نحو استراتيجية مغايرة
لإصلاح التعليم فى مصر
أ.د . حامد طاهر
تمهيد :
تهدف هذه الورقة البحثية المختصرة إلى تقديم فكرة استراتيجية مغايرة لإصلاح مسار التعليم المصرى . وهى تنقسم إلى قسمين ، يتناول الأول منهما ضرورة تحديد الهدف من التعليم ، وأهمية اختيار نوع التعليم المناسب الذى يصلح لتحقيق هذا الهدف . أما القسم الثانى فيركز على أن نستبدل باستراتيجية التعليم الحالية ، القائمة على بث وتوصيل المعلومات النظرية : استراتيجية أخرى ، تعتمد أساسا على التدريب العملى الذى يؤدى مباشرة إلى الاكتشاف والإبداع والتطوير والتحسين وهذا هو ما نحتاج إليه فى حياتنا الحاضرة من أجل الارتقاء بمستوى معيشة الناس ، والإفادة المثلى من البيئة المحيطة بهم .
القسم الأول :
التعليم فى أبسط معانيه يعنى نقل التلميذ او الطالب من حالة الجهل إلى حالة العلم ، فما هو العلم الذى نسعى إليه ؟ هناك علوم كثيرة أصبحت تنتظم فى مجموعات ،أهمها مجموعتان :
ـــ مجموعة العلوم التجريبية أى التى تجرى تجاربها فى المعامل
ـــ ومجموعة العلوم النظرية وهى التى تعتمد على الفحص العقلى والمناقشة وبالطبع تندرج تحت كل منها مجموعات أصغر :
مجموعة العلوم اللغوية
مجموعة العلوم الاجتماعية
مجموعة العلوم الهندسية
مجموعة العلوم الطبية .. إلخ .
ومن المعروف أن كل علم يندرج تحت هذه المجموعات يهدف إلى تحقيق :
مصلحة للإنسان فى حياته،
أو استغلال للبيئة من حوله
وكلا الأمرين هما اللذان يعملان على تحسين أحوال الأفراد وتقدم المجتمع .
وبناء على ما سبق فإن كل دولة مسئولة مسئولية كاملة عن تحديد أهدافها التى تريد تحقيقها ، ثم تختار العلوم التى توصلها إلى ذلك وتبدأ فى عملية تعليم كبرى ترتبط مباشرة بتلك الأهداف على أن تقوم بتدريب الطلبة تدريبا عمليا بحيث يصبحوا بعد التخرج مباشرة قادرين على تحمل مختلف المسئوليات التى يتطلبها المجتمع منهم .
التعليم إذن ليس عملا عشوائيا ، كما أنه ليس نظاما تقليديا جامدا ، لكنه نظام قابل للتطوير المستمر الذى يعنى التبديل والتعديل والحذف والإضافة فى كل فترة زمنية من حياة المجتمع . وهو يتطلب استراتيجية واضحة المعالم ، محددة الأهداف والوسائل التى تتضمن خططا قابلة للتنفيذ ومراحل زمنية والمراجعة .
وعلى الرغم من ضرورة أن ينبع التعليم فى أى مجتمع من حاجاته ومتطلباته الذاتية فلا مانع أبدا من الاستعانة بكل التجارب التعليمية فى الدول الناجحة ،وهذا هو طابع التعليم الجيد أى الذى ىكون منفتحا على العالم كله ولا ينغلق على نفسه .
لقد كان التعليم عندنا فى الماضى يرفع شعار (العلم للعلم) لكننا أصبحنا فى العصر الحاضر محتاجين إلى شعار (العلم من أجل خدمة المجتمع وتحسين البيئة) ولو كان أجدادنا قد تنبهوا لذلك وعملوا على أساسه لكانت الأوضاع فى بلادنا مختلفة تماما عما هى عليه الآن ..
ومن امثلة ذلك :
ــ ظل المعلمون يدرسون قواعد النحو على أساس أنها هى التى تحقق للتلاميذ صحة النطق وسلامة الكتابة ، ولم ينجح هذا ولا ذاك فراحوا يصنفون مئات المؤلفات وينظمون الألفيات الركيكة ولكن بدون جدوى حتى بدأنا ننبههم أخيرا إلى أن الإكثار من قراءة النصوص أجدى ألف مرة من حفظ القواعد .
ــ ومثال آخر :
ــ ظل أجدادنا الفلاحون يروون حقولهم بطريقة الغمر وكانوا يستهلكون كميات ضخمة من المياه حتى ظهرت فى عشر السنوات الأخيرة طريقتان مختلفتان تماما وهما الرى بالرش والرى بالتنقيط اللتان لا تحتاجان إلا لكمية قليلة جدا من الماءوتأتيان مع ذلك بمحصول أوفر .
ـــ ومثال ثالث :
فى العديد من كليات الهندسة لدينا ــ وقد مضى على إنشائها أكثر من قرن كامل ــ لا يستطيعون إنتاج سيارة ولا المساهمة فى تصنيع قطع الغيار ولا فى اكتشاف أو تشغيل حقل بترول ولا فى استخراج المعادن من باطن الأرض أو إنتاج الطاقة من الشمس أو الرياح !
ــ ولا أريد أن أتطرق إلى مأساة القمامة التى ما زال علماؤنا وتلاميذهم عاجزين عن تطبيق واحد لأسلوب تدويرها كما يحدث حاليا وبنجاح منقطع النظير فى كل بلاد العالم .
تلك فقط بعض الإشارات إلى مجالات العلم النافع والتعليم الهادف ، لكننا ما زلنا ندور فى ساقية التعليم المسطح الفارغ من الهدف والمضمون معا . وأستطيع أؤكد لكم أننا إذا لم نسرع اليوم قبل الغد ، فسنظل ندور فى تلك الساقية العطشى التى تصدر صوتا عاليا دون أن تخرج منها قطرة ماء واحدة .
القسم الثانى :
لا جدال فى أن نظامنا التعليمى الحالى فاشل من جميع الوجوه ،وأهمها : أنه يقوم على صبّ كمية من المعلومات فى عقول التلاميذ ثم يحاول استرجاعها منهم فى الامتحانات دون أن يدربهم ــ ولو لمرة واحدة ــ على تحريك أيديهم ، أوحتى ألسنتهم ، وهكذا يظل الطالب المصرى منذ المرحلة الابتدائية حتى الجامعية صامتا ، وساكنا ، وسلبيا ..حتى إذا تخرج رحنا نزعق ونشكو من أنه لا يحسن القيام بأدنى المهمات العملية .
وأنا هنا لا أذهب كما يعتقد الكثيرون أن الإبداع والابتكار لا يأتيان من الفكر وحده بل إن منبعهما الأساسى هو العمل اليدوى اى التدريب على تحريك الأيدى والاتصال المباشر مع الأجهزة والأدوات والقيام بعد ذلك بمحاولة تصليحها وتحسينها .إن المسافة بين ملء العقل بالمعلومات وتدريب الأيدى على العمل مسافة طويلة جدا ، ولكى نقللها أو نقضى عليها تماما لا بد من تغيير استراتيجية التعليم تغييرا جذريا حتى نخرّج جيلا جديدا من الشباب الذين يجمعون بين العلم النظرى ، والتطبيق العملى .
إن الفكرة التى أدعو إليها هنا ــ وأتمنى مخلصا أن تتحقق ــ هى أن يدخل التدريب فى كل مراحل التعليم المصرى بنسبة 70% ، ولا يزيد التعليم النظرى عن 30% وهذا يعنى انقلابا كاملا فى استراتيجية التعليم فبدلا من طبع الكتب تتم أقامة الورش ، وبدلا من المعلم الذى يشرح ويمتحن يكون المدرب الذى يوجه ويصحح ، أما الطالب المتفوق فهو الذى يستطيع أن يشغّل جهازا أو يصلح آلة أو يخترع نموذجا جديدا أو يحل مشكلة مزمنة أو قائمة فى بيئته .
إن هذه الاستراتيجيىة الجديدة تتطلب القيام أولا بجمع وتصنيف (كل) مشكلات المجتمع والبيئة وبيان مدى خطورة كل منها ثم وضعها فى قوائم لكى تعرض على الطلاب المتدربين وأن يتاح لكل منهم إمكانية اختيار المجاالذى(يحبّ) أن يعمل فيه بفكره ويده معا وليس بواحد منهما فقط .
وسوف يكون من المهم جدا أن يعرض على الطلبة فى كل مراحل التعليم أبرز محاولات حل المشكلات التى قام بها أفراد متميزون على مستوى العالم كله ومن ذلك على سبيل المثال :
من الذى اخترع الكهرباء ؟
والذى ابتدع الطائرة ؟
والذين أقاموا الجسور ؟
وبنوا ناطحات السحاب ؟
والذى قضى على مرض السل ؟
والذى اكتشف البنسلين ؟
ومن الذى خطّط المدن ؟
ومدّ الطرق ؟
واستنبت الغابات الصناعية ؟
ومن الذى سيّر القطارات الأسرع من الصوت ؟
ثم من الذى طبق اسلوب تدوير القمامة ؟
ومن الذى جعل محصول القمح يتضاعف ؟
ومن عالج النباتات بالحشرات
وليس بالكيماويات ؟!
وبالطبع هذه مجرد نماذج من التطبيق العملى للعلم النظرى وقد أصبحت تاريخية ، أما فى عصرنا الحاضر ، عصر الثورة الإلكترونية فقد ظهرت متطلبات جديدة ، ومنها على سبيل المثال :
أهمية تطبيقات الليزر فى كل من الصناعة والزراعة ،
وليس فقط فى الفضاء ،
وتشغيل الآلات والأجهزة عن بعد ،
والتوسع فى عمل الروبوتات ،
وإتقان تكنولوجيا الهواتف الذكية ،
وصنْع الكمبيوتر وصيانته وتصليحه ..
واستخدامات الطاقة الشمسية
وطاقة الرياح والأمواج ..
وكيفية الإفادة من عالم النانو تكنولوجى
فإذا سألتنى : وماذا نفعل مع آلاف الطلبة فى كليات مثل التجارة والحقوق والآداب ؟ أجيبك بكل بساطة : لا بد من تقليل أعدادها تبعا لحاجة المجتمع الفعلية إلى خريجيها . ومع ذلك ، لا بد من إدخال التدريب إلى برامجها الدراسية : فمن المعروف أن طالبا واحدا من التجارة لم يذهب إلى مكتب محاسبة للتدريب على أعمالها ، كما لا يوجد طالب من الحقوق دخل محكمة لكى يشاهدعلى الطبيعة كيف هى الإجراءات القانونية ؟ وما أصول ومهارات المرافعة ؟ أما كليات الآداب فالدراسة بها عموما نظرية ولا يوجد أى تدريب لطلابها خلال فترة الدراسة ، وهذا يؤكد ما سبقت الإشارة إليه من قيام استراتيجية التعليم الحالية على التعليم النظرى دون أدنى اهتمام بالتدريب العملى الذى يتداخل مع الواقع ويتفاعل معه .
ــــــــــــــــــــــــــ
|