موقف ابن خلدون من علم الكلام طباعة
كتبها د . حامد طاهر   
الثلاثاء, 28 ديسمبر 2010 19:34

 

 

موقف ابن خلدون من علم الكلام

 

 

 


لم يكن ابن خلدون (ت 808هـ) مجرد مؤرخ أو راصد فقط للحياة العلمية لدى المسلمين ، وخاصة حين عقد لها فى مقدمته الشهيرة(1) الباب السادس والأخير ، وجعله بعنوان "فى العلوم وأصنافها"، استعرض فيه مختلف العلوم الدينية والعملية والفلسفية واللغوية ، مبينًا نشأة كل علم ، ومتتبعا تطوره ، ومشيرًا إلى أهم أعلامه ، ومحللا أبرز قضاياه ومشكلاته ، ومسجلا فى نفس الوقت تعليقاته المركزة ، والتى يمكن أن نستخلص منها رأيه فى كل علم ، وحكمه على مدى جدواه فى إطار نظريته العامة عن العمران البشرى .


وبالنسبة إلى (علم الكلام) يحدد ابن خلدون محتواه بأنه : العلم الذى يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين فى الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة(2) .


وهكذا نلاحظ منذ البداية أن ابن خلدون يصدر فى تصوره لعلم الكلام عن مذهب السلف وأهل السنة ، وبالتالى فإنه يضع فى الجهة المقابلة : مذاهب المتكلمين الأخرى ، التى تخالف هذا المذهب .


ولأنه يرى أن جوهر العقائد الإيمانية أو "سرها" على حد تعبيره هو (التوحيد) ، فقد أفرد لهذا الموضوع الهام جزءًا خاصًا ، حاول فيه أن يقدم برهانًا عقليا يكشف فيه عن التوحيد من أقرب الطرق والمآخذ ، وذلك قبل أن يعرض لنشأة علم الكلام وتطوره .


ويقوم دليل التوحيد عند ابن خلدون على أن (الحوادث) فى عالم الكائنات (سواء كانت من الذوات أو الأفعال البشرية أو الحيوانية) لابد لها من أسباب متقدمة عليها . تقع بها فى العادة المستقرة ، وعنها تتكوّن.


وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا ، ولابد له من أسباب أخرى ، ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهى إلى مسبِّب الأسباب وموجدها وخالقها : سبحانه لا إله إلا هو(3) .


والسؤال هنا : لماذا تنتهى هذه الأسباب عند الله تعالى ، ولا تستمر إلى ما لا نهاية ؟ وعن هذا السؤال الافتراضى يجيب ابن خلدون بأن تلك الأسباب فى ارتقائها "تتفسح وتتضاعف طولاً وعرضًا ، ويحار العقل الإنسانى فى إدراكها ، فإذن لا يحصرها إلا العلم المحيط .. وهو علم الله تعالى" .


وإذا اقتصرنا فقط على الأفعال البشرية والحيوانية ، وجدناها تصدر عن إرادة وقصد ، وهذه الإرادات والقصود أمور نفسانية ناشئة فى الغالب عن تصورات عقلية سابقة يتلو بعضها بعضا ، وتلك التصورات هى أسباب قصد العقل . بل إن تلك التصورات قد تكون مسببات لتصورات أخرى . وكل ما يقع فى النفس من التصورات مجهول سببه ، إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية ولا على ترتيبها ، وبالتالى فإن الإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها ، وكل ما يحيط به فى الغالب إنما هى الأسباب ذات الطبيعة الظاهرة .. وإذن فإن المحيط بهذه التصورات المتسلسلة ، والناتج بعضها عن بعض هو مَنْ علمه محيط بكل شيء .. وهو الله تعالى .


من هنا يمكن أن ندرك حكمة الشرع حين نهانا عن النظر إلى الأسباب ، والوقوف معها . فإنه واد يهيم فيه الفكر ولا يرجع بطائل ولا يظفر بحقيقة ، بل ربما انقطع فى وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه، ولذلك يقول القرآن الكريم ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (سورة الأنعام : آية 91) يقول ابن خلدون : "فإذا وقف الإنسان عند تلك الأسباب فقد انقطع ، وحقت عليه كلمة الكفر ، وإن سبح فى بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدًا . بعد واحد فأنا الضامن له ألا يعود إلا بالخيبة . فلذلك نهانا عن النظر فى الأسباب ، وأمرنا بالتوحيد المطلق ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (سورة الإخلاص) .


لكن ابن خلدون يعود فينبه إلى أن نهى الشرع عن البحث فى الأسباب ، واحتمال الوقوف عندها لا يقدح فى العقل ومداركه . بل العقل ميزان صحيح ، فأحكامه يقينية لا كذب فيها ، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره ، فإن ذلك طمع فى محال(4)".


ولكى يوضح ذلك يقدم مثالاً جميلاً على قدرة العقل ، بالرجل الذى رأى الميزان الذى يوزن به الذهب ، فطمع أن يزن به الجبال ! فهذا لا يدل على أن الميزان فى أحكامه غير صادق لكن للعقل حدا يقف عنده ، ولا يتعدى طوره ، حتى يكون له أن يحيط بالله وصفاته ، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه" ثم يقول : "فتفطن فى هذا لغلط من يقدم العقل على السمع فى أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه ، فقد تبيّن لك الحق من ذلك(5)" .


إلى هنا ، لا يكاد يختلف ابن خلدون كثيرًا عن المتكلمين الذين اتقنوا صياغة البراهين على وجود الله ووحدانيته ، لكنه يتقدم عليهم خطوة هامة حين يضفى على الإيمان بالعقائد الدينية بُعدًا روحيا ، ويجعل منه تجربة دينية متكاملة تشمل العقل والقلب والحواس. يقول ابن خلدون: "ثم إن المعتبر فى هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط ، الذى هو تصديق حكمى ، فإن ذلك من حديث النفس ، وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس ... والفرق بين الحال والعلم فى العقائد فرق ما بين القول والانصاف ... وليس الإنصاف بحاصل من مجرد العلم حتى يقع العمل ويتكرر مرارًا غير منحصرة ، فترسخ الملكة ، ويحصل الاتصاف والتحقيق ، ويجئ العلم الثانى النافع فى الآخرة ، فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع ، وهذا علم أكثر النظار . والمطلوب إنما هو العلم الحالى (الممتزج بالأحوال) الناشئ عن العادة(6)" .


وهكذا يضع ابن خلدون العلم الناتج عن البراهين العقلية المبسوطة فى علم الكلام كمرحلة أولى لابد أن تتلوها مرحلة أخرى تتمثل فى معايشة الإنسان لإيمانه بالعقائد معايشة حميمة ، تنتج بالضرورة علمًا آخر هو الذى ينفعه فى الآخرة . يقول ابن خلدون : "إن المطلوب فى التكاليف كلها حصول ملكة راسخة فى النفس يحصل عنها علم اضطرارى للنفس هو التوحيد ، وهو العقيدة الإيمانية ، الذى تحصل به السعادة" وإن ذلك يسرى على التكاليف القلبية والبدنية . ويتفهم منه أن الإيمان ، الذى هو أصل التكاليف وينبوعها ذو مراتب : أولها التصديق القلبى الموافق للسان ، وأعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبى وما يتبعه من العمل ، مستولية على القلب ، فتستتبع الجوارح ، وتندرج فى طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها فى طاعة ذلك التصديق الإيمانى ، وهو الإيمان الكامل الذى لا يفارق المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة(7)" .


إن التصديق بالبراهين العقلية على العقائد الإيمانية أمر يتساوى فيه الجميع بمجرد حصوله أو الاقتناع به ، لكن التفاوت بين المؤمنين يأتى بعد ذلك من تحويل هذا التصديق العقلى إلى إيمان كامل يشمل خطرات النفس وأعمال الجوارح . وهنا يشير ابن خلدون إلى ما أورده البخارى فى باب الإيمان من أنه قول وعمل ، ويزيد وينقص ، وأن الصلاة والصوم من الإيمان ، وأن تطوع رمضان من الإيمان ، وأن الحياء من الإيمان "والمراد بهذا كله : الإيمان الكامل الذى أشرنا إليه ، وإلى ملكته ، وهو فعلى(8)" .


أما إيمان المرتبة الأولى ، الذى هو تصديق ، فقد وصفه الشرع لنا، وحدد أمورًا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا ، واعتقادها فى أنفسنا ، مع الإقرار بألسنتنا ، وهى التى ذكرها الرسول ، صلى الله  عليه وسلم ، مختصرة فى قوله "أن تؤمن باله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره" وهذه هى العقائد الإيمانية المقررة فى علم الكلام .


ويحمل ابن خلدون هذه العقائد فى أن الشرع عندما أمرنا بالإيمان بالخالق ، رد الأفعال كلها إليه وأفرده بها . وعرفنا أن فى هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا . لكنه لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود ، إذ أن ذلك متعذر على إدراكنا ، ومن فوق طورنا . فكلفنا أولاً اعتقاد تنزيهه فى ذاته عن مشابهة المخلوقين ، وإلا لما صح أنه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ، ثم تنزيهه عن صفات النقص وإلا لأشبه المخلوقين ، ثم توحيده بالإيجاد ، وإلا لم يتم الخلق للتمانع .. ثم اعتقاد أنه عالم ، قادر ، فبذلك تتم الأفعال لكمال الإيجاد والخلق ، ومريد وإلا لم يتخصص شيء من المخلوقات ، ومقدر لكل كائن وإلا فالإرادة حادثة ، وأنه يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته بالإيجاد الأول ، ولو كان للفناء الصرف لكان عبثا ، فهو للبقاء السرمدى بعد الموت ، ثم اعتقاد بعثة الأنبياء للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة، وأن الجنه للنعيم وجهنم للعذاب .. (9)


هذه هى أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية. وأدلتها من الكتاب والسنة كثيرة . وعن تلك الأدلة أخذها السلف ، وأرشد إليها العلماء ، وحققها الأئمة – إلا أنه بعد ذلك عرض خلاف فى تفاصيل هذه العقائد ، أكثر مثارها من الآيات المتشابهة ، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل ، فحدث بذلك علم الكلام(10).


نشأة علم الكلام وتطوره :


يبين ابن خلدون سبب نشأة علم الكلام فى أن القرآن الكريم قد احتوى على آيات كثيرة تصف الله تعالى بالتنزيه المطلق ، الظاهر الدلالة من غير تأويل ، وهى كلها "سلوب" صريحة فى بابها ، فوجب الإيمان بها ، وقد ورد فى أحاديث رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ومن ناحية أخرى ، وردت فى القرآن الكريم آيات قليله توهم التشبيه : مرة فى الذات ، وأخرى فى الصفات(11) .


وقد تمثل موقف السلف فى تغليب آيات التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها ، لما علموا من استحالة التشبيه ، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل ، وهذا معنى قولهم (اقرأوها كما جاءت) أى آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا لتفسيرها لجواز أن تكون ابتلاءً !


ومع ذلك ، فقد شذ فى عهد السلف جماعة من المبتدعة ، الذين اتبعوا ما تشابه من الآيات ، فتوغلوا فى التشبيه : ففريق منهم شبهوا الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك . فوقعوا فى التجسيم ، وعندما حاولوا الفرار من شناعة ذلك ، قالوا إنه "جسم لا كالأجسام" وهو قول متناقض . وفريق آخر ذهبوا إلى التشبيه فى الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف ، فاقتربوا من الفريق الأول ، وقالوا (صوت لا كالأصوات ، جهة لا كالجهات ، نزول لا كالنزول ..) ويحكم على ذلك بما حكم على قول الفريق الأول من التناقض .


يقول ابن خلدون : "ثم لما كثرت العلوم والصنائع ، وولع الناس بالتدوين والبحث فى الأنحاء ، وألف المتكلمون فى التنزيه .. حدثت بدعة المعتزلة فى تعميم هذا التنزيه فى آيات السلوب :


-
فقضوا بنفى صفات المعانى (من العلم والقدرة والإرادة والحياة) زائدة على أحكامها ، لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها !


-
وقضوا بنفى السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام ، وهو مردود لعدم اشتراط البنية فى مدلول هذا اللفظ ، وإنما هو إدراك المسموع أو المبصر .


-
وقضوا بنفى الكلام لشبه ما فى السمع والبصر ، ولم يعقلوا صفة الكلام التى تقوم بالنفس ، فقضوا بأن القرآن مخلوق ، وذلك بدعة صرح السلف بخلافها"(13) .


وهو يؤكد أن ضرر هذه البدعة الأخيرة المتعلقة بخلق القرآن قد عظمت ، وقام أئمة المعتزلة بتلقينها لبعض الخلفاء (وهو هنا يقصد المأمون 198-218هـ) فحمل الناس عليها ، وخالفهم أئمة السلف (وأشهرهم أحمد بن حنبل) حتى وقع أسر كثير منهم ، واستحلت   دماؤهم !(14) .


ويرى ابن خلدون أن شيوع تلك البدع الكلامية التى أشاعها المعتزلة تطلب رد فعل من أهل السنة الذين نهضوا ليحصّنوا العقائد الإيمائية بالأدلة العقلية "دفعًا فى صدور هذه البدع" وهكذا قام أبو الحسن الأشعرى ، الذى يصفه ابن خلدون بأنه "إمام المتكلمين" فتوسط بين الطرق ، ونفى التشبيه ، وأثبت الصفات المعنوية ، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف ، وشهدت له الأدلة المخصِّصة لعمومه . "فاثبت الصفات الأربع المعنوية (العلم والقدرة والإرادة والحياة) والسمع والبصر، والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل ، ورد على المبتدعة فى ذلك كله ، وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح ، والتحسين والتقبيح ، وكمل العقائد فى البعث وأحوال الجنة والنار والثواب والعقاب ، وألحق بذلك الكلام فى الإمامة (لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان) .


وهنا يؤكد ابن خلدون أن "قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية ، ولا تلحق بالعقائد ، فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن، وسموا مجموعه : علم الكلام" (15) .


أما سبب تسميته بعلم الكلام فترجع إلى أحد احتماليْن :


1-
إما لما فيه من المناظرة على البدع ، وهى كلام صرف ، وليست براجعة إلى عمل .
2-
وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم فى إثبات الكلام النفسى .


وبينما تقلص مذهب المعتزلة أو انهزم ، فقد كتب الذيوع لمذهب الأشعرى ، الذى جاء من بعده مَنْ طوره وهذّب مسائله ، ووضع له المقدمات العقلية التى تتوقف عليها أدلته وبراهينه ، ومن أشهر هؤلاء الباقلانى الذى أثبت الجوهر الفرد ، والخلاء ، وأن العرض لا يقوم بالعرض ، وأنه لا يبقى زمانين .. يقول ابن خلدون : "وجمّلت هذه الطريقة ، وجاء من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية" لكنه يعود فيأخذ عليها ضعفها أحيانا فى الإقناع" لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التى تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة فى الملة ، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة ، فكانت عندهم مهجورة"(16) .


ثم جاء بعد الباقلانى : إمام الحرمين الجوينى ، فأملى فى الطريقة كتاب (الشامل) وأوسع القول فيه ، ثم لخصه فى كتاب (الإرشاد) الذى اتخذه الناس . إماما لعقائدهم"(17) .


ثم لما انتشرت بعد ذلك علوم المنطق ، وقرأه الناس ، فرق المتكلمون بينه وبين العلوم الفلسفية التى اعتمد المتكلمون الأوائل على بعض قواعدها فى الاستدلال ، وكثير منها مقتبس من كلامهم فى الطبيعيات والإلهيات ، فلما سبروها بمعيار المنطق أعادوا النظر فيها ، ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله ، كما ذهب إليه الباقلانى . وأصبحت هذه الطريقة مباينة للطريقة الأولى ، وأطلق عليها طريقة المتأخرين ، وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه العقائد الإيمانية ، وجعلوهم من خصوم العقائد .. وأول من كتب على هذه الطريقة الغزالى ، وتبعه الرازى ثم توغل المتأخرون من بعدهم فى مخالطة كتب الفلسفة ، والتبس عليهم شأن الموضوع فى العلمين فحسبوه واحدًا .. من اشتباه المسائل فيهما(18) .


وهنا يتوقف ابن خلدون قليلا ليوضح الفرق بين تناول الفيلسوف للكائنات الطبيعية ، أو للمسائل الإلهية وبين تناول المتكلم . فالأول ينظر فى الجسم من حيث يتحرك ويسكن ، والمتكلم ينظر إليه من حيث يدل على الفاعل . وكذلك نظر الفيلسوف فى الإلهيات من حيث هو نظر فى الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ، ونظر المتكلم فى الوجود من حيث يدل على الموجد .


وبالجملة فإن موضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع ، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبهات عن تلك العقائد(19) .


لكن ابن خلدون يلاحظ – مع الأسف - أنه قد اختلطت طريقتا المتكلمين والفلاسفة عند المتأخرين ، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة ، بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر ، ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم – كما فعل البيضاوى فى كتاب (الطوالع) وكذلك من جاء بعده من علماء العجم فى جميع تآليتهم .


وفى ختام عرضه يؤكد ابن خلدون أن علم الكلام غير ضرورى لهذا العهد على طالب العلم ، إذْ أن الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا ، والأئمة من أهل السنة كفوْنا شأنهم فيما كتبوا ودونوا ، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا – وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام، ننزه البارى عن كثير إبهاماته وإطلاقه . وهنا يستشهد ابن خلدون بما حدث للجنيد  (ت     ) حين سئل عن قوم مرّ بهم من المتكلمين : يفيضون فيه ، فقال : ما هؤلاء ؟ فقيل : قوم ينزهون الله بالأدلة       عن صفات الحدوث وسمات النقص . فقال : نفى العيب حيث يستحيل العيب .. عيب" !(21) .


لكن فائدة علم الكلام – فى رأى ابن خلدون – تظل محصورة فى آحاد الناس ، وطلبة العلم . وهى فائدة معتبرة ، إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها(22) .


خلاصة آراء ابن خلدون:


بعد هذا العرض ، التاريخى والتحليلى أيضا ، لعلم الكلام لدى المسلمين يمكننا استخلاص أهم آراء ابن خلدون التى بثها فيه ، ويمكن وضعها فى النقاط التالية :


أولاً : يصدر ابن خلدون عن موقف السلف فى إثبات العقائد الإيمانية ، والإقرار بها كما بينه القرآن الكريم .


ثانيًا : بعد أن يعرض موضوع التوحيد الذى هو أساس العقائد الإيمانية وجوهرها ، بالاعتماد على الأدلة العقلية التى تشبه أدلة المتكلمين ، يتجاوز هذا المستوى إلى الدعوة إلى أن يعيش المؤمن هذا التوحيد فى تجربة دينية متكاملة ، بحيث تصدر عنها كل أقواله وأفعاله .


ثالثًا : يؤكد ابن خلدون قيمة العقل ، ويذكر أنه ميزان صحيح ، وأحكامه يقينه لاكذب فيها ، لكنه لا يصلح للحكم أو حتى للخوض فى المسائل الإلهية التى تتجاوز قدراته . وهو يشبه العقل بميزان الذهب الدقيق الذى لا يصلح لوزن الجبال !


رابعًا : ويترتب على ما سبق إيمانه بفكرة ابن رشد (ت 595هـ) التى فرق فيها بين عالم الغيب وعالم الشهادة(23) : الأول نتلقاه كما هو عن طريق الوحى ، والثانى نتجول فيه بعقولنا كما نشاء .


خامسًا : يرجع ابن خلدون نشأة علم الكلام إلى الخلاف فى مسألة الصفات الإلهية ، مع أن النشأة الحقيقية ترجع إلى الخلاف فى مسألة الإمامة والحكم ، وهى سياسية بالدرجة الأولى . أما المشكلة الكلامية الأولى فكانت هى الحكم على مرتكب الكبيره : هل هو مؤمن أو كافر أو فى منزلة بينهما ؟ وكانت المشكلة الثانية هى القضاء والقدر، ومدى مسئولية الإنسان عن أفعاله . ونحن نرى من جانبنا أن إثارة هاتين المشكلتين كان الهدف منها هو التغطية على مسألة الحكم ، وشغل المجتمع الإسلامى بأمور سبق أن حسمها لهم القرآن الكريم بكل دقة ووضوح .


سادسًا : يصف ابن خلدون آراء المعتزلة بالبدعة ، وخاصة فى أمرين :


أ- موضوع الإيغال فى التنزيه الذى وصل بهم إلى نفى الصفات الإلهية .
ب- مسألة خلق القرآن ، وعدم أدراكهم معنى الكلام النفسى .


سابعًا : يمتدح ابن خلدون الأشعرى الذى توسط بين الطرق ، ونفى التشبيه ، وأثبت الصفات المعنوية ، ورد على المعتزلة فى مسألة الصلاح والأصح .. ثم كمل العقائد فى البعث وأحوال الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، وألحق بهذا كله مسألة الإمامة : ردًا على بدعة الإمامية .


ثامنُا : يرى ابن خلدون أن مبحث الإمامة إنما ألحق بعلم الكلام بسبب ظهور بدعة الإمامية التى جعلته من صميم العقائد . وهو يؤكد أن هذا المبحث يتعلق بمصالح المسلمين التى تحسم بالإجماع ، وليس من عقائد الإيمان .


تاسعًا : علم الكلام عند ابن خلدون عبارة عن مبحث نظرى صرف ، لا علاقة له بالناحية العملية فى حياة المسلمين ، وهو هنا يتفق مع رأى الفارابى فى كتابه (إحصاء العلوم) (24) .


عاشرًا : يرى ابن خلدون أن مهمة علم الكلام – فى عصره – قد انتهت، وخاصة مع عدم وجود الملاحدة والمبتدعة الذين قضى أهل السنة على افتراءاتهم .


حادى عشر : وبناء على ما سبق ، فإن دراسة هذا العلم وتدريسه على نطاق واسع ليس مستحبا ، وإنما يوصى به فقط أفراد من طلبة العلم ، الذين لا يحسن بهم أن يجهلوا أساليب الحجاج العقلى على العقائد الإيمانية .
*   *

آخر تحديث الجمعة, 13 ديسمبر 2019 14:15