وخاصة حين يقوى عوده ، فيتحول إلى مخاصم شرس (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) [يس77]
(خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) [النحل4]
(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) [القيامة5]
وتستمر الآيات فى وصف جوانب الشر والضعف فى طبيعة الإنسان ، فتصفه بـ :
العجلة ، والبخل الشديد ، وكثرة الجدال ، وعدم الاعتراف بالفضل ، وشدة الخوف ، والظلم ، والجهل ، واليأس من رحمة الله ..
(خلق انسان من عجل) [الأنبياء37]
(وكان الإنسان عجولا) [الإسراء11]
(إن الإنسان لربه لكنود) [الكهف54]
(وكان الإنسان قتورا) [الإسراء100]
(وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) [الكهف54]
(وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه) [الإسراء83]
(إن الإنسان خلق هلوعا ، إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) [المعارج19ــ21]
(وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) [الأحزاب72]
(وإن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها أعرض ونأى بجانبه) [هود9]
فهل يمكن أن ينجح هذا الإنسان التى تجتمع فيه هذه الصفات أو حتى بعضها ؟
كلا .. إنه إذن فى خسران
(إن الإنسان لفى خسر) [العصر2]
وهنا نصل إلى أسوأ صفات الإنسان التى أفاض فيها القرآن ، وهى صفة النفاق والنفاق يعنى أن يظهر الإنسان غير ما يبطن .وتحت هذا المظهر الخادع ، يقوم بكل الأعمال المسيئة للآخرين ،مستغلا جهلهم بحقيقته ، وحسن ظنهم بمظهره . والواقع أن هذا الصنف من البشر يعتبره القرآن أسوأ من الكفار والمشركين لأن هؤلاء يصرّحون بما يعتقدونه بينما المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وهم يعيشون بين المسلمين ويدبّرون المكائد لهم وقد نبّه القرآن الرسول (ص) إليهم :
(ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم) [التوبة 101]
كما صرح بكوْن الأعراب من أشدهم كفرا ونفاقا :
(الأعراب أشد كفرا ونفاقا)[التوبة97]
كما يقرر أن ألمنافقين والمنافقات (بعضهم من بعض) [التوبة67]
وأن أفعالهم مهما تسترت فإن الله لهم بالمرصاد
(يخادعون الله وهو خادعهم) [النساء142]
(والله يشهد أن المنافقين لكاذبون) [المنافقون1]
ويؤكد أنهم (هم الفاسقون) [التوبة67]
كما يقرر انهم (لا يعلمون) [المنافقون8]
و(لا يفقهون) [المنافقون7]
ونتيجة لأفعال المنافقين الشريرة ، وما يضمرونه فى قلوبهم المريضة من عداء متأصل للرسل والمؤمنين فإن عقابهم سيكون عنيفا :
(وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) [النساء 131]
ويضعهم القرآن مع الكفارفى عقاب جهنم :
(إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا) [النساء140]
(وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم) [التوبة68]
بل إن موقف المنافقين فى جهنم سيكون أسوأ من الكفار :
(إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار) [النسلء145]
وإذا كانت تلك هى الطبيعة البشرية التى خلق بها الإنسان ،وهى التى تدفعه من الداخل ، فإنه معرّض من الخارج لعدو لا يقل شرا وهو الشيطان الذى تحدى الإرادة الإلهية وأقسم أنه لن يتوقف أبدا عن إضلال الإنسان بكل الوسائل التى يتمكن بها منه .
ومنذ البداية ، حذّر الله خليفته فى الأرض من كيد الشيطان ، وأكّد له أنه العدو الأول له(قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ، ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين) [الأعراف24]
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) [طه123]
(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) [البقرة36]
ويؤكد القرآن عداوة الشيطان الشديدة للإنسان بقوله :
(إن الشيطان للإنسان عدو مبين) [يوسف5]
ويذكر أنه يوقع الإنسان فى الخطيئة ، ثم يتخلّى عنه :
(وكان الشيطان للإنسان خذولا) [الفرقان29]
ويذكر القرآن أن من بين أهم تأثيرات الشيطان فى الإنسان : الوسوسة ..التى استخدمها مع آدم وزوجته فى الجنة ، والتى دعا الله الإنسان ليستعيذ به تعالى منها (قل أعوذ برب الناس . ملك الناس . إله الناس .من شر الوسواس الخنّاس .الذى يوسوس فى صدور الناس . من الجنّة والناس) [سورة الناس]
وقد بيّن لنا الرسول(ص) أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم !
لكن الله تعالى زوّد المؤمنين بحائط صد ضد مكائد الشيطان
وهى الاستعاذة الدائمة بالله منه :
(وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) [المؤمنون97]
(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) [الأعراف200]
وهى ضرورية عند البدء فى قراءة القرآن الكريم :
( فإذا قرأت القرآن فاستعذْ بالله من الشيطان الرجيم) [النحل 98]
وهكذا لم يترك الإنسان بدون دفاع ضد الشيطان بل إنه إذا أخلص فى إيمانه ، وقوى توكله عليه أصبح محصّنا بالكامل من إغواء الشيطان ووساوسه .لكن تلك الخصال السيئة التى خلق الإنسان بها والتى على أساسها تتشكل نواياه وتصرفاته فتوقعه فى الخطأ والخطيئة
وبهما يستحق غضب الله وعقاب جهنم ..هذه االخصال يستثنى منها طائفة المؤمنين الذين أكّد الله تعالى للشيطان أنه لن يكون له عليهم سلطان :
(إن عبادى ليس لك عليهم سلطان ،إلا من اتبعك من الغاوين) [الحجر42]
(إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا ، وعلى ربهم يتوكلون) [النحل99]
وهكذا فإن تأثير الشيطان وأتباعه لا يعمل إلا فى دائرة العصاة ، وضعاف الإيمان .
والواقع أن المتتبع لأفعال الشيطان مع البشر يمكنه أن يجد الكثير منها فى القرآن الكريم فقد كان هو السبب وراء معظم المخالفات التى تم ارتكابها .. حتى من بعض الأنبياء :
ــ فهو الذى وسوس لآدم وزوجته ،
بالأكل من الشجرة المحرّمة [البقرة 36] ،[الأعراف20]،[طه120]
ــ وهو الذى أثار حسد قابيل ضد أخيه حتى قتله [المائدة27]
ــ وهو الذى دفع موسى إلى قتل المصرى [القصص15]
ــ وهو الذى أشعل الحسد فى إخوة يوسف حتى تخلّصوا منه [يوسف8،9،100]
ــ وهو الذى يزيّن للناس الخمر والميسر والأنصاب والأزلام [المائدة90]
ــ وهو الذى يوقع بين الناس العداوة والبغضاء [المائدة91]
ــ وهو الذى يدعو إلى الفحشاء والمنكر [النور21]
ــ وهو الذى يزيّن للناس أعمالهم السيئة على أنها حسنة [العنكبوت38]
ــ وهو الذى يوقع الإنسان فى النسيان [المائدة19] ، [الكهف63]
ــ وهو الذى يدفع المشركين إلى المجادلة بالباطل [الأنبياء121]
ــ وهو الذى يدفع أولياءه ليجادلوا المؤمنين فى التوحيد والبعث [الأنعام121]
ــ وهو الذى يضلّل بعض البشر ، ثم يتركهم حيارى [الأنعام71] ..
ومع ذلك ، فإن القرآن الكريم يؤكد أن كيْد الشيطان ــ مهما بلغ ــ فهو ضعيف (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) [النساء76] وهو يدعو المؤمنين ألا يتبعوه ، حتى لا يصبحوا من حزبه : (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) [البقرة208] ، [الأنعام142] وحذّرهم من فتنته ، التى أخرج بها آدم وحواء من الجنة : (يابنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) [الأعراف27] .
والخلاصة : أن الشر فى الإنسان يأتى من مصدريْن : الأول هو طبيعته التى خلق عليها ، وانساق لها ، فضلّلته عن الصراط المستقيم ، والثانى : هى وسوسة الشيطان وإغواؤه ،واستجابته له ، واتخاذه وليّا ، رغم تحذير الله تعالى له بأنه هو عدوه المبين .
ــــــــــــــــــــــــــــ
|
الخلاصة : أن الشر فى الإنسان يأتى من مصدريْن : الأول هو طبيعته التى خلق عليها ، وانساق لها ، فضلّلته عن الصراط المستقيم ، والثانى : هى وسوسة الشيطان وإغواؤه ،واستجابته له ، واتخاذه وليّا ، رغم تحذير الله تعالى له بأنه هو عدوه المبين .