محمود حسن اسماعيل وصوره الشعرية طباعة
كتبها د . حامد طاهر   
السبت, 21 أغسطس 2010 21:03

محمود حسن اسماعيل وصوره الشعرية



تعد الصورة الشعرية واحدة من أهم المكونات الرئيسية لبناء القصيدة . وهى تمثل وحدة قائمة بذاتها ، ولكنها فى الوقت نفسه لا تنفصل عما قبلها ، وما بعدها ، وبمقدار نجاح الشاعر فى ابدع وتركيب الصور الشعرية يتنامى عمله ، ويكتمل بالتالى بناؤه الشعرى .


وبالنسبة إلى الشاعر العربى القديم ، فإن البلاغة العربية قد صنفت له مجموعة من النماذج التى يمكن أن يصوغ على منوالها صوره الشعرية . وليس التشبيه ، والمجاز ، والاستعارة والكناية .. سوى قوالب أو أنماط عامة ، يمكن للشاعر أن يستعين بها لرسم ما يشاء من الصور الشعرية المتنوعة الملامح والظلال .


وفى العصر الحديث ، أضافت ترجمة الشعر الغربى ، وكذلك ما نقل إلى اللغة العربية من مؤلفات النقد والأدب الأوروبيين ، رصيدا آخر من ألوان التعبير والتصوير الشعرى ، فأسرع الشاعر العربى بالاستجابة إليها ، واستخدامها فى عمله . ولعل أهم ما طبق فى هذا المجال وسيلتان هما : تراسل الحواس ، والمعادل الموضوعى ، وإلى جانبهما شاعت تأثيرات المذاهب الأدبية التى ظهرت فى الغرب ، كالرومانسية ، والواقعية ، والسريالية ..


وهكذا أصبح أمام الشاعر العربى المعاصر تراث قديم وتراث وافد ، وراح يتردد بينهما بدرجات متفاوتة ، وأحيانا يمزج بينهما ، وفى أحيان أخرى يتبنى واحدا منهما دون الآخر . ولعل هذا أحد الأسباب الكامنة وراء ما نشاهده اليوم على الساحة الشعرية من تنوع وثراء ، وما نعانيه – فى نفس الوقت – من تضارب وتناقض .


ولكى نظل فى إطار الصورة الشعرية داخل القصيدة العربية الحديثة ، يمكن القول بأنه قد لحقها الكثير من التطوير ، وخاصة مع حركة الشعر الحر ، التى بدأت بالسياب وصلاح عبد الصبور .. وهنا لابد من الاشارة إلى ان بنية القصيدة العربية قد تعرضت لتحوير جذرى ، مما انعكس بوضوح على تكوين الصورة الشعرية ، وعلى الدور الحيوى الذى أخذت تؤديه – جزئيا أو بوجه عام – فى داخل القصيدة ، وأحيانا المقطع الواحد منها .


ومما لاشك فيه أن الشعر العربى القديم قد قامفى معظمه – على وحدة البيت بمصراعيه المحددين ، وقافيته الختامية . وبالتالى فإن المساحة التى كانت متاحة أمام الشاعر لرسم صورته الخاصة به ، انحصرت فى عدد محدود من الكلمات التى يحكمها الوزن الموحد والقافية المطردة ، ولذلك كان على الشاعر أن يجهد كثيرا لكى يركز الصورة ، ويقتصر منها على أهم العناصر . أما الشعر الحر ، أو شعر التفعيلة ، فقد اتسعت مساحة رسم الصورة ، ولم يعد هناك ما يوقفها أو يحد من امتدادها .. وان كان ذلك لا يعنى – على الاطلاق – ان صورة الشاعر العربى القديم كانت ناقصة أو باهتة ، وأن صورة الشاعر الحديث مكتملة وواضحة ، فإن هناك فى الشعر العربى القديم صورا رائعة جاءت فى بيت واحد ، كما توجد فى شعر التفعيلة صور رديئة ، على الرغم من اتساع المساحة أمامها !!


ويبقى بعد ذلك ، أن كل شاعر يتميز بخصوصيته فى تكوين الصورة الشعرية ، وفى انتزاع عناصرها من العالمين : المحسوس والمتخيل ، وفى قدرته على إحداث التأثير المناسب من خلالها .


ويعتبر محمود حسن اسماعيل من كبار شعراء العصر الحديث ، وهو من "المخضرمين" - الذين كتبوا الشعر فى القالب التقليدى ، وفى الشكل الحديث ، وفى رأيى ان مدخل الصورة الشعرية هو أفضل المداخل لعالم محمود حسن اسماعيل الشعرى ، فقد كان من أكثر الشعراء احتفاء بالصور الشعرية . والقارئ لدواوينه منذ البداية وحتى الديوان الأخير – يلاحظ بوضوح مدى الثراء والتنوع فى الصور الشعرية لديه ، وكذلك مدى الجهد الذى بذله من أجل تكوينها ، ثم تركيب بعضها إلى جوار بعض فى القصيدة الواحدة .


يقول الشاعر الاسبانى "لوركا" عن عملية الابداع الشعرى انها أشبه بعملية الصيد الليلى فى غابة يخرج الشاعر "الصائد" وليس معه من الأسلحة سوى التصنت الشديد ، والترقب الحذر ، والرغبة العارمة فى الاقتناص .. ويظل مختبئا بين أشجار الغابة دون أن يحدث أى حركة حتى يفاجئه "الحظ السعيد" بصيد عابر ، فيسرع إلى اقتناصه ، والعودة به .. لكن فى أحيان كثيرة قد يمضى الليل بأكمله دون ظهور أى صيد ، وفى أحيان أخرى قد يكون الصيد قليل القيمة أو فاقدها .. وهنا يرجع – الشاعر – الصائد خالى الوفاض ، مرهقا من السهر والترقب وشد الأعصاب ..


تلك هى حياة الشاعر فى اقتناص الصور الشعرية التى يكون منها قصيدته ، وهى تتوقف – كما يرى لوركاعلى الحظ ، ولكنها تتطلب أيضا التهيؤ اللازم لملاقاة هذا الحظ فى الوقت المناسب ، ثم استعداد الشاعر بعد ذلك لقبوله ، ونسبته إلى نفسه .


ويكاد حديث لوركا ينطبق تماما على حياة محمود حسن اسماعيل فقد كان دائم الخروج الليلى إلى الغابة الشعرية ، ثم العودة منها بالصيد الذى تتفاوت قيمته بين المتناقض ، والمألوف ، والمبهر ، والفائق المتميز .


يقول محمود حسن اسماعيل فى قصيدته "إلى سجينة القصر" :
لم يبق منه الحب الا آهة
مجنونة الحركات تقلق ساحه
وقصيدة هزت ملاحنها الدجى
ومحت رؤاه ، وفزعت أشباحه

ومن الواضح أن (الآهة المجنونة الحركات) ، ليست بالصورة الجيدة ، ومما يقلل من قيمتها تطوير وصفها (بإقلاق الساح) الذى ألجأ الشاعر إليه – فى رأيىالتزام القافية .. كذلك فإن تصوير المتبقى من المحب بـ (قصيدة هزت ألحانها الدجى ، ومحت الرؤى ، وفزعت الأشباح) لا يخرج عن كونه تصويرا عاديا يأتى فى إطار وزن وقافية ، يحرص الشاعر على أن يسوقهما على غرار ما وصله من تراث شعرى ، دون أن يتميز بوثبة خاصة ، أو مغامرة فريدة .


كذلك حين يصف نفسه بعد ما أبعدوه عن حبيبته فيقول :


كالطائر المنبوذ فى قلب الفلا
يذرى الهجير بساحه أرواحه

فليس فى الصورة إبداع ، كما أن عناصرها مفككة ، وبالتالى فإن تأثيرها يكاد يكون معدوما ، ولاحظ هنا كلمة (ساحه) التى يسرف الشاعر فى استخدامها ، وهى كلمة عامة لا ضابط لها .


وفى قصيدة "انطلق المارد" يقول :


والأفق طير حانق فى الدجى
لص الردى ، تخشى المنايا أذاه
ينقض من كل سماء على
سوانح الوهم ، وهمس الشفاه

وهنا يتعجب القارئ المتأمل فى الصورة الشعرية من تناقض عناصرها ، وأكاد أنا شخصيا أرجع ذلك إلى السرعة فى رسمها . فهو يصف الأفق بطائر حانق فى الدجى وكان من الممكن أن يكتفى بأنه طائر حانق فقط .. ثم يقول إن المنايا (جمع منية وهى الموت) تخشى أذاه ، فأى ريشة رسمت هذه الصورة ؟ وكيف ؟


وفى قصيدة "عصا المعرى" يصف العصا بقوله :


لا تستقر على حال وساوسها
فعودها من سعير الشك شراب

وهنا بالطبع يعلو الشاعر قليلا عن الصور التقليدية ليبدأ الدخول فى مستوى أعلى من الصور الشعرية المتميزة ، فقد أضفى الحياة على عصا شاعر المعرة ، وجعلها دائمة الوساوس لا تستقر على حال .. والسبب فى ذلك أن عودها يشرب كثيرا من سعير الشك ، وهنا يقوم الشاعر باستخدام تراسل الحواس ببراعة : فالسعير الذى هو غاية النار يصبح شرابا تسقى منه العصا أو عودها . وإن كان هذا لا ينبغى أن يبعدها عن تأثر الشاعر القوى بمشاهد القيامة فى القرآن الكريم . وأنا هنا أنبه إلى أحد مصادر الشاعر فى معجمه الشعرى الملئ بكلمات مثل : السعير ، واللظى ، والجحيم ، وتشوى .. الخ .


وفى قصيدة "قاب قوسين" يقول :


لا تهابى أى ليل ، بعد ما
شيبت نارك أوهام العصور
وسقتك الرق معصوب الرضا
أعزل الحسرة ، مسلوب النصير

ومن الممكن أن نتعجب أيضا من صورة (مشيب النار) التى جاءت لتكون معادلا موضوعيا لخمود النار أو انطفائها ، ولكنها لم تؤد ما كان مطلوبا منها . فالمشيب مرتبط بالضعف لكنه مرتبط أيضا ببياض الشعر .. وهكذا فإن وصف النار بالمشيب لا يؤدى تماما ما يقصده الشاعر . فإذا انتقلنا إلى البيت الثانى وجدنا أن أوهام العصور سقت نفسه أو روحه الرق ، معصوب الرضا ، أعزل الحسرة ، مسلوب النصير ، وهى كلها مضافات مقلوبة للرضا المعصوب ، والحسرة العزلاء ، والنصير المسلوب .. (ومن وجهة نظرى لا أكاد أجد هنا إلا قدرة لغوية لا ترقى إلى مستوى الريشة التصويرية ) .

فإذا ما قلبنا هذه الصفحة من الصور الشعرية العادية أو المتناقضة لدى الشاعر إلى صفحة أخرى بل صفحات تمتلئ بالصور الحية المبتكرة ، والتى تحدد فى ذاتها خصوصية محمود حسن اسماعيل وجدنا عالما آخر يفيض بالألوان والظلال ، ويوغل بنا فى أعماق تجربة روحية بالغة الصدق ، وتجربة شعرية ناضجة ومكتملة .


فى قصيدته "الضباب الأخضر" يقول :


دعونى أغنى
فإن الغناء طريقى إلى كل سر بعيد
خلقت لأرتاد روح الحياة ،
وأستل أعماقها للوجود
ومهما سرى قبلى – السائرون،
فإنى على كل خطو جديد ..

وهكذا يلخص الشاعر دوره الشعرى الذى عاش ملتزما به ، وهو البحث عن روح الحياة وأعماقها عن طريق الشعر ، والتأكيد على تمييزه عن الشعراء الذين سبقوه بالجدة والتفرد .


ولعل أفضل ما يعبر عن تفرد محمود حسن اسماعيل قصيدته العجيبة "موسيقا من الجن" التى يتجاوز فيها – عن جداره – معظم شعراء العصر الحديث بدون استثناء .. يقول فى مطلعها :


وأكاد أسمعهم
ورغم ضراوة الغيب الكثيف ،
أكاد أسمعهم وأبصرهم
وأرى حفيف خطاهم
خلف الأثير مزاهرا حمرا
تغنيهم وترقصهم
يتسللون ويمرقون
ولا طيور الوهم فوق الظن
بالأحلام تدركهم
وأكاد من خلدى أكلمهم

وفيها يقول :

قى يدى قلب الأثير
وصافحى بيديك موكبهم

هنا الصورة مستمدة من عناصر حسية بسيطة ، ولكن تركيبها ينقلها إلى مستوى فنى . ولابد من التنويه بقوة خيال الشاعر ، وقدرته على التجول فى عوالم غير مألوفة ، بل واندماجه الكامل فى تفاصيلها الدقيقة .


يقول فى نفس القصيدة :


مست يدى قدحا على فمهم
عطشان للأسرار
فاسقونى ،
وكدت أذوق ما ذاقته نظرتهم
بل ذقتها ، وغدوت مشدودا بعصبتهم
وشطرت ذاتى :
واحدا معهم ،
والواحد الثانى يراقبهم
هيا .. وسرت بنصف مغترب
وخيال ضيف عابر معهم .

وفى قصيدته "مأتم الطبيعة" يستخدم الشاعر صورا مطعمة بكلمات ذات إيحاء يتلاءم تماما مع المضمون مثل (أطرق – ذبيح – الكلام بكسر الكاف جمع كلم أى جرحدجا – سجى – السكون – دثار الموت – ظلال – لهاب – شجون – أخرس – شجو – خطبدهى – أسى أطبق) فهذه سبع عشرة كلمة تم حشدها فى مقطع واحد ، يقول فيه :


أطرق الطير على هام الغصون
كذبيح نفرت فيه الكلام
ودجا الكون ، وسجاه السكون
بدثار الموت ، والموت ظلام
وذكا فيه لهاب للشجون
أخرس الشادى بشجو وغرام
أى خطب قد دهاه
وأسى أطبق فاه ؟

ومهما يرحل الشاعر بعيدا ، ومهما يصعد ويحلق ، فإنه يحس دائما – وفى النهاية أيضا – بأنه لم يشاهد من (عالم الأسرار) سوى القليل ، وان غيبا هائلا وشاسعا ما يزال محجوبا عن قدراته .


وفى آخر قصيدة من ديوان "لابد" يقول محمود حسن اسماعيل :


إلهى ومازال فى الناى سر
وشط من الوحى ، ما زرته
ولا شربت حيرتى منه لحنا
ولا أى يوم بها جئته
عميق كحلم الرؤى فى الخيال
على غفوة الروح كفنته
توارى وأسبل أنغامه
على وتر كنت قطعته
وأحرقت فيه ربيع الحياة
ومن غفوة القلب ودعته

فإذا حاولنا أن نستخرج الصور الشعرية المتميزة من هذا المقطع وجدنا "سر الناى" و "شط الوحى" و "شراب الحيرة لحنا" و "حلم الرؤى فى خيال مكفن " وإسبال النغم على وتر مقطع ، و "إحراق ربيع العمر .." ومن الواضح أنها كلها صور خاصة بمحمود حسن اسماعيل . وهى من "منمنماته" التى اشتهر بها ، والتى تمثل لبنات رئيسية فى قصائده



 

آخر تحديث الجمعة, 15 نوفمبر 2019 14:48