دار العلوم رائعة على مبارك |
كتبها Administrator |
الأربعاء, 27 يوليو 2011 14:16 |
( المبني الجديد لدار العلوم داخل جامعة القاهرة )
دار العلوم : رائعة على مبارك
بقلم أ . د . حامد طاهر [ هذا البحث مهدى إلى : زملائى من خريجى دار العلوم ، وبناتى وأبنائى الأعزاء من طلبتها ، ثم إلى الذين يتجاهلون دورها ، وأخيرا .. إلى كل من لايعرفون تاريخها !! ]
كان انشاء دار الكتب المصرية ( الكتبخانة الخديوية ) سنة 1871 حدثا علميا وثقافيا هاما فى حياة مصر . ويرجع الفضل فى استحداث الفكرة وتنفيذها الى على مبارك ( 1823 – 1893 ) الذى راى ان الكتب – ومعظمها مخطوطات فى ذلك الوقت – معرضة للكثير من اعمال السطو والتلف نتيجة عدم مبالاة المصريين بقيمتها الحقيقية ، او تفريطهم فيها .
( علي مبارك منشئ دار العلوم 1972 ) ومن الواضح ان رؤية على مبارك – اثناء بعثته الى فرنسا – للمكتبة الوطنية فى باريس هى التى دفعته الى محاكاتها بإنشاء دار الكتب فى مصر . وهنا نسأل : الى اى حد ، وصلت معرفة على مبارك بنشأة ونظام المكتبة الوطنية بباريس ؟ هو نفسه لا يحدد ذلك فى سيرة حياته التى كتبها بنفسه . ولكننا عندما نعود الى المنشئ الحقيقى لدار الكتب الفرنسية نجده هو جيوم بيديه G.BUDE (1) ( ت 1540 ) الذى اقترح على الملك فرانسوا الاول فكرتين لقيتا منه كل ترحيب وتم تنفيذهما فى عهده .
ويوجد هذا المعهد خلف جامعة السوربون بباريس . وهو عبارة عن مؤسسة تعليمية وتثقيفية يحاضر فيها اكبر واشهر اساتذة الجامعات فى فروع المعرفة المختلفة . وينظم محاضراتها جدول سنوى ، يعلن فيه عن اسماء المحاضرين ، وموضوع المحاضرات ، وايام الاسبوع والساعات المخصصة لها ، ويحضرها من شاء من طلاب المعرفة والثقافة الرفيعة بدون قيد او تسجيـــــل (2) .
( بواية المبني القديم لدار العلوم ) ومن حسن الحظ ان لدينا جدولا تفصيليا يبين موضوع المحاضرات ، واسماء المحاضرين ، وزمن المحاضرة ، وفيما يلى بيان مختصر بذلك : ساعة ونصف الاحد والاربعاء ساعة ونصف الثلاثاء ساعة ونصف السبت ساعة ونصف السبت والاثنين ساعة ونصف الاحد والثلاثاء ساعة ونصف الاربعاء ساعة ونصف الخميس ساعة ونصف السبت والاثنين ساعة ونصف الثلاثاء والخميس ساعة واحدة الاربعاء ساعة واحدة الخميس
ومن تأمل هذا الجدول ، يلاحظ ان المحاضرين يعدون من كبار الاساتذة المصريين فى ذلك الوقت ، اما الاجانب فكلهم فرنسيون . وكانوا يلقون محاضراتهم باللغة الفرنسية ، ثم يقوم احد المدرسين المصريين بالترجمة الى اللغة العربية .
واما الحاضرون فكانوا من " كبار موظفى الحكومة ، وموظفى نظارة المعارف ومدرسيها ، وطلبة المدارس العالية ، وفريق من طلبة الازهر " وكان على مبارك يحضرها بنفسه ، ربما لتشجيع المصريين انذاك على التزود من فروع المعرفة المختلفة ، عن طريق هذا المعهد ، ذى الطابع التثقيفى العام والمتخصص فى نفس الوقت (3) .
( هيئة التدريس والطلبة بفناء دار العلوم القديمة )
لكن اهم مايلاحظ على هذه الفكرة التى تم تنفيذها ، خلال عام كامل ، هى محاولة الجمع بين علوم الادب والدين ( النظرية ) وبين علوم الطبيعة والفلك والنبات ( التجريبية ) فى اطار واحد . بل ان تقدبم " فن السكة الحديد " – الذى يشبه فن الكمبيوتر فى عصرنا الحاضر – يعد علامة اخرى على محاولة الجمع بين علوم الحداثة والعلوم التقليدية .
ولاشك ان فكرة دار العلوم فى عمومها وتفصيلاتها كانت فكرة جديدة تماما على المجتمع المصرى ، الذى مرت عليه قرون متعاقبة ، وهو لايعرف سوى العلم اللغوى والدينى الذى كان يدرس فى مركز التعليم الوحيد لديه ، وهو الازهر الشريف ، بل ان هذا العلم اللغوى والدينى لم يكن يستمد مصادره من فترة الازدهار الحقيقية التى تمثلت فى القرون : الثالث والرابع والخامس الهجرية ، وانما حصر نفسه على فترة الضعف والتقليد التالية لذلك ، وهى التى خلا التصنيف فيها من الابتكار ، وابتعد عن مشكلات الواقع ، منكفئا على شرح الالفاظ ، وصياغة المتون ، ووضع المنظومات ، ثم العكوف على ذلك كله بالحفظ والتبرير ، بعيدا تماما عن النقد والتقييم .
أراد على مبارك بتنفيذ هذه الفكرة ان يضع اساس التقدم العلمى الحقيقى ، الذى لاينهض بجناح واحد من جناحى العلوم ، كما انه لايستمر بدون مواجهة الواقع الجديد بما ينشأ فيه من علوم , لكننا اذا كنا نلتقى فى تراثنا القديم بأمثال هذه الفكرة ، وخاصة لدى الفارابى ( ت 339 هـ ) الذى وضعها بتفصيل رائع فى كتاب " احصاء العلوم " فإن الفكرة لدى على مبارك لاتقف عند حد العثور عليها ، او الاعلان عنها ، وانما تمتد الى تنفيذها ، والاشراف على هذا التنفيذ حتى يتحقق لها الاستقرار اللازم .
وهنا لابد ان نتوقف للاشارة الى نوعين من المصلحين . النوع الاول يعمل فى مواجهة السلطة القائمة ، محاولا طرح افكاره الاصلاحية بالدعوة فى نفس الوقت الى تقويضها . والنوع الثانى يعمل من خلال السلطة ، وبما توفره له من ادوات ووسائل . واذا كان امثال الافغانى ومحمد عبده والكواكبى من المصلحين الذين استطاعوا من خلال تعاونهم مع السلطة القائمة تنفيذ برنامجه الاصلاحى الذى مازالت اثاره باقية فى مصر حتى اليوم .
وهو من هذا الجانب يتشابه الى حد كبير مع جيوم بيديه ، الذى استطاع ان يقنع الملك فرانسو الاول بإنشاء المكتبة الوطنية ، والكوليج دى فرانس ، وكلاهما من الاعمال الرائعة التى ما زالت قائمة فى فرنسا حتى اليوم .
تحول دار العلوم الى مدرسة نظامية :
زاد الاقبال فيما يبدو على محاضرات دار العلوم المتنوعة ، والجديدة . وكان لحضور على مبارك شخصيا ، ومعه صفوة المجتمع المثقف فى عصره ، اثر كبير فى تأكيد اهمية هذه المحاضرات . وكان من بين المواظبين على الحضور عدد من طلبة الأزهر الذين أبدوا رغبة شديدة فى متابعتها مما دفع على مبارك إلى أن يفكر فى تحويل هذا المجمع العلمى إلى مدرسة نظامية ، يتلقى فيها الطلاب مجموعة محددة من العلوم ، تؤهلهم للقيام بمهمة التدريس فيما بعد .
وهكذا كانت فكرة دار العلوم كمجمع علمى ممهدة لفكرة دار العلوم كمدرسة نظامية . كان الأساتذة موجودين ، وكانت المواد التعليمية متوافرة ، ولم يبق إلا اختيار عدد من الطلاب لكى تبدأ المدرسة عملها . واتجه على مبارك إلى الأزهر ، فطلب من شيخ الأزهر ترشيح عشرة من نجباء طلاب الأزهر يحضرون بعض دروس دار العلوم " العربية والشريعة ويربط لكل منهم خمس وعشرين قرشا إعانة لهم من ديوان الأوقاف . ولهم الحق فى حضور الدروس الأخرى كالفلك والطبيعة ، وينتخب منهم المدرسون عند الحاجة " (4)
وفى مكاتبة لاحقة إلى شيخ الأزهر ، يشير على مبارك إلى أن الطلاب العشرة المقترحين للانتظام فى دار العلوم ، قد حضر منهم اثنان إلى على مبارك مباشرة ، ولذلك يرجو من شيخ الأزهر أن يحدد له ثمانية فقط . ولعل هذا يدل على أن طلاب الأزهر الذين حضروا الدروس التثقيفية العامة بدار العلوم هم الذين شجعوا على مبارك لكى يبادر بإنشاء المدرسة النظامية .
وعندما تهيأت لعلى مبارك الشروط اللازمة لبدء مشروع مدرسة دار العلوم ، رفع التماسا إلى الخديو إسماعيل فى 30 يوليه سنة 1872 جاء فيه : " وقد تلاحظ أن المشتغلين الآن بوظيفة التعليم فى اللغة العربية والتركية ليس فيهم الكفاية بالنسبة لذلك . فإن وافق الحضرة العلية ينتخب قدر خمسين من نجباء الطلبة من سن العشرين إلى الثلاثين ، يؤخذون بالامتحان ممن يرغبون ذلك ، ويوجد فيهم الأهلية واللياقة ، ويدرس لهم فى دار العلوم الملحقة بالكتبخانة العامرة بما يلزم لتكميل معلوماتهم واستعدادهم لأداء وظيفة التعليم وحسن التربية على الوجه المطلوب والأسلوب المرغوب ، ويحضرون جميع الدروس التى تلقى إليهم .. فإنه بهذه الوساطة يمكن الاستحصال على ما فيه الكفاية من المعلمين للغة العربية والتركية ، ويؤخذ منهم لجهات الاقتضاء على حسب اللزوم ، وبذلك يتقدم أمر العلم والمتعلمين " (5)
وقد أصدر الخديو إسماعيل مرسوما بالموافقة على تنفيذ فكرة على مبارك بكل تفاصيلها . وبدأ العمل فى مدرسة دار العلوم سنة 1872 مكونا من 32 طالبا ، وخمسة مدرسين ، منهم ثلاثة من علماء الأزهر . وقد استمر عدد الطلبة أقل من خمسين حتى سنة 1882 حيث بلغ 56 طالبا . ونظرا لعدم وجود خطة (منهج) موزعة على سنوات دراسية محددة ، فقد كان من الممكن أن يتخرج طلابها بعد عام واحد ، إذا حصّلوا ما عليهم من مواد دراسية . وكان أول من تخرج فيها سنة 1873 الشيخ محمد عبد الرؤوف والشيخ إبراهيم السمالوطى : عين الأول بمدرسة بنى سويف ، والثانى بمدرسة المنيا . (6)
فإذا رجعنا إلى مذكرات على مبارك نفسه ، التى كتبها فى آخر أيام حياته ، وجدناه يخصص فقرة كاملة للحديث عن فكرة دار العلوم ، وسبب إنشائها . يقول :" وحيث كان من أهم ما يلزم للمدارس الحصول على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم ، أمعنت النظر فى هذا الأمر المهم ، واستحدثت مدرسة دار العلوم ، بعد استصدار الأمر بها ، وجعلتها خاصة لعدد كاف من الطلبة ، يؤخذون من الجامع الأزهر ، ممن تلقوا فيه بعض الكتب العربية ، والفقه ، بعد حفظ القرآن الشريف ، ليتعلموا بهذه المدرسة بعض العلوم المفقودة من الأزهر من عربية وتفسير وحديث وفقه ( على مذهب أبى حنيفة النعمان ) ، وجعل لهم مرتب شهرى يستعينون به على الكسوة وغيرها من النفقات ، ورتب لهم طعام فى النهار للغداء ، وجعل الصرف عليهم من طرف الأوقاف ، ورتب لهم من لزم من المعلمين ، من مشايخ العلماء ، وغيرهم ، ليقوموا بأمر تعليمهم وتدريبهم ، حتى يتمكنوا من هذه الفنون ، فينتفعوا ، ويجعل منهم معلمون فى المكاتب الأهلية بالقاهرة وغيرها ، لتعليم العربية والخط ونحو ذلك . فلما أشبع هذا الأمر وأعلن ، حضر كثير من نجباء طلبة العلم بالأزهر يطلبون الانتظام فى هذا السلك ، فاختير منهم بالامتحان جماعة على قدر المطلوب ، وساروا فى التحصيل ، فحصلوا ، وأثمر ذلك المسعى ، وخرج منهم معلمون فى القاهرة وغيرها ، وحصل النفع بهم ، ولهم ." (7)
ومرة أخرى ، نجد أنفسنا أمام التأكيد على أن روعة الفكرة لا تكمن فقط فى مجرد العثور عليها ، أو الإعلان عنها ، ولكن أيضا فى العمل الدؤوب على تحقيقها ، وحسن التأتى لذلك ، كما نراه بوضوح لدى على مبارك . فقد كان يهدف إلى " تحديث التعليم فى مصر " . وللوصول إلى هذا الهدف ، كان عليه أن يكوّن المعلمين الذين يصلحون لأداء هذه المهمة . ولم يكن هناك سوى الأزهر ، ذلك المعهد التقليدى المتمسك بما لديه من علوم ، والرافض تماما لاستقبال أى علوم جديدة ، ولهذا كانت فكرة دار العلوم هى الحل الأمثل للجمع بين القديم والجديد ، دون أن يضيع الوقت والجهد فى الاشتباك مع أصحاب القديم ، بل على العكس ، لقد مدّ يده إليهم طالبا العون ، ومن العجيب حقا أنهم ساعدوه على ذلك ، طالما كان عمله بعيدا عن معهدهم العتيق !
( حفل رياضي وفني بدار العلوم القديمة )
محمد عبده ودار العلوم : كان محمد عبده من أشد المعجبين بفكرة دار العلوم التى استحدثها ونفّذها على مبارك . وقد شارك فى هيئة التدريس بها فترة من حياته ، وأسهم فى امتحاناتها بعض السنوات ، كما صّرح فى أكثر من مناسبة بأهمية دار العلوم فى الحياة التعليمية والثقافية فى مصر .
وقد لاحظ أن مشكلة دار العلوم الأساسية – حينئذ – هى فى تولية إدارتها لبعض الأشخاص غير الصالحين من الناحية الأخلاقية ، بالأضافة إلى جهل بعض أساتذتها بالمقصود من إنشاء المدرسة ، التى يرى محمد عبده أنها " تصلح أن تكون ينبوعا للتهذيب النفسى والفكرى ، والدينى والخلقى . ويمكن أن ينتهى أمرها إلى أن تحلّ محل الأزهر . وعند ذلك يتم توحيد التربية فى مصر " (10)
وفى نص ثالث ، يصرح محمد عبده بمكانة دار العلوم فى نفسه ، مما يدل على مدى تقديره لفكرتها الرائعة ، ونتائجها الملموسة فى حياة المجتمع المصرى ، يقول : " وإنى أنتهز هذه الفرصة (11) للتصريح بمكانة هذه المدرسة فى نفسى ، وما أعتقده من منزلتها فى البلاد المصرية ، ومن اللغة العربية .
فإن باحثا مدققا إذا أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية وأين تحيا ؟ وجدها تموت فى كل مكان ، ووجدها تحيا فى هذا المكان " (12)
مصطفى عبد الرازق ودار العلوم :
واذا كانت دار العلوم – كما راينا – موضع اهتمام وتقدير من محمد عبده ، فإن الشيخ مصطفى عبد الرازق قد اولاها هو الاخر قدرا كبيرا من الاهتمام ، بل انه علق عليها من الامال ما جعله يدعو الحكومة الى جعلها " كلية الاداب العربية " على حين تصبح مدرسة القضاء الشرعى هى هى " كلية الحقوق الاسلامية " ، وتلك إحدى أفكار الرجل العبقرية التى تميز بها خلال مسيرته الفكرية الخصبة .
يقول مصطفى عبد الرازق : " ان إنشاء هذه المدرسة ( دار العلوم ) كان لتحقيق امنية من امانى الامة ، وهى الجمع بين ما فى الطرق الازهرية القديمة من دقة البحث وتقوية الملكات العلمية ، وما فى المدارس الحديثة من تنوع المعلومات ومراعاة الانتفاع بها فى الحياة . ولقد نعلم ان مدرسة دار العلوم إذ أنشئت ووضعت مناهج التعليم فيها لم يتحر بها الذهاب الى وجهة فى العلم معينة ، فقد كانوا يعلمون فيها كثيرا من العلوم الدينية ، وكثيرا من العلوم العربية ، ولم تكن العناية بالعلوم الرياضية والطبيعية فيها باقل من العناية بتلك العلوم .
ويأسف مصطفى عبد الرازق لفترة من الضعف تعرضت لها دار العلوم ، بسبب سوء ادارتها ، كما اشار الى ذلك من قبل محمد عبده ، فيقول : " فترت عناية القائمين على امر تعليمنا بمدرسة دار العلوم فتورا يظهر ان ولاة الامر انفسهم شعروا به . فقد اشاعوا فى العام الماضى ( يقصد 1915 ) اشاعات كثيرة عن اصلاحات منتظرة لتلك المدرسة ، الحميدة الاثر ، ولكننا رزئنا فى تلك الاشاعات ايضا ، فلم نعد نسمع الا ان ناظرا سيحال الى المعاش ، ويرشح مكانه من لايقيم لسانه عجمة او استعجما " (14) .
ويطالب مصطفى عبد الرازق الحكومة صراحة بضرورة العناية بدار العلوم لكى تجعل منها : كلية للاداب العربية ، تتوفر فيها وسائل درسها درسا راقيا ، وتجعل مدرسة القضاء الشرعى : كلية قوانين اسلامية ذات عناية خاصة بالفقه الاسلامى ، اصوله وفروعه وتاريخه ، وما يتصل بذلك من تشريعنا الحديث المقتبس على وجه ما من الشرع الاسلامى القديم ، ثم نرجو الى الازهر ان يوجه فضل عنايته الى ما وراء هذا وذاك من علوم الدين ، وتاريخ المذاهب الدينية ، وفلسفـــــة الدين فى العقائد والاخلاق (16) .
طه حسين ودار العلوم :
وفى المقابل من موقف التقدير والإعجاب بدار العلوم ، الذى نجده عند كل من محمد عبده ومصطفى عبد الرزاق ، فإننا نلتقى لدى طه حسين بموقف يقوم على السخرية من دار العلوم ، ثم يتطور إلى عدم تقدير دورها الإصلاحى فى مجال تعليم اللغة العربية وآدابها ، وإغفال دورها فى خدمة الدين الإسلامى تماما ، وينتهى أخيرا بالمطالبة بإلغاء دار العلوم إلغاء – على حد تعبيره - ، لكننا ما نلبث أن نجد طه حسين نفسه يكتب تقريرا فى سنة 1935 مطالبا فيه بضرورة انضمام دار العلوم إلى جامعة القاهرة أسوة بغيرها من المدارس العليا التى ضمتها الحكومة إلى الجامعة فى نفس العام .
ولمتابعة موقف طه حسين من دار العلوم بالتفصيل ، لابد أن نبدأ من كتابه " الأيام " وما ورد فيه من حديث ، أشبه بالمزاح البرئ ، مع ابن خالته ، الذى كان حينئذ طالبا بدار العلوم . يقول طه حسين :" ولم ينس الفتى يوما خاصم فيه ابن خالته الذى كان طالبا بدار العلوم ، ولج بينهما الخصام ، فقال الدرعمى للأزهرى : ما أنت والعلم ! إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه ! لم تسمع درسا قط فى تاريخ الفراعنة ! أسمعت قط اسم رمسيس وإخناتون ؟! وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين ، وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ ، واعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها ... " ثم ينقلب الحال فيحضر طه حسين بالجامعة المصرية ، " وهو يعود إلى بيته ذلك المساء ، وقد ملأه الكبر والغرور ، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرا منه ، ومن دار علومه تلك التى كان يستعلى بها عليه ، وهو يسأل ابن خالته : أتتعلمون اللغات السامية فى دار العلوم ؟ فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرس فى المدرسة (17) أخذه التيه ، وذكر العبرية والسريالية ثم ذكر الهيروغليفية . وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون . ويصبح المغلوب غالبا ، والغالب مغلوبا " (18) وفى " الأيام " بعد ذلك عدة إشارات إلى رفيقه الدرعمى فى البعثة الفرنسية (19) ، ولكن هناك إشارة واحدة إلى تحسّر طه حسين على رغبة سابقة فى الالتحاق بدار العلوم ، حتى تريحه من هموم الأزهر ، ومشكلات البعثة التى انتكست ذات مرة بسبب الحرب . يقول :" ولو قد التمس لنفسه عملا حين تخرج فى دار العلوم ، ولم يتكلف ما تكلف من السفر والغربة ، لكان فى ذلك الوقت معلما فى هذه المدرسة أو تلك من مدارس الدولة ! " (20) .
أما خلاصة هجوم طه حسين على دار العلوم فيتمثل فى أنها لم تنجح فى تجديد علوم اللغة العربية ، وإصلاحها والملاءمة بينها وبين حاجات الحياة الحديثة . وكل ما فعلته عبارة عن اختصار واختزال لعلوم النحو والصرف والبلاغة تحولت بالتدريج إلى متون كمتون الأزهر ، كما أنها لم تحبب اللغة العربية إلى نفوس التلاميذ ، وتزينها فى قلوبهم ، فضلا عن تقويتهم فيها ، وتمكينهم من أن ينتجوا ما كان ينبغى أن ينتجوا من الآثار الأدبية القيمة . إن المازنى والعقاد وهيكل وأمثالهم قد فعلوا – كما يقول طه حسين – أفضل مما فعلته دار العلوم بالنسبة للأدب العربى .
هذا هو ملخص هجوم طه حسين على دار العلوم ، الذى انتهى فيه إلى المطالبة بإلغائها . ولسنا هنا بصدد مناقشة رأيه هذا ، الذى انفرد به من بين جميع معاصريه (23) ، ولكننا ما نلبث أن نجد له رأيا آخر ، أكثر إدهاشا ، يطالب فيه بضرورة ضم دار العلوم إلى جامعة القاهرة " على أن تحتفظ باسمها التاريخى المجيد ، وعلى أن تكون فى الجامعة المصرية : مدرسة اللغة العربية واللغات الشرقية ، بمكان يشبه مدرسة اللغات الشرقية من جامعة لندرة (لندن) ، وعلى أن تخضع للنظام الجامعى شيئا فشيئا ، حتى لا يضر هذا التطور أحدا من طلابها وأساتذتها الحاليين " (24)
وفى موضع آخر يقول : " وقد كنت ، ومازلت أعتقد أن مدرسة دار العلوم يجب أن تكون أسرع المدارس العليا إلى الدخول إلى الأسرة الجامعية . وليس من شك عندى ، ولا عند أحد فيما أظن ، أن مدرسة دار العلوم أحق من مدرسة الزراعة والطب البيطرى بالانضمام إلى الجامعة " (25) .
أهم معالم التطور فى تاريخ دار العلوم (27) :
وذلك بعد أن استقر توزيع المواد الدراسية بها على الأقسام العلمية السبعة التالية :
دار العلوم ودورها فى النهضة المصرية:
يقول سعد اللبان ، خريج دار العلوم ، ووزير المعارف فى بداية عهد الثورة : " لقد اضطلعت دار العلوم برسالتها العلمية والأدبية فى مستهل هذه النهضة ، وحملت مهمة البعث والتجديد فى تاريخ الأدب العربى . فبدأ رجالها بالتنقيب فى ثنايا القديم وأطلاله ، وجمعوا من كشوفهم هنا وهناك مادة شادوا منها صروح هذا الجديد ، فكان يغريهم دائما الاتجاه إلى الجديد ، وكان التجديد والتطوير واضحا فى كل ما صاغوه من ذلك القديم .. وهكذا كان البعث كامنا فى رسالة دار العلوم " (30) . فى رأيى أن هذا تلخيص جيد لدور دار العلوم فيما يتصل بالعلاقة بين القديم ، وهو التراث العربى والإسلامى ، وبين الحديث ، وهو ما استجد فى عصر النهضة من فنون ومتطلبات . ولكن دار العلوم كان لها دور آخر ، لا يقل عن هذا الدور (الرأسى) خطرا وأهمية ، فقد كانت قناة جيدة التوصيل ، عبرت منها عناصر حقيقية من الحضارة الغربية الحديثة إلى مصر .
وعندما يكتب تاريخ هذه الفترة بقدر كاف من الإنصاف ، سوف يذكر اسم حسن توفيق العدل ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1887 ، ثم سافر إلى ألمانيا ليقوم بتدريس اللغة العربية بالمدرسة الشرقية ببرلين ، وعندما عاد إلى مصر ، قام بالتدريس فى دار العلوم . وهو أول من ألف باللغة العربية فى فن التربية العلمى والعملى ( له كتاب البيداجوجيا – فى جزئين ) كما أنه أول من ألف فى تاريخ آداب اللغة العربية .
وسوف يذكر اسم محمد شريف سليم ، الذى تخرج فى دار العلوم سنة 1888 ، ثم سافر للدراسة بفرنسا ، واشتغل بالتدريس عقب عودته فى دار العلوم فى الفترة ( 1885 – 1898 ) وفى هذه المدة قام بتدريس التربية وعلم النفس . وهو أول من وضع كتابا فى " علم النفس " باللغة العربية ( لكنه لم يطبع إلا فى سنة 1911 ) .
وسوف يذكر اسم محمد حسنين عبد الرازق ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1909 وسافر للدراسة بانجلترا ، ثم عاد للتدريس بدار العلوم ، واختاره الملك فؤاد ليقوم بالتدريس لولى العهد حينئذ الملك فاروق . وله عدة مؤلفات فى التربية وعلم النفس وهو صاحب كتاب ( علم المنطق الحديث ) الذى يعد أول كتاب باللغة العربية يجمع بين علم المنطق القديم الذى وضعه أرسطو ، وبين علم المنطق الحديث الذى وضع أصوله فرنسيس بيكون .
وسوف تتوالى أمثال هذه اللبنات الأولية للنهضة العلمية والحديثة فى مجالات علم اللغة الحديث ، والأدب المقارن ، والفلسفة الإسلامية ، وعلم الاجتماع ، ومازالت مكتبة كلية دار العلوم تحتوى على الطبعات الأولى من الكتب المؤلفة ، أو المترجمة فى هذه العلوم ، التى وضعها أبناء دار العلوم باللغة العربية لأول مرة ، فكانت مثارا لاهتمام المصريين ، مما دفعهم بعد ذلك إلى التخصص فيها ، والعمل على نشرها .
بل إن دور دار العلوم فى تحديث كتب الفقه الإسلامى يكاد يمثل اللبنة الأولى فى تطوير هذا العلم إلى النحو الذى أصبح عليه الآن ، سواء فى الأزهر ، أو فى أقسام الشريعة بكليات الحقوق . وسوف أتوقف قليلا عند أحد أعلام هذا المجال (المغمورين حاليا) وهو محمد زيد الإبيانى ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1891 .
ففكر محمد قدرى باشا ، رحمة الله عليه ، فى وضع ثلاثة كتب ، على نظام الكتب القانونية ، وقد نفذ فكرته ، فألف كتابا فى الأحوال الشخصية ، وثانيا فى أحكام القانون ، سماه ( قانون العدل والإنصاف ) ، وثالثا فى أحكام المعاملات المالية . وبهذا كان قدرى باشا أول فاتح جديد فى المؤلفات الفقهية الإسلامية بمصر ، ورفع بعد ذلك العبء الثقيل عن طلاب الأحكام الشرعية .
وقد قام الأستاذ محمد زيد بتدريس الأحوال الشخصية لطلاب الحقوق من كتاب قدرى باشا . وكان يكتب ما يعن له من التعليقات عليه ، حتى تكامل عمله ، فوضع شرحا وافيا ممتعا لكتاب قدرى باشا فى ثلاثة مجلدات . وطبع لأول مرة سنة 1904 ، وقد تلقاه الناس بلهفة شديدة ، وشوق عظيم ، إذ وجدوا فيه ضالتهم المنشودة .
وسوف أختار للدلالة على ذلك واحدا فقط من بين هؤلاء الجنود المجهولين هو المرحوم فخر الدين محمد ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1895 ، وعمل مدرسا بالمحمدية ، وانتهى بأن أصبح مساعد مفتش بالتعليم الأولى . وبالمصادفة كان هذا المدرس أستاذا للعقاد ، الذى كتب عنه فقرة فى مقال بعنوان ( أساتذتى ) نشر بمجلة الهلال ( أكتوبر 1948 ) يقول فيه : " استفدت فى مرحلة التعليم الابتدائى من اثنين ، على اختلافى بينهما فى طريقة الإفادة ، فإن أحدهما قد أفادنى وهو قاصد ، والآخر قد أفادنى عن غير قصد منه ، فحمدت العاقبة فى الحالين : أحدهما الأستاذ الفاضل مدرس اللغة العربية والتاريخ ، الشيخ فخر الدين محمد ، وكان الإنشاء صيغا محفوظة ، فى ذلك الحين ، كخطب المنابر وكتب الدواوين ، ولكنه كان يبغض الصيغ المحفوظة ، وينحى بالسخرية والتقريع على التلميذ الذى يعتمد عليها ، ويمنح أحسن الدرجات لصاحب الموضوع المبتكر ، وأقل الدرجات لصاحب الموضوع المقتبس من نماذج الكتب ، وإن كان هذا أبلغ من ذاك ، وأفضل منه فى لفظه ومعناه . وكان درسه فى التاريخ درسا فى الوطنية ، فعرفنا تاريخ مصر ، ونحن أحوج ما نكون إلى شعور الغيرة على الوطن ، والاعتزاز بتاريخه ، لأن سلطان الاحتلال الأجنبى كان قد بلغ يومئذ غاية مداه . " (32)
وفى هذا النموذج البسيط يتجلى روح العمل الحقيقى الذى قام به أبناء دار العلوم ، فقد جمعوا بين التربية والتعليم ، واستفادوا مما وصل إليهم من نظريات التعليم وعلم النفس ما جعلهم يطبقون ذلك على تلاميذ المدارس فى مصر ، وكانت تلك نقلة كبرى فى هذا المجال ، لم يكن يعرفها الشعب ولا علماؤه حتى ذلك الحين .
وهكذا يتجاوز دور دار العلوم ، فى مجال النهضة ، مجرد نشر التعليم ، إلى إشاعة روح التربية والتعليم ، بما يشتمل عليه من تقديم النموذج والقدوة ، وتوطيد العلاقة الحميمة بين الأستاذ والتلميذ ، والخروج من أسر المتون ، وجدران المدارس إلى استثارة العقل ، ومعايشة الطلاب فى الواقع .
وفى مجال التعليم الجامعى ، يبرز دور دار العلوم كعمل تأسيسى لا غنى عنه . فعندما قامت الجامعة الأهلية سنة 1908 ، وكانت مقصورة على الدراسات الأدبية ، والفلسفية ، والقانونية ، كان لابد لها من أساتذة ينهضون بتدريس الأدب العربى ، والفلسفة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية ، والتاريخ الإسلامى . وقد استعانت الجامعة بعدد من الأجانب ، ولكنها ما لبثت أن استعانت بأساتذة دار العلوم للمشاركة فى تدريس المواد العربية والإسلامية ، التى يحسنون فقهها ، ونقدها ، وتحليل نصوصها ، والتمييز بين أساليبها .
وعندما تحولت الجامعة الأهلية إلى حكومية سنة 1925 ، وضمت لها كلية الحقوق ، استعانت هذه الكلية بعدد من أعلام دار العلوم فى مجال الدراسات الشرعية ، ومنهم أحمد أبو الفتح ، ومحمد زين ، وأحمد إبراهيم .
أما كلية الآداب فقد استعانت بطائفة من أساتذة دار العلوم – ومنهم من درس فى أوروبا – للمشاركة فى مرحلة بنائها ، ومنهم إبراهيم مصطفى ، وطه إبراهيم ، وأحمد الشايب ، وعبد الوهاب حموده ، ومصطفى السقا ، بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة ) ، ومحمد خلف الله ، وإبراهيم اللبان ، وعبد السلام هارون ، فى جامعة فاروق ( الاسكندرية ) .
وهكذا نرى أن دار العلوم قد أسهمت بدور رئيسى فى تحديث التعليم ، ليس فقط على مستوى المدارس الابتدائية والثانوية ، وإنما أيضا على مستوى الجامعات المصرية ، التى ما لبثت أساتذتها أن انتشروا لإنشاء الجامعات فى أنحاء الوطن العربى ، وفيها أيضا قام أساتذة دار العلوم ، والطلاب العرب الذين تخرجوا منها ، بدور رئيسى ، يتطلب بحثا مستقلا .
ومن ناحية اخرى ، فإن الظروف الجديدة التى مرت بها حركة التعليم الجامعى فى مصر كانت تقضى ان يقوم الاساتذة بوضع المؤلفات المناسبة للطلاب الجامعيين على اساس المنهج العلمى الحديث . وهذا يعنى ان يتم اختيار موضوعات معينة للدراسة ، يجرى عرضها بلغة تتسم بالدقة والوضوح ، وتناقش فى اطار عقلى ومنطقى مناسب .. وقد قام اساتذة دار العلوم فى هذا الصدد بدور هام ، يكفى أن نشير هنا إلى بعض نماذجه :
فى مجال النحو ، كتب إبراهيم مصطفى : إحياء النحو ، وعباس حسن : النحو الوافى ، وعلى النجدى : تاريخ النحو ، وعبد العليم إبراهيم : النحو الوظيفى ، ومحمد عيد : النحو المصفى ، وأصول النحو العربى ، ومحمد حماسة عبد اللطيف : النحو والدلالة .
وفى مجال علم اللغة الحديث كتب إبراهيم أنيس : الأصوات اللغوية ، ودلالة الألفاظ ، ومن أسرار اللغة ، وتمام حسان : مناهج البحث فى اللغة ، واللغة العربية : معناها ومبناها ، وكمال بشر : الأصوات العربية ، وعلم اللغة الاجتماعى ، وعبد الصبور شاهين : القراءات القرأنية فى ضوء علم اللغة الحديث ، والعربية لغة العلوم والتقنية ، وأحمد مختار عمر : البحث اللغوى عند العرب ، ودراسة الصوت اللغوى ، والسعيد بدوى : مستويات العربية المعاصرة .
وفى مجال تاريخ الأدب ، كتب عمر الدسوقى : فى الأدب الحديث ، والمسرحية ، وأحمد الحوفى : الوطنية فى شعر شوقى ، وعلى الجندى : شعر الحرب فى العصر الجاهلى ، وأحمد هيكل : الأدب الأندلسى ، وعبد الحكيم بلبع : النثر الفنى وأثر الجاحظ فيه ، والطاهر مكى : مصادر الأدب ، وامرؤالقيس ، وحمدى السكوت : سلسلة أعلام الأدب الحديث فى مصر ، ومحمد فتوح أحمد : الرمزية فى الشعر العربى المعاصر ، وعبد اللطيف عبد الحليم : شعراء ما بعد الديوان .
وفى مجال الشريعة الإسلامية ، كتب على حسب الله : أصول التشريع الإسلامى ، ومصطفى زيد : النسخ فى القرآن الكريم ، ومحمد بلتاجى : عمر بن الخطاب ومنهجه فى التشريع ومحمد سراج : النظام المالى فى الفقه الإسلامى ، وأحمد يوسف : الفقه الإسلامى ، ومحمد غنايم : فى التشريع الإسلامى ، وإسماعيل سالم : البحث الفقهى ، وصلاح سلطان : سلطة ولى الأمر .
وفى مجال الفلسفة الإسلامية ، كتب إبراهيم اللبان : الفلسفة والمجتمع الإسلامى ، وأبو العلا العفيفى : فلسفة محيى الدين بن عربى (بالإنجليزية ) والتصوف : الثورة الروحية فى الإسلام ، وإبراهيم مدكور : فى الفلسفة الإسلامية : منهجه وتطبيقه ، ومحمود قاسم : نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توماس الأكوينى بالأضافة إلى كتابه الهام : المنطق الحديث ومناهج البحث ، ومحمد كمال جعفر : التصوف : طريقا وتجربة ومذهبا ، وحسن شافعى : المدخل إلى علم الكلام ، وحامد طاهر : الفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث (850صفحة في جزأين).
وفى مجال التاريخ الإسلامى ، كتب محمد ضياء الدين الريس : النظريات السياسية والإسلامية ، والخراج فى الدولة الإسلامية ، ومحمد حلمى أحمد : الخلافة والدولة ، وأحمد شلبى : موسوعة التاريخ الإسلامى ، وموسوعة الحضارة الإسلامية ، وعلى حبيبة : عصر الرسالة ، وخلافة الراشدين ، والمسلمون والصليبيون .
أما فى ميدان تحقيق التراث ، فقد كان لجهود أبناء دار العلوم أثر واضح فى إصدار عدد كبير من أمهات التراث العربى والإسلامى إصدارا علميا حديثا ، يعتمد على مقابلة النسخ المخطوطة ، وتخريج ما بها من نقول ، مع التعريف بأعلامها ، وأماكنها ، وشرح غامضها ، ووضع الفهارس الكاشفة لها ، ومن أهم النماذج التى تمت فى هذا الصدد : تحقيق مقدمة ابن خلدون لعلى عبد الواحد وافى ، والحيوان والبيان والتبين والرسائل للجاحظ لعبد السلام هارون ، وديوان طرفة بن العبد لعلى الجندى وكتاب المحتسب لابن جنى الذى حققه على النجدى ، وطبقات الشافعية الذى حققه كل من محمود الطناحى ، وعبد الفتاح الحلو ، ومناهج الأدلة لابن رشد الذى حققه محمود قاسم ، وفصوص الحكم لإبن عربى الذى حققه وشرحه أبو العلا عفيفى ، واللمع لابن جنى الذى حققه حسين شرف ، وديوان الشماخ ، واشتقاق الأسماء اللذين حققهما صلاح الدين الهادى ، وغاية المرام فى علم الكلام للآمدى الذى حققه حسن الشافعى ، وتفسير مقاتل بن سليمان ، الذى حققه عبد الله شحاته .. ويمكن أن تطول هذه القائمة لو ذهبنا ننتبع ما قام به أبناء دار العلوم فى ميدان تحقيق المخطوطات ، ونكتفى بالإشارة إلى أن عددا من الأسماء التى تخصص أصحابها فى هذا الميدان قد حققت سمعة عالمية ، وفى مقدمتهم : عبد السلام هارون ، وإبراهيم الإبيارى ..
وأما فى مجال الترجمة ، فإن أبناء دار العلوم كانوا من أوائل من استشعر أهمية نقل العلم الغربى الحديث إلى مصر والعالم العربى . ونظرا لتمكنهم فى اللغة العربية ، ولحسن اختيارهم من اللغات الأجنبية التى أجادوها ، استطاعوا أن ينقلوا إلى اللغة العربية عددا من أهم المؤلفات الغربية ، سواء فى العلوم التى كانت تعتبر حديثة تماما على العالم العربى فى ذلك الوقت ، كالتربية وعلم النفس ، أو الدراسات الحديثة التى كان المستشرقون يقومون بها حول الإسلام والمسلمين . ومن أهم النماذج فى هذا الصدد : كتاب كيف يعمل العقل الذى ترجنه محمد خلف الله أحمد ، والذوق الأدبى لبنيت ترجمة على الجندى ، والتطور الخالق لبرجسون ، وقواعد المنهج فى علم الاجتماع لدور كايم اللذين ترجمهما محمود قاسم ، والفكر العربى ومكانه فى التاريخ ترجمة تمام حسان ، ودور الكلمة فى اللغة ترجمة كمال بشر ، ودستور الأخلاق فى القرآن لدراز ترجمة عبد الصبور شاهين ، وأسس علم اللغة ترجمة أحمد مختار ، وملحمة السيد ترجمة الطاهر مكى ، وبناء لغة الشعر ترجمة أحمد درويش ، والمنهج التجريبى : تاريخه ومستقبله ترجمة حامد طاهر ، وتاريخ التشريع الإسلامى ترجمة محمد سراج ، وتطور الفكر الفلسفى فى إيران لمحمد إقبال ترجمة حسن الشافعى .
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن دور دار العلوم فى حركة الترجمة يستحق دراسة مستقلة ، تحصى ماقام به أبناؤها من أعمال ، وتبين صحة اختيارهم لها ، كما توضح طريقتهم الخاصة فى الترجمة ، والجهد الذى بذلوه فى تعريب المصطلحات الأجنبية ، ثم إلى أى حد بلغ تأثيرهم فى المترجمين الذين ساروا على خطاهم .
وفى مجال المجامع العلمية ، يظهر دور دار العلوم فى واحد من أهمها على الإطلاق ، وهو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، الذى كان من بين رؤسائه : الدكتور إبراهيم مدكور ( خريج دار العلوم سنة 1927 ) . وفى خلال تاريخ هذا المجمع ، ضم إلى عضويته أكثر من ثلاثين عضوا من خريجى دار العلوم ، ومازال الكثير منهم يعمل بكفاءة فى مختلف لجانه ، التى تختص بوضع المعاجم ، وتطوير أساليب اللغة العربية (35) .
ومن حقنا الآن أن نتساءل : هل كان على مبارك يتوقع لدار العلوم حين أنشأها أن تقوم بهذه الأدوار المتعددة فى مجال النهضة ؟ الواقع أن دار العلوم أشبه بكرة الثلج – على حسب التعبير الغربى – التى تضخمت بالحركة ، وزاد حجمها ووزنها مع مرور الزمن .
ولعلنا قد أوضحنا الآن – من خلال إشارات سريعة وخاطفة – حاجة هذا الدور أو الأدوار إلى دراسة تفصيلية لكى تضع دار العلوم فى مكانها الحقيقى ، وتعيد لها أهليتها فى إطار المجتمع المصرى المعاصر . وفى هذا المجال تمت بعض الدراسات ولكنها قليلة جدا (36) .
أما إذا حاولنا أن نضع أيدينا على أهم عوامل نجاح دار العلوم فى تأدية دورها عبر مسيرتها الماضية ، أمكننا أن نتبين ثلاثة عوامل رئيسية :
أولا : المنهج الذى روعى فيه أن يضم العلوم اللغوية والأدبية إلى جانب العلوم الإسلامية ، بالإضافة لبعض العلوم الحديثة كالتربية وعلم النفس . ويلاحظ أن هذا المنهج يمتاز بالتنوع والتكامل فى نفس الوقت .
ثانيا : اختيار الطلاب من أفضل طلاب الأزهر عن طريق امتحان مسابقة يراعى فيها هيئة الطالب ، وسلامة نطقه ، وسعة أفقه ، بالإضافة طبعا إلى معلوماته التى لم يكن ينقصها إلا قدر من التصنيف ، واللمسة العصرية التى تتميز بها دار العلوم .
ثالثا : اتباع سياسة حكيمة خاصة بالأساتذة تعمل على إرسال مبعوثين من أبناء دار العلوم المتفوقين إلى جامعات أوروبا ( انجلترا ، فرنسا ، ألمانيا ، أسبانيا ) لكى يطلعوا على الثقافة الغربية ، ويتزودوا بالمنهج العلمى الحديث . وبذلك كانت تتم عملية " تطعيم " فريدة من نوعها ، بين ما هو موجود فى التراث العربى والإسلامى ، وبين أحدث النظريات القائمة فى العالم الحديث والمعاصر ، لدى أساتذة دار العلوم العائدين من البعثات الغربية .
والسؤال الآن : هل مازالت دار العلوم قادرة على مواصلة مسيرتها بنفس الكفاءة ؟ الواقع أنها تسعى بكل طاقتها . ولكن إمكانياتها قليلة ، والظروف التى تعمل فيها صعبة . فمناهحها بحاجة إلى تطوير ، شأن كل شئ فى الحياة ، خاصة وأنه قد مضى عليها الآن أكثر من ستين عاما بدون مساس . وطلابها بحاجة إلى اختيار دقيق ، كما يتم فى أقسام اللغة الإنجليزية أو الأسبانية ، بل كما اشترط ذلك على مبارك نفسه . فإن مدرس اللغة العربية ينبغى أن يختار مهنته تلك بالتطوع ، ولا ينبغى أن تفرض عليه بالتجنيد . أما أساتذة دار العلوم ، فهم بحاجة إلى مزيد من الاتصال بالعالم الخارجى ، وأقصد بالعالم الخارجى الأوساط العلمية والثقافية فى أوروبا وأمريكا ، وفى مقدمتها الجامعات ومراكز البحث ، والمؤتمرات العلمية التى تعرض فيها أحدث ما توصل إليه الدارسون فى مجال الدراسات العربية والإسلامية .
( سعد زغلول و النحاس في احدي حفلات دار العلوم القديمة )
|
آخر تحديث الجمعة, 25 أكتوبر 2019 14:29 |