آداب المجالسة عند ابن المقفع طباعة
كتبها Administrator   
الأحد, 21 ديسمبر 2014 19:36

آداب المجالسة عند ابن المقفع



يعتبر ابن المقفع([1]) من أكبر كتاب اللغة العربية ، وأحد القلائل الذين وصلوا بهذا اللغة إلى درجة عالية من البيان الراقى ، والتعبير الأدبى البليغ ، وهو كاتب حكيم ، تغلب على كتاباته الحكمة ، وتشيع فيها النصائح المتعلقة بآداب السلوك ، كما تتميز لغته بقدر كبير جدًا من التركيز .


عاش ابن المقفع فى النصف الأول من القرن الثانى الهجرى ، وقام بدور هام فى ترجمة أنفس المؤلفات الفارسية إلى اللغة العربية. وقد قيل عن أسلوبه فى الترجمة : "إنه لم يعرف لمتقدم ولا لمتأخر أن نقل إلى اللسان العربى شيئًا فى الأدب والعلم ، لا تحس فيه أثر اللغة المنقول عنها.. إلا ابن المقفع"([2]) .


أسلم ابن المقفع بعد أن كان يدين بالمجوسية .. ولا يمكن أن يقال إنه قام بهذا العمل بغية الحصول على منصب فى الدولة الإسلامية الناشئة : لأنه كان – وهو مجوسى – يشغل فيها أرقى المناصب .


وقتل ابن المقفع حوالى سنة 145هـ، فى عهد المنصور ، الخليفة العباسى ، وكان مقتله سياسيًا بالدرجة الأولى ، على الرغم من اتهامه مرة بالزندقة ، وأخرى بالإلحاد . ومن المعلوم أن أمثال هذه الاتهامات كثيرًا ما ألصقت ببعض الشخصيات المغضوب عليها من قبل السلطات الحاكمة لتبرير القسوة التى تنزلها بهم([3]) .


وصل إلينا من ترجمات ابن المقفع ومؤلفاته ثلاثة كتب :


أشهرها كتاب "كليلة ودمنة" وهو كتاب رائع ، عرفته أكثر من أمة ، وتروى قصصه على ألسنة البهائم والطير ، ويرمى إلى تهذيب الأخلاق ، وإصلاح النفوس. كان قد وضعه باللغة السنسكريتية (الهندية القديمة) فى 12 بابًا الفيلسوف الهندى بيدبا للملك دبشليم. ثم نقله برزويه إلى اللغة الفارسية القديمة (الفهلوية) بعد أن زاد عليه ثلاثة أبواب. ومن الفهلوية نقله ابن المقفع إلى اللغة العربية بعد أن زاد عليه ستة أبواب. وقد وجد الأصل الهندى. وفقد الأصل الفهلوى، ولم يبق من التراجم الأولى غير الترجمة العربية لابن المقفع، وعنها نقل إلى لغات الأمم الأخرى([4]) .


أما الكتاب الثانى فهو بعنوان "الأدب الصغير" وفيه يقول ابن المقفع : "وقد وضعت فى هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا (يقصد عبارات) فيها عون على عمارة القلوب وصقالها ، وتجلية أبصارها ، وإحياء للتفكير ، وإقامة للتدبير ، ودليل على محامد الأمور ، ومكارم الأخلاق"([5]) .


أما كتابه الثالث فهو "الأدب الكبير" ، وقد وقع خلط يتصل بعنوانه فى المراجع القديمة ؛ حيث ذكر مرة أنه هو نفسه كتاب "اليتيمة" لابن المقفع ، وذكر مرة أخرى أنه كتاب مستقل ، ولم يصلنا كتاب "اليتيمة" على أية حال. ومع ذلك، فقد رجح الأستاذ أحمد أمين أن "الأدب الكبير" غير "اليتيمة"([6]) .


ومهما يكن من شىء ، فإن كتاب "الأدب الكبير" يتناول – فى تركيز بليغ – حشدًا هائلاً من التفصيلات التى تتعلق بسلوك الإنسان فى المجتمع ، وتؤكد – بصفة خاصة – على علاقته مع الرؤساء والأصدقاء ، وضروب التعامل معهم ، فى شكل نصائح عامة مدعومة بخبرة إنسانية عميقة فى دراسة أحوال البشر النفسية والاجتماعية .


كان من المهم أن نعرض لمنهج ابن المقفع فى كتابه ، غير أن ناشر الكتاب تدخل – مع الأسف – فى ترتيب معانيه ، تبعًا لما رآه من تناسق ، واعتمادًا على أنه لم يعرف لترتيب بعينه رواية صحية عن ابن المقفع([7]) .


ومع ذلك ، فلا يفوتنا الإشارة إلى طريقة أبن المقفع فى تسجيل تلك النصائح الأخلاقية ، وهى طريقة تقوم على التركيز الشديد فى فقرات قصار أو متوسطة ، تبدأ غالبًا بأمر أو نهى (افعل – لا تفعل) وأحيانًا ما تكون خاصة بموقف معين، فتبدأ بـ (إذا حدث كذا ...) لكنها تعود أيضًا فتأمر أو تنهى .


لست أدرى تمامًا، كيف تتجاوب النفوس مع هذا الأسلوب من الوعظ الأخلاقى ؟ ولكن الغالب على الظن أن كثيرًا من الناس لن يستمعوا – مثلا – إلى نصيحة ابن المقفع الخاصة بترغيب النفس فى العلم ، والتى يقول فيها : "حببْ إلى نفسك العلم حتى تلزمه وتألفه، ويكون هو لهوك ولذتك وسلوتك وتعللك وشهوتك، واعلم أن العلم علمان : علم للمنافع وعلم لتذكية العقول . وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحض عليه : علم المنافع . وللعلم الذى هو ذكاء العقول وصقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضيلة والألباب"([8]) .


غير أن طريقة ابن المقفع تتخذ ، فى أحيان أخرى، منطق الإقناع العقلى، وتعتمد على كثير من الحقائق الاجتماعية المستقاة من التجربة ، وتتوالى فى إيراد البراهين ، مع استخدام الأسلوب الملون بالاستفهام والتعجب. ومن الأمثلة على ذلك، تلك الفقرة التى يقرر فيها أن رضا الناس غاية لا تدرك. يقول :


"إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رأى المختلفين؟! وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجور ، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟! فعليك باختيار رضا الأخيار منهم ، وذوى العقل. فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه"([9]) .


أما النقطة المهمة ، فتتمثل فى أن ابن المقفع يحدد لنفسه مجال البحث ، وهو السلوك الاجتماعى القويم فى معاملة الحكام والأصدقاء. فلا يخرج من هذا المجال ، وينجح – إلى حد كبير – فى استقراء أنماط ذلك السلوك الاجتماعى ؛ استقراء يكاد يكون شبه كامل([10]).

 

كما يقدم لموضوعه فى إقناع، ويحدد الهدف من كتابته فى تواضع ، وهى خصائص يمكن عدها بدايات جيدة لحركة التأليف فى الإسلام . ويكفى أن يتأمل القارئ تلك الفقرة الهادئة التى يقول فيها عند تقديم كتابه :


"وأنا واعظك فى أشياء من الأخلاق اللطيفة ، والأمور الغامضة التى لو حنكتك سن كنت خليقًا أن تعلمها ، وإن لم تخبر عنها ، ولكننى قد أحببت أن أقدم إليك فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجرى على عادة مساويها. فإن الإنسان قد تبتدر إليه فى شبيبته المساوئ ، وقد يغلب عليه ما بدر إليه منها للعادة . فإن لترك العادة مئونة شديدة ، ورياضة صعبة"([11]) .


تبقى مسالة أخيرة، تتعلق بالمؤثرات الأجنبية فى كتابات ابن المقفع. من الواضح أن جنسيته الفارسية أولاً ، ثم إجادته للغة الفارسية ثانيًا يقطعان بوجود هذه المؤثرات. أما القضية التى ثار حولها بعض الجدل ، فهى مدى أصالة ابن المقفع فى كتابته : هل كان ينقل كل ما يكتبه عن الفارسية أم أن له فيه نصيبًا من الاختراع؟


ولا شك أن دارسى الأدب المقارن هم أولى من يقدم إجابة مقبولة عن هذا السؤال. أما ما يكفى أن نشير إليه هنا ، فهو ان ابن المقفع قد قدم للحضارة الإسلامية أجود ما انتقاه من أفكار ، مدركًا روح الأمة التى يخاطبها ، غير خارج عن تعاليم دينها ، أو مستهدفًا للنيل من مثلها العليا .

 


آداب المجالسة :


يشغل هذا الموضوع ما يقرب من نصف كتاب "الأدب الكبير"([12]). ويمكن القول بدءًا بأن ابن المقفع قدم فيه مادة طيبة وشاملة. وإذا كانت قد وردت متناثرة فمن الأفضل تصنيفها إلى العناصر التالية :


1-آداب الاستماع .

2-آداب الحديث .

3-آداب مجالسة الجماعة .

4-آداب مجالسة الأصحاب .

5-مقارنة بين القول والعمل .

6-علاج عيوب المجالسة .

 


أولاً : آداب الاستماع :


الإنسان فى مجالسته الآخرين إما محدث أو مستمع. فإن كان يستمع إلى رئيس ، فعليه أن يركز انتباهه كله إلى حديثه ، ويستتبع هذا بالطبع إلزام بعض أعضاء الجسد وضعًا خاصًا ، يقول ابن المقفع : "إذا كلمك (الوالى) فأصغ إلى كلامه ، ولا تشغل طرفك عنه بنظره إلى غيره ، ولا أطرافك بعمل ، ولا قلبك بحديث نفس"([13]) ، ثم يؤكد ضرورة تطبيق هذا السلوك بناء على ما يبدو من معرفته بنفسية الحكام والرؤساء ، فيقول : "واحذر هذه الخصلة من نفسك، وتعاهدها بجهدك"([14]) .


أما إذا جلس الإنسان إلى عالم ، أو أستاذ ، أو من هو أكبر سنًا أو خبرة بوجه عام ، فمن اللائق أن يظهر له شعور الحاجة إلى المعرفة ، وهو شعور يتطلب من الإنسان أن يطرح ما لديه من أسئلة، ثم ينتظر الإجابة عنها. ومن الواضح أن انتظار الإجابة لا يتسق وكثرة التدخل فى الحديث بالمقاطعة ، أو الملاحقة ، أو التعقيب، بالقبول أو الرفض ، على بعض الفقرات. يقول ابن المقفع : "وليعرف العلماء ، حين تجالسهم ، أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول" .


والواقع أن مقاطعة الإنسان فى حديثه ، من الأمور التى أعطى لها ابن المقفع أهمية كبرى ، فهو يرى أن "من الأخلاق السيئة – على كل حال – مغالبة الرجل على كلامه ، والاعتراض فيه ، والقطع للحديث"([15]) .


ويبين الآثار النفسية الناتجة عن مثل هذه المقاطعة قائلاً : "واعلم – فيما تكلم به صاحبك – أم مما يهجن صواب ما يأتى به ، ويذهب بطعمه وبهجته ، ويزرى به فى قبوله : عجلتك بذلك ، وقطعك حديث الرجل قبل أن يفضى إليك بذات نفسه"([16]) .


بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك ، حين ينهى المستمع ، الذى يعلم سلفًا ما يذكره المتحدث ، أن يسرع إلى اغتصاب الحديث منه قبل أن يبدأ ، أو يحاول افتتاح فقرة جديدة قبل أن ينهى المتحدث الفقرة السابقة عليها ، أو يشترك معه فى الكلام فى وقت واحد بغرض أن يظهر الآخرين على معرفته .


ومن المهم جدًا أن ابن المقفع يعد مثل هذا السلوك السيئ أحد الأنواع الغامضة لداء البخل ، مشيرًا إلى أن للبخل مظاهر خفية ، قلما يتنبه لها الناس ، فيقول : "ومن الأخلاق التى أنت جدير بتركها – إذا حدث الرجل حديثًا تعرفه – ألا تسابقه إليه ، وتفتحه عليه ، وتشاركه فيه ، حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم مثل الذى يعلم ، وما عليك أن تهنئه بذلك ، وتفرده به.. وهذا الباب من أبواب البخل ، وأبوابه الغامضة كثيرة!" ([17]) .


ويحذر فى موضع آخر([18]) أنك "إذا رأيت الرجل يحدث حديثًا علمته ، أو يخبر خبرًا قد سمعته ، فلا تشاركه فيه ، ولا تتعقبه عليه، حرصًا على أن يعلم الناس أنك قد علمته ، فإن فى ذلك خفة وشحا ، وسوء أدب وسخفًا"!!


وأخيرًا ، يجمع ابن المقفع آداب الاستماع ، بصفة عامة ، فى قوله :

"ومن حسن الاستماع :

- إمهال المتكلم حتى ينقضى حديثه ،

- وقلة التلفت إلى الجواب ،

- والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم ،

- والوعى لما يقول"([19]) .

 


ثانيًا : آداب الحديث :


فى البداية ، ينبه ابن المقفع إلى أن اللسان عبارة عن آلة حادة، ذات وظيفة خطيرة فى حياة الإنسان داخل المجتمع ، يمكن أن تستخدم استخدامًا عاقلاً فتصبح فى صالحه ، كما يمكن أن تستخدم استخدامًا منحرفًا أو غير منضبط فتصير من أهم عوامل فشله فى علاقاته مع الآخرين .


ويوضح ابن المقفع أن اللسان – ذلك العضو البسيط اللين – تسعى عدة قوى فى الإنسان إلى السيطرة عليه ؛ من أجل تسخيره للتعبير عن نفوذها ومشيئتها. وهذه القوى هى : العقل، والغضب، والهوى، والجهل .


ومن الواضح أن القوة الأولى تقف فى مقابل القوى الثلاث الأخيرة. والإنسان – بما منح من حرية وإرادة – يستطيع أن يرجح كفة إحدى هذه القوى فى السيطرة على لسانه. يقول ابن المقفع : "اعلم أن لسانك أداة مصلتة ، يتغالب عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك ... فإذا غلب عليه عقلك ، فهو لك. وإن غلب عليه شىء من أشباه ما سميت لك فهو لعدوك (أى فى غير صالحك) فإن استطعت أن تحتفظ به وتصونه ، فلا يكون إلا لك ، ولا يستولى عليه أو يشاركك فيه عدوك ، فافعل"([20]) .


والأساس فى صون اللسان : أن يظل الإنسان صامتًا ، لا يتكلم إلا إذا دعت إلى الكلام ضرورة . ثم بعد ذلك توجد عدة آداب لاستخدام اللسان بصورة معتدلة وناجحة ، من أهمها : مراعاة الموقف، وظروف المخاطب ، وتجنب بعض العادات الرديئة مثل رواية كل ما يسمع الإنسان دون تمحيص ، وقطع الحديث بعد البدء به ، والتكرار الممل ، والقسم حيث لا مجال له ، والكذب ، والملق ... إلخ .


وسوف نتناول كل ذلك فيما يلى :


تعد مراعاة المواقف التى يحسن فيها الكلام من أهم ما ينبغى أن يتنبه له المتحدث ؛ إذ ليس فى كل موقف يحسن كل صواب "وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مائة كلمة يقولها الإنسان فى غير فرصها ومواضعها"([21]) بل إن الإدلاء بالرأى الصواب – فى غير مكانه – قد يخرج إلى ما يشبه الخطأ. يقول ابن المقفع : اخزن عقلك وكلامك – إلا عند إصابة الموضع .. فإن تمام إصابة الرأى والقول بإصابة الموضع . فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة على عقلك وقولك ، حتى تأتى به فى موضعه .

وإن أتيت به فى غير موضعه أتيت به وهو لا بهاء ولا طلاوة له"([22]) .


وإذا كانت مراعاة الموقف تتضمن اعتبار عدة عناصر مهمة مثل الوقت ، والمكان ، والجو المناسب ، فإن هناك عنصرًا لا يقل عنها أهمية ، وهو الشخص الذى تتحدث إليه ، والوقوف على شعوره بالنسبة إليك ، أو إلى حديثك . يقول ابن المقفع : "ولا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنمًا ، ما لم يغلبك اضطرار"([23]) .


ويالإضافة إلى مراعاة المتحدث للموقف ، فإن عليه تجنب عدد من عيوب الحديث ، وأولها : أن تغلب على الإنسان شهوة الكلام ، دون دافع حقيقى له ، فيضطر إلى قطع حديثه بعد البدء به ، محاولاً تذكر بعض أجزائه ، نتيجة لعدم إعداده سلفًا أو التفكير فيه يقول ابن المقفع : "ولا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثًا ثم تقطعه ، وتقول : سوف – كأنك روأت فيه (نظرت وتدبرت) بعد ابتدائك إياه ، وليكن ترويك فيه قبل التفوه به ، فإن احتجان الحديث (حبسه ومنعه) بعد افتتاحه سخف وغم"([24]) ، والواقع أن المتحدث بمثل هذه الطريقة إنما يرهق سامعه ، ويضطره إلى عناء الانتظار لما نسيه ، أو لم يتدبره ، دون أن يكون له ذنب فى النسيان أو عدم التفكر .


ومما يتصل بضرورة التروى فى الحديث قبل البدء به : ما يذكره ابن المقفع عن سرعة نقل الأخبار ، دون تمحيص لها ، أو حتى تصديق ، والسبب فى ذلك أن الإنسان قد تمر عليه الأحاديث المليحة أو الرائعة ، فيسرع إلى حفظها "فإن الحفظ موكل بما ملح وراع"([25]) وعندئذ يتملكه شعور غريزى فى أن يشرك الآخرين فى إعجابه بهذه الأحاديث .

فإن الحرص على التعجب من طبيعة الناس .


"ومن شأن الإنسان الحرص على الأخبار ، لا سيما ما يرتاع الناس له، فأكثر الناس من يحدث بما سمع ، ولا يبالى ممن سمع ، وذلك مفسدة للصدق ، ومزراة للمروءة" ، فإن استطعت ألا تخبر بشىء إلا وأنت مصدق به ، ولا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل ، ولا تقل كما يقول السفهاء : أخبر بما سمعت "فإن الكذب أكثر ما أنت سامع ، وإن السفهاء أكثر من هو قائل"([26]) .


ومن العيوب التى ينبغى أن يحذر منها المتكلم : التكرار ؛ وخاصة عندما تكون مادة الحديث غير معجبة للآخرين. ومن الواضح أن عدم الإعجاب يظهر فى طريقة استقبالهم للحديث . يقول ابن المقفع : "وليس كل معجب لك معجبًا لغيرك . فإذا نشرت ذلك المرة والمرتين ، فلم تره وقع من السامعين موقعه منك ، فانزجر عن العودة ، فإن العجب من غير عجيب سخف شديد"([27]) ثم يعلق على ذلك ببعض مشاهداته الشخصية فيقول : "وقد رأينا من الناس من تعلق بالشىء ولا يقلع عنه ، وعن الحديث به ، ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود إليه ، ثم يعود"([28]) .


والواقع أن ابن المقفع يدرك أنه "يكاد يكون لكل شخص (غالبة حديث) لا يزال يحدث به : إما عن بلد من البلدان ، أو ضرب من ضروب العلم ، أو صنف من صنوف الناس ، أو وجه من وجوه الرأى"([29]) وهذا لا بأس به ، غير أنه عندما تتحول "غالبة الحديث" إلى لون من الغرام والهوى ، فإن العيب يكون فاضحًا ، ويبدو من الرجل السخف ، ويعرف منه الهوى" وهنا يوصى ابن المقفع قائلاً : "فاجتنب ذلك فى كل موطن ، ثم عند السلطان خاصة"([30]) .


ويحتل القسم أو الحلف عند ابن المقفع مكانًا بارزًا فى عيوب الحديث ، فهو يحذر من استخدامه ، ويفصل القول فى دوافعه ، ويكفى أن يقف الإنسان عليها ليتجنبه ، فإنما يحمل الإنسان على الحلف إحدى هذه الخصال :


1- إما مهانة يجدها فى نفسه ، وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه .

2- وإما عى بالكلام ، فيجعل الإيمان له حشوًا ووصلاً .

3- وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه ، فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل قوله إلا بعد جهد اليمين !

4- وإما عبث بالقول ، وإرسال للسان على غير روية ، ولا حسن تقدير ، ولا تعويد له قول السداد والتثبيت([31]) .


ويرى ابن المقفع أنه من الأفضل للمتحدث أن يلتزم الصدق ، حتى فى مواقف الهزل ، فإن عاقبة الكذبة الهازلة وخيمة . يقول : "ولا تتهاونن بإرسال الكذبة – عند الوالى أو غيره – فى الهزل ، فإنها تسرع فى إبطال الحق ورد الصدق مما تأتى به"([32]) .


كما لا يرضى ابن المقفع عن عادة سيئة تشيع بين الناس عندما يتحدثون إلى رؤسائهم ، وتتمثل فى حشو الحديث بكلمات الملق، والدعاء ؛ رغبة فى اجتلاب منفعة ، أو خوفًا من نزول عقاب. وهو يشير إلى ذلك قائلاً : "إذا عرفت نفسك من الوالى بمنزلة الثقة ، فاعزل عنه كلام الملق ، ولا تكثرن من الدعاء له فى كل كلمة ، فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة"([33]) .


وأخيرًا ، يمكن أن نشير إلى أصل جامع للحديث ، ذكره ابن المقفع فى مطلع كتابة قائلاً : "وأصل الأمر فى الكلام : أن تسلم من السقط بالتحفظ ، ثم إن قدرت على بارع الكلام فهو أفضل"([34]) .


ومعنى ذلك : إن الثرثرة لابد أن تعود على صاحبها بما يهز مركزه الاجتماعى ، كما أن على الإنسان أن يكون لديه ما يقوله للآخرين ؛ حتى يفرض عليهم احترامه ، ويضمن تقديرهم لما يأتى به دائمًا .

 


ثالثًا : آداب مجالسة الجماعة :


هناك مبدأ عام يضعه ابن المقفع لمن يريد أن يتعامل مع المجتمع بطريقة مثلى ، تجمع بين الاحترام والمودة ، ويتمثل هذا المبدأ فى قوله "كن عالمًا كجاهل ، وناطقًا كعيى" ومعنى ذلك : أن على الإنسان تحصيل أكبر قدر من المعرفة ؛ ليحصن بها نفسه من الضلال والوهم ، وفى الوقت نفسه ، يكون مقتصدًا فى حديثه عما يعرف . وقد سبق أن للحديث مواقف ينبغى مراعاتها ؛ حتى تثمر نتيجته ، غير أن للصمت كذلك محاسن تخلع على الإنسان كثيرًا من الصفات الطيبة . يقول ابن المقفع : "فأما العلم فيزينك إليه – فيبلغك حاجتك ، وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار"([35]) .


ويفسر ذلك فى موضع آخر([36]) فيقول : "اعلم أن البغضة خوف، وأن المودة أمن . فاستكثر من المودة صامتًا ، فإن الصمت الحسن يزيد فى ود الصديق ، ويستل سخيمة الوغر (الحقد والضغن) " .


ويوصى ابن المقفع بأن يلاقى الآخرين بما يودون أن يقابلوا به "لا تجالسن امرأ بغير طريقته ، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم ، والجافى بالفقه، والعربى بالبيان – لم تزد على أن تضيع علمك ، وتوذى جليسك ، بحملك عليه ثقل ما لا يعرف ، وغمك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمى الذى لا يفقه"([37]) .


وهو يؤكد أن مقابلة الآخرين لما لم يعرفوه أو يألفوه تحدث دائمًا رد فعل مضادًا ، وتحرك فيهم طبيعة عدوانية تحاول أن تقلب العلم جهلاً ، بالإضافة إلى أنها قد تجعلهم يستشعرون الحزن فى مواقف الفرح . يقول ابن المقفع : "واعلم أنه ليس من علم تذكره ، عند غير أهله ، إلا عابوه ، ونصبوا له ، ونقضوه عليك ، وحرصوا على أن يجعلوه جهلاً ، حتى أن كثيرًا من اللهو واللعب الذى هو أخف الأشياء على الناس ، ليحضره من لا يعرفه ، فيثقل عليه، ويغتم به"([38]) .


وكثيرًا ما يجلس الإنسان إلى جماعة ، لا يعرف أحدهم أو بعضهم ، وعندئذ ينبغى له أن يراعى ، بدقة بالغة ، مسيرة حديثه ، متجنبًا التصريح برأى شخصى فى موضع عام ، أو الكشف عن شعور داخلى إزاء أمر ما . يقول ابن المقفع : "إذا كنت فى جماعة ، فلا تعمن جيلاً من الناس ، أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم ، فإنك لا تدرى : لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئًا ، فلا تأمن من مكافأتهم ، أو معتمدًا فتنسب إلى السفه !


ولا تذمنَّ ، مع ذلك ، أسمًا من أسماء الرجال أو النساء ، بأن تقول : إن هذا لقبيح من الأسماء ! فإنك لا تدرى : لعل ذلك غير موافق لبعض جلسائك ، ولعله يكون بعض أسماء الحرم والأهلين"([39]).


ثم يكشف ابن المقفع عن الأثر النفسى ، العميق والضار ، الذى ينشأ عن هذا الأمور الصغيرة ، فيقول : "ولا تستصغرن من هذا شيئًا ، فكل ذلك يجرح فى القلب ، وجرح اللسان أشد من جرح اليد"([40]).


كذلك من مراعاة شعور الجماعة : عدم تكذيب ما يأتى به متحدث منها، أو تسخيفه ، حتى ولو كانت مادة الحديث كاذبة أو سخيفة ، تجنبًا لإثارة شعور سيئ فى نفس المتحدث . يقول ابن المقفع: "اعلم أنك ستسمع من جلسائك الرأى والحديث تنكره وتستجفيه وتستشنعه من المتحدث به ، عن نفسه أو غيره، فلا يكونن منك التكذيب ولا التسخيف لشىء مما يأتى به جليسك ، ولا يجرئنك على ذلك أن تقول : إنما حدث عن غيره ! فإن كل مردود سيمتعض من الرد"([41]) .


أما إذا خشى الإنسان من أن يرسخ هذا القول الكاذب فى أذهان بعض الحاضرين ، أو ينتشر من الناس عن طريقهم ، فما عليه إلا أن يبين له ذلك ، بعيدًا عن قائله ، وبهذا يحقق هدفين : تصحيح خطأ ربما يشيع ، واجتناب بغض قد يؤذى . يقول ابن المقفع : "وإن كان فى القوم من تكره أن يستقر فى قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يعقد عليه ، أو مضرة تخشاها على أحد ، فإنك قادر على أن تنقض ذلك فى ستر ، فيكون ذلك أيسر للنقض ، وأبعد للبغضة"([42]) .


ومن المواقف التى ينبغى على الإنسان أن يسلك فيها سلوكًا اجتماعيًا مهذبًا ؛ ذلك الموقف الذى يضم جماعة من الناس ، يطرح فيهم سؤال . فإن اختص السائل بسؤاله واحدًا معينًا من الجماعة ، لم يكن لآخر أن يجيب بدلاً عنه "فإن استلابك الكلام خفة بك ، واستخفاف منك بالمسئول وبالسائل . وما أنت قائل إذا قال لك السائل : ما إياك سألت ؟! أو قال لك المسئول – عند المسألة يعاد له بها : دونك فأجب؟!([43]) .


أما إذا لم يقصد السائل واحدًا بعينه ، وعم بسؤاله الجماعة ، فمن الأفضل ألاً تبادر بالجواب ، ولا تسابق الجلساء ، ولا تواثب بالكلام مواثبة ، فإن ذلك يجمع مع الشين التكلف والخفة !


فإنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصما ، فتعقبوه بالعيب والطعن ، وإذا أنت لم تعجل بالجواب ، وخليته للقوم ، اعترضت أقاويلهم على عينك ، ثم تدبرتها وفكرت فيما عندك ، ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جوابًا رضيّا ، ثم استدبرت به أقاويلهم حين تصيخ إليك الأسماع ، ويهدأ عنك الخصوم"([44]) .


ويطمئن ابن المقفع من فاتته المشاركة فى الإجابة ، اكتفاء بمن تحدث قبله قائلاً : "وإن لم يبلغك الكلام حتى يكتفى بغيرك ، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك ولا من الغبن فى نفسك فوت ما فاتك من الجواب ، فإن صيانة القول خير من سوء وضعه .. مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير ، وإن ظن صاحبه أنه أتقن وأحكم"([45]) .


وبالإضافة إلى ذلك ، يقرر ابن المقفع ، مرة أخرى ، أن حرص الرجل على إظهار ما عنده ، وقلة وقاره فى ذلك – باب من أبواب البخل واللؤم ، وأن من خير الأعوان على ذلك السخاء والتكرم([46]) .


ثم يعلق ابن المقفع على هذا السلوك ونحوه بأنه من الأمور التى "لا تدرك ولا تملك إلا برحب الذرع عندما قيل وما لم يقل ، وقلة الإعظام لما ظهر من المروءة وما لم يظهر ، وسخاوة النفس عن كثير من الصواب ؛ مخافة الخلاف ؛ ومخافة العجلة ، ومخافة الحسد ؛ ومخافة المراء"([47]) .


وأخيرًا ، يحذر ابن المقفع أولئك الذين يشغفون فى مجالسهم ، بالتعريض بأخطاء الآخرين وعيوبهم ، معتقدين أن ذلك يخفى على أحد ، فيقول: "واعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال ، فى الناس ، مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم . وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح ، فلا تكونن من ذلك فى غرور ، ولا تجعلن نفسك من أهله"([48]) .

 


رابعًا : آداب مجالسة الأصحاب :


يعد ابن المقفع الصداقة الحقيقية أفضل ما يمكن للإنسان أن يربحه من الحياة ، فإخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا : هم زينة فى الرخاء ؛ وعدة فى الشدة ؛ ومعونة على خير المعاش والمعاد . فلا تفرطن فى اكتسابهم ، وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم .


ومن هنا كان اهتمامه البالغ بمعاملة الأصدقاء ، والتنبيه إلى السلوك الذى يستبقى ودهم ، ويستزيد منه ، والتحذير من أدق التصرفات التى قد تسىء إلى شعورهم ، أو حتى تمسه !


فيحرص ابن المقفع على أن يترجم الإنسان مشاعره الطيبة ، تجاه صديقه ، إلى واقع عملى . ومن ذلك أن يعلم الصديق شفقتك عليه ، وعلى أصحابه "وإياك – إن عاشرك امرؤ أو رافقك – أن يرى منك الولوع (أى الاستخفاف) بأحد من أصحابه وإخوانه ، فإن ذلك يأخذ من أعنة القلوب مأخذا".


ويكشف ابن المقفع عن حقيقة نفسية هامة ، عندما يقول : "إن لطفك بصاحب صاحبك أحسن عنده موقعًا من لطفك به فى نفسه!" .


ومن حق الصديق مراعاة ظروفه الاجتماعية ، وحالاته النفسية ، واعتبار ذلك عند مجالسته ، فليس من اللياقة أن يظهر الإنسان سروره لدى صديق مكتئب . يقول ابن المقفع : "واتق الفرح عند المحزون . واعلم أنه يحقد على المنطلق ، ويشكر للمكتئب" .


وقى مقابل ذلك ، ينبغى مشاركة الصديق السعيد فى سعادته ، وتجنب الأقوال أو الأفعال التى قد تكدر صفاء تلك السعادة وبهجتها . وهنا يتحدث ابن المقفع عن مشاهداته قائلا : "قد رأينا من سوء المجالسة أن الرجل : تثقل عليه النعمة يراها بصاحبة ، فيكون ما يشفى بصاحبه – فى تصغير أمره ، وتكدير النعمة عليه – أن يذكر الزوال ، والفناء ، والدول ، كأنه واعظ وقاص ! فلا يخفى ذلك على من يعنى به ولا غيره" .


ويشير ابن المقفع إلى أن مثل هذا القول – حتى لو أراد صاحبه له أن يكون موعظة ، فإنه لن ينزل منزلة الوعظ ، وإنما سيؤخذ على أنه ضجر من النعمة التى نزلت بصاحبه ، واغتمام بها. ومن الطبيعى أن يولد هذا فى القلوب الفرقة ، ويؤكد بينها التنافر .


وعلى الإنسان أن يكون سمحًا فى تعامله مع الأصدقاء ، غير متشدد فى قبول أعذارهم .

 

ولقبول الاعتذار سلوك طيب يرشد إليه ابن المقفع فى قوله : "إذا اعتذر لك معتذر ، فتلقه بوجه مشرق ، وبشر ، ولسان طلق – إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة"([49]) .


ومن التسامح فى الصداقة : أن يمسك الإنسان نفسه عن كثير من الآراء التى يراها أصوب من آراء أصدقائه ، وأن يتحفظ ، قدر الإمكان ، من التطاول عليهم بالقول أو بالفعل ، خشية أن يحسوا فى تصرفاته شيئًا من الاستعلاء ، فينقبضوا عنه ، أو ينصرفوا .. يقول ابن المقفع : "تحفظ فى مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفسًا عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأى ؛ مداراة لأن يظن أصحابك أنك إنما تريد التطاول عليهم"([50]) .


وإذا كان من الطبيعى أن يختلف الصديق مع صديقه فى الرأى، فلا ينبغى أن يكون ظهور الصواب فى جانب أحدهما دافعًا إلى أن يتخذ ذلك مدعاة لتقريع الآخر ، والتهوين من قدراته ، فإن مثل هذا السلوك يجمع إلى فساد التفكير سوء الخلق . يقول ابن المقفع: "ولا تلتمس غلبة صاحبك ، والظفر عليه ، عند كل كلمة ورأى ، ولا تجترئن على تقريعه بظفرك إذا استبان ، وحجتك عليه إذا وضحت .


فإن أقوامًا قد يحملهم حب الغلبة وسفه الرأى فى ذلك ، على أن يتعقبوا الكلمة بعدما تنسى ، فيلتمسوا فيها الحجة ، ثم يستطيلوا بها على الأصحاب ، وذلك ضعف فى العقل ، ولؤم فى الأخلاق"([51]) .


وفى هذا الإطار أيضًا : ما يكون عن نتائج المشورة بين الأصدقاء . وهنا يقرر ابن المقفع أن أمور الدنيا لا تسير وفق خطة ميكانيكية ، يمكن التنبؤ بنتائجها إذا ما عرفت مقدماتها ؛ لذلك فإن المستشار فى أحد أمورها ليس بضامن صواب ما يدلى به . وإذن لا ينبغى على المستشير أن يعود عليه باللوم والتقريع . وفى مقابل ذلك، لا يصح للمستشار – إذا ظهر الصواب فى جانبه – أن يكثر من المن على صاحبه ، لقاء ما قدم له من مشورة . يقول ابن المقفع: "إذا أشار عليك صاحبك برأى ، ثم لم تجد عاقبته على ما كنت تأمل ، فلا تجعل ذلك عليه دينًا ، ولا تلزمه لومًا وعذلاً ، بأن تقول له : "أنت فعلت هذا بى" .. و"أنت أمرتنى" .. و "لولا أنت لم أفعل" .. و "لا جرم لا أطيعك بعدها" .. فإن هذا ضجر ، ولؤم ، وخفة !


فإن كنت أنت المشير ، فعمل برأيك ، أو تركه ، فبدا صوابك، فلا تمن به ، ولا تكثر من ذكره ، إن كان فيه نجاح ، ولا تلمه عليه، إن كان قد استبان فى تركه ضرر ، بأن تقول : "ألم أقل لك : افعل هذا" .. فإن هذا مجانب لأدب الحكماء .


والواقع أن فضائل الإنسان لا تظهر بحديثه عنها ، بل على العكس قد تنقلب إلى رذائل لمجرد أنها تذاع على لسانك ، فضلاً عما هو معروف دائمًا من اتهام كل من يتحدث عن نفسه ، والنفور منه ، يقول ابن المقفع : "وإن آنست من نفسك فضلاً فتحرج أن تذكره أو تبديه ، واعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك فى قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل ، واعلم أنك إن صبرت ، ولم تعجل ، ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند الناس" .


ويحذر ابن المقفع الصديق الذى يتفضل على صديقه بمعروف أن يتفوه بكلمة ، أو يأتى بإشارة عما قدمه إليه . بل عليه أن يحاول نسيانه ، والتهوين من شأنه ما أمكن ، فإنه بذلك يعظم فى عين الصديق ، ويتمكن من قلبه . يقول : "إذا كانت لك عند أحد صنيعة ، أو كان لك عليه طول ، فالتمس إحياء ذلك بإماتته ، وتعظيمه بالتصغير له .. واحذر أن يكون فى مجالستك إياه ، وما تكلمه به ، أو تستعينه عليه ، أو تجاريه فيه : شىء من الاستطالة ، فإن الاستطالة تهدم الصنيعة وتكدر المعروف" .


يل إنه ينصح بتجنب ادعاء العلم ، وخاصة بين الأصدقاء ، مبينًا ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج ضارة بموقف صاحبها الاجتماعى ، فيقول : "لا تكثرن من ادعاء العلم فى كل ما يعرض بينك وبين أصحابك ، فإنك من ذلك بين فضيحتين : إما أن ينازعوك فيما ادعيت ، فيهجم منك على الجهالة والصلف ، وإما ألا ينازعوك ويخلوا فى يديك ما ادعيت من الأمور ، فينكشف منك التصنع والمعجزة"([52]) .


وهنا خلق سيئ يبدو فى سلوك كثير من الناس ، إذا سمع أحدهم من صاحبه حديثًا معجبًا ، أو رأيًا صائبًا ، لم يجد حرجًا فى سرقته ، ثم التحديث به ، كأن ذلك له ؛ رغبة فى الفوز برضا الآخرين . يقول ابن المقفع : "إن سمعت من صاحبك كلامًا ما أو رأيت منه رأيًا يعجبك ، فلا تنتحله تزينًا به عند الناس ، واكتف من التنزين بأن تجتنى الصواب إذا سمعته ، وتنسبه إلى صاحبه، واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك ، وأن فيه مع ذلك عارًا وسخفًا"([53]).


والأدهى من ذلك أنه ربما طاب لأحد الأصدقاء أن يحدث بحديث صديقه ، وهو جالس ، دون أن يشير إلى نسبته إليه "فإن بلغ بك ذلك : أن تشير برأى الرجل ، وتتكلم بكلامه – وهو يسمع – جمعت مع الظلم قلة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشى فى الناس "([54]) .


أما السلوك المهذب الذى يدعو إليه ابن المقفع ، فى مثل هذه لمواقف ، فيتمثل فهى أن ينسب الإنسان إلى صديقه رأيه ، بل يعمل على تزيينه ما أمكنه ذلك . ومن ناحية أخرى ، لا يتشدد مع صديق آخر ، قد يقوم بسرقة رأيه هو ، والتحدث به ، فيقول : "ومن تمام حسن الخلق والأدب ، فى هذا الباب ، أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك ، وتنسب إليه رأيه وكلامه ، وتزينه مع ذلك ما استطعت"([55]) .


بل إن ابن المقفع يذهب إلى أبعد من ذلك ، حين يدعو الإنسان أن ينسب أحيانًا رأيه الصائب إلى صديقه ، تفضلاً منه وكرمًا ، مشيرًا إلى أن لمثل هذا السلوك النبيل من الآثار والنتائج فى نفس الصديق ما يفوق كل تصور .. فيقول : "وإن استطعت أن تعرف صاحبك أنك تنحله (هنا بمعنى تمنحه) صواب رأيك .. فضلاً عن أن تدعى صوابه – وتسند ذلك إليه ، وتزينه به ، فافعل ، فإن الذى أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معط بأضعاف"([56]) .


وعلى الرغم من التبسط الذى يوجد عادة بين الأصدقاء ، وتستدعيه المودة بينهم ، فإن ابن المقفع يحذر من عدم تقدير المواقف التى تتمشى مع هذا التبسط ومن ذلك خلط الجد بالهزل ، أو العكس – فهو يقول : "ولا تخلطن بالجد هزلاً ، ولا بالهزل جدًا ، فإنك إن خلطت بالجد هزلاً هجنته ، وإن خلطت بالهزل جدًا كدرته"([57]) .


موقف واحد فقط هو الذى يحسن بالإنسان أن يتصرف فيه هذا التصرف ، أى أن يقابل الجد بالهزل ؛ تجنبًا من وقوع مشاجرة ؛ وقصدًا إلى عدم التورط فى شجار مع إنسان أحمق ، أو متهور . يقول ابن المقفع : "غير أنى قد علمت موطنًا واحدًا – إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأى ، وظهرت على الأقران : وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب وسوء اللفظة ، فتجيبه إجابة الهازل المداعب ، برحب من الذرع ، وطلاقة من الوجه ، وثبات من المنطق"([58]) .

 


خامسًا : مقارنة بين القول والعمل :


يفضل ابن المقفع أن يكون الإنسان مقتصدًا فى حديثه ، ما أمكنه ذلك ، وقد سبق أنه دعا إلى السلامة من السقط بالتحفظ ؛ لذلك نجده هنا ، فى مجال الصداقة ، حريصًا على أن يطبق هذا المبدأ . فلا ينبغى على الإنسان أن يتكلم أكثر مما يفعل . ومن الأفضل أن يحتفظ الصديق لنفسه ببعض نواياه ، حتى تتحقق فى الواقع ؛ لأن خروجها إلى الواقع هو فى حد ذاته أبلغ تعبير عنها . يقول : "إن استطعت ألا تخبر أخاك عن ذات نفسك بشىء إلا وأنت محتجن (محتبس وكاتم) عنه بعض ذلك ؛ التماسًا لفضل الفعل على القول ، واستعدادًا لتقصير فعل – إن قصر – فافعل .. واعلم أن فضل الفعل على القول زينة ، وفضل القول على الفعل هجنة ، وأن إحكام هذه الخلة من غرائب الخلال"([59]) .


ويؤكد ابن المقفع ى موضع آخر([60]) ، أنه دائمًا ما يقصر الإنسان فى أفعاله عما حدث عنه فى أقواله . فما الذى يدفعه إذن إلى أن يكتسب عارًا هو فى غنى عنه ، أو يطلب على نفسه شماته ليس أهلاً لها ؟! .

 


سادسًا : علاج عيوب المجالسة :


يعترف ابن المقفع بأن الإنسان يحتوى على جميع الطبائع ، سواء كانت خيرة أم شريرة ، وإنما يأتى التفاضل بين الناس ، بالنسبة إلى المجال الأخلاقى، فى مغالبة طبائعهم السيئة ، ومحاولة التحكم فيها([61]) .

 

"أما أن يسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز ، فليس فى ذلك مطمع ، إلا أن الرجل القوى إذا كابرها يالقمع لها كلما تطلعت ، لم يلبث أن يميتها حتى كأنها ليست فيه ، وهى فى ذلك كامنة كمون النار فى العود ، فإذا وجدت قادحًا من علة أو غفلة استورت كما تستورى النار عند القدح ، ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها ، كما لا تبدأ النار إلا بعودها الذى كانت فيه"([62]) .


ويلاحظ أن ابن المقفع يعطى للإرادة الإنسانية أهمية كبرى فى علاج الأدواء الأخلاقية . وهو معتدل فى نظرته إلى الطبيعة الإنسانية من حيث اشتمالها على عنصرى الخير والشر ، أو كونها مستعدة لهما .


غير أنه يركز دائمًا – كما رأينا – على مجاهدة دوافع الشر ، بنا على أن الناس يتفاضلون ، فيما بينهم ، فى قمعها . وقد يقال : إنه لم يعط نفس القدر للجانب الخير فى الإنسان ، والمتمثل فى طبائع معينة ، كان من الممكن أن يركز على تنميتها ، كما فعل بالنسبة لطبائع الشر .


ومهما يكن من شىء ، فإن ابن المقفع قد قدم – بهذه المحاولة فى مجال السلوك الاجتماعى – نموذجًا فريدًا – ويبقى أن كثيرًا مما حض عليه ، أو حذر منه ما زال ينظر إليه بنفس المقاييس فى عصرنا الحاضر ، ولدى أرقى المجتمعات تحضرًا .


* *






([1]) انظر : "ابن المقفع" لخليل مردم، ط دمشق 1930 ، "وابن المقفع" لعبد اللطيف حمزة ، دار النشر الحديث ، والمقالة الضافية التى كتبها جابرييلى F.Gabriell فى الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية، النسخة الفرنسية .

([2]) انظر : "أمراء البيان" لمحمد كرد على 1/108 .

([3]) انظر : ضحى الإسلام 1/223 لأحمد أمين ، حيث ناقش زندقة ابن المقفع ونفاها .

([4]) ابن مسكويه لعبد العزيز عزت ، ص204 .

([5]) نفس المصدر ، نفس الصفحة .

([6]) ضحى الإسلام ، 1/199 ، 200 واعتمد فى ذلك على عدة حجج مقبولة، وانظر كذلك : ابن المقفع لعبد اللطيف حمزة .

([7]) مقدمة الأدب الكبير لمحمد المرصفى ، ص15 ، مطبعة مطر ، القاهرة 1913 .

([8]) الأدب الكبير ، ص69 ، 70 .

([9]) نفسه المصدر ، ص12 .

([10]) ذكر ابن المقفع فى هذا الصدد 85 نمطًا .

([11]) الأدب الكبير ، ص7 .

([12]) الأدب الكبير ، ص42 .

([13]) نفس المصدر ، ص54 .

([14]) الأدب الكبير ، ص42 .

([15]) نفس المصدر ، ص 99 .

([16]) نفس المصدر ، ص96 .

([17]) الأدب الكبير ، ص99 .

([18]) نفس المصدر ، ص58 .

([19]) الأدب الكبير ، ص96 .

([20]) الأدب الكبير ، ص62 ، 63 .

([21]) نفس المصدر ، ص 42 .

([22]) الأدب الكبير ، ص53 ، 54 .

([23]) نفس المصدر ، ص64 .

([24]) نفس المصدر ، ص53 .

([25]) الأدب الكبير ، ص85 .

([26]) نفس المصدر ، ص85 ، 86 .

([27]) الأدب الكبير ، ص85 .

([28]) نفس المصدر ، ص85 ، 86 .

([29]) نفس المصدر ، ص46 .

([30]) نفس المصدر ، ص46 .

([31]) الأدب الكبير ، ص22 ، 23 .

([32]) نفس المصدر ، ص 39 .

([33]) نفس المصدر ، ص30 .

([34]) الأدب الكبير ، ص6 .

([35]) نفس المصدر ، ص58 .

([36]) نفس المصدر ، ص94 ، 95 .

([37]) نفس المصدر ، ص92 .

([38]) نفس المصدر ، ص93 .

([39]) الأدب الكبير ، ص98 .

([40]) نفس المصدر ، ص98 .

([41]) الأدب الكبير ، ص94 .

([42]) نفس المصدر ، ص 94 .

([43]) نفس المصدر ، ص40 .

([44]) الأدب الكبير ، ص40 ، 41 .

([45]) نفس المصدر ، ص41 .

([46]) نفس المصدر ، ص58 .

([47]) نفس المصدر ، ص42 .

([48]) نفس المصدر ، ص 99 ، 100 .

([49]) الأدب الكبير ، ص 64 .

([50]) نفس المصدر ، ص55 ، 56 .

([51]) نفس المصدر ، ص 88 ، 89 .

([52]) الأدب الكبير ، ص52 ، والمعجزة بفتح الميم هى العجز .

([53]) نفس المصدر ، ص53 .

([54]) نفس المصدر ، ص53 .

([55]) نفس المصدر ، ص53 .

([56]) الأدب الكبير ، ص40 .

([57]) نفس المصدر ، ص54 .

([58]) نفس المصدر ، ص54 ، 55 .

([59]) نفس المصدر ، ص82 ، 83 .

([60]) الأدب الكبير ، ص58 ، 59 .

([61]) نفس المصدر ، ص67 .

([62]) نفس المصدر ، ص67 ، 68 .

 

آخر تحديث الأحد, 21 ديسمبر 2014 19:46