المقدمة الأولى : حول فن الشعر
1 - أستطيع أن أعرف الشعر – بالإضافة تعريفاته الكثيرة – بأنه : التعبير الفنى عن المشاعر والأحاسيس الممزوجة ببعض الأفكار فى لغة إيقاعية مصورة . ومن المؤكد أن الشعر موهبة سماوية ، يمنحها الله تعالى لبعض أفراد من البشر بمستويات مختلفة . فهناك الشاعر الجيد ، والشاعر المتوسط ، والشاعر الضعيف . ثم إن هناك من يحاول أن يتمسّح بهؤلاء الثلاثة ، وهو الناظم ، الذى يمكنه أن يرصف الألفاظ فى كلام موزون مقفى ، لكنه خال تمامًا من دفء العاطفة ، والقدرة على التأثير .
2 - وليس صحيحًا أبدًا ما قاله شكسبير من أن "الشاعر والعاشق والمجنون يجمعهم خيال واحد" . فقد سوّى فى هذا القول بين الشاعر ، الذى يدرك تمامًا ما يفعل ، وبين كل من المجنون ، الفاقد العقل أساساً ، والعاشق الذى تستغرقه العاطفة فلا يدرى كيف يتصرف .. أما الشاعر فإنه بعد أن ينصهر فى تجربته الشعورية ، التى تتفاعل فيها عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية – يظل يعمل بكل وعى على إقامة بناء متماسك من كلمات اللغة ، وعلى أرض لم يتم البناء عليها من قبل . ومن هنا فإن الوعى فى الشعر أمر مؤكد ، وبدونه يصبح الشعر عبارة عن قصائد فارغة من المعنى ، خالية من المضمون . وقد حاول بعض الشعراء الإنجليز (كوليردج) أن يكتب بعض قصائده ، وهو مغيب العقل بفعل المخدرات ، ففشلت تجربته ، ولم تنجح قصائده !
3 - وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى علاقة الشعر بالفكر ، أو بالأحرى دور الفكر فى الارتقاء بمستوى الشعر . والواقع أن قصيدة خالية من الفكر ، أو حتى من لمسة بسيطة منه ، لن تكون أكثر من صرخة فرح ، أو نوبة بكاء ، أو انفجارة غضب ، أى مجرد انفعالات متناثرة يطلقها إنسان فى حالة غير طبيعية . أما الفكر فهو الذى يضبط عشوائيه الانفعالات ، ويجعلها تتماسك فى بناء فنى يجعل منه نمطا إنسانيا يتشارك فيه مع الشاعر كل من يتلقى قصيدته ، ويكون قد مرّ بنفس التجربة التى مرّ بها . وقد قارن أحد النقاد بين شعراء اللفظ ، وشعراء الفكرة فقال ساخرًا : إن شعراء الألفاظ وحدها يغارون .. تماما كما تغار الزجاجات الفارغة من الزجاجات الممتلئة ! وقال تيتشه : إن الشاعر يحمل منتصرا أفكاره فى عربة الإيقاع ، لأن هذه الأفكار فى العادة لا تستطيع أن تمشى على قدميها . وقال بول فالبرى إن الشاعر الحقيقى هو الذى تنبع أفكاره من خلال المعاناة المرتبطة بفنه الشعرى . وأخيرًا يقول كومبرسون : إن أبيات القصيدة عبارة عن زنزانات فى سجن ، توجد الأفكار داخلها فى خزائن !
4 - ما هو دور الشعر فى حياة الناس ؟ من الممكن جدًا أن يعيش بعض الناس ، بل الكثير منهم بدون الشعر . فهو ليس خبزًا يوميا ، لكنه يمثل لطائفة من الأفراد ، فى كل العصور والمجتمعات – قدرًا من الإمتاع الذى يتمثل فى روح المشاركة. فأنت عندما تجلس فى رحلة قطار أو طائرة بجوار شخص ، من أى مكان فى العالم ، وتكون لديه بعض أفكارك وتصوراتك تحسّ بقدر كبير من الراحة ، بل من السعادة . ونفس الأمر يحدث عندما تقرأ أو تستمع إلى قصيدة شاعر من بلدك ، أو حتى من أى مكان فى العالم ، ثم تجده قد صور فيها شعورًا مر بك ، أو إحساسًا عانيته يوما ، أو فكرة جميلة طافت برأسك ذات مرة – فإنك تنجذب إلى تلك القصيدة ، ويسعدك أن تكررها مرارًا .
5 - لكن كما يكون بعض الشعر رقيقًا وناعمًا ، تقرأه وأنت فى سريرك قبل النوم ، يمكنه أيضًا أن يكون وحشيا وثوريا (وهذا ما يخيف منه السلطات) وقد استمعنا وشاهدنا أثناء ثورة 25 يناير 2011 بعض الهتافات (الشعرية) التى كانت تتردد فى مختلف ميادين مصر ، وهى بإيقاع موزون ، وذات قافيه محكمة ، وكيف كانت الملايين ، وليس الآلاف ، ترددها بحماس وإصرار حتى تحققت مطالبهم بإسقاط النظام الصارم ، الذى استمر لمدة ثلاثين عاما .. وفى اعتقادى أن الذين صاغوا تلك الهتافات هم شعراء على مستوى عال من الشاعرية ، ومشكلة النقاد عندنا أنهم لا يلتفتون إليهم ، ويتركونهم يغيبون فى زحمة الأحداث دون أن يسجلوا أسماءهم وأعمالهم فى صفحة ناصعة من التاريخ الأدبى للوطن !
6 - ويؤدى بنا ذلك إلى تأكيد أن الشعر يعتبر أحد المداخل الهامة للوقوف على روح الأمة ، تك الروح التى لا يستطيع العلم ، ولا حتى المعلوماتية الحديثة ، أن تبلغ أعماقها ، فضلا عن أن تحيط بأسرارها . صحيح أننا قد نتعرف على الشعوب الأخرى من خلال زيارتنا لها ، أو إقامتنا فيها ، أو قراءتنا عنها ، لكن هذه المعرفة تظل محصورة فى الشكل وليس المضمون ، فى الظاهر وليس الباطن ، فى الجسد وليس الروح.
7- ولما كان الشعر هو فيض الأحاسيس والمشاعر ، الممتزجة طبعا بالفكر ، فإنه هو الذى يدخل بنا عميقًا إلى تلك الأماكن البعيدة والخفية فى روح الأمة . وهو يختلف عن كل من العلم والفلسفة ، حيث يقوم العلم بوصف الظواهر ، وهى غالبًا حسية ، بموضوعية صارمة ، فيحدد لنا الخطوط والفواصل، ويبين الامتداد وارتفاع ، ويقيس المساحة والمسافات، فى حين تنكب الفلسفة على الأفكار المجردة : تستخرجها وتحللها ، ثم تصنفها وتقارن بينها على أساس منهج منطقى قاطع ، وأدلة عقلية محددة .. بينما يظل الشعر ذاتيا ووجدانيا ، وإذا تضمن بعض الأفكار فلكى يطعم بها بناءه الفنى، ويجعله أكثر وحدة وتماسكا .
8 - لكن الشعر الذى وصلنا ، وما زالت تتراكم دواوينه لدينا ، ليس كله فيض الروح . فالكثير منه بارد وماسخ ومتكلف. ومن هنا كان على نقاد الشعر أن يوضحوا للناس : الشعر الحقيقى من الزائف ، والأصيل من المقلد ، والعميق من السطحى . ولا شك أن بعض النقاد فعلوا ذلك ، لكن الكثير منهم تقاعسوا عنه ، وبددوا طاقاتهم فى أمور أخرى ، بل إن بعضهم اشتغل بالسياسة رغم حرصه على الاحتفاظ بلقب "ناقد" !
9 - وهنا حقيقة غائبة ، وهى أن الشاعر الجيد ليست كل قصائده بالضرورة جيدة . بل إن فيها الجيد والمتوسط والضعيف . كذلك فإن كل قصيدة على حدة تحتوى على جواهر وحصى .. أى على مستويات متفاوتة من النفَس الشعرى ، وقديما تحدث العرب عن بيت القصيد أو القصيدة ، وهو البيت الذى يتلألأ داخل القصيدة لما فيه من خصائص شعرية متفردة .. كذلك ينبغى ألا تخدعنا الشهرة الكاذبة أو المظاهر الخداعة . ولا أريد أن أذكر بالاسم شعراء حصلوا على شهرتهم الشعرية بوسائل أخرى غير شعرية ، كالعمل فى وسائل الإعلام، أو محاولة المظهر الغريب كان يحمل أحدهم عصا ، أو يضع حول رقبته كوفيه ملونة . وهناك مَنْ حصل على أعلى جائزة فى الشعر عن طريق التوسل للمحكمين بمرض فى القلب . ومن العجيب أن جميع المحكمين قد ماتوا ، وما زال هو حيا يرزق !
10 - إن أمثال هؤلاء جميعا سوف تكنسهم رياح التاريخ الأدبى ، وأنه لن يبقى من أشعارهم شىء تذكره الأجيال اللاحقة، تماما كما حدث نفس المصير لكثير من الشعراء العرب الذين نقرأ أسماءهم ومقتطفات من أشعارهم فى المصادر القديمة فلا نجد لها أثرًا فى نفوسنا ، ولا تأثيرا فى أرواحنا ، بينما الشعراء الحقيقيون ما زالوا يعيشون معنا بقصائدهم ، وحتى بأبياتهم القليلة ، مؤثرة فنيا ، وجارية على ألسنتنا !
11 - وهكذا تصبح الأمور محسومة تمامًا . فإما أن يكون القول شعرًا ، أو لا يكون .. فيصبح نطما . والنظم عبارة عن شعر موزون ، لكنه خال من العاطفة ، مجرد من الإحساس، وغالبًا ما يكون ساقطا من حيث الأفكار . وقد استخدمه بعض علمائنا القدامى لعمل منظومات وألفيات تساعد طلبة العلم على حفظ قواعده وتفريعاته ، مثل ألفية ابن مالك فى النحو ، وشاطبية ابن الجزرى فى القراءات ، ومنظومة ابن سينا فى الطب .. وقد انتهى هذا العمل بانتهاء أسبابه وأهدافه . لكن مأساة الشعر ظلت متمثلة فى أن كثيرًا من النظّامين قد حاولوا أن يكونوا شعراء ، ولم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق . فقد جاء فى الأمثال العربية القديمة : "ليست النائحة كالثكلى" !
12 - وأنا شخصيا أذهب إلى أن ثورة الشكل التى حدثت فى الشعر العربى الحديث ، منتصفَ القرن العشرين ، كانت لها عوامل كثيرة ومتعددة ، ومن أهمها ما لحق بالشكل التقليدى الثابت للبحور الشعرية المنحصرة فى ستة عشر بحرا ، والتى استغلها أسوأ استغلال أولئك الشعراء - النظّامون ، فملأوها بالكلمات الموزونة دون أن يصبوا فيها شيئا من روح الشعر . وهكذا راحت القصائد تطول وتطول ، والقوافى الموحدة تتوالى وتتوالى .. وفى هذه الحال ، وجد (الشاعر – الناظم) نفسه مضطرًا إلى أن يحشر كلمة من أجل الوزن ، وأن يأتى بكلمة غير مناسبة من أجل القافية ، بينما ظل الشعراء الحقيقيون حريصين على تماسك البناء الشعرى من خلال وضع الكلمة المناسبة تماما فى مكانها المناسب ، دون أى تعسف أو تكلف أو اضطرار !
13 - وكما كانت (الموشحات الأندلسية) ثورة فى شكل القصيدة العربية القديمة ، أضافت إليها ولم تنتقص منها ، فإن القصيدة العربية الحديثة شهدت ميلاد (الشعر الحر) الذى كان نظامًا جديدًا يقوم على ركيزتين : أ- جعل التفعيلة هى أساس السطر الشعرى . ب- عدم التقيد بقافية موحدة ، مع إمكانية تعددها وتنوعها. ومن الواضح أن الشعر الحر لم ينجح نظريًا فقط وإنما من خلال النماذج الجيدة التى قدمها شعراؤه الحقيقيون من أمثال بدر شاكر السياب ، وعبد الوهاب البياتى ، وصلاح عبد الصبور ، وأحمد عبد المعطى حجازى ، وأمل دنقل ، ومحمد إبراهيم أبو سنة ، وأمثالهم ، وكذلك مَنْ جاء بعدهم ، وسار على خطاهم ..
14 - وأخيرًا ظهرت (قصيدة) النثر) التى تخلت تماما عن الوزن والقافية ، وأصبحت سطورًا متتالية ، تعتمد أساسًا على الصور الشعرية ، وبلاغة الجملة العربية ، مفاجئة القارئ فى أغلب الأحيان بصدامها مع معتقداته السياسية والاجتماعية ، وأحيانًا الدينية .. وهذا ما جعل قراءتها محصورة حتى الآن فى دوائر ضيقة ، ربما تكاد تكون مقصورة على شعرائها دون أن تتجاوزهم إلى قطاع عريض من القراء .
15 - إن التطورات التى لحقت بالشعر العربى قد حدثت أمثالها فى الشعر الأجنبى : الفرنسى والإنجليزى والألمانى والإيطالى والروسى .. الخ ، لذلك ينبغى ألا يغضب أنصار الشعر التقليدى العربى مما يجرى . فالتطور فى شكل الشعر يأتى فى إطار اتجاه عالمى ، وهو فى نفس الوقت صيرورة تاريخية . وبدلاً من إهدار الوقت والجهد فى مقاومة التجديد والتحديث ، يصبح من الحكمة اتساع مجال النظر إلى الجديد باعتباره هرمًا جديدًا يضاف إلى الأهرامات القديمة ، وليس بديلاً عنها !
16 - وفى ختام هذه المقدمة ، أستطيع أن أؤكد أن الشعر سوف يظل أحد فنون الأدب ، يتوازى مع القصة والرواية والمسرحية ، ويتداخل أحيانا معها ، كما أنه لا يبتعد كثيرًا عن الخواطر والسيرة الذاتية ، ولا شك أنه يحمل فى ذاته عوامل بقائه واستمراره مع الإنسان ، منذ نشأ حتى اليوم . وإذا كان هناك مَنْ لا يميل إليه ، أو من يستبعده من حياته ، فإن الكثير من الناس ما زالوا يجدون فيه نوعًا من المتعة الوجدانية التى تهدهد أرواحهم المعذبة . وهناك مثل فرنسى جميل يقول : "إن المجتمع يحتاج إلى الشعراء ، كما أن الليل يحتاج إلى النجوم".
* *
|