أنا .. وشخصياتى
فتشت طويلا فى أعماقى
فإذا هى تحتوى على عدة أشخاص
وليس شخصًا واحدًا ..
فهناك طفل الخامسة
ومراهق الحادية عشرهْ
وشاب العشرين
ورجل الثلاثين
وكهل الأربعين
ثم شيخ الخمسين
وإلى جانب هؤلاء جميعا
هناك شخص يصعب تحديده تماما
فهو يظهر بقدر ما يختفى
ويختفى بقدر ما يظهر
وكلما حاولت الإمساك به ..
تلاشى كالماء من بين الأصابع !
لكنه فى كل الحالات .. متواجد
يرمقنى أحيانا بغضب
وينظر لى فى أحيان أخرى .. بابتسام
وفى بعض المرات أراه بعيدا ..
لكنه فى مرات أخرى يقترب منى كثيرا
الطفل الموجود فى أعماقى
ما زال يرغب فى اللهو واللعب ..
تجذبه الدُمى والعرائس
وتأسره الألوان والأفراح
هذا الطفل ما زال يعشق الجرى والسباق
ويتمنى لو يشارك الأطفال فى الشوارع ..
لعبة "الكرة الشراب" !
وكم يشوقه أن يربت على القطط والكلاب
وأن ينفق قروشه القليلهْ
على ما كان يشتهيه بشدهْ
لدى بائع الذرة المشويهْ
وحمص الشام ، والعرقسوس ..
لكن هذا الطفل المنطلق ..
ما زال يذكر القيود المفروضة عليه
فلا ينبغى أن يتأخر عند العودة .. قبل المغرب
ولا أن يطلب ما يريد .. بصوت عال !
----
أما المراهق ..
فهو ذلك الفتى المنطوى على نفسه ،
حين أدرك أن جسده قد أصبح ينتقض ..
وأن بنت الجيران ..
ينبغى أن تكون له ؟
إنه ذلك الفتى
الذى راح يحسّن من شكله ليعجبها
ويهذب من سلوكه ليتفوق على الأصدقاء !
ما زال هذا المراهق
يقف إعجابا أمام الشعر المنسدل ،
والعيون الساجيهْ
وعلى الرغم من مرور الزمن
وتباعد السنوات
فما زال يبحث عن فتاته الأولى
فى كل امرأة يقابلها ..
وهو لا يتعب من النظر والانتظار ..
تماما كما كان يقف بالساعات
على ناصية الشارع
حتى تطل عليه من الشرفة فتاته الجميلة
ويتلقى منها ابتسامة ساحرْة !
----
وأما الشاب ،
فهو ذلك الإنسان الممتلئ بالأمل والطموح
المنكب على واجباته ،
بدون كلل أو ملل ..
المحاط بأصدقاء الصفاء والتضحية ..
والواعد يتحقق الكثير والكثير ..
لم يتعثر هذا الشاب
وإنما ظروف الوطن
هى التى أطفأت فى نفسه الأمل
وملأت حياته باليأس
وهيأته ليكون شيخًا .. قبل الأوان !
وإذا كانت فترة الشباب
هى أجمل وأزهى فترات العمر
فقد مرت وسط تقييد الإضاءة فى المدينة
وأكياس الرمل أمام البيوت
وازدحام الناس فى المواصلات
وانكسار الحب فى الجامعة ..
----
ثم جاءت الكهولة الرزينهْ
نتيجة طبيعية للشباب الحزين
فاتسع مجال الرؤيهْ
وتعددت وجهات النظر
وبدأ وميض الحقائق يلمع
وسط ضباب الزيف والجهل والادعاءات
وراح الكهل يلتقط الجوهر من بين الرمال
ويختزن لنفسه .. بعض ما يفيد !
وفى الغربة ،
أدرك أن الوطن يستحق الكثير
وأن التضحية من أجله ..
هى التى تجعل للحياة معنى .
وسط ضجيج المناقشات والمهاترات
حاول أن يرفع صوته قدر الإمكان
وسمعه البعض ،
بينما أغفله الكثيرون
أما الحاقدون ، فكانوا يملأون المكان
وتلتصق أكتافهم ببعضها ، فلا تدع للنور ممرا ..
ومن العجيب
أن شيخ الخمسين
عاد أكثر قوة من شاب الثلاثين
فكافح وقاوم واستطاع أن يجد لقدمه مكانا
وما لبث أن انتشرت أفكاره
التى جمعها ، وصقلها ، ونثرها
فى كلمات بسيطة ..
والناس دائمًا وفى كل العصور
يميزون بن الصوت الصادق والرنين الكذاب
وبدأ الشيخ يشعر بشئ من الرضا ..
لكن العصر كان يسير فى اتجاه آخر ..
فعاد إلى نفسه
يمارس هواية الانطواء والعزلة
ولا يوغل كثيرا فى ذكرياته
فقد كان ما يشاهده مبعثًا على التسليهْ !
ولم يعد هناك الصديق
الذى يتقاسم معه الهموم
فاكتفى بنفسه ..
يحاورها وتحاوره !
----
أما ذلك الشخص الغامض ،
الذى يكاد يشبه الزئبق
فهو ما زال يظهر ويختفى ..
يظهر فى بعض المواقف
فيوبخنى بشدة
وأحيانا يعاتبنى برفق
وفى أحيان ثالثة
يرمقنى بدهاء ويبتسم !
مأساتى معه ..
أنه يحضر عندما لا أريده
ويغيب تماما عندما أرغب فى رؤيته !
اكتشفت أخيرا
أنه يقف وراء كل الشخصيات
الموجودة فى أعماقى
ويبدو أنه هو الذى يمسك خيوطها بيده
يحركها باقتدار
ويبقيها رغم مرور الزمن ،
على قيد الحياة !
***
|