ظاهرة البخل عند الجاحظ (دراسة نَصيِّة )
من أطرف الأمور أن ظاهرة البخل قد ظهرت فى الحضارة الإسلامية ، فى وقت كانت أملاك الدولة الإسلامية قد اتسعت ، وثروات أهلها قد تزايدت ، وتسابق الامراء وشخصيات المجتمع الراقى على اقامة الولائم ، وتبادل الحفلات . والواقع أنه فى مثل هذه البيئة وحدها ، يمكن ملاحظة تلك الظاهرة ، وهذا ما فعله الجاحظ (المتوفى سنة 255هـ/868م) فى كتابه الرائع عن البخلاء .
والواقع أن المرء ليتساءل : هل كان من الممكن أن يكتب الجاحظ عن البخلاء بطريقة أخرى ، غير تلك الطريقة الكاريكاتيرية التى صور بها أحوالهم ، وسجل نوادرهم ؟ أننا نعتقد أن أفضل طريقة لتناول هذه الظاهرة هى تلك التى استخدمها الجاحظ ، وذلك لأن التصرفات العجيبة التى يقوم بها البخلاء لا يمكن تصور تناولها إلا فى أطار ساخر ، قد يثير البسمة على شفاة السامعين ، ولكنه فى الوقت نفسه يولد فى نفوسهم شعور الاشمئزاز من البخل : دافعا وسلوكا .
ولا شك فى أن البخل خلق ذميم ، وهو مناقض تماما لطبيعة الإنسان الذى يعيش فى جماعة : يحتاج اليها كما تحتاج هى غليه . ومن المعروف أن العطاء الذى يقدمه الأفراد للمجتمع هو الذى ينهض به ، ويحوله من مجتمع أنانى متفتت إلى مجتمع متضامن قوى .
أن محاولات الافراد فى جمع الثروة لا بأس بها ، لأنه من مجموع هذه المحاولات يتكون النشاط الاقتصادى فى أى مجتمع مزدهر . وإنما يأتى الضرر من تحول جمع الثروة إلى هدف فى حد ذاته . وهذا ما نجده بوضوح لدى البخلاء .. وهو الأمر الذى كشف عنه الجاحظ بأسلوب بالغ السخرية حتى يصل تأثيره إلى قلوب الناس جميعا ، فيتنبهوا لتلك الظاهرة النشاز ، ويتجنبوها قدر الإمكان .
لقد كتب موليير (1673م) عن نفس الظاهرة مسرحيته الشهيرة "البخيل" ، بعد الجاحظ بحوالى ثمانية قرون . فلجأ إلى نفس الطريقة الكاريكاتيرية . والذين يقرأون كتاب الجاحظ "البخلاء" ومسرحية موليير "البخيل" يدركون على الفور غنى المحاولة التى قام بها المؤلف العربى ، وتنوعها واشتمالها على عدد هائل من نماذج البخل ، على حين اقتصر الكاتب الفرنسى على نموذج واحد فقط !
ولسنا هنا بصدد عقد مقارن بين الكاتبين ، فلكل منهما مزاياه التى لا تنكر ، وانما الذى يهمنا هو أن الجاحظ قد سجل لنا فى كتابه الرائع ظاهرة البخل بمعظم جوانبها ، وأن هذه الجوانب قد وردت فى صور نابضة بالحياة والحركة : فنحن أمام حوادث تقع ، وشخصيات رئيسية تفعل وتتكلم ، وشخصيات ثانوية ترصد وتعلق .. كذلك لا تفتقد المكان ، ولا الزمان ، ولا حتى الديكور الذى تجرى فيه الحوادث .. ثم هناك "الاسماء" التى توحى إلينا بوثاقة الروايات ، وتضفى عليها مسحة تاريخية ، تشدنا إلى الواقع ، وتقربنا من أحداثه وشخصياته ، وبالتالى تضعنا فى منطقة التأثير المباشر له .
ليس معنى هذا أن الجاحظ كان على وشك أن يكتب مسرحية ، مثل موليير ، وإنما الملاحظ أن النوادر المختلفة التى جمعها فى كتابه : تنهض كل واحدة منها لتكون موقفا مسرحيًا متكاملاً .
لقد كان اهتمام الجاحظ بظاهرة البخل كبيرا . ولا يمكن بحال ما أن نغفل الجهد الذى بذله فى تتبع هذه الظاهرة : رصدا ، وتحليلا، وتسجيا . ولا شك فى أن الآثار الاجتماعية والخلقية لهذه الظاهرة على عصره قد شدته إليها بعنف . مما جعله يتقدم لعلاجها فى مثل هذا لاهتمام .
ويتمثل الجهد الذى بذله الجاحظ فى جمع حكايات البخلاء ونوادرهم من الرواة من الكتب ، والسعى بنفسه اليهم ، وانفاق الكثير من الوقت لمعايشتهم ، رغبة فى الوقوف على أحوالهم بدقة ، ثم الدخول معهم فى مناقشات مستفيضة حول مفهوم البخل : مصدره ، وعيوبه ، والآثار الاجتماعية الناتجة عنه ، وأخيرًا التعليق على نوادرهم بسخرية حادة ، والتركيز على كل ما يحط من قدرهم ، ويسقط مروءتهم ! .
إننا نظام الجاحظ كثيرا عندما تعتبر كتابه عن البخلاء كتاب أدب ، أو مجموع تسلية .. ومن الملاحظ أن كثيرًا من الدارسين قد كتبوا عنه من هذه الزاوية . ونحن من جانبنا لا نعترض عليها . فالجاحظ أديب كبير ، بل إنه من أشهر أعلام الأدب العربى . ولكنه بالإضافة إلى ذلك : مفكر عميق ، ومصلح اجتماعى من الطراز الأول . وهذا ما ينبغى ألا يغيب عنا أبدا ، وخاصة عندما نقرأ كتابه "البخلاء" .
لماذا كتب الجاحظ عن ظاهرة البخل ؟ قيل انه هو نفسه كان بخيلا. () وربما يعتمد القائلون بهذا على بعض نظريات علم النفس التى تقرر أن هناك ارتباطا عاطفيا يوجد دائما بين المؤلفين وبين الموضوعات التى يكتبون عنها . ونحن لا نسلم بهذا على أطلاقه . فالجاحظ فد كتب عن نوادر الحمقى واللصوص .. كذلك فإن الموضوع الذى يستهوى الكاتب قد يكون مناقضا تماما لميوله وأخلاقه، وهذا التناقض هو الذى يدفعه إلى أن يقوم بدراسته ، ويكتب للناس عنه : ايغالا فى تسجيل موقفه ، وتتغير الناس منه . وهذا – فى رأينا – هو ما يفسر اهتمام الجاحظ بظاهرة البخل. لقد لاحظ هذا المفكر الكبير أن انتشار هذه الظاهرة – التى تتناقض مع أشهر ما تميز به العرب وهو الكرم – سوف يؤدى بالمجتمع الإسلامى إلى الانغلاق على نفسه ، والانانية فى معاملاته ، والعزلة فى حياته .. وهى الصفات التى ترتبط بكل إنسان بخيل ، كما أنها هى نفسها الصفات التى تلتصق بأى مجتمع متخلف .
منهج الجاحظ فى البخلاء :
بدأ الجاحظ فحدد موضوع كتابه بأنه يتناول "نوادر البخلاء واحتجاج الاشحاء"() مع وعد بالكشف عن تركيبهم المتضاد ، ومزاجهم المتنافى ، الذى عاندوا له الحق ، وخالفوا به الأمم() . كما حدد الغرض منه بأنه محاولة لاستعراض عيوب البخل ، الظاهر منها والخفى ، حتى يمكن تجنبها() والتخلص مما قد يكون بالإنسان منها ، وهو لا يدرى . ثم أشار إلى أهمية الموضوع فذكر أن معرفة داء البخل من أهم ما ينبغى لكل ذى مروءة أن يلم به ، حتى يحمى من الذم عرضه، ويطهر من اللؤم سيرته . وقد صرح الجاحظ بأنه قد اعتمد فى مادة البخلاء على مصدرين : أحدهما ملاحظاته الشخصية عن البخلاء وتجاربه معهم . والثانى : الروايات التى انتهت إليه "من أخبارهم على وجهها"() – أى دون تدخل فيها بحذف أو تغيير .
وقد عبر الجاحظ سريعا على خطة الكتاب ، فقال : "ونحن نبتدئ برسالة سه بن هارون ، ثم بطرف أهل خرسان ، لاكثار الناس فى أهل خراسان"() .
والواقع أن الترتيب الموضوعى لم يكن فى حسبان الجاحظ ، وهو يضع هذا الكتاب . فالقصص والنوادر تتوالى دون رابط عقلى متطور ، وتختلط ، إلى حد كبير ، موضوعات البخل على النفس ، مع البخل على الاقارب ، مع البخل على الاصدقاء .. وهكذا .
وقد يمكن القول بأن الترتيب الذى ننشده ، لا يتلاءم مع الموضوع الذى قصد من تناوله : وضع لمسة من هنا ، ولمسة من هناك ، حتى تكتمل ، لدى القارئ فى النهاية ، صورة واضحة عن ذلك الخلق الردئ المشتبك فى أعماق النفس الإنسانية .
الاساس اذن نفسى . فلا ينبغى أن نطالب صاحبه بترتيب عقلى . وأن كان هذا لا يمنعنا ، عند الدراسة التحليلية ، أن نصنفه على أساس المنهج العقلى . يقال : أن المؤلف أدرى الناس بعيوب كتابه . وعظمة الجاحظ تتمثل فى تصريحه بأحد هذه العيوب ، حين يذكر أن الكتاب لن يكون مكتملا تماما طالما أنه أسقط منه بعض أسماء الشخصيات التى تحدث عن بخلها "أما خوفا منهم أو مجاملة لهم – ولكنه يتعزى عن ذلك بأن ها هنا "أحاديث" كثيرة متى أطلعنا منها حرفا عرف أصحابها ، وأن لم نسهم ، ولم ترد ذلك بهم"() .
وازاء هذه الروح العلمية الامينة لا يمكن للباحث أن ينتهى من قراءة "البخلاء" حتى يكون قد تكون فى ذهنه سؤال ملح : - هل خلت التخصص والنوادر المروية تماما من تدخل الجاحظ فيها ؟
ن الرصد المتأنى لادق التصرفات الانسانية ، والملاحظة الذكية لاسرع انفعالات النفس ، ثم تقديم هذا وذاك فى صور كارياتيرية نابضة بالحياة والحركة ، كل هذا يدل على أن للجاحظ نصيبا كبيرا ، بل أكبر مما يتصور ، فى مادة البخلاء . وسوف نشير فى أثناء التحليل إلى بعض الملاحظات التى تؤكد هذه الدلالة .
ظاهرة البخل : كان اهتمام الجاحظ بظاهرة البخل كبيرا . ولا يمكن بحال ما أن نغفل الجهد الذى بذله فى تبع هذه الظاهرة : رصدا ، وتحليلا ، وتسجيلا . ولا شك فى أن الآثار الاجتماعية والخلقية لهذه الظاهرة على عصره قد شدته إليها بعنف ، ما جعله يتقدم لعلاجها فى مثل هذا الاهتمام . ويتمثل الجهد الذى بذله الجاحظ فيما يلى :
- جمع حكايات البخلاء ونوادرهم من الرواة أو من الكتب . - السعى إليهم بنفسه ، وانفاق الكثير من الوقت لمعايشتهم رغبة فى الوقوف على أحوالهم بدقة . - الدخول معهم فى مناقشات مستفيضة حول البخل : مصدره ، وعيوبه ، والآثار الاجتماعية الناجمة عنه . - التعليق على نوادرهم بسخرية حادة . والتركيز على كل ما يحط قدرهم ، ويسقط مروءتهم .
هذا وقد انطلق الجاحظ من بداية طبيعية ومعقولة فى آن واحد ، وهى أن البخل الذى اهتم بتسجيل ظواهره ، هو ذلك النوع العادى ، الممكن وجوده فى الناس ، والمحتمل حدوثه فى كل وقت ، لا ذلك البخل الشاذ الذى يبدو فى ظواهر مفردة ومتفرقة ، غير محكوم باتجاه مطرد ، أو نزعة علمي فهو يقول : "وإنما نحكى ما كان فى الناس ، وما يجوز أن يكون فيهم مثله"() .
لذلك نراه لا يتعرض لقوم فقراء يضيقون على أنفسهم وأخوانهم لأنهم لا يجدون ما يوسعون به عليهم . فيقول : وقد عاب ناس أهل المازح والمدبر بأمور .. وأهل المازح لا يعرفون بالبخل ، ولكنهم أسوأ الناس حالا ، فتقديرهم على قدر عيشهم . وإنما نحكى عن البخلاء الذين جمعوا بين البخل واليسر ، وبين خصب البلاد وعيش أهل الجدب. فأما من يضيق على نفسه لأنه لا يعرف الا الضيق ، فليس سبيله سبيل القم"() . فإذا ما تدرجنا مع الجاحظ من هذه لبداية الطبيعية ، أمكننا أن نحصر عدة مظاهر أو أنماط للبخل ، وجدنا من المناسب تصنيفها على الوجه التالى :
- البخل على النفس . - البخل على الامهات . - البخل فى الحياة الزوجية . - البخل فى الابناء . - البخل على الخدم . - البخل على الأقارب . - البخل على الاصحاب . - البخل فى مجال المعاملات . - البخل فى السلوك . - انعكاس البخل على المظهر الخارجى للانسان .
1-البخل فى النفس :
قال الجاحظ : حدثنى محمد لن حسان . قال : أخبرنى زكريا القطان . قال : كان للغزال قطعة أرض قدام حانوتى ، فأكى نصفها من سماك ، يسقط عنه ما استطاع من مؤنة الكراء . وكان الغزال أعجوبة فى البخل !
كان يجىء من منزله ومعه رغيف فى كمه (جيبه) فكان أكثر دهره يأكله بلا أدم . فإذا أعيا عليه الأمر . أخذ من ساكنه جوافة (بضم الجيم : واحدة من سردين ردئ) بحبة (1/16 من الدرهم) وأثبت عليها فلسا (1/96 من الدرهم) فى حسابه .
فإذا أراد أن يتغذى أخذ الجوافة . فسمحها على وجه الرغيف، ثم عض عليه ، وربما فتح بطن الجوافة ، فقضم جنبها وبطنها باللقمة بعد اللقمة ، فإذا خاف أن يمزقها ذلك ، ويذهب ببطنها طلب من السماك شيئًا من ملح السمك ، فحشا جوفها لينفخها ، وليوهم أن هذا هو ملحها الذى ملحت به من قبل ، ولربما غلبته شهوته فكدم طرف أتفها ، وأخذ من طرف الأرنبة ما يسيغ به لقمته . وكان ذلك منه لا يكون الا فى آخر لقمة ليطيب فمه بها ، ثم يضعها فى ناحية .
فإذا اشترى من امرأة غزلا . أدخل تلك الجوافة فى ثمن الغزل ، من طريق ادخال العروض ، وحسبها عليها بفلس ، فيسترجع رأس المال ، ويفضل الادم !!() . ومن الواضح أن القصة لا تحتاج إلى تعليق . غير أنه من الممكن أن نتوقف قليلا أمام ما ورد فيها من مظاهر البخل التى تتصل بالسلوك ، وتستتبع عدد آخر من الأخلاق الرديئة كالظلم ، والاستغلال والتحليل .
فالغزال أولا يؤجر قطعة أرض مستأجرة له من الباطن – كما يشيع فى عصرنا الحاضر – حتى يسقط قدرا من أجرتها عليه . وثانيا : يستغل مركزه كصاحب عقار ، فيظلم البائع بأن يأخذ منه ما يساوى حبة بفلس ، وليته يدفع الثمن فى الحال وإنما يجعله من أجرة الأرض ، ثم هو لا يلبث أن يستمنح السماك – دون مقابل – قدرا من الملح ليصلح به ما أفسده ، وأخيرا ينتهز حاجة امرأة فقيرة تبيعة غزلها ، فيضطرها لقبول السمكة – فى حالتها المتهرئة – من ثمن الغزل ، فى صفقة يحصل منها فى الحال على ما اشتراه بالأجل !
فإذا عدنا إلى ذلك التصوير السينمائى الرائع للغزال وهو يتعامل مع السمكة فى نهم وحرص . فى اقدام وشفقة ، وجدنا أنفنا نضحك كثيرا ، ولكنه الضحك الذى يولد فينا الاشمئزاز من أمثاله ، ويستثير من أعماقنا الكراهية لهم . ونموذج آخر : يقدمه الجاحظ عن صديقه اليزيدى الذى توفى أبوه عن ثروة طائلة ، فاقتسمها هو وأخوه قبل دفنه . يروى الجاحظ : قلت له – وقد ورث هذا المال كله – ما أبطأ بك الليلة ؟ قال : لا ، والله ، الا أنى تعشيت البارحة فى البيت .
فقلت لاصحابنا : لولا أنه بعيد العهد بالاكل فى بيته ، وأن ذلك غريب منه ، لما احتاج إلى هذا الاستثناء ، وإلى هذه الشريطة.. وأين يتعشى الناس غلا فى منازلهم ؟! وإنما يقول الرجل عند مثل هذا السؤال : لا ، والله ، الا أن فلانا حبسنى . ولا والله غلا أن فلانا عزم على . فأما أن يستثنى ويشترط فهذا ما لا يكون غلا على ما ذكرناه"() .
ثم يعلق الجاحظ قائلا : "ولا تقولوا الآن : قد ، والله أساء أبو عثمان إلى صديقه . ومن كانت هذه صفته ، وهذا مذهبه فغير مأمون على جليسه .. اعلموا أنى لم ألتمس بهذه الأحاديث عنه الا موافقته ، وطلب رضاه ومحبته ، لقد خفت أن أكون عند كثير من الناس دسيسا من قبله . وكمينا من كمائنه ، وذلك أن أحب الأصحاب إليه : أبلغهم قولا فى أياس الناس مما قبله ، وأجودهم حسما لاسباب الطمع فى ماله .
على أنى أن أحسنت بجهدى ، فسيجعل شكرى موقوفا. وإن جاوز كتابى هذا حدود العراق شكر ، والا أمسك . لأن شهرته بالقبيح عند نفسه فى هذا الإقليم قد أغنته عن التنويه والتنبيه على مذهبه"() .
2-البخل على الامهات :
فقد لا نعثر فى كتاب لبخلاء على نماذج من البخل على الآباء، وإنما نلتقى فقط بنماذج البخل على الامهات . فهل يمكن تفسير ذلك بأن الجاحظ – وقد أدرك أن ارتباط الانسان بأمه أقوى وأشد من ارتباطه بأبيه – اكتفى بذكر البخل على الامهات ، ليشمل بالضرورة البخل على الآباء اذ لا يتصور أن يبخل الانسان على أمه ثم يكون أكثر تسامحًا مع أبيه .
كتب الجاحظ : حدثتنى امرأة تعرف الامور ، قالت : كان فى الحى مأتم اجتمع فيه عجائز الحى . فلما رأين أن أهل الميت قد أقمن المناحة ، اعتزلن وتحدثن ، فبينما هن فى الحديث ، إذ ذكرن بر الابناء بالامهات ، وانفاقهم عليهم . وذكرت كل واحدة منهن ما يوليها ابنها – هذا وأم فيلويه (تنطق مثل سيبوية) ساكتة . وكانت امرأة صالحة ، وابنها يظهر النسك ، ويدين البخل ، وله حانوت فى مقبرة بنى حصن ، يبيع فيه الأسقاط . فأقبلت على أم فيلويه ، قلت لها : مالك لا تتحدثين معنا من ابنك ، كما يتحدثن ؟ وكيف صنع فيلويه فيما بينك وبينه ؟ . قالت : كان يجرى على فى كل أضحى درهما . فقالت : وقد قطعه أيضا لقلت : وما كان يجرى الا درهما ؟ قلت : ما كان يجرى على الا ذلك . ولقد ربما أدخل أضحى فى أضحى ! فقلت : يا أم فيلويه ، وكيف يدخل أضحى فى أضحى ؟ قد يقول الناس : ان فلانا أدخل شهرا فى شهر ، ويوما فى يوم ، فأما أضحى فى أضحى فهذا شئ لا يشركه فيه أحد !!() .
فإذا تأملنا وصف فيلويه بأنه كان ممن "يظهر النسك" أمكننا أن ندرك بعدا آخر للقصة ، وهو أن محاولة الاكتساء بالمظهر الدينى وحده لا يمكن أن تخدع المجتمع . كما أن قيمة الإنسان الحقيقية أنما تكمن فى مقدار عطائه للآخرين . وأى جدوى منه أن لم يفض هذا العطاء على أقرب الناس اليه ؟! .
ونموذج آخر : يقول الجاحظ حدثنى المكى قال : كنت يوما عند العنبرى ، إذا جاءت جارية أمه ، ومعها كوز فارغ ، فقالت : قلت أمك : بلغنى أن عندك مزملة (جرة يوضع حولها ثوب مبتل ليبردها) ويومنا يم حار ، فابعث إلى بشربة منها فى هذا الكوز .
قال : كذبت . أى أعقل من أن تبعث بكوز فارغ ، وترده ملآن . اذهبى فاملئيه من حبكم (بضم الحاء وهو الزير) وفرغيه فى حبنا ، ثم املئيه من ماء مزملتنا ، حتى يكون شئ بشئ !() .
3-البخل فى الحياة الزوجية :
من الحقائق الاجتماعية المقررة : أن كرم الرجل مع المرأة يعد أحد العناصر الأساسية فى علاقته بها ، وأنه على قدر ما يبذل ها – أو حتى ما يبدى لها من استعداد لذلك – يستمر ودها له ، ويتجدد. أما أبو القماقم ، فقد ذهب لخطبة امرأة ، وأثناء الحديث مع أهلها عن ترتيبات الزواج ، راح يسأل عن مالها ، ويحصيه ، ويعيد السؤال : ويدقق فيه .
فقالوا له : قد أخبرناك بمالها ، فأنت أى شئ مالك ؟
قال : وما سؤالكم عن مالى ؟ الذى لها يكفينى ويكفيها() .
وهكذا يضعنا الجاحظ أمام مظهر شىء من مظاهر البخل ، يمكن أن يؤدى إلى كثير من ضروب الفشل فى هذا المجال . ومظهر آخر : يرويه الجاحظ من واقع الحياة الزوجية نفسها .
فيقول : زعموا أن رجلا قد بلغ به البخل غايته ، وصار أماما، وأنه اذا صار فى يده الدرهم يخاطبه ويناجيه .. وأنه لم يدخل فى كيسه درهما قط فأخرجه ، وأن أهله ألحوا عليه فى شهوة ، وأكثروا عليه فى انفاق درهم ، فدافعهم ما أمكن ذلك ، ثم حمل درهما فقط ، فبينما هو ذاهب ، أذ رأى حواء (حاوى) قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه . فقال فى نفسه : أتلف شيئا ، تبذل فيه النفس ، بأكلة أو بشرية ، والله ما هذا الا موعظة لى من الله ، فرجع إلى أهله، ورد الدرهم إلى كيسه ، فكان أهله فى بلاء . وكانوا يتمنون موته ، والخلاص بالموت أو الحياة !!() .
4-البخل على الابناء :
إذا كان القرآن الكريم قد وصف الابناء بأنهم "زينة الحياة" وصورهم الشاعر العربى فى رقة وحنو ، قائلا() : وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عينى عن الغمض فإن الجاحظ يروى عن أحمد اليزيدى عبارة تبين مدى التأفف الذى يشعر به من النفقة على أبنائه . ومن العجيب أن خيال اليزيدى الخصب ، والذى يتنافى مع خلقه الجديب ، يصعد به إلى ما فوق عالم الأرض ، فيقول : "لو لم تعرفوا من كرامة الملائكة على الله – الا أنهم لم يبتلهم بالنفقة ، ولا بقول العيال : هات : لعرفتم حالهم ، ومنزلتهم"() .
أما الثورى ، فيقدم لابنائه وصية نادرة ، يحثهم فيها على تناول ما لا يمكن أن يكون طعاما على الاطلاق . ويحاول فى الوقت نفسه ، أن يرشدهم إلى ما فى ذلك من منافع صحية ، ونفسية ، ومالية ، فيقول :
"لا تلقوا نوى التمر والرطب ، وتعودوا ابتلاعه ، وخذوا حلوقكم بتسويفه ، فإن النوى يعقد الشحم فى البطن ، ويدفئ الكليتين بذلك الشحم ... والله لو حملتم أنفسكم على البذر والنوى ، وعلى قضم الشعير واعتلاف القت (نبات للحيوانات) لوجدتموها سريعة القبول .
فأنما بقيت عليكم عقبة واحدة : لو رغبتم فى الدفء لالتمستم الشحم (أى تأكلون ما يأتى بالشحم وهو النوى) وكيف لا تطلبون شيئا يغنيكم عن دخان الوقود ، وعن شناعة العكر ، وعن ثقل الغرم ، والشحم يفرح القلب ، ويبيض الوجه ، والنار تسود الوجه"() .
هناك صنف من البخلاء ، طالما حمل عليهم الجاحظ بعنف وهم الذين يجمعون إلى البخل : الحديث عن المكارم ، والافتخار بها أمام الناس() ومن أمثلة هؤلاء أبو يعقوب الذقنان ، الذى كان يقول : ما فاتنى اللحم مذ ملكت المال .
ولكن الجاحظ يتتبعه بدقة ، ليبين لنا المعنى الحقيقى وراء هذه العبارة الزائفة ، فيقول : انه اذا كان يوم الجمعة ، اشترى لحم بقر بدرهم ، واشترى بصلا بدانق (1/6 درهم) وباذنجانا بدانق ، وقرعة بدانق ، فإذا كان أيام الجزر ، فجزر بدانق ، وطبخه كله .
فأكل وعياله يومئذ خبزهم بشئ من رأس القدر ، وما ينقطع فى القدر من البصل والباذنجان والجزر والقرع والشحم واللحم . فإذا كان يوم السبت ثردوا خبزهم فى المرق . فإذا كان يوم الأحد أكلوا البصل فإذا كان يوم الاثنين أكلوا الباذنجان . فإذا كان يوم الخميس أكلوا اللحم – فلهذا كان يقول : ما فاتنى اللحم منذ ملكت المال"() .
5-البخل على الخدم :
كتب الجاحظ : أخبرنى خباز لبعض أصحابنا أنه جلده على انضاج الخبز ، وأنه قال له : أنضج خبزى الذى يوضع بين يدى ، واجعل خبز من يأكل معى على مقدار بين المقدارين ، وأما خبز العيال والضيف فلا تقربنه من النار الا بقدر ما يصير العجين رغيفا، وبقدر ما يتماسك فقط . فكلفه العويص ، فلما أعجزه جلده مائة جلدة"() .
وإذا كان التقتير على الخباز هنا غير ظاهر بوضوح ، فإنه يظهر تماما لدى الثورى ، الذى كان يملك خمسمائة جريب (حوالى مائة فدان) من أجود الأراضى . وعندما أصيب عياله وخادمه بالحمى ، ولم يقدروا مع شدة الحمى على أكل الخبز ، فرح كثيرًا ، لأنهم وفروا مقدار الدقيق الذى كان مقررا لهم فى أيام المرض . ثم يعلق الجاحظ قائلا : "فكان لا يبالى أن يحم هو وأهله ، أبدا ، بعد أن يستفضل كفايتهم من الدقيق"() . أما خالد بن صفوان ، فقد جاءه خادم له يطبق خوخ – اما هدية ، أو جاء به من لبستان – فلما وضعه بين يديه ، قال : "لولا أنى أعلن أنك قد أكلت منه لأطعمتك واحدة"() .
فهو أولا قد افترض أنه أكل من الخوخ ، وهذا ناشئ من سوء ظن البخيل دائما بالناس وثانيا : أظهر شحه الشديد بمقدار ما عرض من هبا : لا أكثر من خوخة واحدة ! وأخيرا ، ما الذى حصل عليه الخادم المسكين بالفعل ؟
أليس سوء ظن سيده ، إلى جانب تقتيره عليه . وواحدة منهما تكفى لأن تنزع من قلبه الطاعة ، وتزرع فيه الكراهية للسيد وماله ، وتجعله فى حال من ينتظر الفرصة لتدمير ما يمكنه تدميره ، أو للخلاص بنفسه من هذا الجحيم !.
6-البخل على الأقارب :
تخرج من دائرة البخل على النفس ، والبخل على أقرب الناس إلى الإنسان وأهل منزله ، وخادمه – إلى دائرة أوسع . هى دارة الأقارب ، التى من المفترض أن يزدهر فيها الحب والمودة ، وأن يتوصل إلى ذلك بالمنح والهدايا ، لنجد المكى يحدثنا عن حادثة واحدة بسيطة جرت بينه – وهو فتى – وبين عم أبيه الواسع الثراء ، وكان لها أعمق الأثر فى حياته كلها ، وفى علاقته مع هذا الرجل بصفة خاصة . يقول المكى : وكان يقربنى وأفا صبى إلى أن بلغت ، ولم يهب لى مع ذلك التقريب شيئا قط . وكان قد جاوز فى ذلك حد البخلاء .
فدخلت عليه يوما ، وإذا قدامه قطع دار صينى (من الأفلوية يشبه القرفة) لا تساوى قيراطا . فلما نال حاجته منها ، مددت يدى لآخذ منها قطعة ، فلما نظر إلى قبضت يدى . فقال : لا تنقبض وانبسط ، واسترسل ، وليحسن ظنك . فإن حالك عندى على ما تحب . فخذه كله ، فهو لك بحذافيره ، وهو لك جميعا ، نفسى بذلك سخية . والله يعلم أنى مسرور بما وصل اليك من الخير .
فتركته بين يديه ، وقمت من عنده ، وجعلت وجهى كما أنا إلى العراق ، فما رأيته وما رآنى حتى مات() .
7-البخل على الأصدقاء :
يلاحظ هنا أن مظاهر البخل التى أوردها الجاحظ أنما تبرز بصفة خاصة ، فى مجال الطعام ، وحول موائده .
وقد يكون هذا طبيعيا . فقد كان العصر الذى كتب فيه الجاحظ عصر ازدهار عمرانى واقتصادى . وفى مثل هذا الازدهار غالبا ما ننشأ طبقة ، أو طبقات غنية ، تقتنى الدور الواسعة وتحيطها بالبساتين. ويتبادل أفرادها المجاملات الاجتماعية ، فتقام الولائم ، ويدعى إليها الأصدقاء والأحبة . فلا يلبث أن تتولد لديهم المقارنة بين وليمة فلان ووليمة غيره ... وتنتقل الهمسات فوق الشفاء عن اسراف أحدهم وتقتير الآخر . وفى مثل هذا الجو تعدو الملاحظات العابرة "نكتة" يتناقلها الناس ، ويضيفون إليها من ظرفهم وتعليقاتهم ما يجعلها حكاية تروى . ومن أمثال هذه الحكايات أمكن للجاحظ أن يجمع الكثير ، وأن يساهم فيها أيضا بالكثير .
قال الجاحظ : وصديق كنا قد أبتلينا بمؤاكلته ، وقد كان ظن انا قد عرفناه بالبخل على الطعام . وهجس ذلك فى نفسه ، وتوهم أنا قد تذاكرنا فى أمره ، فكان يتزيد فى تكثير الطعام . وفى اظهار الحرص على أن يؤكل ، حتى قال : "من رفع يده قبل القوم غرمناه دينار ، فترى بغضه أن غرم دينار"() .
فهذه قصة من وضع الجاحظ نفسه ن نتيجة تجربة شخصية له، وملاحظة خاصة منه . وهى تظهر أن البخيل – مهما حاول التظاهر بالكرم والسخاء ، فلا يمكن أن يخفى نزعته المتأصلة . وأن هذه النزعة لا تلبث أن تعلن عن نفسها فى قول ، أو فى عمل ، أو حتى فى لفتة عابرة ! وقد التقط الجاحظ عبارة الرجل المشجعة لاصدقائه على تناول المزيد من الطعام ، ليكشف بها عن احساسه الداخلى بحب المال فى حرص وهوس .
ثم يحدث الجاحظ عن صديق آخر ، كان ضخم البدن ، كثير العلم ، ذا مال وجاه وسلطان ، فيقول : "لقد رأيته مرة . وقد تناول دجاجة فشقها نصفين ، فألقى نصفها إلى الذى عن يمينه ، ونصفها الثانى إلى الذى عن شماله ، ثم قام : يا غلام : "جئنى بواحدة رخصة (طرية) فأن هذه كانت عضلة جدا (غلظة العضل يابسة) فحسبت أن أقل ما عند الرجلين ألا يعودا إلى مائدته أبدا ، فوجدتهما قد فخرا على بما حباهما به من ذلك دونى"() .
ومن الطبيعى أن يستدعى البخل فى مجال الطعام الحديث عن آداب الموائد : كان للجاحظ صديق – تغدى يوما عد الكندى (الفيلسوف العربى الشهير) وكان من البخلاء ، فدخل عليهما جار الكندى ، فلم يعرض عليه الغداء . فاستحيا الضيف ، وعزم عليه قائلا :
- لو أصبحت معنا مما نأكل ؟
- قال : قد ، والله ، فعلت .
- قال الكندى : ما بعد الله شئ !
ويعلق الضيف لأبى عثمان الجاحظ على هذه الحادثة ، فيقول فكتفه ، والله ، يا أبا عثمان ، كتفا لا يستطيع معه قبضا ولا بسطا . وتركه ، ولو أكل لشهد عليه بالكفر ، ولكن عنده قد جمل مع الله الها آخر() .
ومما يرتبط بالبخل فى مجال الطعام ، الظهور بالفهم على موائد الآخرين ، وعلى الأسوارى أشهر نموذج على ذلك ، فقد أكل يوما على مائدة أمير ، قدم إلى المدعويين "سمكة عجيبة، فائقة السمن ، فحاط بطنا لحظه ، فإذا هو يكتنز شحما ، وكان قد غص بلقمة ، وعندما فرغ من الشراب ، ورأى كل من حوله قد غرف من بطنها بلقمته . فلما خاف الاخفاق ، وأشفق من الفوت ، وكان أقربهم للأمير، استلب من يده اللقمة بأسرع من خطفة البارى ، وانحدار العقاب ، من غير أن يكون أكل عنده من قبل .
وقد عوتب فى ذلك ، فقيل له : ويحك . استلبت لقمة الأمير من يده ، وقد رفعها إليه ، وفتح فاه ، من غير مؤانسة ولا ممازحة سالفة ؟ . قال : لم يكن الأمر كذلك . وكذلك من قال ذلك . ولكنها أهوينا أيدينا معا ، فوقعت يدى فى مقدم الشحمة ، ووقعت يده فى مؤخر الشحمة معا ، والشحم ملتبس بالامعاء ، فلما رفعنا أيدينا معا ، كنت أنا أسرع حركة ، وكانت الامعاء متصلة غير متباينة ، فتحول كل شئ كان فى لقمته بتلك الجذبة إلى لقمتى لاتصال الجنس بالجنس والجوهر بالجوهر"() .
وعلى الرغم من أنه حمل رده الكثير من الظرف ، والقليل من الثقافة فإنه سيظل يعبر عن سلوك اجتماعى ردئ ، مصحوب بشره مقيت ، وأثرة بغْيضة .
ثم أن البخيل – فى بعض جوانبه . انسان مغلق على نفسه . لا يحب الاحتكاك بالمجتمع الا بقدر ما يفيد منه . فهو دائما يعيش على هامش الحياة ، منفردا بأنانيته ، وقد يبدو ذلك فى مشاهدة الجاحظ أهل خراسان ، فقد قابل جماعة منهم ، حوالى خمسين رجلا فى طريق الكوفة ، وهم حجاج . يقول : "فلم أر بين جميع الخمسين : رجلين يأكلان معا ، وهم فى ذلك متقاربون ويحدث بعضهم بعضا ، وهذا الذى رأيته من غريب ما يتفق للناس"() .
8-البخل فى المعاملات :
يكفى أن نختار ، فى هذا المجال ، ثلاثة نماذج مختلفة ، يتحدث أولها عن السلف وتقاضى الديون .. ويرويه الجاحظ عن أبى سعيد المدائن – أحد أئمة البخل فى البصرة – وكان من كبار المغتنين ومياسيرهم ، شديد العقل حاضر الحجة ، وكانت له حلقة يقعد فيها أصحاب الغنية والبخلاء يتذاكرون التدبير وطرق الاصلاح .
وذات يوم ، قالوا له يلومونه : "اننا نراك تذهب إلى ضاحية بعيدة لكى تتقاضى خمسة دراهم على مدين . وفى هذا تفريط بالكثير من أجل شئ تافه . والأسباب لذلك هى : أولا : أن بدنك وسنك لا يعينانك على كثرة المشى . وربما اعتللت فتدع التقاضى الكثير بسبب خمسة دراهم . وثانيا : أن كثرة مشيك سوف تجعلك تشعر بالجوع ، فتضطر إلى تناول العشاء – أن كنت ممن لا يتعشى ، أو إلى تناول المزيد منه أن كنت ممن يتعشى . وفى كلا الحالين ستزيد الكلفة عن خمسة دارهم . وثالثا : أنك سوف تمر بالسوق ، وربما علق بثوبك وسخ أو انخراق ، كما أن نعلك لابد أن يبلى .. فيضيع أكثر من خمسة دراهم .
وإذا كنا على يقين من علمك كل هذه الأمور ، فنحن فى حيرة من الحاحك على هذا المدين هذا من أجل هذا المبلغ القليل .
وقد أجابهم المدائنى بالتفصيل . ومن العجيب أن تتضمن أجابته تفسيرا معقولا – ومن وجهة نظره على الأقل – لكل تصرفاته.
- فهو أولا يرى أن كثرة المشى لا تضر الصحة فى مثل سنه ، بل على العكس تفيده وتقويه ، ويستشهد لهم بالحمالين وأمثالهم حيث تبدو صحتهم أقوى من الاغنياء الكسالى .
- أما كثرة تناول الطعام فى العشاء ، فقد ضمن لهم عدم أتيانه ، لأنه راض نفسه على الصعب ، وعودها الحرمان . - وأما اتساخ الثوب أو خرقه نتيجة المرور بالسوق ، فقد تجنبهما بأن يمر فيه قبل أن يطرقه أحد ، وعند العودة ، يختار طريقا آخر، ربما كان أطول وأشق ، ولكنه أسلم على أية حال .
- وأما النعل ، والخوف عليه من البلى ، فقد طمأنهم إلى أنه يحمله تحت ابطه حتى إذا قرب من دار المدين لبسه ، ثم عاد فخلعه فور مغادرتها . - هناك فائدة عظمى لم ينتبه لها اللائمون ، وهى أن القصد من وراء مطالبة مدين بخمسة دراهم فى مثل هذا المكان النائى – يكمن فى اشاعة القول عنه بأنه رجل حازم لا يترك حقوقه تضيع بين الناس. يقول المدائنى : "فإذا علم القريب الدار ، ومن لى عليه ألوف الدنانير شدة مطالبتى للبعيد الدار ، ومن ليس عليه الا القليل، أتى بحقى. ولم يطمع نفسه فى مالى"() .
ويتحدث النموذج الثانى عن بخل أصحاب المنازل ، وجشعهم ومحاولتهم استغلال المستأجرين بشتى الطرق ، وصنوف الحيل . قال معبد للجاحظ : نزلنا دار الكندى أكثر من سنة ، نروج له الكراء (نقوم الدعاية لممتلكاته حتى يقبل عليها المستأجرون) ونقضى له الحوائج ، ونفى له بالشرط .
فقال له الجاحظ : قد فهمت ترويج الكراء ، وقضاء الحوائج ، فما معنى الوفاء بالشرط ؟ .
قال : فى شرطه على السكان : أن يكون له روث الدابة ، وبعر الشاة ونشوار العلوفة (ما تبقى من علق الدابة) وألا يخرجوا عظما ، ولا يخرجوا كساحة (كناسة) وأن يكون له نوى التمر ، وقشور الرمان ، والغرفة من كل قدر تطبخ : الحبلى فى بيته .. وكان فى ذلك يتنزل عليهم"() .
أما النموذج الثالث فيصور بخل صاحب العمل مع العامل . وعلينا أن نتأمله بدقة ، لنقف من صورته الكاريكاتيرية على اهتمام الجاحظ بالعلاقة العادلة التى ينبغى أن تقوم بين هذين الطرفين ، والتى يمكن للبخل أن يقضى عليها .
قال أبو الحسن المدائنى : كان بالمدائن بائع تمر ، وكان بخيلا وكان غلامه إذا دخل الحانوت ، يحتال على سرقة التمر لأكله ، فربما احتبس (دخل الحانوت فغاب فيه) فاتهمه يأكل التمر ، فسأله يوما فأنكر فدعا بقطنة بيضاء ، ثم قال : امضغها ، فمضغها ، فلما أخرجها وجد فيها حلاوة وصفرة . قال : هذا دأبك كل يوم ، وأنا لا أعلم ، أخرج من دارى"() .
ويمكن الإشارة إلى أن الغلام – مهما أكل من التمر – فما المقدار الذى سيخسره صاحب الحانوت ؟ ولا داعى لأن نؤكد أن الذى يدفع الغلام لسرقة التم إنما هو الجوع . ولو كانت له فى أجره كفاية لما أقدم على مثل هذا الفعل !
9-البخل فى مجال السلوك :
قال المكى : دخل إسماعيل بن غزوان إلى بعض المساجد يصلى .
فوجده الصف تماما ، فلم يستطع أن يقوم وحده ، فجذب ثوب شيخ فى الصف ليتأخر فيقوم معه ، فلما تأخر الشيخ ، ورأى الفرج ، تقدم فوجد الصف تاما ، فلم يستطع أن يقوم وحده ، فجذب ثوب شيخ فى الصف ليتأخر فيقوم معه ، فلما تأخر الشيخ ، ورأى الفرج ، تقدم فقام فى موضع الشيخ ، وترك الشيخ قائما خلفه ، ينظر فى قفاه ، ويدعو الله عليه"() .
هكذا أورد الجاحظ هذه القصة فى البخلاء . ومع الأسف لم يجد ناشرا الكتاب فيما ما يدل على أى مظهر للبخل . فكتبا فى الهامش() : "ليست هذه الحكاية من بابة هذا الكتاب ، كما هو ظاهر" .
وعلى الرغم من ذلك ، فقد كان سرورى عظيما بالعثور على هذه القصة فى كتاب البخلاء لأنها تكشف عن جانب هام من جوانب البخل الغامضة الخفية، التى نبه ابن المقفه من قبل إلى أنها كثيرة وذكر من أمثلتها محاولة الإنسان سبق صاحبه فى حديث يعرفه ، لكى يظهر للآخرين معرفته به"() .
كما أنها تفتح أمامنا بابا واسعة للمقارنة الحية مع تصرفات الناس فى مجتمعنا ، ولا شك فى أنها تضع أيدينا على أحد الدوافع لهذه التصرفات . ومن الواضح أن معرفة الدافع من أهم ما يساعد على التحكم فيما ينتج عنه من سلوك ، أو على الأقل ، التخفيف من حدته .
10-انعكاس البخل على المظهر الخارجى :
سبق أن النزعة المتأصلة للبخل لابد أن تعلن عن نفسها فى قول أو فعل ، أو حتى لفتة عابرة . ومن الخصائص النفسية التى تميز البخلاء الهم الدائم ، والحزن العميق .. وكلاهما ناشئ عن الحرص على أن يظل ما فى حوزة البخيل مصونا ، والتوقع لما قد يطرأ عليه من عوامل الانفاق أو التضييع .
ثم أن البخيل محاصر بالخوف ، مشغول أبدا بالحساب الدقيق لمطالبه أو أشيائه – وقد مر من النماذج ما يشير إلى أنه غالبا ما يهمل رغبات نفسه فى سبيل الابقاء على ما هو خارج عنه لا محالة ، ومخلفه إلى ورثة لا يحملون نفس خصائصه بالتأكيد .
ولا شك فى أن هذه العوامل النفسية المختلفة تؤثر على المظهر الخارجى ، وتنطبع عليه . فما أبعد البخيل عن السرور أو الانطلاق ، وما أقربه دائما من الكآبة والتقطيب .
حين عوتب ليمان الكثرى فى قلة الضحك ، وشدة القطوب قال : "أن الذى يمنعنى من الضحك أن الإنسان أقرب ما يمكن من البخل إذا ضحك ، وطابت نفسه" .
وهذا صحيح . فهو يضحى بسعادته من أجل الاحتفاظ بمظهر شحه . ويخشى – أن هو ضحك – أن تخرج النتائج من مقدماتها ، فتسخو يده ، وتطيب بالعطاء نفسه .
فليكتم الضحكة اذن ، وليقتل على شفته البسمة ، وليمض منفردا بنفسه وماله على هامش الحياة ، فما أجدرها ألا تعبأ به قادما أو راحلا !
* *
|
.. شكرا لكم:D:-*