عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
واخيرا :مقالات ذات طابع فلسفى


واخيرا :مقالات ذات طابع فلسفى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الأحد, 02 يناير 2011 01:09

 

 

واخيرا : مقالات ذات طابع فلسفى :


-
هل التاريخ يعيد نفسه ؟

- ما سبب خلافاتنا ؟

- النجاح وشروطه

- وجبة السردين !

- السعادة أم الرضا ؟

- الحاجة أم الاختراع

- حكاية التاجر والببغاء

- تأملات فى الليل والنهار

- كونفوشيوس الرجل والمذهب

هل التاريخ يعيد نفسه

[الأخبار، 17/3/2009]

الذين يذهبون إلى أن «التاريخ لا يعيد نفسه، هم الذين لا يرون فيه سوى مجرد تتابع الأحداث وتوالي الشخصيات التي تصنعها أو تؤثر فيها، وقد يكون من الممكن أن نستفيد من عبرة هنا أو من حكمة هناك، ولكننا نظل في إطار النظرة هذه بعيدين عن تصور متكامل للتاريخ، ومحاولة استخلاص قوانين عامة تندرج تحتها أحداثه ومآسيه!
أما الذين يقولون بأن «التاريخ يعيد نفسه»، فهم أولئك الذين يربطون بين الأحداث المتشابهة، والعواقب التي تنتهي إليها الدول والحضارات، ويرون فيها وخلفها أسباب تكاد تكون واحدة، وكلما وجدت هذه الأسباب أدت إلى النتائج المترتبة عليها، ومن المعروف أن هذا هو المنهج الذي يحكم الظواهر الطبيعية، ويرى فيها نوعا من الحتمية أي العلاقة الثنائية بين السبب والنتيجة.
والواقع أن كلا الرأيين السابقين يحتوي على بعض الحقيقة، وليس كلها. فهناك بالفعل أحداث تاريخية، أو أفعال لشخصيات كانت نافذة عندما            سبقتها ظروف معينة كانت عاقبتها واحدة، فمثلا: الدولة القوية والثرية التي تسرف في الاستهلاك، وتستجيب لشهواتها، وتهمل حراسة حدودها والإعداد الجيد لجيشها تنتهي عادة باجتياج غيرها لها «مثال: الإمبراطورية الرومانية» والحاكم الذي يهمل مشكلات شعبه، وينعزل عنهم بحاشية سيئة، ولا يستجيب لمطالبهم الضرورية ينتهي أمره بالثورة عليه، والإطاحة به «الملك فاروق»!
لكن أحداث التاريخ ليست تماما مثل ظواهرها الطبيعية التي تحكمها قوانين شبه موحدة، فكما أن هناك الزلازل والبراكين التي تهز قوانين الطبيعة، توجد الاستثناءات التي تفلت من قوانين التاريخ. ومن الأمثلة على ذلك استمرار بعض الأحداث التاريخية على الرغم من الأسباب والظروف المزيلة لها «الدولة العباسية التي استمرت أكثر من خمسمائة سنة مع وجود نظامها السياسي المتهالك» وكذلك الحال بالنسبة لشخصيات متجبرة ظلت في الحكم حتى وافتها المنية، أو أنهت حياتها بنفسها «نابليون، هتلر» لكن هذه الأحداث الاستثنائية لا تنفي وجود «قوانين عامة» يمكن القول بأنها تتحكم في التاريخ.. وقد سبقت الإشارة إلى عوامل سقوط الدول وانهيارها، وهو أيضا قانون تاريخي عام. وهكذا فإن هذه القوانين تعني ببساطة أن أحداث التاريخ تتكرر، وأن الكثير منها يشبه بعضه بعضا. وهذا معنى القول المشهور إن التاريخ يعيد نفسه!
أما الذين يذهبون إلى العكس، فإنهم يرون في كل حادثة تاريخية أسبابا وظروفا ونتائج لا تكاد تتفق في كل تفاصيلها مع أي حادثة أخرى، وكما قال أحد فلاسفة الإغريق: إنك لا تضع يدك في النهر الواحد مرتين! بمعنى أن ماء النهر دائما يجري، وأن مكان الماء الذي وضعت يدك فيه سوف يتغير بالضرورة في اللحظة التالية، وفي رأيي أن هذا التصور للتاريخ واقعي، لكن عيبه يتمثل في أنه يحرمنا من الاعتبار من التاريخ، والتعلم منه، والاستفادة من تجاربه. إننا يمكن أن نضع مجموعة خصائص متشابهة لكل من الحاكم العادل والحاكم الظالم من خلال التاريخ. كما يمكن أن نحدد ما هي الدولة السعيدة وما هي الدولة الشقية؟ وكذلك ما هي الشعوب الحكيمة والشعوب المتهورة، النشيطة والكسولة؟ ولا يتأتى ذلك إلا من خلال بحث استقصائي يقوم به كل من المؤرخين وفلاسفة التاريخ معا، ثم يقدمونه للمجتمعات المعاصرة لكي تعرف أين ومتى وكيف تضع أقدامها على الأرض، أو حتى على الكواكب الأخرى؟!

ما سبب خلافاتنا؟

[الأخبار، 20/8/2008]

يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وهذا معناه أن الله قد وهب البشر جميعا «باستثناء المجانين طبعا» عقلا متساويا، في حين جعلهم مختلفين في أجسادهم وأشكالها، وألوانها.. الخ.
ويلاحظ هذا الفيلسوف أيضا أن أولئك الذين نشاهدهم يتكالبون أمامنا من أجل الحصول على الجاه والمنصب والثروة.. لا نجدهم يسعون إلى امتلاك المزيد من العقل، لأنهم يدركون أن ما لديهم منه يكفيهم، ولذلك فإنهم ليسوا في حاجة إلى أكثر منه، فإذا سألنا: لماذا يختلف الناس بل ويتفاوتون في النظر العقلي إلى الأمر الواحد، ويتنافرون تنافرا شديدا يؤدي بهم أحيانا إلى الصراع والاقتتال؟ فالإجابة تتلخص في أن الناس «الموهوبين بالعقل المتساوي» لا يحسنون كلهم استخدام عقولهم بالطريقة الصحيحة، أي لا يتبعون خطوات المنهج العلمي الذي ينظم مسيرة العقل، وينتقل به بالتدريج من المقدمات إلى النتائج، وفي نفس الوقت، نلاحظ أن معظم الناس يغلبون عواطفهم وأهواءهم ومصالحهم الشخصية على منطق العقل، وهؤلاء إما أن يلووا المقدمات لكي تصل إلى النتائج التي يرغبون هم أنفسهم فيها، أو لا يعترفون بالنتيجة التي ينتهي إليها العقل من خلال الاستدلال السليم، وهكذا إذا جردنا العقل من كل تلك المؤثرات «الخارجية» وجدناه متفقا لدى الجميع، والدليل على ذلك أنه يحتوي بالفطرة على مجموعة من المبادئ التي لا يمكن أن يختلف فيها شخصان، ومن ذلك مثلا: أن الكل أكبر من الجزء، وأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان، وأن الشيء المساوي لآخر يتساوى بالضرورة مع كل ما يتساوى معه هذا الآخر، فإذا قلنا إن «أ» تساوي «ب» وأن «ب» تساوي «ج» أدرك العقل على الفور ودون خلاف أو مكابرة، أن «أ» تساوي «ج». وميزة هذا المبادئ الفطرية أنها تستطيع أن تقنع أي إنسان يعيش في أي مكان أو زمان في العالم، أما الخلافات بين العقول، أو بالأصح بين أفكارها وآرائها فإنها تأتي بعد هذا المستوى الفطري، حيث تتدخل عوامل أخرى من خارج العقل فتشوش عليه أحكامه، وتفسد براهينه. ومن أهم العوامل المؤثرة في ذلك: التعصب سواء كان للعرق، أو للبلد أو للدين          أو للمذهب.. ومشكلة التعصب أنها تسقط حجابا كثيفا على العقل بحيث لا يرى صوابا سوى ما ارتبط به الشخص في إطار المجال الذي يتعصب له، وآيا كانت الآراء أو وجهات النظر الأخرى صائبة فإنه يعتبرها خاطئة تماما، بل ويسعى لمحاربة أصحابها، وفي هذا الصدد ظهر شعار «من ليس معنا فهو ضدنا» أي أن المتعصب لا يوافق على ما لدى خصومه فقط، بل ويمتد ذلك إلى المحايدين الذين لا يتفقون معه، ولا مع خصومه. ومما يرتبط بالتعصب: ضيق الآفق الناتج عن عدم السفر على أماكن أخرى تتيح للإنسان أن يرى شعوبا مختلفة عنه في المعتقدات والعادات وأساليب الحياة، وكذلك: عدم القراءة والإطلاع على أفكار ومذاهب والمعاصرين من مختلف الثقافات وهكذا فإن كلا من السفر والقراءة يوسع من أفق الإنسان، ويجعله أكثر تقبلا للإصغاء إلى مختلف الآراء، ونقدها، واختيار الأنسب منها.
وأخيرا فإن الخلاف بين البشر واقع لابد منه، كان وسيظل فيما يبدو إلى النهاية، لكن ما نريد أن نتوصل إليه، في ظل التقدم الحضاري الذي حققه العالم، هو ألا يوقعنا الخلاف في الخصام والتنازع والحروب المدمرة. وأولى الخطوات هنا أن ندرك طبيعة العقل الإنساني، وحقيقة المنهج العلمي الذي ينظم مسيرته، وأن نوسع آفاقنا لاستيعاب الأفكار الأخرى، وأن نمسك أنفسنا عند الخلاف قدر الإمكان حتى لا نقع في صراع دموي مع أصحابها!

النجاح وشروطه

[المساء، 2007]

النجاح نوعان. نجاح الصدفة ونجاح الجهد. أما نجاح الصدفة فلا تكاد تزيد نسبته عن نصف في المائة، لكنه يشيع بيننا لغرابته، أو لأنه يأتي عادة لمن لا يستحقه. لكن الذي يهمنا هنا هو النجاح الطبيعي والمعقول، والذي يأتي نتيجة لمقدمات، ويعتمد على عمل وجهد. ولا شك أن النجاح يحقق للإنسان فرحة كبيرة، ويمنحه الثقة في نفسه، بل ويدفعه لمزيد من ألوان النجاح الأخرى. وقد تتبعت مشوار عدد من الناجحين فوجدتهم يتميزون أولاً بوعي عميق بالهدف الذي يسعون للوصول إليه. إنهم يعرفون الكثير من تفصيلاته، ويدركون جيدا الطرق والوسائل المختلفة التي يمكن الاستعانة بها لبلوغه. وهم ثانيا يتميزون بقدر كاف من الذكاء الذي يبصرهم بمواطن الزلل، أو نقاط الضعف، وبالتالي فهم يتحرزون من المرور عليها أو إضاعة الوقت في السقوط فيها والخروج منها. ثالثا يتوافر لدي الناجحين قوة هائلة من الإيمان الراسخ بقدرتهم على تحقيق أهدافهم، وعلي الرغم من ضعف الإمكانيات وأحيانا تناقص القدرات إلا أن هذا الإيمان يعوضهم عنها، ويمنحهم الثقة الزائدة في أنفسهم على تجاوزها. رابعا أن أي ناجح لا يخلو من روح تنافسية تدفعه دائما للإسراع بينما يتباطأ الآخرون، والاستمرار في العمل وبذل الجهد في حين يتراخى غيره ويستريح. وأخيرا فإن الناجح قلما ينجح من المرة الأولي، بل إنه قد يتعثر مرة أو عدة مرات قبل أن يحقق في النهاية حلمه. وهنا نستطيع أن نقول إنه يمتلك روح المثابرة التي تعني عدم التخلي عن تحقيق الهدف مهما حدث من معوقات، وهنا لابد أن نعترف بأن الكثيرين قد نراهم يتراجعون أو ينسحبون من السباق بمجرد فشلهم في المرة الأولي أو الثانية أو الثالثة.. أما المثابرون فهم وحدهم الذين يظلون يكررون المحاولة حتى يتحقق لهم النجاح.
ومن المقرر أن الناس جميعا وفي كل الأوقات يحبون النجاح، ويصفقون للناجح. ومن المؤكد أيضا أنه قد يتعرض لأنواع من الغيرة والحسد، وهذا لأنه حصل على ما كان غيره يتمني أن يحصل عليه. لكن الثابت أن أحدا لا يستطيع أن يلوم الناجح أو ينتقص منه.  يقول مثل إنجليزي: إن النجاح لا يمكن أن يوجه إليه اللوم. وهناك مثل فرنسي يقول: إن أعظم خطباء العالم هو النجاح.
ويبقي صحيحا أن النجاح يؤدي إلى مزيد من النجاح، كما أن المال ينتج مزيدا من المال! والدليل على ذلك أن الإنسان الذي ينجح مرة، أو ينجح في مجال معين يكون مؤهلاً لأن ينجح مرات أخري أو في مجالات أخري. أما السبب فهو أنه قد امتلك (وصفة النجاح) التي سبق أن ذكرت شروطها الخمسة، وأصبح ماهرا في تطويعها لتحقيق نجاحات أخري.
واسمحوا لي أخيرا أن أقول: إن النجاح مثل الصباح المشرق الذي يشهد تفتح الحياة، بينما الفشل يشبه الليل المظلم الذي تنزوي فيه الكائنات..

*  *  *

وجبة السردين!

[الأخبار، 28/4/2009]

من أعجب مظاهر الحياة الحيوانية التي تحدث في الطبيعة، وتحمل للإنسان دلالات هامة بعضها سياسي وبعضها أخلاقي تلك الوجبة الضخمة من السردين الذي يتكاثر في البحار الواسعة والمحيطات، ويبلغ مرحلة يحين فيها صيده من جانب عدة أفواه مفترسة من بينها الإنسان!
وتتمثل مشكلة السردين في أنه سمكة ضعيفة، لذلك فإنها تتجمع في مجموعات هائلة، ظنا منها أنها بهذا التجمع تكون أقوى، وتحمي نفسها من الأعداء.. وبالطبع ما أشرس أعداء البحر! وأول هؤلاء الأعداء وهي «الدلافين» التي تجد في السردين وجبة لذيذة جدا، وتنتظر تجمعاتها في موسم محدد، ثم تقوم بدفعها إلى المكان الذي تستطيع التهامها فيه، وتظل بحركاتها المعهودة ترقص بجانبها، وتستدير حولها، ثم تدخل في عمقها وتقتنص ما تستطيع استيعابه منها. وكل ذلك يحدث في حركات سريعة وانسيابية.
لكن «الحيتان» وهي في الأصل من أكبر أعداء الدلافين ما تلبث أن تشتم رائحة الوليمة، فتسرع بالاشتراك فيها بنفس القدرة والمهارة.
وهنا يظهر وضع عجيب: وهو أن الحيتان التي تتناول وجبتها الدسمة من الدلافين، لا تلقي لها بالا في تلك الحالة، بل إنها تتكاتف معها، أحدهما من الأعلى والآخر من الأسفل لكي يحظى بنصيبه من السردين، بل من الأعجب أن «عجول البحر» الضخمة لا تتردد هي الأخرى في الاشتراك بالوليمة، غير عابئة بأنياب الحيتان التي تنغرس عادة في لحومها المكتنزة!
وهكذا يشترك ثلاثة أعداء في وقت واحد في التهام السردين المسكين، الذي لا يجد له مهربا سوى الاقتراب من الشواطئ، فماذا يجد هناك؟ يجد «الإنسان» قد أعد له الشباك الكبيرة لكي ينتشله من الماء إلى الأقفاص، ومنها إلى السوق!!
ومع ذلك فإن هناك طرفا خامسا، يهبط من الجو بسرعة مائة كيلو في الساعة، وهي تلك «الطيور» التي تعودت أن تغوص في الماء على بعد ثلاثين مترا ثم تلتقط في منقارها سردينة وتصعد بها للهواء.
إذن فقد أصبح لدينا خمسة أعداء، عادة ما يتربص كل منهم بالآخر معظم الوقت، قد تركوا عداوتهم مؤقتا لكي يحصلوا على تلك الوجبة الشهية من السردين. ومن نعمة الله أن السردين متوافر بأعداد هائلة، بحيث يكفي الجميع. فهل يمكن للإنسان أن يفكر جيدا في دلالات هذا المشهد، وأن يستخلص منه الأبعاد السياسية والأخلاقية التي قد تساعده في اتخذا القرار الصائب في مختلف المواقف الصعبة التي يتعرض لها. ومن أهم تلك الدلالات أن الضعيف إذا تحالف مع ضعيف مثله لن ينتج عنهما إلا ضعيف مركب، وأن الأعداء قد يتغاضون عن عداواتهم مؤقتا من أجل تحقيق مصلحة سريعة ومباشرة لكل منهم، وأخيرا فإن نظام العالم قائم على «المدافعة» التي لا بقاء فيها إلا للأقوى!


*  *  *

السعادة أم الرضا؟

[الأخبار، 28/7/2009]

كل إنسان في العالم يتمنى السعادة لنفسه، ويسعى إلى امتلاكها بكل الوسائل التي يحسب أنها تحققها له، ومن ذلك الثروة والسلطة والحب والأولاد.. والمشكلة هنا أن معظم الناس يظنون أن السعادة حالة ممتدة، بحيث إذا امتلك الإنسان وسائلها أصبحت بين يديه، وراح يتنعم في أجوائها، والواقع أن هذا التصور وهم كبير فالسعادة أولا: لا تأتي للإنسان الذي يقصد إليها قصدا، وإنما هي قد تأتي وقد لا تأتي.. وثانيا: هي في حالة عابرة وليست دائمة، تتميز بالسيولة وليس الثبات، وبالحركة وليس الاستقرار بل إنها قد لا تزيد أحيانا عن لحظة خاطفة، وكما تأتي إلى الإنسان في اليقظة، تمر به أحيانا في حلم جميل، يصحو منه وهو منشرح الصدر، ومن أهم خصائص السعادة أنها لا تجتمع أبدا مع الفكر والمقصود هنا هو الانشغال بالحاضر أو بالمستقبل وهذا ما يحدث للكثير منا حين يشعر بالسعادة فيشغل فكره بكيفية استمرارها، ويتزايد همه وحرصه على عدم التفريط في وسائلها، لكنه يشبه الشخص الذي يحاول أن يمسك بالماء بين أصابعه، فلا يلبث أن يجدها فارغة، إلا من الحزن والأسف والكثير من الندم!
لقد قيل بحق إن السعادة لا تتحقق في أفضل مستوياتها إلا لدى الأطفال، فهؤلاء وحدهم هم الذين يسعدون بلحظتهم الحاضرة دون التفكير في المستقبل أو الاهتمام بما هو آت، وتلك هي أعلى درجات السعادة، أما الكبار فإنهم لا يقدرون على ذلك، لأن بالهم دائما مشغول بالحرص على استمرار السعادة، وعدم ضياع وسائلها من أيديهم، وهذا ما يفسد عليهم الشعور بالسعادة.
وإذا كانت السعادة في الغالب عزيزة المنال، بخيلة في مجيئها وعطائها، فإن الشعور التالي لها هو الرضا، وهو مزيج من القناعة بالوجود، والاكتفاء بالمتاح، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الغير، أو الخوف من توقعات المستقبل، ولا شك أن الإحساس بالرضا قد تطول مدته أكثر من الشعور بالسعادة، وقد يستمر في مختلف الأحوال، ولا يرتبط بحالة واحدة فقط، كما أنه يمنح القلب طمأنينة، ويغلف الروح بالسكينة ويريح الأعصاب من هموم الدنيا، ومشكلات الأيام التي لا تكاد تفارق الإنسان.
وقد تناول الصوفية المسلمون حال الرضا أو مقامه، على خلاف بينهم في ذلك فقالوا: إن الإنسان الراضي بالله هو الذي لا يعترض على تقديره، وقالوا: ليس الرضا ألا تحس بالبلاء، إنما الرضا ألا تعترض على القضاء. وسئلت رابعة العدوية: متى يكون الإنسان راضيا؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرّته النعمة، وكان الرسول r، يدعو ربه قائلاً: «أسألك الرضا بعد القضاء» ومعنى ذلك أن الرضا قبل نزول البلاء عبارة من نية على الرضا، أما بعد نزوله فهو الرضا نفسه!
وهكذا يتبين أن الشعور بالرضا يرتبط ارتباطا وثيقا بالإيمان. فالقلب الذي يمتلئ بالإيمان هو الذي يمكن أن يعمره الرضا، لأنه يدرك أنه جزء من الخطة الإلهية التي تسير الكون كله، أما القلب الخالي من الإيمان فهو ذلك القلب الذي يظل دائما متحسرا على الماضي، خائفا من مشكلات الحاضر، ومتوجسا من مصائب المستقبل، بالإضافة إلى أنه يحس بأنه وحيد بدون رفيق، سائر في الظلام بدون قنديل، ولذلك يكون معرضا لأن تكسره الأحداث من أول ضربة، وتنفجر شرابينه عند استقبال أي مصيبة!
*  *  *

الحاجة أم الاختراع

[الأخبار، 12/5/2009]

ما مدى صحة هذا القول المأثور؟ ولماذا لا يوجد له تأثير مباشر في حياتنا؟ الواقع أن إحساس الإنسان بالجوع، يدفعه إلى البحث عن الطعام، وإحساسه بالبرد يدفعه للبحث عن الملابس؟ وإحساسه بالخوف يدفعه إلى البحث عن الاستقرار في بيت يشعر فيها بالأمان. وقد بذل الإنسان منذ وجوده على الأرض جهدا متواصلا من أجل إشباع حاجاته الضرورية، وتحقيق دوافعه: سواء بعضلاته، أو بالأدوات والآلات التي اخترعها فيما بعد لتساعده في ذلك. وليس تاريخ التقدم العلمي الذي حققته الإنسانية على مدى عمرها الطويل سوى قصة الحاجات ومحاولة إشباعها، وكلما وسع الإنسان من تلك الحاجات بأن تجاوز مستوى الضروريات إلى مستوى الكماليات والتسلية- زاد جهده في اختراع وسائل جديدة تعينه على تحقيق تلك الكماليات.
وهنا قد نجد فريقا من الناس عندما وجدوا أنهم سوف يعجزون عن مواصلة اختراع وسائل وأدوات جديدة لمطالبهم التي لا تكاد تقف عند حد، مالوا إلى الزهد في الدنيا، وفضلوا أن يقللوا من احتياجاتهم قدر الإمكان وبالتالي قل جهدهم واستراح خاطرهم، وراحوا يمتدحون القناعة بأنها كنز  لا يفنى!
لكن هذا الفريق لحسن الحظ ليس كثير العدد، لأن فلسفته في الحياة لو كانت فد انتشرت وشاعت لما وجدنا الإنسانية تخطو تلك الخطوات الواسعة على طريق التطور، والذي أصبح يتمثل الآن في محاولة اختراق الفضاء لاستغلال الكواكب الأخرى «القمر والمريخ كبداية».
إننا قد نلوم الإنسان الذي يسعى لسد احتياجاته الكمالية بإنفاق الكثير من الوقت والجهد والمال، ولكننا نتجاهل أن نزوعه إلى ذلك أمر فطري كامن في طبيعته البشرية.
لكن اللوم ينبغي أن يوجه لذلك الإنسان الجالس في مكانة والكسول، الذي يظل محتاجا للكثير من المتطلبات الضرورية كالطعام والملبس والمسكن، ومع ذلك فإنه لا يكاد يحرك ساكنا، ولا تصدر منه سوى الشكوى من وضعه، والبكاء على حاله!
إننا في مصر نعيش على مساحة من أرضها لا تتجاوز 5%، بينما باقي الـ 95% أراض صحراوية، كما أن لدينا مياه إقليمية يبلغ عرضها 12 ميلا على شواطئنا في البحر المتوسط والبحر الأحمر.. فأين المصريون من هذه المساحة الصحراوية والمائية الهائلة؟ وما الجهد المبذول لكي نستخرج منها ما ينفعنا، وهو كثير وواعد. المحاولة الوحيدة وأكاد أقول اليتيمة التي حدثت في هذا المجال هو مشروع توشكى. ومع ذلك فإن التجربة فيه مازالت متعثرة، لأنها- كما يقال- لم تقم على أساس مدروس، وآراء موضوعية، لكن ذلك لا يعني أن باب التجربة قد أغلق، بل على العكس ينبغي أن نستفيد من أخطاء توشكى لإنجاح مناطق أخرى غيرها. والهدف يستحق المحاولة لأن عدد السكان في مصر يتزايد بصورة رهيبة، ولا يمكن الإقامة على تلك الرقعة التي أقام عليها أجدادنا عندما كان عددهم لا يتجاوز عشرين مليون نسمة فقط؟!
إن مبدأ الحاجة أم الاختراع مبدأ صحيح مائة بالمائة، ولكننا في مصر لا نريد أن نطبقه، ولا أن نقترب منه، وكلما حاول أحدنا أن يقدم للمجتمع فكرة جديدة قابلته بالرفض والاعتراض والتشويش والتهويش ألاف الأصوات التي من مصلحتها أن يبقى الوضع كما هو عليه: بمعنى أن تبقى «الحاجة» ولا يحدث «الاختراع»!!

حكاية التاجر والببغاء

[الأخبار، 1/9/2009]

يروي جلال الدين الرومي (المتوفى 672 هجرية= 1273 ميلادية) في منظومته الكبرى المسماة بـ  المثنوي (30 ألف بيت من الشعر) حكاية طريفة عن التاجر والببغاء، خلاصتها أن تاجرا من بلاد الفرس قرر السفر إلى الهند، وقبل سفره عرض على خدمه أن يطلبوا ما يرغبون فيه، وراح كل منهم يحدد للتاجر طلبه من هناك. وكان لديه ببغاء جميل الريش، حسن الصوت فسأله: وما هديتك التي تريد أن أحضرها لك من الهند؟ فأجاب: لي فقط رغبة بسيطة، وهي أن تبلغ ببغاواتها الطليقة في الهواء سلامي وأشواقي، وتحدثهم عن وجودي في هذا القفص!
سافر التاجر إلى الهند، وحين شاهد مجموعة من الببغاوات تطير وتمرح في فضاء الصحراء، توقف وأبلغها السلام، وأدى الأمانة، لكنه فوجئ بسقوط أحدها ميتا من سماع قوله. تعجب التاجر، وراح يؤنب نفسه على أنه نقل مثل هذا الكلام الذي أدى إلى موت طائر مسكين، لكن كثرة مشاغل السفر غطت على أسفه وحزنه، وعندما رجع بالهدايا إلى خدمه، ذكر للببغاء  ما حصل مع زملائه من ببغاوات الهند، وكيف أن أحدها سقط ميتا بمجرد سماع رسالته.. حينئذ، اصفر لون الببغاء، وبرد جسمه، وسقط في قفصه من شدة التأثر. وعبثا حاول التاجر أن يسعف الببغاء، لكنه أصبح إلى الموت أقرب، فأخرجه من القفص، ووضعه جانبا على الأرض. وهنا دبت الحياة من جديد في الببغاء، فاندفع بسرعة إلى أقرب شجرة، وحط على أعلى غصن فيها..
حدث ذلك وسط دهشة التاجر، الذي راح يسأله: ما هذا الذي وقع لك؟ فقال الطائر: لقد ألهمتني حكايتك عن زملائي ببغاوات الهند، وسقوط أحدها ميتا أمامك، بأن أفعل نفس الشيء لكي أتخلص من سجن القفص الذي وضعتني فيه، وأنعم بالحرية التي منحها الله لي. ثم لوح للتاجر: الوداع أيها السيد الطيب، فقد كنت لطيفا معي وحررتني من القيد والظلم. وأنا الآن ذاهب إلى الوطن، وسوف تصبح ذات يوم.. حرا مثلي!
الحكاية بالطبع رمزية. وهي مثل كل الحكايات التي يرويها جلال الدين الرومي في منظومته مليئة بالحكم والمواعظ الصوفية والأخلاقية، كما أنها لا تخلو من البعد الواقعي أو العملي الذي يمكن أن يبصر الإنسان بأفضل التصرفات في مواجهة مشكلات حياته اليومية، والمواقف الصعبة التي يوضع أحيانا فيها.
فما الذي يمكن أن نخرج به من تلك الحكاية البسيطة والرمزية؟ أولاً: أننا أمام تاجر، طيب القلب، شهم الأخلاق، يحسن معاملة خدمه، فيعرض عليهم قبل سفره أن يطلبوا ما يرغبون فيه لكي يحضره لهم من رحلة بعيدة في بلاد الهند، ثانيا: أن التاجر يتميز بحس جمالى راق، فهو يقتني في منزله ببغاء، ذا صوت جميل، وألوان زاهية، وكلاهما يبعث في النفس الراحة والسعادة. ثالثا: أن الببغاء رغم وجوده في هذا الجو المترف، لا يشعر بالسعادة، لأنه يفتقد الحرية، التي جعلها الله من صميم حياة الطيور. رابعا: أن هذا الببغاء يتميز بذكاء فريد، فقد استطاع أن يحصر طلبه من سيده في نقل رسالة سلام وتحية إلى زملائه ببغاوات الهند، التي تعيش حرة طليقة. خامسا: أن الرسالة عندما بلغت تلك الطيور البعيدة، أدركت على الفور مغزاها، وفهمت الغرض منها، فتطوع أحدها بالموت أمام التاجر، لكي ينتقل هذا المشهد المؤثر جدا.. إلى طائرة الحبيس في منزله سادسا: أن الطيور في هذه الحكاية قد استطاعت أن تتواصل فيما بينها، على الرغم من بعد المسافة، كما نجحت تماما في إرسال واستقبال شفرة محددة، مع أن حاملها نفسه لم يفطن إلى مضمونها أو دلالتها سواء عند أخذها من صاحبها، أو توصيلها للطرف الآخر. سابعا:  أن الببغاء المحبوس في بلاد فارس قد استفاد من تجربة زملائه في بلاد الهند، فقام بالتظاهر بالموت أمام صاحبه، لكي يتم إخراجه من القفص. ثامنا وأخيرا: أن الحرية تستحق أن يبذل الراغب فيها كل الوسائل الممكنة حتى يحصل عليها. ولأن الطائر ضعيف، فقد استخدم وسيلة التلطف والمداراة، بينما توجد وسائل أخرى عديدة، تصل إلى حد التضحية بالروح من أجل الحصول على الحرية!!


*  *  *

تأملات
في الليل والنهار

[الأخبار، 25/8/2009]

حاولت أن أتتبع أمثال الشعوب في موضوع الليل والنهار فوجدتها تتنوع تنوعا بديعا، وفيما يلي ترجمتي لبعض هذه الأمثال من التراث العالمي: (مثل إغريقي) الليل يحتوي على النصيحة (أمثال لاتينية) الليل لا يعرف العار- في الليل، كل النساء يصرن جميلات- الذهن يتغذى بصمت الليل (مثل (ألماني) لا تثق بثلاثة ناصحين: الخمر والحب والليل (أمثال إنجليزية) في الليل كل القطط تبدو رمادية – النهار له عيون والليل له آذان (مثل صيني) طيور الجبال تغرد في النهار، وطيور الليل هي التي تغرد في الليل (أمثال فرنسية) في الليل، أي قمح يبدو دقيقا- على ضوء الشمعة في الليل، تبدو العنزة آنسة جميلة- الليل عبارة عن ساحرة (مثل إيطالي) النهار هو أبو العمل، والليل أبو الأفكار (مثل بولندي) الليل هو صاحب قانون الأخلاق (مثل روسي) حيث يوجد الليل، توجد الأحلام (مثل سويدي) الذي يجهد نفسه في الليل، يفقد خبزا في النهار بمقدار كل حبة عرق (مثل سويسري) الذي لا يبرق في النهار يبرق في الليل!!
فإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، وجدنا كلمة الليل تتردد فيه (74 مرة) والنهار (54 مرة). وهذا يدل على العناية الشديدة بهما. وهو يؤكد أن كلا منهما آية من آيات الله، أي علامة دالة على قدرته التي لا يستطيعها غيره. يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ [الإسراء: 12] كما يؤكد أنها من خلق الله ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [الأنبياء: 33] ويذكر القرآن الكريم أن الله تعالى هو صاحب اختلاف الليل عن النهار ﴿وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [المؤمنون: 80] كما أنه تعالى المنظم لتتابعهما ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ [الزمر: 5] وهذا التكوير أو التتابع مقدّر بنظام لا يتخلف {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] ولكل منهما نظام إلهي محسوب بكل دقة، فقد يطول أو يقصر ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [المزمل: 20] كما أنه تعالى هو الذي يصل بين الليل والنهار، فيدخل أحدهما الآخر، ويسلخه منه ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحج: 61]، ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ [يس: 37] وقد قدر الله تعالى أن يكون الليل لنوم الإنسان وراحته، والنهار للعمل والسعي من أجل تحصيل رزقه ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه﴾[غافر: 61]، ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشا﴾ [النبأ: 7].
أما في السنة النبوية، فقد ورد حديث عن الرسول (ص) عبارة عن مثل مركب له دلالة هامة حول الليل والنهار. وخلاصته أن رجلاً سقط في بئر، وقبل أن يصل إلى قاعها، تعلق بحبل، وأن هذا الحبل يتعرض لفأرتين إحدهما بيضاء والأخرى سوداء، وهما لا تتوقفان عن قرض الحبل. وكلما شاهدهما الرجل ازداد خوفه، وارتعش من الرعب حتى لا ينقطع الحبل، فيسقط في أعماق البئر.. وتفسير المثل: أن الإنسان يجيء إلى الدنيا فيشبه ذلك الشخص الذي يسقط في بئر، لكنه يتمسك بحبل، هو حبل العمر، ولذلك عليه أن يسرع باغتنام الفرصة والإكثار من العمل الصالح حتى لا يقع في قاع البئر، وقبل أن تنتهي أيام عمره التي يعمل كل من الليل والنهار على قرضها بصورة مستمرة!!
وهكذا نجد أننا جميعا، وبدون استثناء محاطون بالليل والنهار، اللذين يدوران حولنا دون انقطاع. ولا شك أن بعضنا يدرك حقيقتهما فيظل يعمل بكل جهده للاستفادة من كل دقيقة فيهما، بينما يغفل الكثيرون عن ملاحظتهما، ظنا منهم أن المسألة عشوائية، فيهمل نفسه، ولا يعمل لغده، بل إنه أحيانا ما يقلب نظامهما الذي وضعه الله تعالى، فنجده يسهر الليل كله، وينام النهار بطوله!!


*  *  *

كونفوشيوس
الرجل والمذهب

[ لم ينشر من قبل.. ]

عاش الفيلسوف الصيني كونفوشيوس 72 عاما. ويقال إنه ولد من لقاء غير شرعي، لأب من أسرة عريقة وأم فقيرة. وفي بدايته خدم أحد الأمراء، فكلفه برعى الأغنام التي ازدهرت على يديه، فعينه مشرفا على الحدائق العامة بالولاية. وبعد سن العشرين، انتقل إلى ولاية أخرى، حيث أنشأ مدرسة خصصها لأصحاب المواهب لكي يتعلموا فيها أصول الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وفيها تخرج آلاف الشخصيات الذين أصبحوا فيما بعد قادة الفكر والسياسة في الصين.
وعندما ذاعت شهرته، أصبح مستشارا لكثير من الولاة والأمراء والنبلاء في الشئون السياسية، كما عمل قاضيا في أحدى الولايات، ثم عين وزيرا للأشغال العامة، وأخيرا عينه حاكم ولاية (لو) رئيسا للوزراء في الولاية، وبفضل حسن إدارته جعلها من أفضل الولايات، الأمر الذي أثار غيرة حكام الولايات الأخرى، فدبروا مكيدة لإفساد حاكمها وحاشيته، استقال على إثرها كونفوشيوس، وراح يتجول في سائر ولايات الصين، مقدما لحكامها النصائح، وبعلم الناس، ويناظر العلماء، حتى توفى سنة 479 قبل الميلاد. وقد أنجب كونفوشيوس ابنا واحدا، توفى في سن الخمسين في حياة والده، لكن ترك حفيدا لجده اسمه (تزوتس) أصبح هو الآخر عالما وفيلسوفا، كما قام بدور هام في نشر فلسفة جده.
يعتبر الصينيون كونفوشيوس نبيا ورسولاً. وأفكاره وتعاليمه هي أساس عقيدتهم التي ظلوا يدينون بها على مدى خمسة وعشرين قرنا، ولم يقابلها سوى البوذية التي نشأت وانتشرت في الهند، ثم انتقلت إلى الصين، وجذبت ما يزيد على ثلث عدد السكان. وقد انزوى مذهب كونفوشيوس عندما طبق النظام الشيوعي في الصين سنة 1949، لكنه عاد في السنوات الأخيرة للظهور بقوة، وخاصة عندما أخذت البلاد بنظام السوق الحر في الاقتصاد، بل إن الدولة الصينية الحالية تسعى لإنشاء مراكز لفكر كونفوشيوس في مختلف عواصم العالم وجامعاتها الكبرى، ومنها جامعة القاهرة.
تتكون مؤلفات كونفوشيوس من خمسة كتب تسمى: الكلاسيكيات الخمسة: هي:
1-
كتاب الأغاني أو الشعر.
2-
كتاب التاريخ.
3-
كتاب التغيرات.
4-
كتاب الربيع والخريف.
5-
كتاب الطقوس أو التقاليد.
وقد قام تلاميذه بعد ذلك يوضع أربعة كتب أخرى، لتلخيص وشرح هذه الكتب الخمسة، فأصبح لدينا تسعة كتب تمثل المصدر الأساسي لمذهب كوفنوشيوس.
أما أسلوب كونفوشيوس فهو عبارة عن صياغة حكم ومواعظ وأمثال تتناول موضوعات مختلفة، ولا يربطها خيط منطقي موحد. ومع ذلك، فقد استطاع الباحثون الصينيون، ثم الأوربيون فيما بعد، أن يستخلصوا منها مذهبا متكاملاً في السياسة والاقتصاد والدين وغيرها من المجالات. أما السمة الثانية لأسلوب كونفوشيوس فيحددها د. حسن سعفان بأنه كان أول فيلسوف في العالم، قبل أرسطو، يستخدم القياس المتتابع. ومن أمثلته: «إذا فهم الإنسان طبيعة الصفات الأخلاقية فإنه سيفهم كيف ينظم سلوكه الفردي والأخلاقي- وإذا فهم كيف ينظم سلوكه الفردي والأخلاقي فإنه سيفهم كيف يحكم الناس- وإذا فهم كيف يحكم الناس فإنه سيفهم كيف يحكم الأمم والإمبراطوريات».
ويتلخص المذهب الأخلاقي والسياسي عند كونفوشيوس في أن أي نظام اجتماعي صحيح ومتكامل إنما يقوم على تزويد الأفراد بالأخلاق الكريمة، وهذا يتحقق بالتربية والتعليم إلى جانب وجود حاكم على خلق قويم، يكون قدوة لشعبه، ونموذجا يحتذى به الجميع. ويرى كونفوشيوس أن الأخلاق إذا وصلت في المجتمع إلى مستواها المنشود أغنت عن القوانين والتشريعات والقضاء. يقول: «إنك إذا قدت الناس وفق قوانين إجبارية، وهددتهم بالعقاب فقد يحاولون اتقاء العقاب، ولكن لن يكن لديهم شعور بالشرف. ولكنك إذا قدتهم بالفضيلة، ونظمت شئونهم بالتربية فإن علاقاتهم ستقوم على أساس الشرف والاحترام».
ولكي يرسخ كونفوشيوس الأخلاق الحميدة في نفوس الناس، استعان بالموسيقى وبعض الفنون التي تؤثر في الجماهير كالشعر والغناء والرقص، كما استعان بالطقوس الدينية القديمة والعادات والتقاليد التي تؤلف بين الأفراد وتشعرهم بالوحدة والتضامن. أما مصدر القانون الأخلاقي فيؤكد كونفوشيوس بأنه: الله أو السماء، فهو الذي شرع الأخلاق ونظمها، وجعلها ثابتة لا تقبل التغير. وقد أودع الله في كل إنسان جوهر الأخلاق من خلال منْحه العقل. فكل فرد منا يشعر شعورا واضحا بأن هذا العمل أو ذاك أخلاقي أو غير أخلاقي. وحين يخطئ بعض الناس في معرفة الخير والشر فإن التعليم يُسرع بتقديم التعريف والتوجيه اللازمين لهم.
ويرى كونفوشيوس أن الفرد إذا ما تم تعليمه وتربيته أخلاقيا، فإنه ينقل ذلك إلى أسرته، والأسرة إلى المجتمع، والمجتمع إلى الإنسانية كلها. وهو يحدد عشرة فضائل لاتخاذها أساسا لعلاقات الأفراد:
1-
عطف الوالد على أولاده.
2-
احترام الابن لأبيه.
3-
معاملة الأخ الأكبر لأخيه الأصغر باللين.
4-
خضوع الأخ الأصغر للأكبر، مع احترامه له.
5-
تحلي الزوج بحسن الخلق.
6-
طاعة الزوجة لزوجها.
7-
حسن معاملة الكبار للصغار.
8-
طاعة الصغار للكبار.
9-
حسن معاملة الحاكم لرعاياه، وعطفه عليهم.
10-
إخلاص الوزراء والولاة في أداء مهامهم.
أما الحاكم فيحدد له تسعة أخلاق، تتلخص جميعا في أن يكون «أبا الشعب»، يكرس نفسه له، ويعطف عليه، ويستمع لصوته «لأن ما تراه السماء وتسمعه ليس شيئا آخر غير ما يراه الشعب ويسمعه، وما يعتبره الشعب جديرا بالثواب والعقاب هو ما تعتبره السماء جديرا بالثواب والعقاب. فهناك اتصال وثيق ومستمر بين السماء والشعب. وعلى من يرون أمور الشعب أن يراعوا ذلك ويتدبروه».
والواقع أن كونفوشيوس يربط في منظومة ثلاثية بين الله والحاكم والشعب. فهو يرى أن بقاء الحاكم يتوقف على رغبة الله وإرادته، وإرادة الله هي إرادة الشعب. فإذا نال الحاكم عطف الشعب وحبه فإن الله السامي ينظر إليه بعين الرضا ويوطد عرشه، أما إذا فقد حب الشعب وعطفه فإنه يصب غضبه عليه، ومن ثم يفقد دولته».
وبالنسبة إلى مذهب كونفوشيوس الديني، فليس يمكن القول بأن الفيلسوف الصيني قد جاء بدين جديد، لأنه يعترف بكل الأديان التي كانت شائعة من قبله في الصين، بل إنه استمد منها بعض العناصر، وأدخلها في بناء مذهب متكامل يقوم على أساس أن الله أو السماء هو صانع هذا العالم، بكل ما فيه، وفق قواعد منتظمة لا تتخلف، وهي تكون في مجموعها القانون الإلهي في الطبيعة، الذي يقابله القانون الأخلاقي في الإنسان. فكما يوجد نظام مستقر للشمس والقمر والنجوم والبحار والجبال.. توجد في الإنسان سبعة انفعالات رئيسية هي: الفزع والغضب والحزن والحب والكره والخوف والرغبة.
وتتمثل الرغبة في ميل الإنسان إلى الأكل والشرب والجنس، كما يتمثل الخوف في الخشية من الموت والفقر والألم. وهكذا فإن كلاً من الرغبة والخوف يلخص القوى الدافعة للعقل أو القلب الإنساني التي تقربه أو تبعده من القانون الأخلاقي، الذي هو نظير القانون الطبيعي. والنتيجة أن الإنسان العاقل هو الذي يوازن بين هذين القانونين بحيث يجعلها يتطابقان ويتكاملان، بدلاً من أن يتعارضا أو يتناقضا..
إن الدين أساسي في قيام المجتمع الناجح. والطقوس وتقديم القرابين هي التي توحد بين أفراده، وتشيع بينهم روح التضامن والألفة، كما تقرب بينهم بالمودة والحب. وقد حاول كونفوشيوس أن يرطب حياة الناس الجافة بالموسيقى إلى جانب بعض الفنون الأخرى كالشعر والغناء والرقص، لكي يرهف مشاعرهم، ويهذب حركتهم، ويعودهم الإيقاع المنتظم بهدف تقريبهم من القانون الإلهي في الطبيعة، الذي يتوازى تماما مع القانون الأخلاقي في الإنسان. وبهذا الشكل استطاع أن يقدم للصينيين مذهبا تقوم أركانه على الأخلاق والسياسة والطقوس الدينية المتوارثة، ثم الآداب والفنون.. وهو الأمر الذي جعلهم يعتبرونه «دينا» مازالوا يتمسكون به حتى اليوم.


*  *  *

 

آخر تحديث الأحد, 01 فبراير 2015 14:49