المفهوم المتكامل للأسلام طباعة
كتبها د . حامد طاهر   
الأربعاء, 31 مارس 2010 13:08

 

 


المفهوم المتكامل للإسلام



الإسلام هو آخر دين سماوي ، وهو يتميز بالبساطة ، ويمكن أن تتقبله بسهولة كافة العقول ، ويتجه بتعاليمه إلى الإنسان فى كل زمان ومكان .

وبمجرد أن " يعلن " أى شخص " الشهادة " بأنه " لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله " ، يصبح مسلماً ، يمتلك عدداً من الحقوق ، وتفرض عليه بعض الواجبات، فى إطار نظام ديني واجتماعي وثقافي متكامل ، يراعى المتطلبات المادية ، كما يستجيب للطموحات الروحية لكل من الفرد والجماعة .

وبسبب سوء الفهم أحياناً ، والفهم المنقوص للإسلام فى كثير من الأحيان ، وجدت من المفيد عرض المفهوم المتكامل للإسلام ، فى صورته الأولية ، وتبعاً لتاريخ تكونه ، مع الاعتماد على مصادره الأساسية التى ترجع مباشرة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية .

وللإسلام أربعة مقومات رئيسية ، لا يتكامل مفهومه ، ولا يستقر نظامه إلا بها، وهى : العقيدة ، والشعائر ، والأخلاق ، والتشريع .

والعقيدة ، كما نعلم ، محلها القلب . وهى تتضمن الاعتقاد فى وحدانية الله ، خالق الكون ، وحافظ نظامه ، والمطلع على خفاياه ، والمستحق – وحده – للعبادة وما يصحبها من تضرع وتوبة ، واستعانة . . ، ثم الاعتقاد بالبعث بعد الموت وما يشمله من حساب ، وما يتبعه من ثواب أو عقاب .

وقد حدد القرآن والسنة عناصر العقيدة فى : الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وبالقدر : خيره وشره ، وباليوم الآخر .

والمطلوب فى العقيدة أن تكون راسخة فى قلب المسلم ، متمكنة من عقله . وهنا تجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم يدعو كل إنسان أن يتثبت بنفسه من "مصداقية" هذه العقيدة باستعراض التاريخ ، ومصائر الأمم السابقة ، والبحث الدائم فى الكون ، وتأمل ظواهره الطبيعية . . حتى يكون إيمان القلب مؤيداً باقتناع العقل .

وتحتل العقيدة فى القرآن مكانة أساسية ، باعتبارها المحور الذى تدور حوله حياة المسلم ، وترتبط به . ومن المعروف أن الرسول صلي الله علية وسلم ظل فى مكة ثلاثة عشر عاماً ، يعلم الناس العقيدة . وحوالى نصف القرآن الكريم يتحدث عنها ، ويعمل على تأكيدها . وفى سبيلها استشهد عدد من المسلمين الأوائل رجالاً ونساءً ، تحت تعذيب المشركين من أهل مكة ، الذين حاولوا بكل الوسائل أن يرجعوهم عن توحيد الله إلى عبادة الأصنام .

والواقع أن العقيدة الإسلامية هى التى تعطى لحياة المسلم معناها وتحدد غايتها. ففى الوقت الذى يتجه فيه بالخضوع إلى مالك السموات والأرض ، يشعر أنه تحت عنايته ، وأن رحمته الحانية تحيط به من كل جانب . إن أعمال الإنسان كلها فى وجود العقيدة الإسلامية الصحيحة – تصبح متجهة نحو غاية موحدة هى الحصول على رضا الله ، وتجنب سخطه ، وبالتدريج يتكون فى أعماق المسلم نوع من الضمير الأخلاقى الفائق الحساسية لتشكيل مواقفه من الخير والشر ، من الرذيلة والفضيلة ، وهو ما يعرف فى لغة الدين باسم " التقوى "

أما الشعائر الإسلامية فهى أربع : الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج.

والصلاة : هى عماد الدين . ومعناها اللغوى : الدعاء . وهى بالفعل مجموعة أدعية ، وآيات قرآنية تجرى تلاوتها فى حركات وأفعال محددة (قيام وركوع وسجود) ويتم أداؤها على انفراد ، أو فى جماعة منتظمة الصفوف يتقدمها " إمام " وهذا أفضل وأكثر ثواباً ، وتقام خمس مرات فى اليوم والليلة : الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء .

أما يوم الجمعة من كل أسبوع ، فإنه ينفرد بصلاة الجمعة الجامعة ، حيث يشهدها حشد هائل من أهل الحى ، وتسبقها " خطبة " يعرض فيها الإمام إحدى القضايا التى تهم المسلمين ، ويدعوهم إلى التمسك بالدين والاستغفار إلى الله تعالى .

لكن هل الصلاة مجرد أدعية وأفعال خالية من المضمون الروحى ؟ كلا ، فإنها فى الإسلام عبارة عن لقاء مباشر بين المسلم وربه . والقرآن الكريم يذكر أنه كلما كان المسلم فى حالة السجود كان أقرب ما يكون إلى ربه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ )( سورة العلق ، الآية 19) . كذلك يصف القرآن الكريم الصلاة بأنها (تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)( سورة العنكبوت ، الآية 45) وهذا معناه أن الصلاة الحقيقية التى يؤديها المسلم بوعى وخشوع من الطبيعى أن تمنعه عن ارتكاب الجرائم الكبرى ، والمعاصى الصغيرة . ومن المستبعد أن نتصور إنساناً يخرج من لقاء ربه ليستعد إلى لقاء    آخر . . ثم يقدم على ما لا يرضاه !

وقد جاء وصف الصلاة فى القرآن أيضاً بأنها تعتبر – مع الصبر – وسيلة مهمة تساعد المسلم على مواجهة المشكلات اليومية التى يتعرض لها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)( سورة البقرة ، الآية 153) وهذا يعنى أن الصلاة تقوم بدور إيجابى فى حياة المسلم : فبينما تعده لمواجهة مشكلات الحياة اليومية بثبات ، تعطى له فرصة الراحة النفسية بأثرها عليه . ولذلك كان رسول الله صلي الله علية وسلم يقول لبلال ، مؤذن الصلاة فى عهده : " أرحنا بها يا بلال " !( رواه أبوداود ، والدارقطنى).

وللصلاة شرط أساسى وهو طهارة الجسد بالاغتسال أو الوضوء . ومن الواضح أنها تأتى بعد ذلك لتقوم بتطهير النفس والروح .

وهكذا يتحقق فيها المعنى الذى أشار إليه الرسول صلي الله علية وسلم فى حديث جميل يشبه الصلاة التى يؤديها المسلم خمس مرات فى اليوم والليلة : باغتسال إنسان خمس مرات يومياً من نهر يجرى ماؤه أمام منزله . فكما أن هذا الأخير لا يبقى على جسده أى أثر من الاتساخ ، فكذلك المؤدى للصلاة : تتطهر نفسه وتصفو (رواه البخارى ومسلم) .

وأخيراً فإن الصلاة – بما تشتمل عليه من أدعية واستغفار واتجاه بالقلب والعقل والجسد إلى الله تعالى – تقوم بدور هام فى ترسيخ العقيدة فى نفس المسلم ، وتزويدها بطاقة يومية متجددة .


أما الصوم فهو عبارة عن الامتناع عن الطعام والشراب (والعلاقة الجنسية بين الزوجين) منذ طلوع الفجر حتى غروب الشمس ، خلال شهر رمضان من كل عام.

وقد ذهب البعض فقالوا إن الغرض من الصوم هو أن يحس الغنى بألم الجوع الذى يعانيه الفقير . ولكن الصوم مفروض على جميع المسلمين سواء أكانوا أغنياء أم فقراء . والأقرب إلى طبيعة هذه الشعيرة أنها تقوم بدور هام فى تعديل عادات المسلم التى ربما تكون قد تكونت على مدى العام : فالملاحظ أنه خلال شهر رمضان تجرى حياة المسلمين جميعاً على نمط واحد يختلف بالتأكيد عن بقية شهور السنة . وبذلك فإن الفرصة تكون مواتية لمن ارتاح إلى عادة سيئة (كشرب القهوة ، أو تدخين السجائر ...الخ) أن يقلع عنها بعد شهر رمضان ، الذى يفرض عليه الامتناع عن الطعام والشراب وهما من الضروريات .

لكن هناك حكمتان تظهران بوضوح من الصوم ، الأولى أنه يعمل على تقوية الإرادة الإنسانية لدى المسلم ، والإرادة تعنى هنا القدرة على القرار الذى يتخذه الإنسان بنفسه للامتناع عن كل ما تدعوه المغريات إليه . فطعام الإنسان يكون حاضراً بين يديه ولكنه يمسك عنه التزاماً لتعاليم الدين ، وتنفيذاً لأوامر الله ، وهكذا فإنه إذا نجح فى امتناعه عن الحلال كان قادراً على الامتناع عن الحرام ، مثل أكل أموال الناس بالباطل ، واشتهاء نساء الآخرين حراماً .

والحكمة الثانية للصوم تكمن فى إحياء الوازع الدينى (الضمير الإنسانى) . ومن الواضح أن الصوم – من بين الشعائر الأخرى – هو العبادة ذات الطابع السلبى ، بمعنى أن المسلم حين يؤديها لا تظهر على أعضائه ، مثل الصلاة والزكاة والحج . فمن الذى يستطيع أن يميز بين شخص تناول إفطاره فى الصباح وبين شخص آخر لم يتناول شيئاً ؟ ومن هنا كان الصوم " عبادة خاصة جداً " بين المسلم وربه ، لا يطلع عليها غيرهما . وفيها يمتنع الرياء تماماً . الرياء هو أداء العمل للتظاهر به أمام الآخرين ، حتى يكتسب الإنسان محمدة لديهم . لذلك يقول الله تعالى  فى حديث قدسى: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لى ، وأنا أجزى به "( رواه مسلم) .

إن هذا الوازع الدينى (الضمير) الذى يغرسه الصوم فى نفس المسلم هو ما سبق الحديث عنه تحت اسم " التقوى " ، وهى عبارة عن الإحساس الدائم واليقظ بأن الله تعالى مطلع على كل ما يجول بخواطرنا ، وليس فقط على ما نفعله أو نقوله بعيداً عن أعين الناس .

ثم تأتى بعد الصلاة والصوم الشعيرتان الأخريان ، وهما الزكاة والحج : الأولى لا تجب إلا على الأغنياء ، والثانية تجب فقط على من استطاع إليه سبيلاً .

والزكاة فى اللغة العربية تعنى النماء والطهارة ، وهى عبارة عن إخراج نسبة بسيطة جداً من مقدار معين من المال ، يمضى على ملكيته عام كامل ، دون أن يحتاجه صاحبه . ولا شك فى أن العدالة الإلهية واضحة هنا تمام الوضوح . فالشخص الذى يكسب قوته يوماً بيوم لا تجب عليه الزكاة ، والشخص الذى يمتلك مالاً وفيراً  ولكنه مستمر طوال العام فى الإنفاق منه . . لا تجب عليه الزكاة ، وإنما هناك نصاب محدد للزكاة وبشرط أن يكون مستقراً لمدة عام كامل فى ملكية صاحبه .

ومن الممكن أن تنشأ هيئة مختارة لجمع أموال الزكاة من المسلمين ، وكذلك لإنفاقها . وقد حدد الله تعالى فى القرآن الكريم أوجه إنفاق أموال الزكاة . وهى كلها تدور حول مساعدة المحتاجين ، والتخفيف عن الفقراء والمساكين (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (سورة التوبة ، الآية 60) . وبذلك يتحقق من خلال هذه الشعيرة إقامة نوع من التكافل الاجتماعى المطلوب لتوازن حركة المجتمع الإسلامى ، واستمراره .

لكن المسلم الغنى يعلم جيداً أن الزكاة المفروضة عليه لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جداً من دخله العام . ولذلك فهو مدعو دائماً إلى " التبرع " فى وجوه الخير ، والإصلاح الاجتماعى . ومن هنا ، رأينا الكثير من المسلمين يبنون بأموالهم الخاصة المساجد ، وينشئون المدارس والمستشفيات ، وحتى بعد موتهم ، يوصون بعمل "الأوقاف الخيرية" التى يصرف عائدها المستمر على الفقراء والمساكين ، بل وعلى الحيوانات والطيور (توجد فى أعلى مسجد "أبوالدهب" وهو المقابل مباشرة للأزهر فى القاهرة : مئذنة ، تعلوها خمسة أوعية ضخمة مفتوحة ، يقال أنها كانت مخصصة لوضع مختلف أنواع الحبوب ، وكذلك الماء : خدمة للحمام والعصافير ) !

وإذا كانت الزكاة مفروضة على كل مسلم قادر من الناحية المالية ، فإن الحج وهو الشعيرة الرابعة والأخيرة فى مجال العبادات ، لا يجب إلا على المسلم القادر من الناحية المالية والصحية ، مرة واحدة فى العمر .

والحج : عبارة عن رحلة إلى مكة ، حيث توجد الكعبة : بيت الله الحرام ، الذى أقامه إبراهيم ، عليه السلام ، وأصبح محوراً يتجه إليه مسلمو العالم كله فى صلواتهم اليومية . ويشتمل الحج على عدد من الشعائر أهمها الطواف بالكعبة ، والوقوف على جبل عرفات ، مع إعلان وحدانية الله تعالى ، والخضوع إليه ، والشكر له على ما وهب الإنسان من نعم وعطايا .

فى موسم الحج ، يجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض : شعوباً مختلفة ، ولغات مختلفة ، ليلتقوا على هداف واحد ، ويؤدوا شعائر موحدة . ومن الممكن أيضاً أن يتبادلوا المنافع فيما بينهم ، ويؤكدوا أواصر الأخوة ، ويحددوا أسس التعاون بينهم . ومن الواضح أن المسلم فى وسط هذا الاحتشاد الكبير يشعر بعزة الإسلام الذى يدين به ، والذى دفع هذه الجموع من حوله لكى تلبى نداء واحداً ، وتسعى نحو غاية واحدة . وبذلك تكتمل الدائرة الواسعة ، التى بدأت من الفرد ، وانتهت بالإنسانية كلها : ويتحقق قول الله تعالى فى القرآن : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ) (سورة سبأ، الآية 28) وقوله : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)( سورة الأعراف ، الآية 158) .

تلك هى الشعائر الإسلامية : بسيطة ، ومتدرجة ، ومترابطة فيما بينها . وأهم ما يلاحظ عليها أنها تؤكد فى نفس المسلم خضوعه لله تعالى ، وخشيته الدائمة له ، والعمل المستمر لنيل رضاه . وهى فى الوقت الذى تربط المسلم بربه ، تقيم أفضل العلاقات بينه وبين الناس من حوله . فالصلاة تؤدى عادة مع أهل الحى ، والصوم يمنع المسلم من إيذاء المسلمين بيده أو بلسانه ، والزكاة تدعوه للعطاء ، وترقق قلبه للمحتاجين . وأخيراً فإن الحج هو المؤتمر الكبير الذى يظهر فيه لقاء المسلم بإخوته من سائر الشعوب ، وهو لقاء إنسانى ، يعلو فوق اختلاف الأجناس واللغات .

وهكذا نجد أن المسلم – بعقيدته القوية ، وأدائه الصادق للشعائر – يصبح مؤهلاً ليكون عضواً صالحاً فى مجتمع فاضل . والعضو الصالح هو الذى يتجنب بدافع من ضميره كل الرذائل ، ويتمسك بدافع من ضميره أيضاً بكل الفضائل . وهذا يعنى أنه فى غير حاجة إلى رقابة من رئيس أو مسئول . وهنا نصل إلى المقوم الرئيسى الثالث للإسلام ، وهو الأخلاق .


والأخلاق: جمع خُلُق . والخلق ببساطة هو عبارة عن دافع وسلوك . ويختص الدافع بالنية والإرادة والتصميم ، بينما يشكل السلوك تصرفات الإنسان الخارجية . ومن الواضح أن الدافع هو أساس السلوك . ومن هنا فقد اهتم الإسلام اهتماماً شديداً بتكوين هذا الدافع تكويناً ممتازاً . ويبدأ هذا التكوين من ربطه بالعقيدة، وتجديده المستمر بالشعائر ، حتى يصبح المسلم ، ونيته متجهة دائماً للحصول على رضا الله ، وتصميمه أكيد على عدم عصيان أوامره ، مع الإحساس المستمر بأن الله تعالى رقيب على حركة نفسه ، مطلع على أدق خواطره .

لكن الأخلاق لا تظهر إلا فى سلوك . وهذا السلوك يتطلب وجود أشخاص آخرين يجرى التعامل معهم فى إطار علاقات متبادلة . ويمكن القول عموماً بأن العلاقات التى تدور فيها تصرفات الإنسان تتمثل فى ثلاث دوائر رئيسية هى : دائرة الأسرة والجيران ، دائرة الأصدقاء وزملاء العمل ، دائرة المسلمين وغيرهم .

وفى معاملة الأقارب ، يبرز التعبير الإسلامى المشهور "صلة الأرحام" ومعناه دوام المودة ، والعطف ، والمساعدة ، والمتابعة لجميع الأقارب .

وفى مقدمة الأقارب ، تحتل معاملة الوالدين مكانة خاصة جداً ، فالرسول  صلي الله علية وسلم يقول لأحد المسلمين ، حين سأله عن موضوع الإنفاق على والده " أنت ومالك لأبيك"( رواه ابن ماجه والطبرانى) أما الأم فلها كل العطف والرعاية " الجنة تحت أقدام الأمهات " (رواه القضاعى فى مسند الشهاب ، والخطيب البغدادى فى الجامع) . إن طاعة الوالدين فى الإسلام مطلقة . ولا تستثنى إلا حالة واحدة فقط ، وذلك عندما يدعوان ابنهما إلى الشرك بالله .

ولعلنا لم نحس بقيمة التعاليم الإسلامية الرحيمة بالأبوين إلا عندما ظهر فى العصر الحديث ما يسمى بـ "بيوت المسنين" ، وفيها يدفع الأبناء أحياناً بآبائهم وأمهاتهم الكبار فى السن إلى أماكن مخصصة لرعايتهم صحياً وثقافياً ، ولكنها تخلو بالتأكيد من دفء العلاقة الحميمة التى يدل عليها تعبير الإسلام " صلة الأرحام " .

كذلك يتيح الإسلام كل الظروف الملائمة لمعاملة الزوجة معاملة كريمة ، تبدأ من مسئولية الإنفاق عليها ، وتلبية كل حاجاتها المادية ، حتى أدق التفاصيل التى تدعو المسلممثلاً – إلى أن يخاطبها بكنيتها " يا أم فلان " بدلاً من استخدام اسمها المباشر ، تكريماً لها ، وحفاظاً على احترامها داخل المنزل . ولا يعرف الإسلام زواج القهر . فالحرية مكفولة تماماً للزوجين فى بدء الزواج . وكذلك فى الاستمرار فيه بالمعروف والحسنى . أما إذا تعذرت الحياة بينهما لأى سبب ، فإن الطلاق هو الحل . ومع ذلك ينبغى أن يكون الرجل كريماً جداً فى هذا الموقف . يقول الله تعالى : (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)( سورة البقرة ، الآية 229) ومعناه : إما زواج يستمر بالحسنى ، أو انفصال يتم بالإكرام .

وأما ما نسمع عنه أحياناً من إجبار بعض الفتيات المسلمات على الزواج بمن لا ترغبن فيه ، أو سوء معاملة بعض الأزواج لزوجاتهم ، أو استخدام حق الطلاق استخداماً مؤذياً . . فكل هذه حالات ناشئة عن طبائع وحشية ، وتصرفات غير مسئولة ، لا يقرها الإسلام ، ولم تأمر بها تعاليمه .

أما معاملة الجار : فتحتل فى مجال الأخلاق الإسلامية مكانة كبرى ، ولها فائدة عظيمة لا تخفى على المهتمين بأحوال الاجتماع البشرى . يقول الرسول صلي الله علية وسلم " مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "( رواه البخارى ومسلم وأبوداود والترمذى وابن حنبل) ومعنى هذا أنه يعتبر امتداداً للأسرة . فالمسلم مطالب أن يعود جاره عند المرض ، ويواسيه فى النكبات ، ويشاركه فى الأفراح ، ويواصل مودته بالهدايا والدعوات . ومن المؤكد أن احترام هذه العلاقة هى التى جعلت من " الحى السكنى " فى المجتمع الإسلامى وحدة عضوية مترابطة فيما بينها ، يلاحظ ذلك أى سائح أجنبى يزور أحد البلاد الإسلامية ذات التقاليد العريقة .

وإذا كانت " المدينة " بحياتها العصرية ، الموغلة فى التقوقع والفردية ، قد مزقت بعض  الروابط الإسلامية بين الجيران فإن الأحياء الشعبية ومناطق الريف الواسعة مازالت تحتفظ حتى الآن بالكثير من هذه الروابط .

ثم إن المسلم فى معاملة أصدقائه وزملائه فى العمل نموذج جيد للمعاونة ، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً "( رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى) . والإيثار الناجم عن الأخوة فى الله ، وينص الحديث النبوى على " أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه " ، يقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "( رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه وابن حنبل) . والصدق ، والوفاء بالوعد ، ورد الأمانة لأصحابها ، وإسداء المشورة لمن يحتاجها ، والسعى الدائم فى قضاء مصالح الأصدقاء .

وفى مجال معاملة المسلمين عموماً ، نجد الحديث النبوى يعرف المسلم بأنه هو الذى : يسلم المسلمون من لسانه ويده ، فيقول صلي الله علية وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ( رواه مسلم) أى الذى لا يؤذى أحداً بفعل ، ولا بقول . وفى هذا الإطار ، يأتى تطهير الطرق من القاذورات أو الأحجار  التى قد تكون سبباً لإلحاق الأذى بالمارين فيه .

وإذا كان كف الأذى أمراً سلبياً فى مظهره ، فإن هناك جوانب إيجابية كثيرة جداً منها : إلقاء التحية على الجالسين أو العابرين ، ورد تحية الآخرين بأحسن منها، والاستئذان قبل دخول بيوت الغير ، وغض البصر عن النساء الأجنبيات ، والمجادلة عند الحوار بالحسنى ، والوعظ بالحكمة . . هذا بالإضافة إلى إكرام الضيف ، وإطعام الجائع ، وإيواء الغرباء الذين لا مأوى لهم .

وبالنسبة إلى غير المسلمين ، الذين يعيشون فى المجتمع الإسلامى ، وهم غالباً من اليهود والنصارى ، فلهم ما للمسلمين من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات . وهم يتلقون من المسلم الحقيقى كل احترام لشعائرهم ، ويحل له تناول طعامهم ، والتزوج من نسائهم ، وإذا حدث جدال معهم ، فلا يجادلهم إلا بالتى هى أحسن . كذلك فإن التعامل الاقتصادى معهم مباح . وقد توفى رسول الله صلي الله علية وسلم ودرعه مرهونة عند يهودى . ومن أزواج الرسول صلي الله علية وسلم مارية القبطية التى أنجبت له ابنه إبراهيم .

وعمر بن الخطاب t ، الخليفة الثانى للمسلمين ، أعطى فقراء أهل الكتاب نصيباً من بيت مال المسلمين ، كما أسقط الجزية (الضريبة) من على القساوسة والرهبان . وعلى مدى التاريخ الإسلامى ، كان أطباء الخلفاء والحكام فى الغالب من اليهود والنصارى ، وقدمت لهم الحضارة الإسلامية أفضل الفرص لحياة كريمة ومزدهرة . ولم يحدث اضطهاد إلا فى عصور التعصب والتخلف ، وعلى أيدى أشخاص لم يفهموا روح الإسلام وإنما تصرفوا بدوافع خاصة من طبيعتهم الفاسدة .

ولا تتوقف الأخلاق الإسلامية على التعامل مع الناس فقط بل إنها تمتد فتشمل الحيوانات والطبيعة بما فيها من جماد ونبات .

فالأرض فى نظر القرآن مكان للزرع ، وليست ميداناً للتدمير . والبحار مسخرة لنقل الإنسان والبضائع ، واستخراج الطعام الجيد ، وليست مجالاً للمناورات الحربية . والرسول صلي الله علية وسلم ينهى المسلمين – فى حالة الحرب – أن يقطعوا شجرة إلا لطعام . أما الحيوانات ، فالإسلام بها رفيق للغاية : لا ينبغى على الإنسان أن يقيم صراعاً بينها (كما يحدث فى صراع الديكة) ، أو يستخدمها فيما لم لتخلق من أجله (مثل صراع الثيران الوحشى) . وعندما رأى رسول الله صلي الله علية وسلم عصفورة ترفرف بجناحيها قرب الأرض ، قال لأصحابه : " من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها "( سنن أبى داود) .

ويروى عن الرسول صلي الله علية وسلم أنه قال : دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها ، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت (رواه البخارى ومسلم) .

كما روى عنه صلي الله علية وسلم أن رجلاً أصابه ظمأ شديد فنزل بئراً ليرتوى من مائها ، فلما خرج منها رأى كلباً يلهث ، يلحس الثرى من العطش ، فقال : " لقد أصاب هذا الكلب من الظمأ مثل الذى أصابنى " ، فنزل البئر وملأ خفه وسقى الكلب ، فغفر له(رواه البخارى ومسلم) .

هذه مجرد لمحة سريعة عن بعض جوانب الأخلاق الإسلامية وهى كثيرة ومتنوعة . حتى ليمكن القول بأن الإسلام كله أخلاق .

والرسول صلي الله علية وسلم يؤكد أنه إنما بُعث ليتمم مكارم الأخلاق (مسند ابن حنبل وموطأ مالك) . وهو يقول عن نفسه : " أدبنى ربى ، فأحسن تأديبى "( رواه ابن السمعانى فى أدب الإملاء) .

أما السيدة عائشة زوج الرسول صلي الله علية وسلم فإنها عندما سئلت عن أخلاق الرسولصلي الله علية وسلم أجابت قائلة : " كان خلقه القرآن "( رواه مسلم وأبوداود وابن حنبل) وهذا يعنى أن الرسول صلي الله علية وسلم يمثل فى حياته العملية : النموذج الأكمل الذى تحققت فيه جميع الأخلاق والآداب التى دعا إليها القرآن الكريم . وفى هذا دلالة واضحة على أن المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية – على الرغم من سموها ومثاليتها – قابلة دائماً للتحقيق العملى فى حياة البشر .

دخل الحسن بن على ، وهو صبى ، على رسول الله صلي الله علية وسلم ، وقد سجد ، فركب على ظهره ، فأبطأ فى سجوده حتى نزل الحسن عنه فلما فرغ قال له بعض أصحابه : يا رسول الله ، قد أطلت سجودك فقال : " إن ابنى ارتحلنى ، فكرهت أن أعجله "( سنن النسائى ومسند ابن حنبل) .

وأكل يوماً الرطب في يمينه ، وكان يحفظ النوى فى يساره ، فمرت شاة فأشار إليها بالنوى ، فجعلت تأكل من كفه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتى فرغ ، وانصرفت الشاة (مسند ابن حنبل) . ويكفى أنه القائل : " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " (رواه مسلم) .

وأخيراً ، فإن الأخلاق فى الإسلام تكاد تنظم كل ألوان السلوك الفردى ، وهى تنبع كلها من " تقوى الله " ، والشعور الأكيد بأنه الحكم العدل الذى لا يظلم أحد مثقال ذرة من خير أو شر ، وبذلك يتأكد للحياة الأخلاقية أساسها الذى تقوم عليه ، وهو هنا الجزاء الإلهى ، الذى يعاقب على السيئة بما تستحقها ، ويكافئ الحسنة بعشرة أمثالها.

وهكذا لا نصل إلى المقوم الرابع للإسلام ، وهو التشريع ؟ إلا بعد بناء يكون قد استقر بالفعل على العقيدة والشعائر والأخلاق . وليس التشريع سوى مجموعة القوانين والأحكام التى تنتظم حياة الفرد والجماعة الإسلامية بها ، هذا بالإضافة إلى تحديد عقوبات الجرائم الهامة .

والتشريع: الإسلامى غنى جداً ومتنوع . وقد تكفل علم " الفقه " ببيان أحكامه المختلفة التى تتعلق بالعبادات (وأشكال أدائها) والمعاملات (المالية مثل البيع والشراء والرهن والضمان .. الخ) والأحوال الشخصية (مثل الزواج والطلاق والميراث).

وقد لاحظ علماء القانون ، مثل غيرهم ، ما يتميز به التشريع الإسلامى من عدالة وسماحة ، ومراعاة لمصالح الناس ، وعدم إحراجهم بالتكاليف الصعبة ، أو غير المعقولة . ومن المؤكد أن هذه الأسباب كانت وراء سرعة انتشار الإسلام واستقراره فى بلاد كانت ذات حضارات سابقة ، ونظم تشريعية قديمة .

ويغطى التشريع الإسلامى كل جوانب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية ، كما يضع الأسس والمبادئ الكفيلة بإقامة مجتمع سياسى متطور ، ونشاط اقتصادى مزدهر ومتوازن .
فللفرد فى نظام الإسلام حق الحفاظ على حياته ، ومعتقده وعرضه ، وماله . . وللأسرة كيانها المتماسك الذى يحظى بكل احترام ، وللمرأة فيه كل التقدير ، بدءاً من حريتها المطلقة فى قبول الزوج ، ومروراً بأهليتها الكاملة خلال الزواج ، واحتراماً لرغبتها الحقيقية فى طلب الانفصال عند وجود ما يدعو لذلك .

أما السياسة فى المجتمع الإسلامى فلها أهدافها المحددة : وأهمها على الإطلاق توفير العدالة والمساواةبين أفراد المجتمع وتحقيق الأمن والاستقرار ، والحفاظ على تعاليم الدين من عبث العابثين فى الداخل ، وكيد أعدائه من الخارج . أما وسائل السياسة فأهمها الشورى ، التى تتضمن عموم المشاركة من الجميع .

وأما الاقتصاد فأساسه احترام الملكية الخاصة ، والعمل على ازدهار نشاط الأفراد ، وتشجيع المنافسة الشريفة من أجل الصالح العام . وله ضوابط تتمثل فى تحريم الربا ، ومنعالاحتكار ، ومحاربة الغش ، فإذا أضيف إلى ذلك ما تقدمه الزكاة والصدقة من موارد للمحتاجين والمنكوبين أدركنا أن النظام الاقتصادى فى الإسلام هو فى نفس الوقت نظام اجتماعى وأخلاقى من الطراز الأول .

تبقى إشارة سريعة إلى عقوبات الجرائم فى الإسلام . وهى عقوبات رادعة لمن يستبيح إيذاء المسلمين فى أنفسهم ، أو أموالهم ، أو أعراضهم . ومما يلاحظ أن الإسلام قد اكتفى – فى هذا المجال بتحديد العقوبات للجرائم الكبيرة ذات الأثر السئ فى بناء المجتمع الفاضل ، فى حين أنه ترك الجرائم الصغيرة للمسئولين يضعون لها العقوبات التى تناسب كل بيئة (وهو ما يطلق عليه اسم : التعزير).

والجرائم التى قدر القرآن الكريم عقوبتها خمس ، وهى : القتل بنوعيه (العمد والخطأ) ، وقطع الطريق والإفساد فى الأرض وأيضاً السرقة ، والزنا ، والقذف .

وهنا ملاحظتان على العقوبات الإسلامية . الأولى : تتعلق بضرورة التثبت الدقيق جداً من فاعلها ، وقصده إلى ذلك ، مع عدم وجود أى شبهة تمنع تطبيق العقوبة عليه . فإن الرسول صلي الله علية وسلم قال : (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم) (رواه ابن عدى والسمعانى) أى عند ظهور أى شبهة ، لا تقيموا الحد . وهذا يعنى من حيث الواقع تضييق دائرة هذه العقوبات ما أمكن .

والملاحظة الثانية : ما قد يبدو من القسوة فى هذه الحدود . والواقع أن الإسلام يقدر العقوبة على قدر الجرم ، ومدى : إفساده فى استقرار المجتمع الصالح الذى يدعو لإقامته . ولو تأملنا جيداً تلك الجرائم السابقة لوجدناها تمثل اعتداء واضحاً على حقوق المجتمع ، مع ما فى ذلك من استهانة بنظمه وقوانينه .

وقد أثبتت التجارب أن تطبيق العقوبات الإسلامية على مرتكبى تلك الجرائم قد أثمر أفضل النتائج ، وكان وسيلة " رادعة " قللت بالفعل من نسبة الجريمة ، وحصرتها فى أضيق نطاق .

وفى النهاية ، تجدر الإشارة إلى أن الحديث عن الجرائم وعقوباتها لا يستغرق من التشريع الإسلامى إلا جزءاً ضئيلاً جداً . أما الأجزاء الكبرى فهى التى تتجه إلى إقامة مجموعة من النظم السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، تعتمد على مبادئ أخلاقية يتميز بها مجتمع المسلمين من غيره .

والأمر الملاحظ على التشريع الإسلامى أنه – مع احتوائه على عدد من الثوابت أى الأحكام المحددة فى القرآن والسنة – فإنه يشتمل أيضاً على عدد من المتغيرات التى تتيح الفرصة للمسلمين فى شتى العصور والبيئات أن يستنبطوا من الأحكام ما يناسب مصالحهم فى ضوء تلك الثوابت ، وهذا ما يمنح الشريعة الإسلامية قدراً كبيراً من المرونة التى تجعلها حية ، ومتطورة ، وصالحة بالفعل لكل زمان ومكان.

وفى الختام ، لابد من التأكيد على أن الإسلام ، الذى استوعب كل تعاليم الأديان السماوية السابقة عليه ، لا يمثل مذهباً يتعالى على المذاهب الأخرى ، بل إنه لا يسعى إلى إقامة دولة تتصارع مع غيرها من الدول . وإنما هو دين عالمى شامل ، جاء لخير البشرية كلها فى دنياها وآخرتها ، واتجه بدعوته إلى البشر جميعاً ، يقول الله تعالى مخاطباً محمداً صلي الله علية وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ( سورة سبأ، الآية 28) ، ويقول أيضاً (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (سورة الأنبياء ، الآية 107) .

 

ملخص ما سبق

آخر تحديث الجمعة, 30 يناير 2015 22:28