حقيقة الدنيا وموقف الإنسان منها
عند الغزالى
أ.د. حامد طاهر()
الإنسان ينسى دائما أو يتناسى حقيقة وجوده فى الدنيا : كيف بدأ ؟ وعلى أى طريق يمضى ؟ وما هو مصيره الذى إليه ينتهى ؟ وعلى الرغم من أنه يشاهد الدلائل الواضحة على ذلك كله فى حياة الآخرين من حوله وأحيانا من أقرب الناس إليه . فهو مثلا يستقبل ميلاد أطفاله ، ويعانى من تربيتهم ، ويتابع بكل اهتمام تصرفاتهم فى مختلف المواقف ، وأحيانا ما يمشى فى جنازتهم ، ثم يدفنهم فى باطن الأرض ، ويعود بعد ذلك ليمارس حياته كما اختارها لنفسه ، متجاهلاً الغاية من وجوده ، وغير متوقف حتى ليسأل: ما معنى هذا كله ؟ .
والسؤال الآن : ما الذى يصرف الإنسان بهذا الشكل عن حقيقة وجوده، وبالتالى الغاية منها ، بل إنه لا يكاد يفكر في قصر المدة التى أتيحت له فى هذه الدنيا ، والتى لا تكاد تجاوز التسعين عاما ، وقد يوافيه الموت قبل ذلك بفترة طويلة .
والواقع المؤسف أن قليلاً جدًا من الناس هم الذين يدركون الهدف والغاية : والأقل هم الذين يقررون تنظيم حياتهم على أساس هذا الإدراك . أما الغالبية العظمى فإنها تندفع بدون وعى ، وتنغمس بالكلية فى شئون الدنيا ، المتعددة المظاهر والمباهج والأشكال . ولا يتوقف ذلك فقط على تحقيق ما يثور فى نفوسهم من الرغبات والشهوات ، وإنما ينسحب أيضًا على الأعمال الضرورية ، التى توفر للإنسان حاجاته الأساسية من المأكل، والملبس ، والمسكن .
وقد تصدى لهذا الموضوع الهام المفكر المسلم الكبير أبو حامد الغزالى (505هـ-1111م) ، فقام بتحليل حقيقة الدنيا ، وبيّن كيف أن مشاغلها تستغرق اهتمام مجموع الناس – باستثناء عدد قليل جدًا من المؤمنين العقلاء – الذين يشتتون فيها جهودهم ، وينقسمون إزاءها إلى طوائف ، تنكفئ كل واحدة منها على تحقيق غرض دينوى عابر ، غير ناظرة إلا إلى ما تحت قدميها ، حتى يفاجئها الموت ، الذى هو دائما نهاية الحياة. وفى هذه اللحظة لا توجد فرصة للمراجعة ، أو ندم على ما وقع من تقصير .
يخصص الغزالى فى مؤلفه الضخم (إحياء علوم الدين) الكتاب السادس ، مما يطلق عليه (ربع المهلكات) الحديث باستفاضة عن الدنيا ، من حيث حقيقتها ومشاغلها ، وقيمتها ، وخطورتها ، ومقارنتها بالآخرة.
والمنهج الذى يستخدمه هو المنهج الوصفى التحليلى الذى يعتمد أساسًا على الكثير من الأحاديث النبوية ، والآثار ، وما روى بالذات عن عيسى ، عليه السلام ، بالإضافة طبعا إلى تعليقاته هو ، حين يكون الأمر مناسبًا للتعليق ، وأحيانا للتمهيد .
أما لغة الغزالى فهى تنساب بسهولة بالغة ، ويغلب عليها طابع النثر المسجوع لكنه بدون تكلف ، لذلك فإنه يصلح تماما للغة الخطاب الوعظى ، الذى يهدف إلى التأثير فى نفوس القراء والمستمعين.
وفيما يلى نموذج لنص كامل ، سوف أضعه فى سطور متتالية ، لكى تتضح منه خصائص لغة الغزالى ، يقول :
الحمد لله الذى عرّف أولياءه ، غوائل الدنيا وآفاتها ،
وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها ،
حتى نظروا فى شواهدها وآياتها ،
ووزنوا بحسناتهم سيئاتها ،
فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها
ولا يفى مرجّوها بمخوفها
ولا يسلم طلوعها من كسوفها
ولكنها فى صورة امرأة مليحة ، تستميل الناس بجمالها ،
ولها أسرار سوء قبائح ، تهلك الراغبين فى وصالها
ثم هى فّرارة عن طلابها ، شحيحة بإقبالها ،
وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها .
إن أحسنت ساعة أساءت سَنَهْ
وإن أساءت مرة جعلتها سُنّه
فدوائر اقبالها على التقارب دائره
وتجارة بنيها خاسرة بائره
وآفاتها على التوالى لصدور طلابها راشقهْ
ومجارى أحوالها بذلّ طالبيها ناطقه
فكل مغرور بها إلى الذل مصيره
وكل متكبر بها إلى التحسرمسيره
شأنها الهرب من طالبها
والطلب لهاربها
مَنْ خدمها فاتته
ومن أعرض عنها واتته
لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات
ولا ينفك سرورها عن المنغصات
سلامتها تعقب السقم
وشبابها يسوق إلى الهرم
ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم
فهى خدّاعة مكاره
طيّارة فرّاره
لا تزال تتزين لطلابها
حتى إذا صاروا من أحبابها
كشرت لهم عن أنيابها
وشوشت عليهم مناظم أسبابها
وكشفت لهم عن مكنون عجابها
فأذاقتهم قواتل سمامها
ورشقتهم بصوائب سهامها
بينما أصحابها فى سرور وإنعام
إذْ ولت عنهم كأنها أضغاث أحلام
ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد
ووارتهم فى أكفانهم تحت الصعيد
إن ملّكت واحدا منهم جميع ما طلعت عليه الشمسْ
جعلته حصيدًا كأن لم يغن بالأمس
تُمنّى أصحابها سرورا
وتعدهم غرورا
حتى يأملون كثيرًا
ويبنون قصورا
فتصبح قصورهم قبورا
وجمعُهم بورا
وسعيهم هباءً منثورا
ودعاؤهم ثبورا
هذه صفتها .. وكان أمر لله قدرًا مقدورا .
وإن هذا النص – على الرغم من طوله – يمثل أوضح تمثيل لغة الغزالى القوية ، والمؤثرة ، والتى تستخدم السجع فى غير تكلف ، وتمسك كل جملة جيدًا بالجملة التى تليها ، وهو يؤكد المعنى أكثر من مرة ، ولذلك يلجأ إلى التكرار ، ولكنه التكرار غير المخل ، فالصور مختلفة ، وتلوينات المعنى متعددة .
أما من حيث مضمون النص ، فإن هذا التصوير المأساوى لحال الدنيا يكشف عن موقف مضاد تمامًا لها ، ووجهة نظر قد يراها البعض سوداوية ، لأنها تنزع عن الدنيا كل مزية ، وتلحق بها كل صفات الشر والأذى الذى يصيب طلابها ، والعاشقين لها ، أو المنكبين على مباهجها الزائلة .
ويفسر الغزالى سبب هذا الرأى القاسى فى الدنيا بأنها :
"عدوة لله ، وعدوة لأولياء الله ، وعدوة لأعداء الله :
- أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله ، ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها .
- وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل فإنها تزينت لهم بزينتها ، وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر فى مقاطعتها .
- وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها ، فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها وعولوا عليها فخذلتهم وهم أحوج ما كانوا إليها فاجتنبوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد ، ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد، فهم على فراقها يتحسرون ، ومن مكايدها يستغيثون" .
وفى هذا المبحث الهام ، يعد الغزالى ببيان تفصيلاته فيقول : "إن أول ما ينبغى معرفته هى حقيقة الدنيا ، وما هى الحكمة من خلقها مع عداوتها ، وما مدخل غرورها وشرورها ، فإن من لم يعرف الشر لا يتقيه، ويوشك أن يقع فيه" ثم يضيف قائلاً : "ونحن نذكر ذم الدنيا ، وأمثلتها ، وحقيقتها ، وتفصيل معانيها ، وأصناف الأشغال المتعلقة بها ، ووجه الحاجة إلى أصولها ، وسبب انصراف الخلق عن الله بسبب التشاغل بفصولها" .
ويبين الغزالى السبب الذى جعله يقتصر على الأحاديث النبوية ، والآثار ، دون الاعتماد على القرآن الكريم ، حيث أن الكتاب الكريم يمتلئ بالآيات التى تؤكد أو تشير إلى ذم الدنيا ، وعدم الاغترار بها ، أليست هى الموصوفة فى القرآن الكريم بأنها ) لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ... ( [ سورة الحديد،آية20]
وبالنسبة للأخبار السابقة ، فإن الغزالى لا يتردد عن الاستشهاد بأقوال عيسى ، عليه السلام ، بكثرة ملاحظة. وكذلك ببعض الأقوال المنسوبة إلى كل من آدم ، وموسى ، عليهما السلام .
ثم تأتى بعد ذلك أقوال صوفية المسلمين من أمثال سفيان الثورى ، والفضيل بن عياض ، وداود الطائى . أما الحسن البصرى فيكثر الغزالى من أقواله ومواعظه الطويلة نسبيا . وعندما لا يذكر اسم صاحب القول المأثور فإنه يورده بـ (قال بعض الحكماء) . وكذلك تحتل خطب على بن أبى طالب مكانًا بارزًا فى الموضوع .
والواقع أن الغزالى يعتمد فى بناء موضوعه على حشد كبير جدا من الأحاديث النبوية (التى خرجها الحافظ العراقى مبينا عدم توثيق البعض منها) وآثار الصحابة ، وأقوال السابقين ، والصوفية ، والحكماء ، وهو لا يتدخل إلا عندما يمهد للموضوع ، أو يعلق على بعض النقاط .
هذا من حيث المنهج. أما الموضوع فهو يتوالى فى عناصر مختارة بعناية لإحداث التأثير الوعظى المطلوب . وسوف أقتصر هنا على عدد محدود من هذه العناصر كأمثلة لها دلالتها :
- روى أن رسول الله r مرّ على شاة ميتة ، فقال : أترون هذه الشاة هينة على أهلها ؟ قالوا : من هوانها ألقوها . قال : والذى نفسي بيده : للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء .
- قال رسول الله r : من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما بقى على ما يفنى .
- قال r ) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( يقول ابن آدم : مالى ، مالى ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت قأبقيت .
- وقيل : أوحى الله لموسى عليه السلام : يا موسى مالك ولدار الظالمين ؟ إنها ليست لك بدار . اخرج منها همك ، وفارقها بعقلك . فبئست الدار هى ، إلا العامل بعمل فيها فنعمت الدار.
وقال عيسى ، عليه السلام :
- لا تتخذوا الدنيا ربا ، فتتخذكم عبيدا .
- لا يستقيم حب الدنيا والآخرة فى قلب مؤمن ، كما لا يستقيم الماء والنار فى إناء واحد .
- من الذى يبنى على موج البحر دارًا ؟ ! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا .
وقال على بن أبى طالب :
- الدنيا : حلالها حساب ، وحرامها عذاب .
- الدنيا والآخرة ضرتان ، فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى .
وقال أبو الدرداء :
- من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
وقال الحسن البصرى :
- من نافسك فى دينك فنافسه ، ومن نافسك فى دنياك فألقها فى نحره.
وقال ابن عباس (الصوفى) :
- كان أصحابنا يسمون الدنيا : خنزيرة . فيقولون : إليك عنا يا خنزيرة . فلو وجدوا لها اسمًا أقبح من هذا لسموها به !
وقال يحى بن معاذ (الصوفى) :
- الدنيا حانوت الشيطان ، فلا تسرق من حانوته شيئًا ، فيجئ فى طلبه فيأخذك.
وقال أحد الحكماء :
- الدنيا جيفة ، فمن أراد منها شيئًا فليصبر على معاشرة الكلاب !
تلك فقط بعض النماذج . مما حشده الغزالى لإثبات حقارة الدنيا ، وضرورة الحذر منها ، وأهمية الانفصال عنها . وإذا كان الغزالى قد ظل خلال العديد من الصفحات التى ذم فيها الدنيا – متخفيا وراء تلك النماذج العديدة ، والتى تتراوح بين الطول والقصر ، فإنه يعود فى نهاية الموضوع ، ليتحدث باستفاضة عن (حقيقة الدنيا) فى ذاتها ، وفى أشغالها التى استغرقت هم الخلق ، حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم . وهنا نقف وجها لوجه أمام الغزالى الفيلسوف الاجتماعى الذى يحلل بصورة موضوعية نشأة المجتمع ، ويكشف عما يحتاج إليه من ضرورات ، وما يستتبعها من إضافات وكماليات :
يقول الغزالى : "الدنيا عبارة عن أعيان موجودة ، وللإنسان فيها حظ ، وله فى إصلاحها شُغْل – فهذه ثلاثة أشياء – قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها ، وليس كذلك" .
أما بيان هذه الثلاثة ، فيأخذ الغزالى فى توضيحها على النحو التالى :
أولاً : الأعيان الموجودة ، التى يعبر عنها بالدنيا ، هى الأرض وما عليها . فالأرض فراش الآدميين ، ومهاد ومسكن ومستقر ، وما عليها لهم : ملبس ومطعم ومشرب ومنكح . ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام : المعادن والنبات والحيوان . أما النبات فيطلبه الإنسان للغذاء والتداوى ، وأما المعادن فيطلبها لعمل الآلات والأوانى كالنحاس والرصاص ، وللنقد كالذهب والفضة ، ولغيرها من المقاصد . وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم. أما البهائم فيطلب منها لحومها للمأكل وظهورها للمركب والزينة . وأما نوع الإنسان فقد يطلبه الآدمى إما لأبدانهم فى الخدمة والتسخير ، وإما لقلوبهم من أجل التعظيم والاكرام الذى يعبر عنه بالجاه . إذْ معنى الجاه : امتلاك قلوب الآدميين .
وهذه الأعيان هى المشار إليها فى الآية الكريمة ) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ([سورة آل عمران : 14]
ولهذه الأعيان مع الإنسان علاقتان : علاقة مع القلب وهو حبه لها، وحظه منها ، وانصراف همه إليها ، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا . ويدخل فى هذه العلاقة جميع صفات القلب المتعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر – وهذه هى الدنيا الباطنة ، فى حين أن الظاهرة هى الأعيان المذكورة .
والعلاقة الثانية مع البدن ، وهو اشتغاله بهذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره ، وهى جملة الصناعات والحرف التى الخلق بها مشغولون . والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين : علاقة القلب بحب الدنيا ، وعلاقة البدن بالشغل فيها.
يقول الغزالى : ولو عرف الإنسان العاقل نفسه ، وعرف ربه ، وعرف حكمة الدنيا وسرها ، علم أن هذه الأعيان التى سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التى يسير بها إلى الله تعالى ، وأعنى بالدابة : البدن ، فإنه لا يبقى ، أى لا يستقيم سفره ، إلا بمطعم وشرب وملبس ومسكن – كما لا يبقى الجمل فى طريق الحج إلا بعلف وماء .
ثم يضيف بأن أكثر ما شغل الناس عن الله هو البطن . فإن القوت ضرورى ، وأمر المسكن والملبس أهون . ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم يستغرقهم انشغال الدنيا ، وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها ، وحظوظهم منها ، ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم ، واتصل بعضها ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة ، فتاهوا فى كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها .
وهنا ينتهز الغزالى فرصة بيان كيفية غلط الناس فى فهم مقاصد الدنيا ، وانصرافهم بها عن الله تعالى ، فيشرع فى تفسير نشأة المجتمعات، سابقًا بذلك ابن خلدون (ت 808هـ) بثلاثة قرون كاملة .
يقول الغزالى : ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا ، وكيفية حدوث الحاجة إليها .. فنقول :
الأشغال الدنيوية هى الحرف والصناعات والأعمال التى ترى الخلق منكبين عليها. وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث : القوت والمسكن والملبس . فالقوت للغذاء والبقاء . والملبس لدفع الحر والبرد . والمسكن لرفع الحر والبرد والدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال .
ولم يخلق الله تعالى القوت والمسكن والملبس مصلحا أو جاهزا بحيث يستغنى عن صنعة الإنسان فيه – نعم ، خلق ذلك للبهائم . فإن النبات يغذى الحيوان من غير طبخ ، والحر والبر لا يؤثر فى بدنه فيستغنى عن البناء ، ويقنع بالصحراء . ولباسها شعورها وجلودها فتستغنى عن اللباس – والإنسان ليس كذلك .
فحدثت الحاجة أولاً إلى خمس صناعات _ هى أصول الصناعات وأوائل الأشغال الدنيوية – وهى : الفلاحة، والرعى، والصيد، والحياكة، والبناء .
ثم هذه الصناعات تحتاج إلى أدوات وآلات . والآلات إنما تؤخذ : إما من النبات وهى الأخشاب ، أو من المعدن كالحديد والرصاص وغيرهما ، أو من جلود الحيوانات . فحدثت الحاجة إلى ثلاثة أنواع آخر من الصناعات : التجارة والحدادة والجلود وهؤلاء هم عمال الآلات . لكن الغزالى يستدرك هنا فيقول إنه يشير فقط إلى ذكر أجناس الحرف (فأما آحاد الحرف فكثيرة) .
ولأن الإنسان خُلق بحيث لا يعيش وحده ، بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه ، وذلك لسببين : أحدهما حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ، ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما . والسبب الثانى التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد ، فإن الاجتماع يفضى إلى الولد لا محالة الفرد لا يقرر أن يشتغل وحده والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت .
ثم إن الإنسان الفرد ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد فى المنزل ، بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة ، فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده ، وهو يحتاج إلى آلاتها ، وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار ، ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز ؟ وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة ؟ فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده ، وحدثت الحاجة إلى الاجتماع .
ثم لو اجتمعوا فى صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص ، فافتقروا إلى أبنية محكمة ، ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه من الآلات والأثاث . والمنازل تدفع الحر والبرد وتدفع أذى الجيران ، من اللصوصية وغيرها ، لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص من خارج ، فاحتاج أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل ، فحدثت البلاد لهذه الضرورة .
وحين يجتمع الناس فى المنازل والبلاد ، ويأخذون فى التعامل مع بعضهم ، تنشأ بينهم خصومات ، وهنا يتطلب الأمر وجود رئاسة وولاية، بدءًا من ولاية الزوج على الزوجة ، والوالدين على الولد ، لأنه ضعيف يحتاج إليها – ومن المقرر أن الولاية إذا حصلت على عاقل أفضت إلى الخصومة ، بخلاف الولاية على البهائم إذ ليس لها قوة المخاصمة ، حتى وإن ظلمت ! أما المرأة فإنها تخاصم الزوج ، والولد يخاصم الوالدين – هذا فى المنزل ، أما أهل البلد فإنهم يتعاملون فى الحاجات ويتنازعون فيها، فلو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا ، وكذلك الرعاة وأهل الفلاحة يتواردون على المراعى والأراضى ، والمياه لا تفى بأغراضهم فيتنازعون لا محالة .
لكن الناس ليسوا كلهم سواء فى القدرة على ممارسة الأعمال ، فهناك من يعجز عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم ، وتعرض عوارض مختلفة ، ولو ترك ضائعًا لهلك . ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ، ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له.
لذلك حدثت بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى ، فمنها :
صناعة المساحة ، التى بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل .
وصناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ، ودفع اللصوص عنها
وصناعة الحكم ، والتوصل لفصل الخصومة
والحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذى ينبغى أن يضبط به الخلق ، ويلزموا الوقوف على حدوده ، حتى لا يكثر النزاع ، وهو معرفة حدود الله تعالى فى المعاملات وشروطها.
ويؤكد الغزالى أن هذه الصناعات "أمور سياسية لابد منها" ولذلك لا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتميز والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ، ويحتاجون إلى المعاش ، ويحتاج أهل البلد إليهم ، إذْ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلا لتعطلت الصناعات ، ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت لتعطلت البلد عن الحراس واستضر الناس .. فمست الحاجة إلى يصرف إلى من معايشهم وأرزاقهم : الأموال الضائعة التى لا مالك لها إن كانت ، أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار – فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح ، وإن أرادوا التوسع مسّت الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة ، فتحدث الحاجة إلى الخراج .
ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج صناعات أخرى ، منها العمال الذين يستوفون الأموال بالعدل والرفق من الفلاحين وأرباب الأموال ، وهم الجباة ، ومنها الخزان ، الذين يجمعون هذه الأموال عندهم إلى وقت توزيعها من الفارض للعساكر الذى يجب عليه تفريقها بالعدل ، والذى يقوم على العدل هو ملك يدبر أمرهم ، أو أمير مطاع يعين لكل عمل شخصا ، ويختار لكل واحد ما يليق به ، ويراعى الانصاف فى أخذ الخراج واعطائه، واستعمال الجند فى الحرب ، وتوزيع أسلحتهم وتعيين جهات الحرب ، ونصب الأمراء على كل فرقة منهم .. وبالطبع هؤلاء جميعا يحتاجون إلى معيشة ، ولا يمكن أن يشتغلوا بالحرف ، فلذلك مست الحاجة إلى تخصيص قسم من الخراج لمن يقومون بها ، وهو المسمى : فرع الخراج .
وينتهى الغزالى إلى أن طوائف الناس فى الصناعات ثلاث هم :
الفلاحون والرعاة المحترفون ، والجنود وحماة السيوف ، ثم المترددون بين الطائفتين فى الأخذ والعطاء وهم الجباة وأمثالهم . وهكذا يقترب الغزالى كثيرا من فكرة أفلاطون فى الجمهورية الذى قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات : طبقة الحكام ، وطبقة الحراس ، وطبقة العمال والزراع .. ويخلص الغزالى من هذا التقسيم المتتابع إلى أن "أمور الدنيا" لا ينفتح منها باب إلا وينفتح بسببه أبواب أخر ، وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور ، وكأنها هاويه لا نهاية لقاعها : مَنْ وقع فى مهواة منها سقط منها إلى أخرى" .
أما المال ، فهو عند الغزالى عصب هذه الوظائف والمهن والحرف كلها. وهو عبارة عن :
- اعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به .
- وأعلاها الأغذية ،
- ثم الأمكنة التى يعيش فيها الإنسان (البيوت)
والأماكن التى يسعى فيها للتعيش (الحوانيت والأسواق والمزارع) .
- ثم الكسوة ،
- ثم أثاث البيت ، وآلاته
- ثم آلات الآلات
وقد يكون فى الآلات ما هو حيوان كالكلب للصيد ، والبقر للحراثة ،
والفرس للحرب .
ولكي يتم اقتناء هذه الأشياء لابد من الشراء والبيع . وهنا تأتى أهمية الحانوت الذى يتجه إليه المشترى ، ويوجد فيه البائع ، وإذا كثرت الحوانيت فى مكان واحد نشأ السوق. ثم لأن الناس يعيشون فى قرى مختلفة ومدن متباعدة ، مست الحاجة إلى حركة النقل التى يتخصص فيها بعض التجار ، والذين يتكفلون بنقل بضائع الناس من مكان لآخر ، وقد يتعرضون لقاطع طريق أو سلطان جاء يسلبهم ما يحملونه . ومع ذلك فإن الله تعالى جعل فى غفلتهم وجهلهم : نظامًا للبلاد ، ومصلحة للعباد . يقول الغزالى : "إن جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة . ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا فى الدنيا ، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضًا" .
وهنا لابد أن نتوقف لنسأل الغزالى : إذا كانت الدنيا تقوم على هذا الأساس الفاسد ، فكيف يبنى الزهاد عليها أعشاشهم ؟ صحيح أن بعض الحرف ليس لها أساس أخلاقى متين ، لكن تشابك الحرف فى الدنيا هو الذى يؤدى إلى أن يحصل كل إنسان يعيش فيها على ما يتطلبه من حاجاته الضرورية ، أو يزين به حياته من الكماليات الأخرى . وفى تصورى أن هذه هي الحكمة الكامنة فى زينة الدنيا ، التى ينبغى على الإنسان العاقل أن يمر عليها متمتعا بطيباتها ، غير غارق ، فى نفس ، الوقت فى أعماقها ، حتى لا ينسى العمل من أجل الآخرة .
ثم يمضى الغزالى فى تعداد الطوائف ، التى تمارس أنواعًا دقيقة من الحرف والمهن ، فيرى أن الإنسان الذى يريد أن ينقل متاعا وليس لديه دابه ، يقوم بتأجيرها (مهنة الكراء) .
ولما كان تبادل الأشياء والسلع غير معقول ، مثل تبادل ثوب بطعام ، أو حيوان بثوب .. ظهرت الحاجة إلى الاحتكام إلى نوع من المال يطول بقاؤه ، وأبقي الأموال هى المعادن ، وأهمها على الاطلاق : الذهب والفضة ، لذلك فقد اتخذ الناس منها النقود التى أصبحت وسيله البيع والشراء ، واحتاجوا بالطبع إلى (دار للضرب) : سك النقود التى تقوم بالضرب والنفس والتقدير، وهذه كلها حرف لا غنى عنها .
ويرى الغزالى بحق أن هذه المهن والحرف بدون استثناء تتطلب تعلما منذ الصغر ، واتقانا مستمرا بالتعود والتدريب ، لكن البعض قد يتكاسل عن ذلك ، فيصير بدون مهنة أو حرفة ، ولذلك فإنه يلجأ إلى محاولة الحصول على ما يجنيه الآخرون بجهدهم ، وهذا يتمثل فى طائفتيْن : اللصوص والمتسولين . أما اللصوص فمنهم الذى يعمل وحده ويسرق مستخدمًا بعض الحيل التى يستنبطها عقله ، ومنهم من يطلب أعوانا وتصبح له شوكه فيجتمعون ، ويقطعون الطريق .. وأما طائفة المتسولين فإن منهم من لا يقبل على العمل إذا عرض عليه ، ويفضل أن يتحايل على الناس بإظهار الفاقة والعجز ، أو استغلال الشيخوخة .. ومنهم من يلجأون إلى أن يشوهوا بالعمي أنفسهم أو أبناءهم لاستجلاب الشفقة عليهم ، ومد اليد بالإحسان إليهم !
والواقع أن الدهشة لا تكاد تفارقنا من هذا الرصد الواعى والذكى من الغزالى ، الذى سجل هذه الظواهر الاجتماعية التى لم يتنبه لها إلا بعض الأدباء العالميين ، من أمثال فيكتور هيجو فى روايته ( ) وغيره من الذين سحلوا أسلوب (تشويه الشحاتين) لكى يستجلبوا شفقة الجماهير .
غير أن الغزالى ينتهز الفرصة ، فيكشف لنا عن تلك المظاهر الاجتماعية التى لا يضيف أصحابها إلى المجتمع أى اضافة حقيقة ، بل على العكس أنهم يقومون بمحاولة خداعه ، يقول الغزالى : "وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال فى حال التعجب ، ثم قد يندمون بعد زوال التعجب حين ولا ينفع الندم ، وذلك قد يكون بالتمسخر ، والمحاكاة، والشعبذه والأفعال المضحكة ، وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت . والشعر الموزون أشد تأثيرا فى النفس لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كاشعار مناقب الصحابة ، و مقاتل أهل البيت أو الذى يحرك داعية العشق من أهل المجانة ، كصفة الطبالين فى الأسواق وصنعة ما يشبه العوض ، وليس بعوض ، كبيع التعويذات والحشيش الذى يخيل بائعة أنها آدويه ، فيخدع بذلك الصبيان والجهال وكاصحاب القرعة والفأل من المنجمين ، ويدخل فى هذا الجنس : الوعاظ والمكرون (المتسولون) على رؤوس المنابر ، إذا لم يكن وراءهم طائل علمى ، وكان غرضهم استمالة قلوب العوام ، وأخذ أموالهم بأنواع الكديه . وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين . وكل ذلك استنبط بدقيق الفكرة لأجل المعيشة" !
وإلى هنا ، ينتهى الغزالى من الأعمال والأشغال التى تمتلئ بها الدنيا ، وكل منها يشغل طائفة عن المقصود الحقيقى من خلقهم ، ويبعدهم عن الطريق المستقيم الذى كان ينبغى أن يسلكوه .. يقول : "فهذه أشغال الخلق وأعمالهم التى أكبوا عليهم ، وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى (القوت والكسوة) ، ولكنهم نسوا فى أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم ، فتاهوا وضلوا" .
وليتهم وقفوا عند ذلك ، بل إن عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمه الاشتغالات بالدنيا سبق إليها خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على أوجه كثيرة ، تتجاوز السبعين ، لكن الغزالى يقتصر منها على ذكر الطوائف الخمسة التالية :
الطائفة الأولى : غلبها الجهل والغفلة ، فلم تنظر لمصيرها المحتوم، وقالت إن المقصود : أن نعيش أيام الدنيا لنجتهد حتى نكسب القوت ، ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ، ثم نكسب حتى نأكل – فيأكلون ليكسبوا ، ثم يكسبون ليأكلوا – وهذا هو مذهب الفلاحين وأصحاب الحرف ومن ليس له تنعم فى الدنيا ، ولا قدم فى الدين ، فإنهم يتعبون نهارًا ليأكلوا ليلا ، ويأكلون ليلا ليتعبوا نهارا .. وهو عمل لا ينقطع إلا بالموت .
الطائفة الثانية : وهى التى زعمت أنها تفطنت للأمر ، وهو أن المقصود ليس أن يشقى الإنسان فى الدنيا ، بل عليه أن يسعى لتحقيق السعادة ، وإشباع شهوتى البطن والفرج ، وانشغلوا بذلك عن الله واليوم الآخر.
الطائفة الثالثة : ظنت أن السعادة فى كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم فى الجمع والتكديس ، وهم لا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا وبخلا على أموالهم أن تنقص . وهكذا ينحصر همهم فى جمع المال ، ولذتهم فى الحفاظ عليه حتى يحين الموت فيغيهم تحت الأرض ، ويظفر بالمال الذى جمعوه من ينفقه فى اللذات والشهوات فيكون للجامع تعبه ووباله ، وللآكل لذته .
الطائفة الرابعة : التى تظن أن سعادة أفرادها فى حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح والتجمل والمروءة ، فهم يتعبون أنفسهم ويستهلكون أوقاتهم فى جمع المال وتزيين مظهرهم فى الملبس والمسكن والمركب من أجل أن يقع أبصار الناس عليهم ، فيقولوا : إنهم أغنياء ، وأنهم ذوو ثروة .
الطائفة الخامسة : التى تظن أن سعادتهم تكمن فى الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الرعية ، فيلجأ أفرادها إلى تولى المناصب والحصول بأى ثمن على الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم على الناس.
ويرى الغزالى أن هذه الطوائف الخمسة هى الأشهر فقط، ومع ذلك ، فإن وراءها طوائف أخرى كثيرة تصل إلى أكثر من سبعين فرقة كلها هالكة بسبب انحرافها عن المنهج القويم ، والصراط المستقيم الذى تتبعه الفرقة الناجية ، التى تسير على نهج النبوة .
لكن إلى جانب هذه الطوائف المقبلة على الدنيا ، والمستغرقة فى مشاغلها المتعددة والمتشابكة ، توجد طوائف أخرى ، أعرضت عن الدنيا فحسدها الشيطان ، ولم يتركها ، بل أضلها فى الإعراض عن مشاغل الدنيا . ومن هذه الطوائف :
أ- طائفة ظنت أن الدنيا دار بلاء ومحنة ، والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها – سواء تعبد فى الدنيا أو لم يتعبد – فرأت أن الصواب فى أن يقتلوا أنفسم للخلاص من محنة الدنيا – وإلى ذلك ذهبت طوائف من عباد أهل الهند فهم يتهجمون على النار ، ويقتلون أنفسهم بالإحراق ، ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محنة الدنيا .
ب-وطائفة أخرى : ظنت أن القتل لا يخلص ، بل لابد أولاً من إماتةالصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية ، وأن السعادة فى قطع الشهوة والغضب ، ثم أقبلت على المجاهدة وشددت على نفسها حتى هلك بعض أفرادها من شدة الرياضة وفسد عقل البعض الآخر وجن ، والبعض مرض وانسد عليه طريق العبادة ، والبعض عجز عن قمع الصفات بالكلبة، فظن أن ما كلفه به الشرع محال ، وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع فى الإلحاد ، وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله ، وأن الله مستغن عن عبادة العباد ، لا ينقصه عصيان عاص ، ولا تزيده عبادة متعبد ، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة .
جـ-وطائفة ثالثة : ظنت أن المقصود من العبادات : المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله ، فإذا حصلت المعرفة ، فقد وصل الشخص ، وبعد الوصول يستغنى عن الوسيلة فيترك السعى والعبادة ، ويزعم أنه ارتفع فى معرفة الله عن امتهان التكاليف ، وأن التكليف يقتصر فقط على عوام الخلق .
إن هذا التحليل الرائع لمواقف الناس من الدنيا – سواء بالانغماس الكامل فى مشاغلها ، أو الانسحاب منها – يثبت بما لا يدع مجالاً للشك قدرة الغزالى فى الإدراك الواعى بالحقيقة الوجودية للإنسان فى هذه الحياة التى منحت له من الله تعالى . والهدف منها ليس بكل تأكيد عبثا أو بدون غاية ، بل هو محدد الغاية وواضح المعالم . والمعيار العام هنا هو الاعتدال بين التفريط والإفراط . فعلى الإنسان ألا يترك كل شئ من الدنيا ولا يطلب كل شئ من الدنيا ، بل عليه أن يدرك جيدا مقصوده وألا أن يغيب عنه فى لحظة واحدة الهدف من وجوده . فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة ، ومن المسكن ما يحفظه من اللصوص والحر والبرد، ومن الكسوة كذلك – حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكل همته ، واشتغل بالذكر والفكر طول العمر ، وبقى ملازمًا لسياسة الشهوات ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى .
وإذا اراد هذا الإنسان أن يضع أمامه نموذجًا لذلك فعليه أن يكون واحدًا من الفرقة الناجية ، التى حددها الرسول r بأنها هى الطريقة التـــــــــى
اتبعها هو واصحابه ـــــ وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح ــــ حيث أنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا ، بل للدين ، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية ، وما كان لهم فى الأمور تفريط ولا إفراط ، بل كان أمرهم بين ذلك قواما . وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين ، وهو أحب الأمور إلى الله تعالى .
|