تراثنا المخطوط وكيف نستفيد منه ؟
أ .د . حامد طاهر()
لابد أن نحدد أولا ما هو المقصود بـ "التراث" ؟ ومن الممكن أن نتفق على أنه يعنى التركة التى خلفها لنا الأجداد متمثلة فى أربعة مجالات رئيسية هى :
أ- الآثار المادية كالمساجد والقلاع والقصور والمدارس والأسبلة .. الخ
ب- المؤلفات العلمية والأدبية .
ج- الرصيد النفسى المحمل بالكثير من القيم والمبادئ التى تتحكم فى نظرتنا إلى الناس والأشياء.
لكننا سوف نقصر حديثنا هنا على التراث العلمى والأدبى الوارد إلينا مكتوبا باللغة العربية فى هيئة مخطوطات . ولكى نحدد هذا المجال على نحو أدق فلابد من قصره على كل ما سوى القرآن الكريم والسنة النبوية ، باعتبار الأول هو الكتاب المنزل من السماء ، والثانية هى بيان الرسول له وكلاهما داخل فى دائره الوحى الأعلى من مستوى البشر.
أما ما جاء من خارج هذه الدائرة فهو نتاج بشرى خالص ، يتراوح أحيانا بين الدقة والغموض ، ويتفاوت فى أحيان أخرى بين الصواب والخطأ ، وهو يعبر فى كل عصر وجيل عن وجهات نظر مرتبطة بجو ثقافى معين ، وبيئة اجتماعية خاصة.
والتراث الإسلامى يبدأ من كل ما أنتجه المسلمون فى عصر الخلفاء الراشدين ، وخلال العهد الأموى ، والعباسى ثم العثمانى مضافا إليه ما خلفته فترة الإزدهار الأندلسية ، والدولة الفاطمية ، ودويلات الانفصال التى تعاقبت على جسد الدولة – الأم : كالطولونية ، والاخشيدية، والحمدانية والبويهية ، والطاهرية .. الخ
والملاحظ أن هذا التراث العلمى والأدبى لم يطبع ، كما لم يحقق منه الا الجزء الأقل ، فى حين أن مخطوطاته ما زالت ترقد لدينا ، كما فى معظم مكتبات العالم ، بعد أن تم نزحها خلال فترة طويلة من رقاد العقل العربى ، وعدم معرفته بقيمة ما تركة الأسلاف .
لذلك فإننا عندما نتحدث عن التراث العربى الإسلامى ، علينا أن نتحلى بالكثير من الحذر والحيطة – وأيضا التواضع – فى إصدار الأحكام العامة ، نظرا لأن ما لدينا من الوثائق لا يكفى أبدا لتزويد أى حكم عام بالمصداقية اللازمة . وبالتالى فإننا من الممكن أن نقول باطمئنان إن كل ما صدر من أحكام عن هذا التراث لا يخرج عن دائرة الأحكام النسبية ، أو الفروض التى لا ترقى إلى مرتبة القانون الذى يصلح للتطبيق على كل الحالات .
من هذه المقدمات الضرورية ، يمكن الانتقال إلى الموضوع الرئيسى ، وهو كيفية الاستفادة من التراث . ولكى تخرج الإجابة بصورة منطقية من مقدماتها الطبيعية ، فلابد من إلقاء نظرة تحليلية على هذا التراث .
التراث العربى – الإسلامى يمكن تصنيفه عموما فى ثلاث دوائر كبرى ، هى : الدائرة اللغوية والأدبية ، والدائرة الدينية والتاريخية ، والدائرة العلمية .
أ- الدائرة اللغوية والأدبية وتشمل كل ما يتعلق بالجانب التعبيرى بدءا من المستوى المعجمى والدلالى ، ومرورا بمستوى الصحة اللغوية (علم الصرف وعلم النحو) وانتهاء بالمستوى البلاغى ، وما ينتج عن ذلك من جوانب أدبية خالصة (تشمل الشعر والنثر) أو نقدية تحتوى على مقاييس الحسن والقبح فى كل منهما .
ب- الدائرة الدينية والتاريخية ، وتحتوى على كل ما يتعلق بدراسات القرآن الكريم والسنة النبوية ، وما نتج عن بحثهما من علوم ومعارف ، وتضم علم القراءات ، والتفسير ، وعلوم الحديث ، وعلم الفقه ، وعلم أصول الفقه ، وعلم أصول الدين (أو الكلام) وما يتبعه من آداب البحث والمناظرة . ويرتبط بهذه الدائرة علم التصوف والأخلاق، ولا تكتمل إلا بالتاريخ الذى يمثل الخلفية التى تفسر معظم الظواهر التى نشأت وتطورت داخل هذه العلوم والمعارف .
ج- الدائرة العلمية وتحتوى على مجموعة العلوم الرياضية والتجريبية التى استوردها أسلافنا من الحضارات السابقة ، وأسهموا بنصيب وافر فى الحفاظ عليها وتطوير الكثير من عناصرها ، ومن ذلك : علم الطب ، والصيدلة ، والنبات ، والحيوان ، والفلك ، والملاحة ، والطبيعة ، والكيمياء ، ثم الرياضيات من حساب وجبر وهندسة ، وما ينتج من تطبيقات فيما أطلقوا عليه علم الحيل (الميكانيكا) والموسيقى .
تلك هى الدوائر الثلاث التى يمكن أن ينتظم فيها التراث العربى – الإسلامى. ومن الواضح أن وضعها بهذا الشكل سوف يتقدم بنا خطوة إلى الأمام من أجل الوصول إلى إجابة سؤالنا الرئيسى:كيف نستفيد من التراث ؟
وفى البداية يمكن ملاحظة أن بعض علوم التراث تعتبر نتاجا عربيا وإسلاميا خالصا ، بينما يعتبر بعضها الآخر نتاجا وافدا من الأمم والحضارات الأخرى . ومن المعروف أن أى مجتمع لا يخترع علما ، أو يلجأ إلى إستيراد علم إلا عندما تكون لديه حاجة ملحة لذلك . وهذا يثبت أن المجتمعات الإسلامية السابقة قد واجهت مشكلاتها بمجموعة هذه العلوم، كما أنه يفسر فى نفس الوقت مدى ازدهار بعض العلوم أو غلبتها بالنسبة إلى بعض العلوم الأخرى .
فمثلا نجد أن الانتاج الأدبى يفوق إلى حد كبير الانتاج العلمى ، كما أن كلا من علم الفقه وعلم الكلام والتصوف أغزر مادة من علوم النبات والفلك والكيمياء . إن زيادة حجم المؤلفات فى مجال معين لا شك أنه يعكس اهتماما خاصا من المجتمع ، وهذا يؤدى عادة إلى رواجها وازياد نشاط المؤلفين فيها .
إن نفس الشيء يحدث اليوم فى حياتنا المعاصرة . وإذا كنا قد توقفنا عن اختراع علوم جديدة ، أو الابداع فى علوم أخرى ، نتيجة لعوامل كثيرة لا يصعب تحديدها ، فإننا نقوم باستيراد ما تم انتاجه فى العالم من علوم . وحاجتنا هى التى تحدد مدى الإقبال على هذه العلوم ، وبالتالى مدى رواجها وانتشارها (لاحظ الاهتمام الحالى بعلوم الاتصال ، والاعلام ، والحاسب الآلى) .
لكننا فى نفس الوقت ما زلنا نحتفظ ببعض علوم التراث بنفس درجة أهميتها وانتشارها . ومن ذلك مثلا علوم اللغة والأدب والفقه والكلام . وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح : استمرارية التراث .
وهذا يعنى أننا لابد أن نسير فى خطين متوازيين هما : الاستيراد والاستمرارية . والاستيراد يعنى متابعة ما يستجد فى العالم من علوم ، تساعدنا على حل مشكلاتنا الجديدة ، أما الاستمرارية فتعنى المحافظة على علومنا التراثية ما دامت تلبى حاجة حقيقية فى حياتنا المعاصرة .
وهنا لابد من بعض التفصيل . فإننا نحتاج إلى الاشتغال بعلم من العلوم لأن لدينا مجموعة من المشكلات التى يهدف هذا العلم إلى حلها. وذلك هو المقياس الذى ينبغى أن يحدد استيراد أو استمرارية أى علم من العلوم ، سواء كان هذا العلم من علوم التراث ، أو من العلوم الوافدة .
وإذا سلمنا بهذا المقياس ، أصبح من السهل علينا استعراض علوم التراث واحدا واحدا لمعرفة مدى ما نحتاج إليه مما لم نعد بحاجة إليه . وقبل هذه المواجهة الضرورية لابد من التنبيه إلى أن الاستغناء عن أى علم من علوم التراث لا يعنى إهماله تماما أو نفيه خارج منظومتنا التراثية، وإنما المقصود من ذلك هو حفظه فى صورته التاريخية كأثر لنشاط ذهنى يستحق أن يكون موضوعا لعلم خاص ، يطلق عليه اسم تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين.
وسوف أقتصر هنا على بعض الأمثلة التى أرجو أن تكون ذات دلالة كافية على ما أقصد الوصول إليه. وأبدأ بمثال من علم النحو الذى وضعه العرب لحفظ اللسان من الخطأ فى التعبير. إن هذا العلم العظيم الذى بذل فيه أجدادنا جهدا رائعا ، يتمثل فى تحليل الجملة العربية إلى أبسط مكوناتها ، وفى دراسة كل مكون منها على حدة ، ثم فى اتصال بعضها ببعض ، وإصدار الأحكام التى تضبط هذه الفروع المتناثرة مع تعليل كل حكم بحيث تصبح له حكمة .. إنه بناء عقلى فى غاية الدقة والاكتمال .
لكننا إذا تفحصنا جيدا التراث النحوى وجدناه يشتمل على مجموعة محدودة جدا من قواعد اللغة ، وحشدا هائلا من فلسفة هذه القواعد ، ووجهات النظر المختلفة بل المتضاربة حولها. ومن المدهش حقا أن يكون لكل صاحب رأى حجته القوية ، بل الأكثر إدهاشا أن تتساوى هذه الحجج، فى بعض الأحيان ، بحيث يصعب على الباحثين الميل إلى واحدة منها دون الأخرى (تأمل مثلا موضوع اسم الفاعل وتردد الباحثين فيه حتى الآن بين اعتباره اسما أو فعلا ، وكذلك موضوع المصدر والفعل : أيهما أصل الآخر ؟!) .
وهكذا فإن التراث النحوى يشتمل على جانب كبير من تاريخه ، وفلسفته ، وصراع المدارس حوله. ونحن الآن – على ما أحسب – فى غنى عن كل ذلك ، والذى نحتاج إليه فقط هو معرفة مجموعة القواعد الأساسية وكيفية تطبيقاتها على اللغة ، حتى تستقيم عبارتنا المكتوبة والمقروءة ، ونتمكن فى نفس الوقت من نطق اللغة العربية نطقا صحيحا يؤدى إلى فهمها فهما صحيحا .
هذا هو مفهوم الاستمرارية ، أى استخراج ما يفيدنا من كل علم من علوم التراث فى حياتنا المعاصرة ، مع الاحتفاظ بأجزائه الأخرى للدرس التاريخي ، الذى يمكن أن يتخصص فيه عدد محدود من الباحثين المتعمقين ، وهؤلاء قد نلجأ إليهم أحيانا لاستيضاح مسألة غامضة ، أو معرفة تعليل حكم ما .
ومثال ثان من دائرة العلوم الدينية وهو علم القراءات ، الذى يعد علما أساسيا يعلمنا كيفية الآداء الصحيح للقرآن الكريم ، مطابقا لما كان ينطقه به الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لقد وصلتنا سبع قراءات ، أو عشر. وكل قراءة منسوبة إلى أحد الصحابة ، رضى الله عنهم ، وموصوفة وصفا صوتيا دقيقا ، لا نعثر على مثيل له فى تاريخ أى كتاب سماوى آخر. وبالطبع هناك خلافات فيما بينها من حيث الوقف والوصل ، والترقيق والتفخيم ، والإمالة والإطالة .. الخ . وإذا كان التقدم التكنولوجى فى عصرنا الحاضر قد وضع بين أيدينا إمكانية التسجيلات الصوتية الواسعة الانتشار، فمن الممكن أن نقوم بتسجيل كل قراءة من القراءات السبع أو العشر تبعا لوصفها الوارد فى كتب القراءات ، ونشرها بين الناس على هذا النحو ، مع التقديم لها بنبذة عن القيمة التوثيقية لكل منها .
إننا هنا أمام وسيلة أخرى للإفادة من أحد العلوم الدينية عن طريق استخدام التكنولوجيا الحديثة ، دون أن نهمل كم المؤلفات القيمة التى وضعت فى هذا المجال . وبهذا الشكل نكون قد وضعنا نتائج العلم موضع التطبيق العملى . ولا شك أن هذا كان هو الهدف الأساسى منه ، ولكنه غاب فى زحام كتب الشروح والخلاف التى كثرت فيه .
وفى مجال علوم الحديث . لدينا علم الجرح والتعديل ، الذى يرصد أحوال الرواة بهدف الكشف عن صحة الأحاديث أو ضعفها . ونحن نواجه فى هذا الصدد بمؤلفات ضخمة ومتعددة ، وبآلاف الأسماء التى تستعصى على الحصر ، وتشتت بالتالى جهود الباحثين أنفسهم . ولكن الكمبيوتر بإمكانياته الهائلة يمكنه أن يستوعب هذه الأسماء بسهولة ، وأن يساعدنا على تصنيفها ، وسرعة استحضارها موفرا بذلك أداة للتعرف عليها ، وبالتالى يسهل علينا معرفة حكم الحديث من حال رواته .
أما علم مصطلح الحديث ، فمن الممكن أن نستفيد فى تطويره من أحدث نظريات علم اللغة الحديث ، والتى أصبحت تطبق بنجاح على الأعمال الأدبية ، وتأتى بنتائج طيبة . ومن ذلك أسلوب "البصمة اللغوية" الذى يقوم على أن لكل إنسان بصمة خاصة فى التعبير ، يمكن تجميعها من استخداماته المتنوعة للغة ، ومن لوازمه التى يكررها ، وألفاظه التى يحرص على استخدامها ، وعباراته التى يكثر من تردادها . ولا شك أن دراسة لغوية فاحصة للأحاديث النبوية يمكن أن تقدم لنا (بصمة لغوية) خاصة ، تساعدنا فى التعرف على الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة ، وذلك بالطبع إلى جانب ما وضعه أسلافنا فى علم مصطلح الحديث من مقاييس. وبهذا الأسلوب يمكننا أن نحرك السكون فى علوم من التراث ، لم تعد تحظى بأى قدر من التطوير ، مما أدى إلى إهمالها ، مع أن الحاجة إليها شديدة ، وستظل كذلك ، لأنها تتعلق – فى حالتنا تلك – بالمصدر الثانى للإسلام ، وهو السنة النبوية .
ولا يسعدنى أن أترك دائرة العلوم الدينية دون أن أتوقف قليلا عند علم أصول الدين ، أو ما أطلق عليه اسم علم الكلام . والنشأة الأولى لهذا العلم تبين أن من أهم أهدافه ، الدفاع عن عقيدة الإسلام بالأدلة العقلية التى استخدم مثلها الخصوم ، ثم ما لبث أن انقلب الخلاف فى هذا العلم بين طوائف المسلمين أنفسهم . وهنا مؤلفات كثيرة جدا تفوق الحصر. وينبغى ألا تحجبنا كثرتها الساحقة عما يمكننا أن نستفيده منها ، وهو جلاء العقيدة الإسلامية البسيطة بأسلوب عقلى يقنع غير المسلمين ، كما يؤكدها فى نفوس المسلمين أنفسهم . وكلا الأمرين يظل هدفا مطلوبا على مر العصور . ولعلنا اليوم فى أمس الحاجة إلى هذا العمل ، ولكننا لم نعد بحاجة إلى استحضار ذلك الصراع التاريخى القديم بين الفرق الإسلامية ، وهو ما ينبغى أن يظل تاريخا ، أو بعبارة أدق ، محفوظا فى مكانه المناسب من التاريخ .
إن هذا يقودنى إبراز فكرة لعلها اتضحت الآن ، وهى أنه فى داخل كل علم تراثى ينبغى التمييز بين جانبه التاريخى ، وبين ما يمكن أن نستفيده منه بصورة عملية فى الوقت الحاضر . ولا شك أن هذا التمييز لا يتم إلا على أساس معرفة عميقة بطبيعة كل علم ، وظروف نشأته وتطوره، وأبرز أعماله وأعلامه ، ولا شك أن القادرين على مثل هذا العمل قلة نادرة . وهم يعملون فرادى ومتناثرين . وفى الوقت الذى تجمع فيه جهودهم يصبح من السهل إنجاز هذه المهمة .
أنتقل إلى دائرة التراث العلمى ، وقد اتضح الآن مقياس التمييز بين تاريخ العلم ، وبين أغراضه العملية . وهنا تصبح المهمة أكثر سهولة. فالطب العربى فى جانبه التاريخى إنجاز إنسانى رائع ، ولكنه فى الوقت الراهن لا يمثل إلا مرحلة الطفولة أو المراهقة فى عمر الطب المديد . وهنا يدخل هذا الجانب فيما يمكن أن نطلق عليه : تاريخ العلوم عند العرب أو المسلمين ، بعد أن نوسع مفهوم هذا التاريخ ، ونحدد الغرض الجديد منه .
نفس الأمر ينطبق على علوم كالفلك والنبات والحيوان والكيمياء . ولا غضاضة على الإطلاق من أن يتناولها تاريخ العلوم كإنجازات قام بها أسلافنا فى فتراث زمنية معينة ، وكانت تمثل فى وقتها قمة التطور العلمى فى العالم . وإذا كان يوجد الآن فى جامعات الغرب فرع يدرس على استحياء باسم "تاريخ العلوم عند العرب" فإنه مقصور على الدائرة العلمية وحدها. أما الذى أطرحه هنا فهو أن يتسع هذا التاريخ ليشمل من داخل الدائرتين اللغوية والدينية بعض جوانب العلوم الموجودة بهما . وبذلك يتسع مجاله من ناحية، ويتأكد من ناحية أخرى مدى إسهام العلماء المسلمين فى الحركة العلمية والفكرية ، باعتبارهم يمثلون حلقة وسطى بين العلم القديم فى عصر الاغريق وبين عصر النهضة فى أوربا .
الميدان إذن مفتوح لعمل كبير . لكن لابد من التخطيط لإنجازه على مراحل ، وإذا كنا غير قادرين فى المرحلة الحالية على تحقيق المخطوطات العربية بالكامل ، فما علينا إلا أن نحاول الاستفادة مما تم تحقيقه . لأنه من غير المعقول أن نظل فى انتظار تحقيق التراث العربى – الإسلامى ، دون أن نبدأ فى الاستفادة مما ظهر منه حتى الآن. والبداية هنا تتمثل فى تحديد الغرض من كل علم ، وإعادة تقييمه فى ضوء احتياجاتنا الحالية ، وبذلك يدخل هذا الجانب الحى من التراث فى نسيج حياتنا الثقافية ، ويمكن أن يطبق بسهولة فى حياتنا العملية .
1- أليس من المؤسف أن نظل حتى اليوم بدون كتاب مبسط وفعال ومعتمد يمكن الاستعانة به فى تعلم اللغة العربية وتعليمها لأبنائنا ولغيرنا ، فى نفس الوقت الذى بذل فيه أسلافنا جهودا تفوق الوصف فى خدمة اللغة العربية ؟
2- أليس من المؤسف أن نظل حتى اليوم بدون معجم معاصر للغة العربية ، يكون سهل التناول ، وجامعا لكل ما يحتاجه الإنسان العربى على كافة مستوياته الثقافية ، كما هو الحال فى المعاجم الإنجليزية والفرنسية والألمانية ... الخ ، وذلك فى الوقت الذى يعد فيه أسلافنا هم رواد صناعة المعاجم اللغوية فى العالم كله ؟
3- أليس من المؤسف أن نظل حتى اليوم بدون كتاب فى مجلد واحد يضم تاريخ الإسلام والمسلمين : نشأة وتطورا وازدهارا ، ثم ضعفا ومحاولة للنهوض من جديد ؟
4- ثم أليس من المؤسف أن نظل حتى اليوم بدون موسوعة فقهية مبسطة ومتكاملة ، تجيب كل مسلم عما يعن له من أسئلة ، وتقدم عرضا شاملا لمختلف المذاهب والآراء التى قيلت حول مسألة معينة ؟
5- وأخيرًا .. أليس من المؤسف أن نظل حتى اليوم بدون دائرة معارف إسلامية ، صحيحة وموثقة ، يستطيع أن يطمئن لها القارئ الذى يرغب فى استجلاء أى جزئية من جزئيات الحضارة الإسلامية ، بدلا من الاعتماد على دائرة المعارف الإسلامية التى وضعها الغرب ، وأعاد صياغتها حتى الآن مرتين ؟
إننى لا أذكر هذه الأمثلة الخمسة إلا لكى ألفت الأنظار إلى غياب الأغراض الحقيقية عنا فيما يتعلق بقضية إحياء التراث . ذلك أن العناصر الأساسية التى تتطلبها هذه الحاجات الغائبة موجودة فى قلب التراث العربى والإسلامى ، ولا تحتاج منا إلا لمسة بسيطة لإعادة تصنيفها ، وجعلها فى متناول الناس. ومن أبرز النماذج فى هذا الصدد ما يتعلق بعلم أصول الفقه ، وهو كما يقال بحق : منطق الشريعة الإسلامية . إن الغرض الأساسى من هذا العلم هو تدريب الفقيه على الاجتهاد ، وتمكينه منه . فإذا لاحظنا أن معظم المؤلفات الرئيسية فى هذا العلم قد طبعت أو حققت ، ولم يخرج لنا منها المجتهد المنشود ، أدركنا أننا قد "كدسناها" دون أن نستفيد منها على النحو المنشود .
وهنا أصل إلى نقطة هامة ، وهو ما أصبح يطلق عليه "نقد التراث" . وفى البداية لابد من التحفظ على من يتهم التراث بالرجعية والتخلف ، والخلو من الفائدة . وفى نفس الوقت عدم الموافقة مع من يعتبره كله مليئا بالفوائد . فكلا الموقفين تطرف : موقف الذين يصفون التراث بالجمود ، ومن ثم يهملونه ، وموقف الذين يضفون عليه القداسة ، ويرفضون كل ما سواه .
إن التراث محصلة عمل إنسانى خالص ، ومعنى هذا أنه قابل دائما للصواب والخطأ . أما مسألة إضفاء العصمة عليه فهى مسألة سيكلوجية ، ترجع إلى أن كل ما هو بعيد عنا فهو كامل ومتسام . ومما ساعد على ذلك أن الأجيال السابقة قد كرست تلك القداسة بمجموعة من العوامل ، من أهمها إضافة ألقاب فخمة على العلماء من أمثال (شيخ الإسلام ، حجة الإسلام ، الشيخ الأكبر ، الإمام الأكبر ، وكذلك المعلم الثانى ، والشيخ الرئيس .. الخ) ومن العجيب أن تكريس هذه العصمة يتعارض مع ما ورد إلينا فى قلب التراث نفسه ، من أمثال الأثر القائل (رأيى صواب يحتمل الخطأ ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب)، (لا تعرف الحق بالرجال ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله )وقول الإمام مالك (كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك ، إلا صاحب هذا القبر ) أى الرسول ، صلى الله عليه وسلم .
لكن نقد التراث لا يعنى بأية حالة التجرؤ على أعلامه ، أو الاستهانة بإنجازاته ، وإنما تناول كل رأى بالفحص والتحليل ، ومحاولة الإلمام بالظروف الاجتماعية والثقافية التى أحاطت به ، مع الاستعانة بكل ما أتاحه التقدم العلمى فى الوقت الحاضر من وسائل السبر ، وأدوات المقارنة للوقوف على مدى ما فى الآراء من جوانب الضعف والقوة ، وما تحتوى عليه من قدرة على الانتاج والاستمرار . وطالما أن الهدف هو الرغبة فى الاستفادة من التراث ، فلن يكون هناك رفض بدون مبرر ، أو استبعاد بدون سبب .
وعلى أنصار التراث ، ألا يخشوا عليه من مثل هذه الحركة النقدية مهما كانت صارمة ، فإن هذا هو السبيل الوحيد لجعل التراث ينطق بما فى داخله. وقد أثبتت التجربة أن نشر المخطوطات بصورة حديثة ، وتجليدها تجليدا فاخرا ، ووضعها فى المكتبات العامة والخاصة لا يخرج عما أسميته "تكديس التراث" وهذا معناه أننا عندما نقوم بنقل التراث من حالته المخطوطة إلى المطبوعة فإن هذا لن يبعث فيه ولا فينا الحياة ، وإنما على العكس تماما نحن الذين ننفخ فيه الحياة ، عن طريق قراءته ، وتحليله ، ونقده ، لمعرفة ما فيه من جواهر أو حصى .
إن كل ما فى التركة لا يستحق التوزيع . وهناك الكثير مما أنتجه أسلافنا فى العصور السابقة لا ينبغى التوقف عنده كثيرا : إما لأن الزمن قد تجاوزه ، وإما لأنه هو نفسه غير قادر على مواصلة الانتاج ، ومن ذلك مثلا : علوم السحر ، والتنجيم ، والفراسة ، والعيافة ، والسيمياء ، وأسرار الحروف .. ومع ذلك فإن أمثال هذه العلوم والمعارف ينبغى أن تدرس ، ويحتفظ بها كعلامة على نشاط ثقافى ، كان يلبى حاجات اجتماعية ، فى فتراث تاريخية معينة . ولا مانع من البحث عن أسباب نشأتها وتطورها ، ومعرفة العوامل التى أدت إلى ظهورها واختفائها.
وهكذا فإن كل نص تراثى يتم تحقيقه ينبغى أن نقوم على الفور بطرح سؤالنا الأساسى أمامه ، وهو : ما الذى نستفيده منه فى حياتنا الثقافية والاجتماعية المعاصرة ؟ فإذا وجدنا فيه نفعا أخذناه ، وإذا لم نجد أحلناه إلى المختصين بتاريخ العلوم عند العرب لكى يصنفوه فى بابه .
والنتيجة أن التراث بهذا المفهوم يصبح وسيلة فى أيدينا ، وليس غاية ، بمعنى أننا نحن الذين نستخدمه ، ونطوعه ، بل ونوجهه أيضا لخدمة أهدافنا القريبة والبعيدة . وإذا كان قد مضى على الوعى بأهمية التراث حتى الآن ما يقرب من قرن ونصف فإن الأوان قد آن لتحويل هذا الوعى إلى إرادة وإلى خطط وإجراءات . وأنا أقترح أن نبدأ ببعض التجارب الأولية فى بعض المجالات القريبة من حاجتنا واهتماماتنا ، وليكن مثلا فى مجالى النحو العربى ، والفقه الإسلامى.
هذا هو تصورى لكيفية الاستفادة من التراث ، على نحو عملى ينفعنا فى حياتنا المعاصرة ودون الدخول فى متاهات أو نظريات معقدة تجعل من التراث "لغزا" نتسلى بحله ، أو "ضريحا" نظل ندور حوله دون أن نصل إلى غاية محددة ، وهنا سؤالان يحسمان القضية :
الأول : هل من المتصور مثلا أن نظل جالسين فى انتظار تحقيق كامل التراث العربى حتى نبدأ فى الاستفادة منه ؟
والثانى : هل من المتصور أن نظل نطبع التراث ، بمعنى أن نخرجه من الحالة المخطوطة إلى المطبوعة ، ثم نقوم بعد ذلك بتكديسه على أرفف المكتبات دون أن نستخرج ما فيه بالفعل من فائدة حقيقية ؟
***
|