الوظيفة السهلة
بقلم : جو فارنا
ترجمها من الفرنسية : أ. د. حامد طاهر
أسكن في قلب مدينة القاهرة . شارع المدابغ . منذ وقت ما , أعتقد أن الشارع قد تغير اسممه ( أصبح الآن شارع شريف ) . لماذا ؟ لا أدري . لكن الناس استمروا يسمونه المدابغ . هذا أكثر راحة
.
كل يوم أغادر المنزل في الساعة الثامنة . أحيانًا في الثامنة والربع . عندما أصل إلى الوزارة , لا يكون على سوى نصف ساعة فقط تأخير ! آخرون يكون عليهم ساعة . الرؤساء أنفسهم لا يصلون قبل الساعة الحادية عشرة.
في الشارع , وفي مواجهة المنزل , يوجد " بار أمريكاني " . في العادة عندما أخرج في الصباح . تكون واجهته الحديدية مغلقة . الواجهة كلها سوداء .
وفي بعض الأحيان , يخرج الجرسونات صناديق الزجاجات الفارغة . أما اليوم فالواجهة الحديدية نصف مرفوعة . وهناك ورقة من الكرتون معلقة في الواجهة . لم أرها بالأمس . اقتربت . أقرأ:
"مطلوب شخص حسن المظهر لوظيفة سهلة بأجر مجز " .
إعلان مضحك . أعود مسرعًا إلى الرصيف . إنني كثيرًا ما أتجول في الصباح . أقوم برياضة المشي , وخاصة عندما يكون الجو ملائمًا . لا ينبغي أن أصل إلى عملي متأخرًا عن العادة . وظيفة سهلة . لابد أنها مثيرة . أجر مجز !
كم يمكن أن يدفعوا لهذه الوظيفة ؟ أعود ناحية البار . الأمر يستأهل المحاولة .
الصالة طويلة . ضيقة . خالية تمامًا . إنها مقبضة . بار فارغ . كل هذه الزجاجات التي تلمع في الأضواء , تبدو الآن رمادية , ومتسخة . وهذه المنضدة الطويلة الفارغة . لا أحد ينحني فوقها . وهذه الثريات العالية جدًا مضحكة . هناك شخص على الخزينة . سيدة .
- أريد أن أرى صاحب المحل .
تجيب السيدة:
- أنا صاحبة المحل . لأي موضوع ؟
- بخصوص الإعلان .
السيدة تتفحصني . ترمقني من الرأس إلى القدم .
- يبدو عليك فعلًا أنك حسن المظهر . هل تتحدث الإنجليزية والفرنسية والعربية ؟ أنا أعتقد أنه يمكن أن تشغل الوظيفة .
- والعمل يا مدام . . مم يتكون بالضبط ؟
- إدارة الاسطوانات . .
لقد قالوا لي دائمًا إنني حسن المظهر , وقد انتهيت بتصديق ذلك . لكن إدارة الاسطوانات ؟ !
- أنا لا أفهم تمامًا .
تشرح لي السيدة:
- عندنا هنا مانياتيفون ( جهاز اسطوانات ) كهربائي . ومهمتك أن تختار الاسطوانات . وتضعها على الجهاز عندما يعمل . . الواقع أنه بالنسبة لوظيفة سهلة ، ليس هذا صعبًا على الإطلاق . لكنني نسيت سؤالاً هامًّا . وبقدر كبير من التعثر ، سألت:
- وبالنسبة للأجر يا مدام ؟
- خمسة عشر جنيهًا . . خمسون قرشًا في اليوم . هذا أجر طيب . ستعمل من الخامسة عصرًا حتى العاشرة مساءً . كل أيام الأسبوع . ومن النادر جدًّا أن ترحل بعد العاشرة مساءً . إنه عمل سهل . ثم إنه سيكون لديك علاوةً على المرتب الشهري: بقشيش الزبائن !
يؤسفني هذا . أحس بالعار .
- أشكرك: سأفكر في الأمر . إلى اللقاء يا مدام.
ها أنا في الشارع . في اتجاه الوزارة . منذ خمس عشرة سنة وأنا موظف . مرتبي لا يتجاوز عشرة جنيهات وعدة قروش بالضبط . لأنه ينبغي أن نحسب الاستقطاعات والضرائب والإيجار وكل المصاريف الأخرى . إنني أعمل من الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة الثانية ظهرًا . حقيقة لا أقوم بعمل كبير . لكنني لست أحمق . إنني محترم . يلزمني مع ذلك أكثر من عشرة جنيهات في الشهر . أنا محترم في الظاهر فقط . أعتني كثيرًا بملابسي . هذا حق . قمصاني قلبت ياقاتها وأكمامها . حتى ذلك القميص الذي أرتديته يبدو أنه نظيف لكن ياقته قد استهلكت من الداخل . يجب إلقاؤها بعد غسلة أو اثنتين .
عشرة جنيهات في الشهر . وقريبًا جدًا أبلغ الأربعين . يلزمني شراء رباط عنق جديد . ذلك الرباط الأزرق الذي رأيته في الشهر الماضي في شارع قصر النيل من الحرير الطبيعي ثمنه 250 قرشًا . يلزمني عمل ذو أجر مجز . خمسة عشر جنيهًا لإدارة الاسطوانات . . هذا غير ممكن !
ها هي الوزارة . لا شك أن تلك الجولة أراحتني . الساعة الآن التاسعة تقريبًا . ماذا سيقولون لي ؟ بماذا أجيبهم ؟
هل سيجرؤون أن يقولوا شيئًا ؟ إنني اعمل كثيرًا بالنسبة لعشرة جنيهات في الشهر . إلى متى أظل أجدف هكذا , وأسبح في هذا الصمغ ؟ !
ما أقذر هذا الحي ؟ شوارعه الضيقة . الجو اليوم ملئ بالرطوبة . وبصعوبة أكاد أستنشق . ها هو مكتبي .
- صباح الخير يا سادة.
تحية انتصار متحررة . لا ينبغي أن يكون الإنسان مخلصًا . لا أحد يستأهل . لكن يجب أن يأخذ المرء حذره . وألا ينخدع . ضحك قوي بدون سبب ومن وقت لآخر , أفكر بعمق متخذًا مظهلرًا جادًا . وفجأة . . مظهر الأبلة المشغول جدًا . .
من وراء الملفات , أنظر حولي . دائمًا نفس الوجوه . من المؤكد أن الحال لا يكون كذلك في بار . دائمًا نفس الجدران .
رؤوس غربان وقردة وبجع وبوم . . رؤوس صلعاء , ووجوه نحيلة , بائسة , منهكة . . طيور مرتجفة من الخوف .
- لماذا وصلت اليوم متأخرًا ؟
- كنت مريضًا . .
اشكروني مع ذلك أنني أتيت . أما الزميل الذي يجلس إلي جواري , فإنني أقص عليه حكاية الإعلان . لا يريد أن يصدقها . لا أعطي له العنوان . ربما يكون طامعًا فيها , ويأخذ مكاني .
إذا عملت في هذا البار , فإن ذلك لن يضايقني في شيء على الإطلاق . إنه في مواجهة المنزل . يكفي أن أهبط السلام . أية حياة ضيقة أعيش فيها ؟ ! لقد ولدت مثل دودة , وكبرت مثل خنزير , ومن قبل أن أبلغ العشرين وأنا أجرجر هيكلي على الأرض . وذات يوم سأموت . سأموت دون ضجة ودون طبول . وحيدًا . في الصمت .كطائر . لا أحد يعلم بموتي .
خمسة عشر جنيهًا للعمل بعد الظهر . إن هذا يجمع لي خمسة وعشرين جنيهًا في الشهر . إنني في كل صباح أسأل نفسي عما أفعله خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة . أي سعادة تخبئها لي الأربع والعشرون ساعة ؟ لا شيء . لا شيء على الإطلاق !
وفي المساء أنام . أنام وحيدًا , مثل حيوان , من التعب . أتلاشى في الظلام لحسن الحظ أن النهار يكون دائمًا أفضل .
لكن بعد ذلك بعد عشر ساعات , أبدأ في الإحساس بالملل .
العيون خادعة . والناس الذين يبتسمون مزيفون . ابتساماتهم مبتذلة .
لقد أوقعوا على في العمل عقوبات كثيرة . كم ؟ عدم انتظام في العمل . تأخر عن المواعيد الرسمية . افتقاد احترام الآخرين !
أما الزيادة في المرتب فلم أرها أبدًا .
إدارة الاسطوانات . هذا أمر معقد . الموظف الذي يجلس بجواري سخر مني . قال لي:
- هذا طبيعي . ستصبح رئيس الأوركسترا في البار !
حقيقة أن الموسيقيين يتقاضون الآن جنيهين وثلاثة وخمسة في الليلة . لكن خمسة عشر دنيهًا في الشهر: هذا ليس ممكنًا . لابد أن في الأمر شيئًا . ولم تشأ المدام أن تصرح لي به !
ربما يمارسون الدعارة في ذلك البار ؟ كلا . . فقد كان في مقدوري أن أعرف . لقد مرّ الآن ما يقرب من ثماني سنوات وأنا أسكن هنا , تمامًا في مواجهة البار . ثماني سنوات لم أتلق فيها علاوة من العمل . كان ينبغي أن أحصل على جنيهين علاوة في السنة . وقد توفيت أمي منذ وقت طويل وأبي كذلك توفي منذ عامين . وأنا دائمًا هنا , في هذا المنزل . نعيش كلنا معًا , إخوتي وأخواتي , متكومين بعضهم فوق بعض .
ماذا آكل عندما أعود ؟ أيضًا كوسة بالبصل , وصلصة الطماطم . إنني أقشعر من الدهون , ومن صلصة الطماطم , ومن البصل . ولا أحب الكوسة . عندما كنت صغيرًا , لم أكن أستطيع ابتلاعها . . ولم أكن أستطيع أن أفعل شيئًا .
بعد مغادرتي العمل , اشتريت بخمسة قروش " جبنة رومي " . لن آكل الكوسة . لكن مثلما في العمل تمامًا . نفس الوجوه في المنزل . على المنضدة لا يتكلم أحد . ولكي لا نفسد على أنفسنا الجلسة , ينبغي علينا أن نجعل الطفل الصغير يتمخط . . وهو دائمًا يتمخط . إنه ابن أختي . لم تعد لديّ الشجاعة في العراك مع أحد . الجو حار . متى يأتي الشتاء إذن ؟
في الساعة الخامسة , أنزل مسرعًا . أدخل " البار الأمريكاني " . ها هي صاحبته . وإذا لم تكن قد غيرت رأيها . فماذا ستقول لي ؟ ربما تنتظر مني خدمات أخرى غير تلك التي حدثتني عنها في الصباح . كلا . . إنها ليست من هذا النوع .
- مساء الخير يا مدام . . لقد فكرت .
تتفحصني مرة أخرى من الرأس إلى القدم .
- أعتقد أن العمل سيناسبك . ثم . . إنك تتكلم الفرنسية جيدًا .
مارست عملي في نفس اليوم . توجد 600 اسطوانة في المجموعة تانجو يوناني , أرجنتيني , عربي , فوكسي ترو , فالس , تينو روسي , أغاني فرنسية وإيطالية , عبد الوهاب , وأوبرتيات . . بالتدريج , أصلحتها وصنفتها . إنني بالطبيعة أحب النظام . وأحب الموسيقى كذلك . وبالنسبة لخمسة عشر جنيهًا في الشهر . ليس هذا عملًا صعبًا .
عندما يطلب مني شخص أغنية ما , أضع له على الجهاز أغنية أخرى قريبة جدًا منها , حين لا تكون الأغنية المطلوبة متوافرة لدي . مثلًا: العشاق يطلبون التانجو .
والتانجو هنا منذ ستة أشهر . أما سكارى العاشرة مساء فيحبون أن يسمعوا المارشات العسكرية . وهؤلاء يدفعون أعلى بقشيش . والعشاق أيضًا . . إنهم يحبون الكمنجة في المساء .
ها هو العجوز الذي يشرب البيرة ما زال هنا . إنه لا يشرب غيرها . ثلاث زجاجات في الليلة . مع كل زجاجة , يعيد طلب اسطوانته المفضلة . دائمًا هي هي . إنها من أجل حب قديم . هكذا قالت لي عنه صاحبة العمل.
صاحبة العمل جادة جدًا . وباستثناء الأشخاص , الذين يجب أن نطردهم من البار , من وقت لآخر , تسير الأمور على ما يرام . البار يكسب . صاحبة العمل مسرورة . امرأة طيبة . إنها فرنسية . من الريف الفرنسي . قدمت إلى مصر منذ عشرين سنة . ونحن نتفاهم أنا وهي جيدًا . وهي مسرورة مني . إنها أليفة , وتثق بي . لكنها ليست صغيرة جدًّا . هذا حق . وأنا كذلك . مظهرها رقيق وطيب . لقد فقدت أمي منذ زمن طويل . العمل يسير على ما يرام . بارنا يقع في قلب القاهر . والحرب انتهت . ولم يعد يفد علينا الكثير من العسكريين . أنا لم أعد أحب أولئك العسكريين قط . إنهم فظاظ . ومن المؤكد أن صاحبة العمل كانت لها مغامرات ، وإلا لما كانت هنا . . عندها حق . كل النساء لهن ماضٍ . ما أهمية ذلك ؟ إنني بحاجة لامرأة وأنا متأكد أنها ترغب في ذلك . سأصبح صاحب العمل . لست أكثر شرًّا من غيري . ومظهري محترم.
إنني . الآن . أغير رباط العنق كل يوم . ولي علاقات كثيرة . ما زلت دائمًا في الوزارة . وأحب الوظيفة السهلة!
|