عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
الثقافة الإسلامية ومكوناتها المعرفية صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الثلاثاء, 10 مارس 2015 11:14

الثقافة الإسلامية ومكوناتها المعرفية


أ .د . حامد طاهر

 

 


الثقافة بصفة عامة من أكثر المسائل استعصاء على التحديد والحصر ، وغالبا ما يقع المتحدثون عنها فى التعميم والتهويم دون أن يقدموا للمتلقى إجابات محددة عن أسئلة محددة ، لذلك فإننى أرجو أن أتجنب هنا هذا العيب ، محاولا أن أخلص إلى المقصود من أقرب طريق، وأن يتسم حديثي بكثير من الدقة والوضوح معا.


وأبدأ أولا بتعريف الثقافة الإسلامية بأنها مجموعة المعارف والمفاهيم التي يمكن أن يتزود بها الإنسان المسلم في العصر الحاضر ، بحيث تجعله قادرا على إدراك الواقع المحيط به ، سواء كان محليا أم عالميا ، واتخاذ الموقف المناسب منه ؛ لأن الثقافة لا تقتصر فقط على المدركات الذهنية ، وإنما تمتد أيضا لتشمل السلوك والتصرفات. فنحن لا نستطيع أن نعرف الهوية الثقافية للشخص الصامت أمامنا حتى يتحدث ، كما أننا لا نستطيع أن نحكم على مستواه الثقافي حتى يقوم بسلوك معين يثبت أنه كذلك ، أي يستحق هذا الوصف .


ويمكن تشبيه الثقافة الإسلامية بمجموعة من الدوائر التي يتوسط في مركزها : القرآن الكريم. فهو مصدر الإسلام الأول ، وباعث حضارة المسلمين ، ومن نعم الله تعالى على العرب أنه نزل بلغتهم ، فهو سهل الورود بالنسبة إليهم ويقرأونه مباشرة ، ويتدبرون آياته ، أما غير العرب فليس أمامهم إلا ترجمات معانيه ، وكلما كانت تلك الترجمات دقيقة أصبح الوصول إلى مضمونه متاحا.


والقرآن الكريم يتضمن أربعة مجالات رئيسية هى : أولا (العقيدة)، التى تقوم على الإيمان بالله الواحد ، الخالق الرازق الباعث ، ثم على الإيمان بالآخرة وما تشتمل عليه من جزاء وثواب وعقاب. وهو يؤكد هذه العقيدة بإيراد أحوال الأمم السابقة، والأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إليها ، وردود فعلهم التي قابلوهم بها، ثم المصير الذي انتهوا إليه ، وتلك من السنن الإلهية التى لا تتخلف. وكذلك يتضمن القرآن الكريم ثانيا تحديد (عبادة الله تعالى) فى الشعائر الأربعة : الصلاة ، فالصوم ، فالزكاة ، فالحج : متى وكيف تتم؟ وقد بينها الرسول  من خلال سنته العملية.


كما يتضمن القرآن الكريم – ثالثا – الإرشاد إلى (فضائل الأخلاق) التى ينبغى أن يتحلى بها المسلم ، والتحذير من الأخلاق السيئة التى لا يليق به أن يقترب منها. ورابعا – يحتوى القرآن الكريم على مدونة من (التشريعات) التى تتعلق بجوانب مهمة من حياة الفرد ، والأسرة ، والمجتمع وأخيرا ، وليس آخرا ، يتناثر فى القرآن الكريم عدد كبير من السنن الإلهية ، أو القوانين التى لو تنبه لها قراؤه لوضعوا أيديهم على كنز من الحقائق والفوائد التى تنفعهم فى الدنيا والآخرة ( أنظر فى هذا الصدد كتابنا بعنوان: قوانين القرآن ) .


ويأتى بعد القرآن الكريم سيرة الرسول وسنته التى تعد بيانا عمليا لكل المبادئ والقيم الواردة فى القرآن الكريم . فهو أفضل من يفسر ويشرح ويطبق هذه المبادئ والقيم ، ومن أفعاله وأقواله يمكن الوقوف على أن القرآن الكريم كتاب قابل للتطبيق فى الحياة العملية. وقد أشارت السيدة عائشة ، رضى الله عنها، إلى هذا المعنى عندما سئلت عن خلق الرسول فقالت : "كان خلقه القرآن" . ومن حسن حظ المسلمين المعاصرين أن الله تعالى قد هيأ لهم نخبة من العلماء الثقاة الذين كرسوا حياتهم وجهدهم لجمع السنة النبوية وتصنيفها وتبويبها فيما يعرف بكتب الصحاح الستة ، وهى : (صحيح البخارى ، وصحيح مسلم ، سنن أبى داود ، سنن ابن ماجه ، سنن النسائي ، سنن الترمذي) وذلك بالإضافة طبعا إلى (موطأ مالك ، ومسند ابن حنبل) ، والواقع أن أى واحد من هذه المجاميع المعتمدة يضع في يد المسلم المعاصر المصدر الثانى للإسلام ، وحسبه فى هذا الصدد قول رسول الله  : (قل هذه سبيلي ، أدعوا إلى الله على بصيرة ، أنا ومن اتبعنى) والبصيرة هنا هى التيقن من صحة المبدأ ، والإحاطة بالموقف الموجود فيه المسلم من كافة جوانبه .


وقد نشأت حول هذين المصدرين الرئيسين للإسلام : القرآن الكريم والسنة النبوية منظومة متنوعة ومتكاملة فى نفس الوقت من العلوم ذات أهداف محددة ، ومن واقع الاهتمام الشديد بهما ، والحرص على نقلها من جيل إلى جيل : حول القرآن الكريم نشأ علم القراءات لضبط تلاوته ، وعلم النحو لصحة نطقه ، و(علوم البلاغة) لبيان إعجازه البيانى ، ثم (علم التفسير) لشرح ألفاظه وعباراته ، والإشارة إلى أسباب نزول آياته ، و(علم الفقه) لاستخراج الأحكام الشرعية منه ، ثم (علم الكلام) للدفاع عنه ضد افتراءات خصومه ، و(علم أصول الفقه) لترتيب مصادر التشريع وتكوين الفقيه المجتهد ، وأخيرا ظهر (علم التصوف) الذى ركز أصحابه على الجانب الروحى.


أما السنة النبوية فقد نِشأ بعد جمعها علمان مهمان : (علم مصطلح الحديث) لبيان درجة كل حديث من حيث التواتر والصحة والضعف .. الخ و(علم الجرح والتعديل) الذى بحث فى أحوال الرواة وحدد مكانة كل منهم من حيث الوثاقة أو عدمها . كما كانت سيرة الرسول مقدمة تمهيدية لنشأة (علم التاريخ) لدى المسلمين ، والذى توجه ابن خلدون بمقدمته الشهيرة التى اشتملت على بذور (علم الاجتماع البشرى)، و(فلسفة التاريخ) ،بالاضافة طبعا إلى الأدب بفرعيه من الشعر والنثر.


تلك هى منظومة العلوم الإسلامية التى نشأت حول القرآن الكريم والسنة النبوية ، ومثلت فى مجموعها ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (الثقافة الإسلامية الكلاسيكية) باعتبار أنها الثقافة التى كونت الرصيد الأساسى للمسلمين : علماء ومتعلمين ، خلال مسيرتهم عبر القرون ، وحتى اليوم ، حيث نجدها – بهذا الشكل – موجودة فى معاهد التعليم التقليدية ، كالأزهر فى مصر ، والزيتونة فى تونس ، وفاس فى المغرب ، ومعظم الجامعات السعودية ، والخليجية ، إلى جانب الجامعات الإسلامية فى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا وماليزيا ، وهى التى يقوم عليها نظام التعليم الإسلامى فى مجموعة دول الكومنولث الإسلامى ، مثل كازخستان وأوزبكستان بل إن الحسينيات فى ايران والعراق ما زالت تدور حول هذه المنظومة التعليمية. والخلاصة أنها هى التى تكون ثقافة المسلم المعاصر حتى اليوم.


لكن هل كانت هذه المنظومة الثقافية الإسلامية (اللغوية والدينية) هى وحدها الموجودة عند المسلمين ؟


كلا بالطبع ، فإلى جانبها كانت توجد منظومة أخرى مستمدة مما أطلق عليه المسلمون مصطلح (علوم الأوائل) وهى تلك العلوم التى لا تختص بملة معينة ، على حد تعبير ابن خلدون . لكننا نجدها مبسوطة على نحو أكثر دقة وتفصيلا لدى الفارابى (ت339هـ) فى كتابة الرائع "إحصاء العلوم" الذى قسم فيه العلوم كلها إلى ثمانية ، هى :


1- علم اللسان. 5- العلم الإلهى.

2- علم المنطق. 6- العلم المدنى.

3- علم التعاليم. 7- علم الفقه.

4- العلم الطبيعى. 8- علم الكلام.


وتحت كل قسم من هذه الأمهات الثمانية توجد فروع كثيرة . ويلاحظ أن بعض هذه العلوم عربى – إسلامى ، وبعضها الآخر وافد من الأمم السابقة ، لكن المسلمين اقتبسوه وطوروه ، وأدخلوا فى بنية معارفهم ، ومن ذلك :


علم المنطق ، وعلم التعاليم ، والعلم الطبيعى ، والعلم الإلهى (الميتافيزيقا عند اليونان) والعلم المدنى (الذى يتضمن علم السياسة لدى اليونان) ويكفى فقط أن نتأمل تفصيلات علم التعاليم التى تشتمل على سبعة علوم ، هى :


1- علم العدد (المجرد والعملى) .

2- علم الهندسة (دراسة الخطوط ، والسطوح ، والمجسمات) .

3- علم المناظر (الذى يدرس الشعاعات المستقيمة وغير المستقيمة = المرايا) .

4- علم النجوم (الفلك) .

5- علم الموسيقى (ويشمل : علم الأصوات البشرية ، وعلم الآلات التى تصدر الألحان).

6- علم الأثقال (ويشمل : علم الموازين ، وعلم الآلات التى ترفع بها الأشياء الثقيلة) .

7- علم الحيل (الهندسية) (صناعة الآلات التى يطلق عليها حاليا مصطلح: التكنولوجيا) .


تلك فقط مجرد لمحة سريعة عما كانت تتضمنه منظومة العلوم العقلية والتجريبية التى وجدت إلى جانب منظومة العلوم الإسلامية الخالصة ، لكننا نلاحظ على هذه المنظومة أمرين :


الأول : أنها لم تكن تحظى بنفس المكانة التى احتلتها المنظومة الدينية لدى المسلمين . والدليل على ذلك أنها لم تكن يتم تدريسها بنفس مستوى تدريس المنظومة الأولى ، وكانت تقتصر على بعض العلماء – الهواة الذين تخصصوا فيها ، وتميزوا أيضا ، بعيدا عن تشجيع جمهور المسلمين ، وإنما فقط برعاية بعض الحكام الذين أدركوا قيمتها ، لذلك فإنها كانت تختفى بوفاتهم ، أو مغادرتهم السلطة .


الأمر الثانى : أن العلماء المتميزين فى هذه العلوم لم تكن لهم مدارس علمية يمارسون فيها بحثهم العلمى وسط تلاميذ ، يمكنهم أن ينقلوا عنهم ما توصلوا إليه من نتائج ، لذلك فإن أبحاثهم المتميزة وتجاربهم كانت عبارة عن ومضات خاطفة ما يلبث الجو المحيط بها أن يقضى عليها ، وهذا هو السبب فى أن بعض عناصر المنهج التجريبى التى اكتشفها المسلمون بالفعل ، لم تتحول إلى تيار عام ينزع منطق أرسطو العقلى عن سلطانه ، كما حدث فى أوربا فى مطلع عصر النهضة .


ومن الناحية التاريخية ، سوف تظل منظومة الثقافة الدينية واللغوية لدى المسلمين هى السائدة بامتياز طوال عصور التاريخ الإسلامى ، وفى مختلف الأقاليم حتى بداية العصر الحديث . والدليل على ذلك استمرار هذه الثقافة بفروعها التى سبق أن ذكرناها هى التى تدرس حتى الآن فى مراكز العلم والتعليم الكبرى فى العالم الإسلامى .


وعلى الرغم من ظهور المدارس والجامعات المدنية التى اهتمت بالعلوم الحديثة (التى كان يعرفها المسلمون قديما!) فإن الثقافة الدينية الإسلامية ظلت هى المسيطرة على المجتمعات الإسلامية فى عمومها ، وما زال الجمهور يختص أساتذتها بلقب "علماء" ويضعهم فى مكانة أسمى من الباحثين فى علوم الدنيا !!


ولا شك أن المسألة هنا تحتوى على سوء فهم كبير مضى عليه تاريخ طويل من الصمت والتجاهل . فالقرآن الكريم يدعو المسلمين جميعا إلى ضرورة إعمال العقل ويشجعهم على البحث والتأمل فى ملكوت السماوات والأرض ، ويؤكد لهم أن الله تعالى قد سخر لبنى آدم كل ما فيهما ، ولا يتحقق الهدف من التسخير ، إلا بمعرفة السنن الإلهية (القوانين العلمية) التى تحكم الظواهر لكى يتم التحكم فيها ، والاستفادة منها .


ومن المقرر أن هذا كله لا يتوافر إلا من خلال ثقافة متكاملة تجمع بين معرفة الدين ، ومعرفة الدنيا .. وكلاهما لا يتأتى إلا بإعمال العقل ومواصلة البحث ، وإجراء التجارب ، وتصفح التاريخ ، والانفتاح على كل ثقافات العالم لاقتباس النافع منها ، والتزود بالمفيد.


عندما ذهب رفاعة الطهطاوى إلى فرنسا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فوجئ بأنهم يدرسون هناك خمسة عشر علما لا توجد عند المصريين فى ذلك الوقت ، وهى :


1- علم تدبير الأمور الملكية.

2- علم تدبير العسكرية.

3- علم القبطانية والأمور البحرية.

4- علم السفارة والمشى فى مصالح الدول.

5- فن المياه ، وهو صناعة القناطر والجسور والأرصفة والفسافى.

6- الميكانيكا ، وهى آلات الهندسة وجر الأثقال.

7- الهندسة الحربية.

8- فن الرمى بالمدافع وترتيبها.

9- فن سبك المعادن.

10- علم الميكانيكا وصناعة الورق.

11- فن الطب وفروعه (فن التشريح والجراحة وتدبير الصحة وفن معرفة مزاج المريض ، وفن البيطرة) .

12- علم الفلاحة وفروعها.

13- علم تاريخ الطبيعيات وفروعه (الحيوانات ، النباتات ، والمعادن).

14- صناعة النقاشة وفروعها (فن الطباعة ، وفن حفر الأشجار ونقشها).

15- فن الترجمة (وهى من الفنون الصعبة ، وخاصة ترجمة الكتب العلمية) .


ثم يعقب على ذلك قائلا : "فإذا نظرت بعين الحقيقة رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج : ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا ( انظر كتابه "تلخيص الإبريز) .


ومن المحزن جدا أن نلتقى بمعظم هذه العلوم التى أثارت دهشة الطهطاوي واستغرابه أيضا من عدم وجودها عندنا – كانت معروفة ، ومشارا إليها لدى الفارابى فى مطلع القرن الرابع الهجرى ، وقد تميز فى بعضها عدد من علماء المسلمين ، لكن الجو الثقافى – كما قلنا – لم يكن يشجعهاعلى الاستمرار ، والتراكم المعرفى الذى كان من الممكن أن يجعل منها تيارا عاما يتداخل أو بالأحرى يتضافر مع ثقافة المجتمع الدينية واللغوية التى غلبت عليه وما زالت حتى اليوم !


أخلص من ذلك إلى أن الثقافة الإسلامية (الحقيقية) كان ينبغى أن تضم منظومتين غير متعارضتين على الإطلاق ، وهما: منظومة العلوم الدينية واللغوية ، ومنظومة العلوم العقلية والتجريبية . وهذان هما الجناحان اللذان كان يمكن للثقافة الإسلامية أن تحلق بهما بعيدا وعاليا ، لكنها مع الأسف اعتمدت على جناح واحد، وأهملت الجناح الآخر ، الأمر الذى جعلها تقصر عن مجاراة الحضارة الأوربية الحديثة ، التى أخذت منها بدون أى حرج أو تردد ، واستطاعت بعد ذلك أن تحقق ما حققته فى العصر الحديث .


بل إننا نذهب إلى أن اعتماد الثقافة الإسلامية على جناح واحد ، هو الجانب الدينى واللغوى ، مع تقليل أهمية الجناح العقلى والتجريبى ، قد أثر بالسلب على الجناح الذى اعتمدت عليه ، فما لبثت الحركة الإبداعية فيه أن تقلصت ، وحل محل الأعمال العلمية والثقافية الأصيلة فى عصور الإسلام الأولى أعمال أخرى ثانوية تكاد تخلو من أى إبداع عقلى ، وروح تجريبية ، ولذلك اقتصرت على مجرد الشروح التى لم تضف جديدا ، بل إنها انكفأت على المنظومات السقيمة ثم راحت تفسرها للطلبة ، وتعربها لهم حتى أبعدتهم تماما عن روح العلم ، وأخمدت فى عقولهم أى مبادرة للإبداع.


إن النتائج تخرج دائما من مقدماتها . وما تشكو منه المجتمعات الإسلامية فى الوقت الراهن من ضعف فى الثقافة وتآكل فى عناصرها بل فى ثوابتها الأصيلة وخاصة لدى الأجيال الجديدة ، ليس سوى النتيجة الطبيعية لسلسلة طويلة من الأخطاء ، والإهمال ، والتقصير المتعمد ، وأحيانا غير المباشر ، شارك فيها أجدادنا على مدى مئات السنين . وسوف أتوقف هنا – قليلا – لأرصد (فى عناوين) بعض هذه الأخطاء العلمية والثقافية :


1- قصر مجال العلوم والثقافة الإسلامية على المنظومة الدينية واللغوية وحدها.


2- عدم الاهتمام الكافى والضرورى بمنظومة العلوم العقلية والتجريبية.


3- تفضيل بعض العلوم الدينية على بعضها الآخر ، واعتبار بعضها اشرف من بعض.


4- تغليب الجانب النظرى على الجوانب العملية التى تمس مباشرة واقع الحياة ، وقد رسخت بالتالى مقولة : "إن العلم أفضل من العمل" مع النظرة الاجتماعية للعمل اليدوى على أنه أقل قيمة.


5- عدم إدانة الصراع الحاد الذى كان ينشأ بين طوائف علماء الدين وحتى بين الأدباء والشعراء . مع أن دوافع هذا الصراع لم تكن علمية ولا ثقافية خالصة ، وإن كانت سياسية فى أغلب الأحيان .


6- عدم اتساع الأفق لاستيعاب كل ما لدى الأمم السابقة أو المجاورة من علم وثقافة ، وتجارب عملية ناجحة ، وذلك على الرغم من وجود النصيحة التى كانت تتردد بينهم " اطلبوا العلم ولو فى الصين " !


7- عدم تطبيق الشعارات التى كانت تشيع فى الثقافة الإسلامية مثل (لكل مجتهد نصيب) و(اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية) فى الواقع العملى للمثقفين والعلماء ، الذين كانوا يتعاملون مع الاختلاف فى الرأى على أنه عداء كامل، ومع النظر للرأى الجديد على أنه بدعة أو مروق من الدين !


8- استقرار مفهوم تقسيم الناس – فى كل من العلم والثقافة – إلى عامة وخاصة ، مع عدم إبداء أى محاولة للارتقاء بالمستوى الثقافى لهؤلاء العامة وتركهم لجماعات القصاص والوعاظ الشعبيين يزودونهم بمعلومات غير موثقة ، كانت وما زالت تبعدهم عن المفهوم الحقيقى والمتكامل للإسلام.


9- تكاد تخلو الثقافة الإسلامية الكلاسيكية من الجانب السياسى فى صورته المباشرة ، حتى إن المؤلفات المعتبرة فى هذا المجال لا تتجاوز العشرة. وهى التى استطاع أصحابها أن يفلتوا بها من سطوة الحكام المستبدين الذين حظروا الحديث تماما فى هذا الموضوع !


10- لم تتجه الثقافة الإسلامية الكلاسيكية بالقدر الكافى إلى المرأة ، واكتفت ببيان أحوالها الشرعية كزوجة ومطلقة وأرملة ، فى حين لم تتعرض لأى دور إيجابى لها فى المجتمع الإسلامى ، وانحصرت وظيفتها فى الترفيه عن الرجل ، وخاصة فى مجال الشعر والأدب (أول كتاب عربى يذكر اسم الفتاة فى عنوانه كان لرفاعة الطهطاوى : المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين) !


إننى لا أعتبر الحديث عن هذه الأخطاء تشنيعا على الثقافة الإسلامية الكلاسيكية ، ولا هو من قبيل جلد الذات ، بل إنه – فى تصورى – الطريق الصحيح نحو تعديل المسار ، وإعادة البناء المتكامل لمكونات هذه الثقافة التى انفصل جناحاها منذ زمن طويل ، وتناثرت أعضاؤها فلم تعد تشد بعضها بعضا ، حتى فوجئ المسلمون فى العصر الحديث – بما أطلق عليه الغزو الثقافى الغربى يجتاح المجتمعات الإسلامية ، ويكاد يستولى على عقول شبابها التى لم تكن مهيأة تماما لاختيار ما يصلح لها من الثقافة الغربية ، وما كان ينبغى أن ترفضه .


ومنذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، وطوال القرن العشرين ، قام أفراد متميزون من المصلحين والمفكرين المسلمين بالدعوة إلى ضرورة تدارك هذا الخطر ، وأهمية العودة إلى المنابع الأولى للإسلام ، والاقتداء بسير أعلام المسلمين لمواصلة مسيرتهم من جديد ، لكن الاستعمار الغربى كان قد تمكن من الشعوب الإسلامية ، فمنعها منعا من تحقيق ما كان يدعو إليه هؤلاء الرواد ، وصدق على هذا الوضع قول الشاعر :


 

وهل يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه ، وغيرك يهدم ؟!

 

 

والواقع أن البناء كان يتم (بالكلام) وبمجرد الدعوة إليه ، بينما الهدم كان يحدث (بالفعل) فى كل يوم بالقوانين المدعومة بالقوة والسلطان.


خلال هذه الفترة الطويلة (قرن ونصف) أنشئت العديد من المدارس الأجنبية وأعطيت من الدعم أكثر من المدارس الوطنية ، كما انتشر التعليم المدنى إلى جانب التعليم الدينى الذى جرى إهماله تماما ، ولكن أى تعليم مدنى ؟! إنه مجرد مسخ مما هو موجود فى الغرب ، وبميزانيات غير كافية على الإطلاق ، كما انتشرت الصحف والمجلات المدعومة مباشرة من الاحتلال ، فبثت معلومات ومعارف لا تخدم إلا مصالحه وتوجهاته ، وبدلا من أن يتم إصلاح النظام القضائى من داخل البيت الإسلامى ، تم استيراد القوانين الغربية لتحل محل أحكام الشريعة الإسلامية ، ثم إذا كان لكل ثقافة نموذجها الخاص بها فقد راح القائمون على أمور المجتمعات الإسلامية ، من المحتلين وأعوانهم ، يحطمون النموذج المنشود فى الثقافة الإسلامية ، ويضعون مكانه النموذج الغربى الذى يدعى أنه ينسجم مع النموذج الإسلامى ، فخرج من ذلك مخلوق مشوه : لا هو بالإسلامى ولا هو بالغربى!


ويحضرنى فى هذا الصدد ثلاثة أمثلة من مفكرين مصريين تعرضوا لهذا الموقف الصعب ، واكتووا بناره : أما أولهم فهو سلامة موسى الذى عاش ومات مقتنعا بالنموذج الغربى الكامل فى العلم والثقافة ، بل أيضا فى التصرف والسلوك . لكن المجتمع رفض نموذجه بكل حسم لأنه وجده غريبا عليه بالكامل . وأما الثانى فهو طه حسين الذى ظل يراوح بين النموذجين : الغربى والإسلامى ، محاولا أن يلبس الثانى قبعة الأول ، لكن المنظر بدا غريبا فلم يقبل نموذجه هو الآخر . وكان الثالث هو زكى نجيب محمود الذى عاش طويلا وهو مقتنع بالفكر الغربى وعلمه وثقافته ، ولا يرى غيرها أفضل منها ، حتى راح فى أخريات أيامه يقرأ التراث العربى ، فاندهش لما فيه من مواطن قوة ، وقناديل مضيئة ، فحاول أن يمزج الاثنين ، لكنه توفى مع الأسف وهو حزين من عدم اكتمال محاولته ، التى لم يقبلها المجتمع الإسلامى كذلك !


والسؤال الآن : لماذا فشلت هذه المحاولات الثلاثة ؟ والإجابة بكل بساطة : لأنها لم تصدر من قلب المجتمع الإسلامى نفسه ، فلم تحلل نقاط ضعفه الثقافى قبل أن تقوم بعلاجها. وبمجرد أن اطلعت على النموذج الغربى فى التقدم أسرعت باستيراده ، دون أن تراعى ظروف المجتمع الإسلامى . وكيف هى الآن .. ونحن أمام نموذج آسيوى آخر فى التقدم ؟! وكذلك نموذج أمريكى لاتينى ؟! ثم ما رأيهم الآن فى محاولة التقدم الإسلامى التى تمت فى كل من ماليزيا وتركيا ؛ وهى تقوم على أسس مختلفة تماما عما دعوا إليه ، أو اعتقدوا بصحته ؟! إننا بذلك لا نحملهم أكثر مما يحتملون ، لأن هذه النماذج لم تحدث فى عصرهم ، لكن حدوثها بعد ذلك تثبت أنهم لم يكونوا – تماما – على صواب.


وما زال هذا هو المأزق الذى توجد فيه الثقافة الإسلامية حتى الوقت الراهن ومن حق المهتمين بها أن يبحثوا عن المخرج من هذا المأزق . وهنا لابد أن نطرح عليهم الأسئلة التالية :


أولاً : ما هى المكونات المعرفية للثقافة الإسلامية التى يراد تقديمها فى هذال العصر الراهن ؟

ثانيًا : لمن نتجه بهذه الثقافة : للشباب أم للشيوخ ؟ للرجل أم المرأة ؟ للمسلمين أو لغيرهم ؟

ثالثًا : كيف يمكن التوفيق بين عناصر الثقافة العالمية المعاصرة والثقافة الإسلامية ، بحيث يخرج منها مزيج غير متعارض؟

وأخيرًا : ما هى الوسائل والأدوات التى يمكن أن يهتم بها نقل وانتقال الثقافة الإسلامية لتحقيق شيوعها بين الناس ؟


ولست أدعى أن هذه الأسئلة غير مطروحة ، أو أنها لم تطرح من قبل ، ولكنها مع الأسف غير مجمعة ، بحيث يمكن للإجابات عنها أن تكون ما يسمى (بخارطة طريق) يمكن أن يستعين بها المجتمع الإسلامى الذى يرغب فى تحقيقها . وفى تصورى أننا بهذا الأسلوب نبتعد عن التهويم الثقافى الذى لا ينتهى الحديث عنه دون أن يؤدى إلى نتيجة عملية، وكذلك الرؤى الاستراتيجية التى توضع فى أبراج عاجية لا علاقة لها بقبول الجماهير.


لكن ينبغى أن أؤكد هنا على حقيقة مهمة ، وهى أن الثقافة وحدها – ومهما كانت صحيحة ومدعمة بالحجج والبراهين المؤكدة – لا تثمر فى الإنسان الفرد ، ولا فى المجتمع إن لم تتوافر العقلية التى تستوعبها وتتفاعل معها ، بل تندمج بها.


وهذه العقلية ما زالت غير موجودة بالقدر الكافى فى مجتمعاتنا الحالية ؛ لأنها تقوم على إتاحة أكبر قدر من الحرية الفكرية والانفتاح على ثقافات العالم القديم ، والمعاصر، وهى ليست ثقافة رفض ونفى بل إنها ثقافة فهم وتسامح وحسن إدراك ، ومن العجيب أن القرآن الكريم وسلوك الرسول والكثير من علماء المسلمين قد أكدوا على إمكانية الاختلاف بين البشر ، وأن هذا الاختلاف لا ينبغى أن يكون مدعاة للتخاصم والعداء ، لكن أمثال هذه الوصايا ما لبثت أن تجاهلها المسلون وأحلوا محلها التعصب ، والإعجاب بالرأى ، ومعاداة المختلفين ، بل إسكاتهم ، ووصل بهم الأمر أحيانا إلى إحراق مؤلفاتهم !

 


نحو تصور للثقافة الإسلامية الحديثة :


عندما يتم تحديد هدف الثقافة الإسلامية فى العصر الحديث سوف يصبح من السهل بيان مكوناتها وتفصيل عناصرها ، واستشراف آفاقها . ومما لا يمكن الخلاف عليه أن هذا الهدف يتمثل أساسا فى تكوين المسلم المعاصر بصورة تجعله متمكنا من مقومات دينه ، وملما بجوانب حضارته ، ومتابعا يقظا لكل ما يجرى حوله ، ويدور فى العالم. والواقع أن هذا الهدف – بهذا التحديد – يمكن أن يصبح تطبيقا لمبدأ الجمع بين الأصالة والمعاصرة ، وهذا المبدأ هو الذى يحدث التوازن المنشود فى شخصية المسلم المعاصر بحيث لا يتركه منكبا على الماضى وحده ، ولا يقطعه من جذوره بحيث يجعله فى مهب رياح العصر الحاضر وحده.


إننى أفهم الأصالة على أنها تحتوى ثلاثة عناصر أساسية ، هى : الدين ، والتاريخ ، واللغة . أما المعاصرة فهى الانفتاح على كل ما يحدث فى العصر الحاضر ، وفهم آلياته ومنجزاته لإمكان التعامل معها ، وعدم الوقوف بتردد أو توجس منها .


فإذا حاولنا تحديد المكونات الرئيسية للثقافة الإسلامية فى العصر الحديث أمكننا أن نرجع إلى تأكيد ما سبق أن تزود به المسلمون من عناصر ثقافية : أساسية وفرعية فى فترة ازدهار الحضارة الإسلامية ، التى تشمل بصفة خاصة القرون الخمسة الأولى من التاريخ الإسلامى. وهذه العناصر هى :


1- القرآن الكريم ، وتفسيره.

2- السنة النبوية من مصادرها الموثقة .

3- مجموعة العلوم اللغوية والأدبية التى تساعد على الفهم الصحيح لنصوص القرآن والسنة.

4- مجموعة العلوم الدينية التى تساعد على استخراج الأحكام منهما .

5- التاريخ الإسلامى ، ومجالات الحضارة الإسلامية.


هذا بالنسبة إلى جانب الاصالة فى الثقافة الإسلامية الحديثة ، أما جانب المعاصرة فينبغى أن يشمل :


1- الوقوف على حركة النهضة الغربية ، والعوامل التى ساعدت على ذلك.

2- أهم النظريات العلمية والأفكار والفلسفة التى كان لها تأثير واضح فى العصر الحديث .

3- كيفية تدهور العالم الإسلامى ، ووقوعه فريسة للاستعمار الغربى.

4- الإلمام بحركات التحرر والنهضة التى حدثت خلال القرنين 19 ، 20.

5- الوضع السياسى العالمى الحالى ، والإنجازات العلمية والتكنولوجية.


والنتيجة أننا بهذا التصور المتكامل لمكونات الثقافة الإسلامية نكون قد حققنا الخطوة الأولى من بيانها ، وبعد ذلك نبحث أساليب نشرها وتأصيلها فى نفوس المسلمين ، من خلال التربية والتعليم ،والإعلام ، بالإضافة إلى المنابر الدينية ، والأجهزة الثقافية ، مع تشجيع الفنون والآداب على المشاركة الحقيقية فى هذه المسيرة ، حتى لا يشذ طرف منها عن عزف لحن موحد ، يستقر بكل اقتناع فى عقل الاجيال الجديدة ووجدانها ، لكى ينعكس أخيرًا على سلوكها وتصرفاتها .

 


**

التعليقات (1)Add Comment
0
...
أرسلت بواسطة عمر عبدالله, أبريل 13, 2015
دراسة قيمة

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الثلاثاء, 03 ديسمبر 2019 16:49