الفكر الفلسفى عند ابن النفيس
أ.د.حامد طاهر
يعد ابن النفيس (ت 687هـ) واحدا من أعلام الحضارة الإسلامية ، تميز فى مجالىْ الطب والفلسفة ، شأنه شأن ابن سينا (ت 428هـ) ، وابن طفيل (ت 581هـ) وابن رشد (ت 595هـ) ، وغيرهم من هؤلاء الأعلام الذين جمعوا بين تخصصات متنوعة ، واستطاعوا أن يثبتوا فى كل منها تميزًا واضحًا .
اسمه : علاء الدين بن أبى الحزم القرشى . ولقبه : ابن النفيس . ولد بدمشق حوالى سنة 607هـ ، وانتقل إلى القاهرة حيث طابت له الإقامة حتى بلغ الثمانين من عمره . وصف بأنه شيخ الطب فى الديار المصرية . وكانت له مؤلفات فى الفقه ، وأصول الفقه ، والحديث ، واللغة ، والمنطق . ولم يتزوج طيلة حياته . وكان ورعا جدا ، حتى أنه فى مرضه الأخير أشار عليه بعض زملائه من الأطباء ، أن يتداوى ببعض الخمر ، فرفض قائلا : لا ألقى الله ، وفى باطنى شىء من الخمر" . وقد أوقف داره وكل أمواله الطائلة على المستشفى المنصورى .
تميز ابن النفيس فى فن الطب ، ويُنسب إليه اكتشاف الدورة الدموية (الصغرى) التى مجالها الصدر ، فى حين يُنسب اكتشاف الدورة الدموية (الكبرى) للطبيب الأوربى الكبير هارفى . وكما كانت العادة فى العالم الإسلامى ، وخاصة فى عصوره المتأخرة ، لم يلتفت كثيرا إلى أراء هذا العالم المسلم ، حتى أن معظم مؤلفاته ضاعت ، ولم يبق من أعماله الفلسفية سوى هذا الأثر النادر الذى ثم اكتشافه مؤخرا ، وهو المعروف بالرسالة الكاملية .
والغرض من هذا البحث هو محاولة إثبات أن ابن النفيس – من خلال رسالته المعروفة بالكاملية – يعتبر فيلسوفا إسلاميا بمعنى الكلمة ، وهو الأمر الذى يترتب عليه أن نفسح له مكانًا لائقا به فى تاريخ الفلسفة الإسلامية ، دون أن نترك شهرته كطبيب كبير تطغى على هذا الجانب ، وبهذا يتبوأ مكانته الفلسفية التى لا تقل – بحال ما – عن مناظر له تمامًا حقق شهرة واسعة فى مجال الفلسفة الإسلامية هو ابن طفيل (ت 581هـ).
والمنهج الذى يتلاءم لتحقيق هذا الغرض يتكون من عدة خطوات ، أولها القراءة الفاحصة للأثر الفلسفى الوحيد تقريبًا ، الذى تركه ابن النفيس ، بعنوان (الرسالة الكاملية فى السيرة النبوية) ، ثم استخلاص أهم الأفكار الفلسفية التى توصل إليها ابن النفيس ، أو اختارها من آراء العلامة السابقين ، وأخيرًا وضع هذه الأفكار فى أطار البناء العام للفلسفة الإسلامية .
وفى البداية لابد من التعريف المختصر بالرسالة الكاملية لابن النفيس . وهى عبارة عن حكاية متخيلة ، يروى فيها ابن النفيس على لسان الراوى (فاضل بن ناطق) ما حدث لرجل اسمه (كامل) منذ نشأته حتى توصله إلى أسمى الأفكار العقلية ، والتى تفسر ما جاء فى الشريعة أو تتفق معها .
وتنقسم الرسالة – أو الحكاية – إلى أربعة فنون : أولها : كيفية تكون هذا الإنسان المسمى بكامل ، وكيفية وصوله إلى تعرف العلوم والنبوات ، وثانيها : كيفية وصوله إلى تعرف السيرة النبوية ، وثالثها : كيفية وصوله إلى تعرف السنن الشرعية ، ورابعها : كيفية وصوله إلى معرفة الحوادث التى تكون بعد وفاة خاتم النبيين r .
ثم تتفرع هذه الفنون الأربعة إلى تسعة وعشرين فصلاً ، يضم الفن الأول (3 فصول) والثانى (10 فصول) والثالث (6 فصول) والرابع (10 فصول) . وقد أتاحت هذه التفريعات للمؤلف تناول موضوعات عديدة ومتنوعة، على الرغم من المساحة المحدودة للرسالة (72 صفحة) فى تحقيق أ0 عبد المنعم محمد عمر ، التى نشرها مجمع لبحوث الإسلامية بالأزهر ، بمناسبة انعقاد مؤتمره العاشر بالقاهرة ، صفر 1406 – نوفمبر 1985 () .
والواقع أن الفن الأول يحتوى على فكرة التوالد العذرى التى تعنى نشأة إنسان بدون الطريق الطبيعة المتعارف عليه ، أى من أب وأم ، وإنما نتيجة تخثر كمية من الماء فى طقس مناسب داخل مغارة ، أصبحت بالنسبة إليه مثل قشرة البيضة بالنسبة للفرخ ، ومن الطبيعى أن يكون هذا الإنسان "عظيم البدن جدا" بخلاف الإنسان الذى يتكون فى رحم المرأة ، كما أنه قد وجد أثناء نموه الغذاء المناسب ، والهواء اللازم ، حتى إذا خرج كان مكتمل النمو ، مثل صبى كبير، وليس مثل رضيع() .
ومن الجدير بالذكر ألا نعبر على هذه الفكرة – التى اتهم ابن النفيس من أجلها أحيانا بأنه من الفلاسفة الطبيعيين أو الماديين – دون أن نشير إلى قوله : "إن الله تعالى لكرمه لا يمنع مستحقا مستحقه ، ويعطى كل مستعد ما يستعد له . فلذلك خلق من تلك الأجزاء (بعض أجزاء الطين المتنوع الطبائع) أعضاء إنسان ، ومن جملتها بدن إنسان"() وهذا يعنى – بكل وضوح – أن ابن النفيس لا يقول بفكرة التوالد العذرى إلا فى إطار القدرة الإلهية .
وبعد ظهور الإنسان فى جزيرة منعزلة ، تبدأ عمليات المعرفة الحسية عن طريق الحواس الخمسة ، والمعرفة التجريبية عن طريق الملاحظة المباشرة والمقارنة بالمتماثلات ، والتجربة على الحيوانات (وهنا يوحى ابن النفيس بأهمية التشريح الذى كان الأطباء المسلمون محرومين من ممارسته ، وتظهر فكرته المبتكرة عن (الدورة الدموية الصغرى) ثم ترتفع قليلاً إلى أحوال الأجسام العلوية كالمطر والبرد والثلج والرعد والبرق ونحوها ، وتعلو بعد ذلك إلى الأجسام السماوية ونظام ارتباطها بعضها ببعض وحركتها ودورانها() .
وهنا يصل (كامل) إلى معرفة الله ، التى تعتبر ضرورة لازمة عن أنواع المعارف الحسية ، والتجريبية ، والعقلية السابقة عليها : وإذا كانت معرفة الله تبدأ بالإقرار بوجوده ، فإن الوجود الإلهى يتطلب إضافة كل الكمالات اللائقة به ، ومنها استحقاقه أن يعتبر وحده (الوحدانية) () .
لكن هل يمكن للإنسان أن يتوصل إلى أشكال العبادة بنفسه ؟
لا يبدو أن ابن النفيس يعتقد ذلك ، لأننا نراه يسرع بنجدة بطل حكايته عن طريق وصول سفينة ألقتها الريح على الجزيرة "فيها خلق كثير من التجار وغيرهم"() وهؤلاء هم الذين أخذوا بيد "كامل" وأخرجوه من حياة العزلة والتوحش ، إلى الحياة المدنية ، التى تبدأ بمعرفة اللغة ، والتعاون الاجتماعى الذى تحقق به المنافع ، ويتطلب شرعًا محفوظًا تنقطع به المنازعة ويتقبله الجميع بالطاعة.
ومثل هذا الشرع لابد أن يبلغه إنسان ، يجرى على يديه أمر معجز حتى يصدقه الناس . وذلك هو النبى الذى :
أ- يبلغ الناس شرع الله .
ب- يعرفهم بجلال الله ، وبسائر صفاته .
ج- يعرفهم حال المعاد ، وجزاءهم من السعادة والشقاء() .
ومن المهم جدًا أن يجرى إبلاغ الناس بهذه الحقائق على نحو متدرج ، عن طريق الأنبياء المتتابعين "وكلما جاء نبى آخر زاد على المتقدم ، حتى يستوفى ما يحتاج إليه من الشرع . وحينئذ يكون الناس قد عرفوا الله بوجه ما ، واشتاقوا إلى تعرف صفاته وخصائصه ، فيسهل عليهم قبول ما يرد به الأنبياء المتأخرون من ذلك . ثم إذا عرف الناس صفات الله تعالى وجلاله وتحققوا قدرته التامة لم يعسر عليهم التصديق بأحوال المعاد ، وما يشتمل عليه من السعادة والشقاوة الأبدين"() .
من هذا النص الهام ، يمكن القول بأن ابن النفيس يسلك طريقًا مختلفًا تمامًا عن طريق ابن طفيل فى رسالته (حى بن يقظان) الذى يذهب فيها إلى أن العقل الإنسانى يستطيع – بمفرده – أن يتوصل إلى حقائق الشرع ، حتى لو لم يصل إليه هذا الشرع ، أما طريق ابن النفيس فيتمثل فى أن العقل الإنسانى بحاجة ماسة إلى الشرع ، الذى يقوم الأنبياء المتعاقبون بتبليغ حقائقه بالتدريج ، حتى تكون مقبولة من العقل ، وسهلة عليه، وهذا هو ما يطلق عليه ابن انفيس عبارة "تدريج الناس إلى سهولة قبول الحق"() .
النبوة إذن ضرورية . وسبب الحاجة إليها أن الناس "يعسر عليهم التسليم بوجود ما هو ليس بجسم ، ولا قوة فى جسم ، ولا هو فى جهة ، ولا إليه إشارة ... وكثير منهم عليه تسليم أمر المعاد ، وتسليم العودة بعد الموت ، وتسليم البقاء الأبدى فى النعيم أو فى الجحيم" ويرى ابن النفيس أن الناس فى عهده "لو لم يتعودوا على ما جاءت به الشريعة وألفوا أقوالها لبادروا بالاستنكار، والرد على الأنبياء"() .
ومما ينتج عن التعاقب بين الأنبياء ، والتدرج فى تبليغ حقائق الشرع أن تكون الرسالة الخاتمة هى أكمل الرسالات وأفضلها وبالتالى يكون صاحبها هو أفضل الأنبياء "لأن النبوة بعده تنقطع فلابد أن يأتى بجميع ما يحتاج إليه من تكميل فائدة النبوة ، فلذلك يجب أن يكون النبى الذى هو خاتم النبيين أفضل الأنبياء جميعًا"() .
وانطلاقا من ذلك ، التزم ابن النفيس باستعراض عدد من معالم سيرة الرسول r (فى عشرة فصول : نسبه ، موطنه ، تربيته ، شهواته ، هيئته مرضه وعمره ، أولاده ، دعوته لناس ، اسمه ، كنيته) محاولاً الدفاع عما يمكن أن يثار حولها من شبهات ، أو تبرير ما وقع بها من أحداث تبريرًا عقليا، يبدو لنا من خلاله فكرة رئيسية ، تتمثل ى تقديم حقائق الشرع فى إطار عقلى خالص .
ومن الجدير بالذكر ، أن تعليل أحداث التاريخ ليس بالأمر السهل لأنه يتطلب وعيا عميقًا بها من ناحية ، ثم البحث عن إطار عقلى واحد ينتظمها من ناحية أخرى ، ويلاحظ أن ابن النفيس لا يقيم هذا الإطار العقلى إلا على أساس الحقائق الشرعية ذاتها. وهى محاولة فريدة فى المزج بين أحداث التاريخ وبين ما يمكن أن نطلق عليه "التبرير العقلى" لأحداث السيرة النبوية ولكثير من الأحكام والمبادىء التى وردت فى الشريعة . وهذا المسلك يختلف بالطبع مع مسلك كل من ابن سينا والسهروردى وابن طفيل فى قصصهم ، التى اتجهوا فيها اتجاهات مختلفة تماما .
ابن النفيس قريب دائمًا من الحدث التاريخى ، يتأمله ويحاول استخراج العبرة منه ، وهذه العبرة ليست إلا الحكمة الإلهية التى تنتظم جميع الحوادث والأحداث التى تقع فى الكون ، والتى قد لا يدركها العقل الإنسانى أحيانًا ، لكن عدم إدراكه لها لا يعنى عدم وجودها . إنها دائما موجودة . والحكماء وحدهم هم الذين يتيسر لهم اكتشافها ، والكشف عنها . وهو عمل مطلوب باستمرار . يقول ابن رشد "إن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها ، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم .. كانت المعرفة بالصانع أتم"() .
ومن أجل التعرف على منهج ابن النفيس فى التعليل والتبرير العقليين ، سوف نتوقف عند نص له ، يتعلق بنسب الرسول r ، وهو موضوع تاريخى محض ، ولكنه يقول فيه : "ولما تبين للرجل المسمى بكامل أن هذا النبى r يجب أن يكون أفضل النبيين وأعلمهم ، تفكر بعد ذلك فقال فى نفسه : إن هذا يجب أن يكون عند الناس بهذه المنزلة ، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن فى نفوس الناس من استعظامه ما يسهل عليهم الإذعان لقبول ما يخبر به ، لأن هذا يشتمل إخباره عن أشياء كثيرة مما لا تقبلها أوهام الناس لأنه يخبر بتفاصيل الشريعة ، وبجميع صفات الله تعالى ، وبتفاصيل أحوال المعاد . فلو لم يكن عند الناس بالمنزلة العظيمة جدًا لم ينقادوا لقوله . ولا كذلك باقى الأنبياء عليهم السلام . وإنما يكون هذا النبى عند الناس كذلك إذا كان نسبه شريفًا جدا.
وأشرف النسب ما كان إلى أولى الدين .وأشرف ذلك ما كان إلى النبيين. وأشرف ذلك ما كان إلى العظماء من الأنبياء . وأفضل ذلك ما كان إلى نبى اتفقت الملل على تعظيمه ، لأنه لو كانت ملة تعاديه لكانت تلك الملة تنفر عن المنسوب إليه، فكانت تحمل الناس على الامتناع من قبول أخباره . والنبى الذى هو كذلك هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لأنه مع جلالته فى نفسه قد اتفقت الملل على تعظيمة ، فلذلك يجب أن يكون خاتم النبيين منسوبًا إلى إبراهيم ، صلوات الله على الجميع"() .
إن ابن النفيس يريد أن يصل بالتعليل المنطقى إلى شرف نسب الرسول r وانتسابه إلى إبراهيم عليه السلام ، وهو فى سبيل ذلك لا يخترع أحداثًا، وإنما يلجأ إلى وقائع التاريخ ذاتها ، وتسلسل نسب الرسول r إلى نبى الله إبراهيم عن طريق الاعتماد على أن تصديق الناس لما يجىء به الرسول من أمور عظيمة – يتوقف على علو منزلته، وعلو المنزلة يرتبط بشرف النسب ، وأشرف النسب ما كان راجعا إلى الأنبياء . وأفضل درجاته ما كان إلى أعظم الأنبياء وأكثرهم مكانة فى جميع الملل ، وهو إبراهيم عليه السلام . وهكذا فإن النتيجة العقلية تثبت أن انتساب ، الرسول r إلى إبراهيم كان أحد عوامل نجاح دعوته ، وتقبلها من الناس قبولاً حسنًا . وهذه النتيجة هى – فى نفس الوقت – ما تؤكده الحقيقة التاريخية التى ترجع نسب الرسول r إلى إبراهيم عليه السلام.
وبناء على ذلك ، يمكن القول بعدم وجود قفزات من الخيال فى منهج ابن النفيس ، بقدر ما يتوافر له من عنصر البراعة العقلية فى تعليل الأحداث التاريخية ، حتى تظهر فى نسق منطقى متماسك ، تسلم فيه المقدمات إلى نتائجها . وكأنه بذلك يتجه إلى جمهور متشكك أو متردد أو حتى معادٍ . ومن الواضح أن هذا المنهج العقلى الخالص يتميز تمامًا عن المنهج العقلى – الذوقى، الذى استخدمه ابن طفيل فى رسالة حى بن يقظان ، وكذلك المنهج الرمزى الخالص الذى استخدمه السهروردى فى رسالته "الغربة الغربية" .
ونحن إذ نؤكد على هذه النقطة المتعلقة بمنهج ابن النفيس ، فإنما نهدف إلى عدم الوقوع فيما استهوى الكثير من الباحثين حول المقارنة أو الموازنة بين تلك القصص المتشابهة من حيث الظاهر ، ولكن كلا منها يتميز بطابعه الخاص. كما نهدف أيضا إلى ضرورة أن نتناول كل عمل منها فى إطاره الخاص به ، ومن خلال مضمونه ومحتواه ، حتى لا نظلمه بالمقارنة الظاهرية التى قلما تؤدى إلى نتائج حقيقية .
وما دمنا قد تعرفنا على منهج ابن النفيس ، وتميزه بالطابع العقلى ، أصبح من السهل أن نحدد خصائص فكره الفلسفى الذى يغلب عليه طابع الوضوح ويميل إلى تبسيط الحقائق حتى تكون فى متناول كل إنسان ، مع الحرص على دحض ما يمكن أن يوجه إلى الإسلام أو إلى رسوله r من افتراءات . وهى مهمة جليلة ما زالت مطلوبة فى كل العصور ، وتقع مسئوليتها – بالدرجة الأولى – على المشتغلين بالفلسفة الإسلامية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يثار – من وقت لآخر – حول تعدد أزواج الرسول r بسبب الشهوة . وفى هذا الصدد ، يذهب ابن النفيس إلى أن الرسول r ينبغى أن يكون معتدل المزاج ، وبالتالى ينبغى أن تكون جميع أحواله باعتدال ، وكذلك شهواته ، فلذلك ينبغى أن تكون شهواته بجملتها متوسطة ، لكن بعضها الأليق بهذا النبى أن تكون خامدة وإلى ضعف .. كشهوة الأكل ، وذلك لأن قلة الأكل من سنة الأولياء .. وكثرته من سنة أولى الشره . وبعضها الأليق به أن يكون قويا .. كشهوة الطيب ، وشهوة العبادات ، وشهوة الباه . أما شهوة الطيب فلأن زيادة الطيب مما ينتفع به الجلساء والمخالطون ويستعظم صاحبه . كما يكره الذى رائحته كريهة ويستثقل . وأما شهوة الباه فلأن زيادة هذه الشهوة فى الرجال محمودة لأنها تدل على قوة الرجولية.
وأما شهوة العبادات فلأن هذه النبى r لابد وأن يكون اتصاله بالله شديدا ، فإذا كان فى العبادة كان استغراقه فيها شديدا واتصاله بالله تعالى حينئذ تاما . وذلك موجب لزيادة اللذة ، بخلاف غير هذا النبى r . وأولى العبادات بذلك الصلاة ، لأن التوجه إلى الله تعالى أشد . وإذا كانت شهوة هذا النبى r للباه قوية – وهو منزه عن أن تكون شهوته هذه لغير النساء ، فإن ذلك من سيرة المفسدين والرعاع – فلابد وأن تكون شهوته هذه إنما هى للنساء ، فلذلك يجب أن يكون عنده نساء كالزوجات ، وأن تكون مباشرته لهن كثيرة"() .
وهكذا يواجه ابن النفيس دعوى وصم الرسول r بالشهوانية ، ويرد عليها مستعينا بالحديث النبوى الذى يقول : "حبب إلى من دنياكم ثلاث : الطيب، والنساء ، وجعلت قرة عينى فى الصلاة" ، مقررًا أن حبه r للنساء إنما يصدر عن فضيلة يتميز بها الرجل الكامل ، كما أنه يتم فى إطار شرعى خالص ، وهو الزواج ، والزواج من النساء . ومن الواضح أن مواجهة الدعوى بهذا النص الدينى ، مضافًا إليه التفسير العقلى أفضل كثيرًا من محاولات التهرب منها عن طريق تقديم تبريرات اجتماعية أو إنسانية لظروف زواج الرسول r من كل واحدة من زوجاته ، وأحيانا ما تصطدم تلك التبريرات بالواقع التاريخى ، أو النصوص الصريحة من أمثال الحديث النبوى المذكور .
وفى مجال إرسال محمد r بكتاب إلى الناس – وهو أمر واقع بالفعل – يتدرج ابن النفيس فى البرهنة على ضرورة ذلك بالخطوات التالية : النبى المصحوب بكتاب أفضل من غير المصحوب به - محمد r خاتم النبيين والحاجة إلى حفظ شريعته أكبر ، لأن النبوة بعده منقطعة - ينبغى أن تتوافر الدواعى على حفظ الكتاب الموصى به إليه - وبسبب ذلك لابد أن يكون تأليفه لذيذا (على حد قوله) لا يتم ذلك إلا إذا كان فى أعلى درجات الفصاحة .. لهذا جاء القرآن الكريم فى أعلى درجات الفصاحة() .
أما بالنسبة إلى موقف ابن النفيس من علم الكلام – وهو من أهم مجالات الفلسفة الإسلامية – فإنه يرى أن ما يتعلق منه بالإلهيات ، والسمعيات (المعاد) ينبغى أن يؤخر إلى مرحلة ملائمة للمسلم ، بل إنه يحددها بآخر مرحلة الشباب() . وتتكون عناصر المعرفة الكلامية من معرفة أن للعالم صانعا ، لا نهاية لبهائه وجلاله ، وأنه لا إله غيره ، وليس كمثله شىء ، وهو السميع العليم، ونحو ذلك من الصفات . التى تؤدى فى النهاية إلى توجه الإنسان إلى طاعة الله وعبادته ، فهى إذن معرفة ذات هدف عملى ، يتحول بها فكر الإنسان إلى واقع حى ، ولا يقتصر على مناقشات كلامية وجدلية عديمة النفع .
يكفى أن يعلم الإنسان ما يليق بجلال الله تعالى من القدرة التامة ، والقوة الكاملة ، دون التعرض لمشكلات عويصة ، وأحيانًا غير حقيقية من أمثال : هل الله موجود فى العالم أم خارجه ؟ وأنه ليس بجسم ولا بمحسوس ، ولا هو فى وجهة ، ولا إليه إشارة حسية "فإن هذه الأشياء لو صرح بها النبى r فلا يخلو الحال من أحد أمرين :
أ- ألا يشتغل الناس بفهمها ، وتكون عندهم كالأشياء التى لا معنى لها .
ب- أو يشتغلوا بفهمها فيتشوشوا ويتحيروا ، ويهملوا معايشهم وتدبير أحوالهم ، وينتهى بهم الحال إلى اختلال نظام شملهم . وهذا مناف للمقصود الأساسى من النبوة() .
أما بالنسبة إلى المعاد ، وهو ركن أساسى فى عقيدة المسلم ، فيرى ابن النفيس أن معرفته تكون تالية لمعرفة الله تعالى وصفاته ، وأنه من الأمور الضرورية التى ينبغى أن ترد فى رسالة خاتم النبيين بحيث يكون بيانها كاملاً وشافيا . وهنا يتوقف ابن النفيس ليناقش قضية المعاد الروحانى والجسمانى التى انقسمت فيها آراء فلاسفة المسلمين . وهو يرى أن النبى لا يجوز أن يجعل المعاد روحانيا فقط ، لأن أكثر الناس تقصر عن إدراك اللذات والآلام الروحانية . "فإنه لو قيل للعامى إنك إذا فعلت العادات على ما ينبغى ، وأعرضت عن اللذات المحرمة ، وكانت معاملتك للناس على العدل ، فإن الله ينقلك إلى عالم لا تأكل فيه ولا تشرب ، ولا تنكح ، ولا تلبس ولا تنام ، بل تكون دائمًا فى تسبيح وتقديس ، ومع ذلك فلا تؤجر على ذلك ولا تنقل إلى حالة أخرى – لكان ذلك العامى يرى أن فقدان هذه السعادة أولى ، ومن ناحية أخرى، لا يجوز أن يجعل النبى المعاد بدنيا فقط ، لأن البدن بدون النفس معلوم عند الناس أنه إنما يكون كالخشبة ، لا شعور له بشىء . وإذا كان كذلك لم تكن له لذة ولا ألم فلا تكون له سعادة ولا شقاوة ، فلا يكون للمعاد جدوى ، فلذلك لابد وأن يجعل هذا النبى r المعاد مركبا من البدن والنفس معا() .
ومن الواضح أن تلك النتيجة التى توصل إليها ابن النفيس هى نفس النتيجة التى جاءت بها الشريعة الإسلامية ، وتؤكدها النصوص الكثيرة الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبوية . وهذا هو ما يجعلنا نقرر باطمئنان أن ابن النفيس فيلسوف مسلم، بل إنه يعبر على نحو أكثر وضوحًا من غيره عن روح الشرع ، مطوعا كل ما تحت يديه من البراهين والحجج العقلية لتأكيد الحقيقة الشرعية ، دون أن يبدو فى حديثه أى تعارض أو تناقض . وإذا كان ابن رشد (ت 595هـ) قد اشتهر بأنه صاحب أهم محاولة للتوفيق بين الحكمة والشريعة، أو بين الفلسفة والدين ، فإن ابن النفيس يتميز عنه بتقريب هذا المفهوم من الأذهان ، والابتعاد تمامًا عن دائرة الجدل مع علماء الكلام ، الذى خصص لهم ابن رشد كتابًا كاملاً سماه "مناهج الأدلة فى عقائد الملة" ليدحض آراءهم ، ويكشف عن فساد أدلتهم ، وضعف الأسس التى قامت عليها براهينهم .
ويكفى أن نتأمل هنا كيف عرض ابن النفيس لحقيقة المعاد ، بصورة لا نكاد نجد لها مثيلا فى الوضوح لدى أحد من فلاسفة المسلمين . فهو يقول إن الإنسان مركب من بدن ونفس . والبدن هو هذا الشىء المحسوس ، وأما النفس فهى التى يشير الإنسان إليها بقوله "أنا" وهذا المشار إليه لا يجوز أن يكون هو البدن أو أجزاءه ، ومن الواضح أن البدن يتغير من الطفولة إلى الشيخوخة . وكذلك أعضاؤه فى تحول مستمر من التحلل والاغتذاء . أما النفس وهى ما يشير إليه الإنسان بقوله "أنا" فهى ثابتة على حالها دائما ، كذلك فإنها جوهر مجرد من المادة الجسمانية . وهى واحدة بمعنى أنها لا تنقسم ولا تتجزأ مثل سائر البدن . والدليل على ذلك أنها تقبل الإدراكات والعلوم . ولو كانت جسمانية لانقسمت تلك العلوم بانقساماتها ، فلا يوجد علم مفرد قط ، وهذا محال. ومن الجدير بالذكر أن ابن النفيس يرفض القول بوجود النفس الكلية ويرى أن البدن هو شرط وجود النفس الخاصة به . وأبسط عنصر فى البدن هو ما يطلق عليه "عجب الذنب" الذى تتعلق به النفس ، ثم تأخذ فى الاغتذاء وتخليق الأعضاء حتى يتكون البدن بأعضائه المعروفة . وقد اقتضت حكمة الخالق عدم فناء هذا الجزء البدنى، حتى بعد وفاة الإنسان وتحلل سائر أجزائه().
وإذا كان الموت يستتبع فناء البدن ، ما عدا عجب الذنب الذى ترتبط به النفس، فإنها تظل مدركة وعالمة ، وهذا يفسر ما يحدث لها من نعيم وألم فى القبر . فإذا جاء الوقت الذى يكون فيه المعاد ، نهضت النفس وغذت هذه المادة (عجب الذنب) بجذب المواد إليها وإحالتها إلى مشابهتها ، فيحدث البدن مرة أخرى ، ويكون هو ذلك البدن الأول (بمعنى وحدة هذه المادة فيه مع وحدة هذه النفس) وبذلك يكون المعاد .
وتكون النفس بعد ذلك غير تاركة للاغتذاء ألبتة ، فلذلك لا يعدم البدن ألبته ، فإذا كان فى نعيم فالأمر ظاهر ، وإذا كان فى النار ، أحرقت الأجزاء الحادثة فى البدن وعندئذ تعود النفس فتولد أجزاء أخرى ، حتى يظهر بدن آخر.. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم من تبديل الجلود ، طالما دام البقاء فى النار() .
ومن هذا نرى أن الاستعانة ببعض المعلومات الطبية فى هذا النص لا يبدو أنها تتعارض مع ما تذهب إليه النصوص الدينية ، بل إن الإطار العقلى الذى يحتويهما معًا يكمل طابع التناسق فى الفكر الفلسفى لدى ابن النفيس . ومن هذا المزيج المتميز ، تبدو لنا محاولة هذا الفيلسوف المسلم فى تقريب المفاهيم الدينية العميقة إلى الإنسان البسيط ، وتغليفها فى نفس الوقت بغلالة عقلية لا توغل فى الغموض أو الإبهام ، كما أنها تتجنب تفنيد أخطاء الآخرين ، والدخول معهم فى مجادلات تجريدية عقيمة .
وفى مجال استخلاص فلسفة الأركان الخمسة الأساسية فى الإسلام (الشهادة ، الصلاة ، الصوم ، الزكاة ، الحج) يرى ابن النفيس أن الإسلام – باعتباره آخر الأديان المنزلة – يحتاج إلى حفظ أكثر من سائر الأديان السابقة ، لأنه لا رسالة بعده . لذلك شرعت أركانه الأساسية مشتملة على تذكير أتباعه – على نحو مستمر – بتعاليم هذا الدين الخاتم . ويأتى (الذكر) فى المقدمة . وهو إما أن يكون مقصودًا لغيره ، كما يحدث فى الصوم والزكاة .. أو يكون مقصودًا لذاته كما هو الحال فى الشهادة التى هى عبارة عن "قول مفرد" يظل الاعتقاد به مستمرا ، ثم تتوالى إلى بقية الأركان على النحو التالى .
الصلاة : فعل بدنى محض .
الصوم : ترك بدنى محض .
الزكاة : فعل مالى محض .
الحج : فعل بدنى ومالى() .
ومن الواضح أن هذه الأفعال كلها تتضمن تذكير المسلم بحقائق دينه ، ويؤكد وقوعها وتواليها فى اليوم ، والسنة ، والعمر كله حقيقة الطاعة لله تعالى، وإخلاص العبادة له وحده .
ومن أهم الأسس التى قامت عليها الشريعة الإسلامية فى مجال الاجتماع البشرى : تحقيق العدل ، وعدم الجور والغرر (الخداع والغش) والنهى عن الظلم ، وأخذ المال بغير الحق ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وكذلك النهى عن "كل أمر يؤدى إلى الاستغناء عن نفع الناس ، وإلى القناعة بالبطالة"() . ويبدو من العبارة الأخيرة موقف ابن النفيس من الزهد فى الدنيا ، والانعزال عن حركة المجتمع ، والتقوقع بعيدًا عن نفع الناس . ومن الواضح أن هذه هى سمات التصوف ، وخاصة فى مرحلته الأخيرة() .
كما يتعرض ابن النفيس لبعض النقاط التى ما زال يثور حولها جدل مع أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى ، من مثل : زيادة ميراث المرأة عن الرجل ، بسبب مسئوليته الأساسية فى الإنفاق عليها ، وضرورة إشهار الزواج، حتى لا يحدث إنكار للأنساب ، والسبب فى عدم تعدد الأزواج مع إباحة تعدد الزوجات . حتى لا يفسد نسب الأبناء ، وفتح باب الفرقة بين الزوجين عند تعذر المعيشة بينهما ، مع إعطاء الرجل هذا الحق ، دون أن تمنع منه المرأة تمامًا ، حتى تكون المعاشرة الزوجية بالحسنى ، والمفارقة بالإحسان() .. وعلى هذا المنوال ، يستمر ابن النفيس فى تقديم "حجة عقلية" تساند النص الشرعى وتؤيده ، مؤكدا ما يتميز به الإسلام من أنه دين الفطرة الذى يخاطب العقل ، ولا يتناقص مع براهينه .
ومن أهم الأفكار التى يؤكدها ابن النفيس فكرة أهمية وجود حاكم ، يطبق الشرع على الناس لأن منهم "من تشتد محبته للظلم ، فلا يردعه عنه علمه بنهى الشرع عنه فقط ، بل إنما ينتهى عن ذلك بقاهر يقهره عليه . وذلك القاهرة إنما يتمكن من ذلك إذا كان مطاع الأمر عند الناس ، وذلك هو الملك ، ويجب أن يكون لكل مدينة ملك ، أو قائم مقامه وهو نائب الملك ، ولا يترك الملوك وطباعهم ، فقد يكثر منهم الجور ، فلذلك يجعل أمرهم إلى واحد يحكم عليهم ، وذلك هو الخليفة . وهكذا يمكن – فى إطار هذا النظام – أن يعاقب المنتهكون لحقوق الله والناس بالعقوبات التى تتناسب وخطورة الجرم : كالقصاص للقتل العمد ، والدية للقتل الخطأ ، وقطع اليد للسرقة .. وفى المقابل من ذلك ، ينبغى أن يقوم الحاكم بتخصيص أموال الزكاة والجزية لما ينفع الناس ، مثل رواتب الجند والحافظين للبلاد ، وكذلك الأئمة والمؤذنين ونحوهم، وكذلك الفقراء والمساكين ونحو ذلك() .
وقد خصص ابن النفيس الفن الرابع من رسالته لكيفية وصول بطل حكايته (كامل) إلى معرفة الحوادث التى تكون بعد وفاة الرسول r . والواقع أن الفصول العشرة التى تضمنها هذا الفن قد أتاحت له فرصة أكبر لتأمل أحداث تاريخية وقعت بالفعل ، بل وتقديم "تنبؤات ، ورؤى" مستقبلية لما يمكن أن يحدث فيما بعد ، ولا شك أن ابن النفيس قد تجاوز فى هذا الجزء كل من سبقه من الفلاسفة المسلمين الذين عكفوا – غالبا – على تفسير الماضى ، أو – فى حدود ضيقة جدا – على تحليل الواقع .
يرى ابن النفيس أن الخلافة الراشدة التى جاءت بعد وفاة الرسول r ، كانت ضرورية ، للحفاظ على الدين الذى جاء به ، وبلغه فى مدة قصيرة (23 سنة) لم يتمكن فيها بالطبع من إيصال الشريعة إلى جميع الناس . ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يتعاقب بعده خلفاء ، لهم مكانتهم عند الناس ، بفضل صحابتهم له ، وقربهم منه ، حتى ينهضوا بتبليغ الدعوة إلى أكبر عدد ممكن . وإذا كان "فى طبع الناس حب الرياسة" فلابد أن يقع بين الصحابة السابقين بالإيمان من التنازع والمخالفة ، إلى أن يقع بينهم مقاتلة على الخلافة . وذلك لا يمكن أن يقع عقيب وفاته r ، وإلا كان ذلك مؤديا إلى استيلاء الكفار على أتباعه والقضاء عليهم ، وبالتالى انتقاض شريعته ، مع أنه خاتم النبيين ... لذلك وقعت هذه المقاتلة بعد وفاة النبى r بمدة ، كثر فيها أتباعه ، والمؤمنون به .
وإذا كان المسلمون فى زمان النبوة يتلقون العلم عن طريق الوحى القاطع لأى خلاف ، فقد أصبحوا بعد انقضاء عصر النبوة يتلقون العلم بالفكر والرأى . ولما كانت طباع الناس كثيرة الاختلاف ، كثرت الآراء ، وتعددت الأقوال والمذاهب ، وحرص كل واحد على نصرة رأيه ، ودعوة الناس إليه ، لأجل محبة الرياسة . فلذلك انقسمت ملة الرسول r إلى طوائف ، مختلفة الآراء فى أصول الدين وفروعه . وظهرت الأئمة الذين تعصب لكل منهم خلق كثير ، وبدأ تأليف الكتب لنصرة المذاهب وتبعها إنشاء المدارس لتلقينها ، والانتصار لرأى دون غيره .
وإلى جانب التنازع على الرئاسة ، يتوقع ابن النفيس لأمة محمد r وقوعهم فى بعض المعاصى ، التى قد تستوجب عقابًا جزئيًا ، وليس عقابًا شاملاً يستأصلهم تمامًا من الأرض ، كما حدث لكثير من الأمم السابقة . لكن الخطر الحقيقى على المسلمين هو الذى سوف يأتى إليهم من الخارج ، أى من الكفار ، الذين يمكن اعتبار انتصاراتهم على المسلمين أحيانا نوعًا من العقوبة المقدرة عليهم فى الدنيا نتيجة مخالفاتهم لتعاليم الشريعة . وفى محاولة طريفة للغاية ، يحاول ابن النفيس تحديد مصدر الهجوم من هؤلاء الكفار على المسلمين بأنه من جهة الشمال ! ولما كان هؤلاء لا ملة لهم ، فإنهم لن يقوموا بتحويل المسلمين عن دينهم ، بل على العكس ، سوف يدينون هم بهذا الدين ، ويصبحون قوة داعمة له() .
وهكذا يربط ابن النفيس بين معاصى الأمة الإسلامية وبين ما تتعرض له من ويلات الحروب كنوع من التطهير ، الذى تكفر من خلاله عن ذنوبها ، وتعود من جديد إلى التمسك بالمنهج الإلهى . لكن هل تنتهى المعاصر أو تختفى المخالفات ، الواقع أنها تستمر متفرقة حتى إذا كثرت كثرة بالغة وتجمعت وقع الهجوم من الخارج ، وحدث القتل فى صفوف المسلمين ، مما يعد استشهادًا يثابون عليه() .
أما الفكرة الجديرة بالاعتبار ، والتى يطرحها ابن النفيس فى ختام رسالته ، فهى الخاصة بالارتباط بين بعض الظواهر الفلكية ومزاج البشر ، الذى يأخذ فى البعد "عن الاعتدال جدا ، فلذلك تسوء أخلاقهم ، وتكثر الشرور والفتن" وهو يقرر أن سوء المزاج يلزمه فساد الذهن ، وهى حالة تنافى قبول العلوم والحكمة ، بل أن العلوم تأخذ فى الانقراض ، وتقل جدًا فى الناس() ويتزامن ذلك مع كثرة الزلازل والخسوف ، ويصل الحال إلى تغير صور الناس ، وحدوث القيامة() .
من خلال هذه القراءة المتأنية لرسالة ابن النفيس ، يتبين لنا طرافة المحاولة الفلسفية التى قام بها فى الفكر الإسلامى ، عن طريق عرض الشريعة عرضًا مشوقًا للإنسان البسيط ، ومتسما – فى نفس الوقت – بالطابع العقلى ، الذى يمكن أن يرد على الافتراءات المثارة ضد الإسلام . كما يبدو التأكيد على عدم وجود أى تعارض بين الشريعة والحكمة ، أو بين الدين والفلسفة ، مع بيان أن ما جاءت به الشريعة يتفق تماما مع ما يصل إليه العقل الصحيح . وأخيرًا يظهر من خلال بث بعض المعلومات الطبية والفلكية – المتاحة فى عصره – حرص ابن النفيس على عملية التثقيف العام ، وعدم الضن بالعلم والحكمة على الجمهور .
كيف نقيم محاولة ابن النفيس فى إطار الفلسفة الإسلامية ؟
لا يمكن إغفال ما سبقه من جهود الفلاسفة الذين وضعوا أفكارهم فى قصص أو حكايات من أمثال ابن سينا وابن طفيل والسهروردى ، لكننا ينبغى ألا نضعها فى سلك واحد لمجرد التشابه فى الشكل الخارجى ، فقد تبين لنا أن الأفكار التى طرحها ابن النفيس ليست هى نفس الأفكار التى عرضها كل من هؤلاء الفلاسفة . بل لعلنا نجد مشابهة أكبر بينه وبين فيلسوف إسلامى آخر هو ابن رشد .. صاحب أهم محاولة فى التوفيق بين الشريعة والفلسفة . كذلك فإنهما يتفقان فى رفض التصوف الزاهد المنعزل عن حركة المجتمع ونفع الآخرين . كما أن ابن النفيس ، من ناحية أخرى ، يقترب من فكر ابن خلدون (808هـ) الذى قام بمحاولته الفريدة فى استخلاص قوانين عامة من أحداث التاريخ ، لكننا هنا أمام إضفاء طابع عقلى منتظم على أحداث التاريخ ذاتها ، ثم الانطلاق من ذلك إلى تقديم بعض الرؤى المستقبلية لواقع الأمة الإسلامية ..
إن التصور العقلى للدين الإسلامى فى أسسه وتفصيلاته هو الغالب على فكر ابن النفيس . ولا شك أن التوصل لمثل هذا التصور لا يأتى من فراغ ، وإنما لابد أن تسبقه معرفة عميقة ، قائمة على الدراسة والتمحيص . وأروع ما يتجلى فى محاولة ابن النفيس هو الابتعاد عن الاشتباك مع المخالفين فى الرأى، وعدم إضاعة الوقت والجهد فى الرد المباشر عليهم . صحيح أنه يدحض كثيرا من الافتراءات حول الإسلام ولكنه لا يذكر أحدًا باسمه ، ولا يشير إلى مذهب مخالف بعينه . وتلك بدون شك خطوة إيجابية كان يمكن للفلسفة الإسلامية أن تتقدم بها إلى الأمام .
وقد يتندر علماء اليوم من قيمة المعلومات الطبية أو الفلكية التى استخدمها ابن النفيس ، ولكنا ينبغى أن نقدر أنها كانت هى أعلى ما توصل إليه العلم فى عصره ، وأيضا هى ما اطمأن إليها عقله . ومن المؤكد أن استخدام حقائق العلم (المؤقتة والنسبية) فى الدفاع عن العقائد الدينية – يظل مغامرة محفوفة بالمخاطر ، ولا تتبين سذاجتها غالبًا إلا فى العصور اللاحقة ، وذلك عندما يتخلى العلم – كما هى عادته – عما استقر عليه فى فترة معنية ، لكى يتبنّى نظريات جديدة فى فترات أخرى .
* *
|