أسرار التفوق الأمريكى طباعة
كتبها Administrator   
الخميس, 30 مايو 2013 00:43

الأحد، 5 مايو 2013


أحسب أن أحدا لا ينكر مظاهر التفوق الأمريكى فى شتى مظاهره: العسكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية والاستخباراتية.. إلخ، فإذا حاولنا بحث أسرار هذا التفوق وجدناها كثيرة ومتنوعة، بعضها مادى يرجع إلى طبيعة الأرض الغنية التى تشغلها أمريكا، وبعضها الآخر بشرى يتصل بكفاءة الأفراد الذين استوطنوا هذه الأرض ونجحوا فى تعميرها.

وأريد فى هذا المقال أن أتناول كفاءة الأمريكان، ليس من ناحية حبهم للعمل، وميلهم للمغامرة، وتشجيعهم للتجديد، وتكريمهم للمبدعين، وإنما من ناحية خلفيتهم الفكرية والفلسفية المستقرة فى عقولهم، والتى تنعكس بالضرورة على حياتهم النشطة التى تفاجئ كل من يزور أمريكا ويرى مدنها تموج بالحركة والحيوية بالليل كما بالنهار.

ومن المعروف أن هذه الفلسفة تسمى (البراجماتية) ومؤسسها هو وليم جيمس (1842 ــ 1910): فيلسوف أمريكى استوعب التراث الفلسفى السابق عليه، وتأثر ببعض أعلامه وأفكاره، لكنه ظل مرتبطا بالواقع، فلم يحلق فى نظريات مجردة، أو آراء لا يمكن تطبيقها، وإنما قام باستخلاص نظرية فلسفية تقوم على أساس أن الفكرة الصحيحة هى ما يمكن تطبيقها فى الواقع لخدمة الإنسان، وبالتالى فإن الفكرة الخاطئة هى التى لا يمكن تطبيقها فى الواقع، وامتدادا لذلك فإنها إذا طبقت تضر بمصلحة الإنسان.

وهكذا استبعد وليم جيمس من فلسفته كل الأفكار الهلامية التى تناقش أمورا ومسائل لا يمكن للعقل الإنسانى أن يصل إليها فضلا عن أن يتحقق من صحتها، ولكى يوضح ذلك أشار إلى مسألة وجود العالم أو نشأته التى انقسم الفلاسفة حولها إلى فريقين: فريق يرى أن العالم نشأ بالصدفة نتيجة اجتماع ذرات كانت متناثرة على نحو معين ثم تطور عبر ملايين السنين إلى الوضع الذى نراه عليه حاليا.

ويذهب الفريق الآخر إلى أن العالم إنما أنشأه إله حكيم قادر، وهذا ما أكدته كل الأديان السماوية، وعندما يفحص وليم جيمس هذين الرأيين يقول إننا لا يمكننا بعقولنا الإنسانية ولا بوسائلنا العلمية أن نغوص فى الماضى السحيق للوقوف على حقيقة هذا الأمر، لذلك علينا أن نترك هذه المسألة ونتجه مباشرة لمواجهة العالم الموجود حاليا كما هو: ندرس ظواهره، ونستفيد من خيراته لمصلحتنا، بدلا من النقاش والاختلاف حول مسألة عويصة أو مستعصية على العقل الإنسانى.

إن فلسفة وليم جيمس تستبعد الجدل العقيم أى الذى لا يؤدى إلى نتائج محددة، والمسائل التى لا يستطيع العقل الإنسانى بقدراته ووسائله أن يثبت صحتها فى الواقع، وهذا هو السبب الذى جعل الفلاسفة السابقين يختلفون ويتصارعون حولها بدون فائدة، ومن الممكن أن يستمر غيرهم كذلك إلى ما لا نهاية .. ولو أنهم وجهوا عنايتهم لبحث الواقع الذى يحيط بهم، واستخلصوا منه النتائج المفيدة لوفروا علينا وعلى أنفسهم هذا العناء الفكرى، ولقدموا للإنسانية أفكارا أكثر جدوى من الناحية العملية.

وبالنسبة إلى وضع الدين فى إطار هذه الفلسفة، يؤكد وليم جيمس أن الدين ضرورى للإنسان بمقدار ما يجعله مرتبطا بعالم أسمى، يفرض عليه أخلاقيات فاضلة، ويزوده بأمل فى المستقبل، ويحثه على الصبر الذى يساعده على تحمل مصاعب الحياة والتغلب على عقباتها.
لكن الدين ليس جدلا وصراعا وخلافات بين علمائه ومن خلفهم الأتباع، وإنما هو تجربة إنسانية يعيشها بعمق كل إنسان متشربا ما فيها من عصارة روحية مركزة، وهو باختصار من الوقائع الموجودة بالفعل فى حياة البشر، يقدم لهم خدمة عملية هامة.

هذه هى الفلسفة المستقرة فى عقل الشعب الأمريكى، والتى ينبغى أن يلم بها كل من يريد أن يتعامل معه . ومنها يمكن أن نفهم ونفسر فى نفس الوقت سلوكه الذى يتصرف به وقراراته التى يتخذها، لكن قد تكون هناك بعض التجاوزات أو حتى الانحرافات، لكن يبقى أن البراجماتية تصل إلى المطلوب من أقصر الطرق، وتستعين بالمنهج التجريبى فى التحقق من صحة الأفكار، وتستبعد الجدل والمناقشات النظرية التى تستهلك الوقت والجهد، وتؤكد على ما يخدم الناس فى حياتهم العملية .. وليس كما شاع عن هذه الفلسفة فى ثقافتنا المصرية والعربية أنها فلسفة نفعية خالصة!

الأحد، 5 مايو 2013


أحسب أن أحدا لا ينكر مظاهر التفوق الأمريكى فى شتى مظاهره: العسكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية والاستخباراتية.. إلخ، فإذا حاولنا بحث أسرار هذا التفوق وجدناها كثيرة ومتنوعة، بعضها مادى يرجع إلى طبيعة الأرض الغنية التى تشغلها أمريكا، وبعضها الآخر بشرى يتصل بكفاءة الأفراد الذين استوطنوا هذه الأرض ونجحوا فى تعميرها.

وأريد فى هذا المقال أن أتناول كفاءة الأمريكان، ليس من ناحية حبهم للعمل، وميلهم للمغامرة، وتشجيعهم للتجديد، وتكريمهم للمبدعين، وإنما من ناحية خلفيتهم الفكرية والفلسفية المستقرة فى عقولهم، والتى تنعكس بالضرورة على حياتهم النشطة التى تفاجئ كل من يزور أمريكا ويرى مدنها تموج بالحركة والحيوية بالليل كما بالنهار.

ومن المعروف أن هذه الفلسفة تسمى (البراجماتية) ومؤسسها هو وليم جيمس (1842 ــ 1910): فيلسوف أمريكى استوعب التراث الفلسفى السابق عليه، وتأثر ببعض أعلامه وأفكاره، لكنه ظل مرتبطا بالواقع، فلم يحلق فى نظريات مجردة، أو آراء لا يمكن تطبيقها، وإنما قام باستخلاص نظرية فلسفية تقوم على أساس أن الفكرة الصحيحة هى ما يمكن تطبيقها فى الواقع لخدمة الإنسان، وبالتالى فإن الفكرة الخاطئة هى التى لا يمكن تطبيقها فى الواقع، وامتدادا لذلك فإنها إذا طبقت تضر بمصلحة الإنسان.

وهكذا استبعد وليم جيمس من فلسفته كل الأفكار الهلامية التى تناقش أمورا ومسائل لا يمكن للعقل الإنسانى أن يصل إليها فضلا عن أن يتحقق من صحتها، ولكى يوضح ذلك أشار إلى مسألة وجود العالم أو نشأته التى انقسم الفلاسفة حولها إلى فريقين: فريق يرى أن العالم نشأ بالصدفة نتيجة اجتماع ذرات كانت متناثرة على نحو معين ثم تطور عبر ملايين السنين إلى الوضع الذى نراه عليه حاليا.

ويذهب الفريق الآخر إلى أن العالم إنما أنشأه إله حكيم قادر، وهذا ما أكدته كل الأديان السماوية، وعندما يفحص وليم جيمس هذين الرأيين يقول إننا لا يمكننا بعقولنا الإنسانية ولا بوسائلنا العلمية أن نغوص فى الماضى السحيق للوقوف على حقيقة هذا الأمر، لذلك علينا أن نترك هذه المسألة ونتجه مباشرة لمواجهة العالم الموجود حاليا كما هو: ندرس ظواهره، ونستفيد من خيراته لمصلحتنا، بدلا من النقاش والاختلاف حول مسألة عويصة أو مستعصية على العقل الإنسانى.

إن فلسفة وليم جيمس تستبعد الجدل العقيم أى الذى لا يؤدى إلى نتائج محددة، والمسائل التى لا يستطيع العقل الإنسانى بقدراته ووسائله أن يثبت صحتها فى الواقع، وهذا هو السبب الذى جعل الفلاسفة السابقين يختلفون ويتصارعون حولها بدون فائدة، ومن الممكن أن يستمر غيرهم كذلك إلى ما لا نهاية .. ولو أنهم وجهوا عنايتهم لبحث الواقع الذى يحيط بهم، واستخلصوا منه النتائج المفيدة لوفروا علينا وعلى أنفسهم هذا العناء الفكرى، ولقدموا للإنسانية أفكارا أكثر جدوى من الناحية العملية.

وبالنسبة إلى وضع الدين فى إطار هذه الفلسفة، يؤكد وليم جيمس أن الدين ضرورى للإنسان بمقدار ما يجعله مرتبطا بعالم أسمى، يفرض عليه أخلاقيات فاضلة، ويزوده بأمل فى المستقبل، ويحثه على الصبر الذى يساعده على تحمل مصاعب الحياة والتغلب على عقباتها.
لكن الدين ليس جدلا وصراعا وخلافات بين علمائه ومن خلفهم الأتباع، وإنما هو تجربة إنسانية يعيشها بعمق كل إنسان متشربا ما فيها من عصارة روحية مركزة، وهو باختصار من الوقائع الموجودة بالفعل فى حياة البشر، يقدم لهم خدمة عملية هامة.

هذه هى الفلسفة المستقرة فى عقل الشعب الأمريكى، والتى ينبغى أن يلم بها كل من يريد أن يتعامل معه . ومنها يمكن أن نفهم ونفسر فى نفس الوقت سلوكه الذى يتصرف به وقراراته التى يتخذها، لكن قد تكون هناك بعض التجاوزات أو حتى الانحرافات، لكن يبقى أن البراجماتية تصل إلى المطلوب من أقصر الطرق، وتستعين بالمنهج التجريبى فى التحقق من صحة الأفكار، وتستبعد الجدل والمناقشات النظرية التى تستهلك الوقت والجهد، وتؤكد على ما يخدم الناس فى حياتهم العملية .. وليس كما شاع عن هذه الفلسفة فى ثقافتنا المصرية والعربية أنها فلسفة نفعية خالصة!

آخر تحديث الاثنين, 02 مارس 2015 22:47