عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
ثامنا : إسلاميات


ثامنا : إسلاميات صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الأحد, 02 يناير 2011 01:08

 

ثامنا : مقالات اسلامية :


-
الحضارة النائمة

- آن للإسلام المعتدل أن يتكلم

- طبيعة الحكم فى الدولة الإسلامية

- المسلمون والديمقراطية

- فى علاقة الغرب بالمسلمين : التحدى والمواجهة

- الخطأ الكبير فى علاقة المسلمين بالغرب

- الخطاب الدينى بين مشكلاته المزمنة وحلوله العاجلة

- تعايش الأديان

- الحوار بين الأديان حقيقته وعقباته

- عالم إسلامى .. أمة إسلامية !!

- الفلسفة الإسلامية وآفاقها

- فن المناظرة وآدابها

- أخلاقيات

الحضارة النائمة

[الأهرام، 2007]

يبلغ عدد المسلمين حاليا أكثر من مليار نسمة، موزعين على مختلف قارات العالم المعاصر. وإذا كانت تجمعاتهم الكبرى تستقر في قارتي آسيا وإفريقية إلا أنهم يتواجدون في شكل أقليات متفاوتة الحجم داخل أوربا وأمريكا واستراليا. والملاحظ أن هذا العدد الهائل ليس ساكنا بل إنه أصبح ينمو في تطور سريع، والأهم من ذلك أن درجة التزامه الديني في تزايد مطرد (لاحظ امتلاء المساجد بالمصلين، والرغبة الشديدة في الحج إلى مكة). ومن المعروف أن حضارة المسلمين التي عرفت قرونا طويلة من التوسع والازدهار قد بدأت تتهاوي أركانها ابتداء من منتصف القرن السابع عشر الميلادي. يومها كان هناك ثلاث دول إسلامية مازالت متماسكة: العثمانية في تركيا، والصفوية في إيران، والمغولية في الهند. ثم بدأت حركة الالتفاف الاستعماري على أطراف تلك الدول الكبرى، أولا بصورة حذرة، ثم ما لبثت أن دخلت إلى العمق عندما تبينت مدي الضعف الذي وصلت إليه أحوال المسلمين السياسية والاقتصادية والثقافية!
ويمكن القول بأن القرن التاسع عشر قد شهد أوج الحملة الاستعمارية الغربية على العالم الإسلامي، وفي خلاله قام الاستعمار بتمزيق وحدة الدول الإسلامية الكبرى، وتحويلها إلى دويلات صغيرة، واضعا على حدودها ألغاما قابلة دائما للانفجار. وهكذا عندما رحل الاستعمار الغربي عن العالم الإسلامي في منتصف القرن العشرين، كان قد اطمأن إلى أن إمبراطورية المسلمين قد قضي عليها تماما، وأن البقايا الباقية منها لن تقوم لها قائمة في المستقبل. أما الأمر الذي غاب عن تخطيط الاستعمار الغربي فكان هو عنصر العقيدة الإسلامية الذي يمثل الأساس في حضارة المسلمين. تلك العقيدة التي مازالت – رغم ضعفها وتشابك التصورات الخاطئة حولها – حيّة في النفوس، وهي التي تدفع المسلم في أي زمان ومكان لكي يتعاطف مع أخيه المسلم، وهي التي تربطه بماضي أمته المجيد، ولا تسمح له بأن يقبل الانكسار أو الهروب من مواجهة التحديات الطارئة مهما كانت صعبة وقاسية، تلك العقيدة التي خرجت من تحت العسف السوفيتي، أيام الحكم الشيوعي الذي استمر حوالي سبعين عاما، أقوي مما كان الجميع يتصور، وهي نفس العقيدة التي أقضت مضاجع المستعمرين في مختلف البلاد الإسلامية، واضطرتهم أخيرا إلى أن يرحلوا بجيوشهم خوفا على حياتهم وسلامتها. وهنا ملاحظة هامة، هي أن مقاومة الاستعمار الغربي لم تبدأ وتتطور وتبلغ مداها إلا بدافع من العقيدة الإسلامية التي طغت في كل الحالات تقريبا على الروح الوطنية، وإن لم تتعارض معها (راجع على سبيل المثال حرب التحرير الجزائرية، والحركة السنوسية التي أخرجت الإيطاليين من ليبيا، وهل خرج مصطفي كامل وسعد زغلول إلا من عباءة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في مصر)؟!
تلك صفحة من الماضي القريب، لكنها تفسر الحاضر الذي يشهد دهشة الغرب البالغة من حال المسلمين الذي يوقع جميع المحللين اليوم في أشد أنواع الحيرة. إذ كيف لهذه المجتمعات التي أنهكها الاستعمار، واستنزف مواردها، وحطم وحدتها، ومزق مساحات الاتصال بينها، ومازال يحاول بكل الطرق إبعاد بعضها عن بعض.. أقول: كيف لهذه المجتمعات أن تظل في حال مقاومة دائمة، ولم تستسلم كما استسلم غيرها من المجتمعات أمام آلة الغرب العسكرية، وقوته السياسية والاقتصادية؟ ويتفرع من هذا السؤال الكبير أسئلة أخري لا تقل أهمية، وهي أيضا غير قابلة حتى الآن لأي إجابة، ومنها: لماذا الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، وتستخدم إنجازاته الحضارية، غير قابلة للتأقلم، أو الاندماج كما حدث لباقي الأقليات الأخرى  الوافدة من مختلف أنحاء العالم؟ وهناك السؤال الشائك الذي يدور الآن وهو: لماذا هذا الغضب المتنامي لدي الشباب المسلم في كل أنحاء العالم ضد الغرب عموما، وبصفة خاصة ضد الولايات المتحدة الأمريكية ؟
وهكذا يبدو أن سياسة الغرب، الذي يتميز دائما بالدراسة والتحليل وبعد النظر، قد فشلت تماما مع الشعوب الإسلامية، وإن حسبت أنها قد نجحت طويلاً مع حكوماتها. لقد اتضح الآن وبما لا يدع مجالاً للشك أن المسلمين رغم ضعفهم العسكري والسياسي والاقتصادي، مازالوا يمثلون قوة كبري ليس من السهل ابتلاعها. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تمسك كل مسلم بعقيدته، والحرص عليها من كل التغيرات والتقلبات المحلية والعالمية. إن تلك الماسة المشعة في صدور المسلمين هي التي تنير لهم الطريق تحت الظلمات، وفي معترك ألاعيب السياسة الدولية، وهي في نفس الوقت التي تأسو جراحهم في الأوقات العصيبة والمحن التي يتعرضون لها. وإذا كان من السهل أن تهدم بيت المسلم أو تقطع رزقه، فسوف يظل من المستحيل أن تمس عقيدته، أو تحاول نزعها من أحشاء قلبه. هذا هو السر الذي أبقي على حضارة المسلمين باقية حتى اليوم، في حين أن غيرها من الحضارات قد زال، ولم يعد أحد من أتباعها ينادي بإحيائه. وهذا أيضا هو السر الذي مازال يحير دارسي الحضارات: كيف تنهض حضارة بعد موتها؟ والواقع أنها لم تمت، لكنها كانت فقط نائمة !
*  *  *

آن للإسلام المعتدل أن يتكلم

[الأهرام، 2007]

مضي حتى الآن أكثر من ثلاثين عاما، قضاها العالم الإسلامي الكبير وهو لا يسمع سوي صوت واحد للإسلام، هو ذلك الصوت الذي رفع شعارات السلفية المتشددة، والجهاد المتواصل، وتغيير الواقع بالقوة، واستخدام العنف مع المخالفين، وعدم المشاركة في مختلف أنشطة المجتمع، مع تكفير الأنظمة القائمة، والتمسك بسمت خاص بالرجل، وزى معين للمرأة. ومن الواضح أن هذه الظاهرة، رغم قلة عدد المنتسبين إلى تنظيماتها المتعددة، قد أوصلت العالم الإسلامي (كله) إلى حالة تصادم مع الغرب، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها، ولأول مرة في تاريخها الحديث.
أما صوت الغالبية العظمي من المسلمين فقد سكت تماما، وإذ حدث وتكلم أحيانا فإنه لا يسمع سوي نفسه، وبالتالي ضعف جدا صوت الإسلام المعتدل في المحافل الدولية، واختفي تماما من إسماع الرأي العام العالمي. وأما في الداخل، فقد وجدت المجتمعات الإسلامية، وهي في الأصل معتدلة، نفسها أمام ظاهرة نبتت في أرضها، وشبّت وتطورت تحت أعينها، ثم فوجئت بها تتجاوز ما تعارفت عليه تماما إلى آفاق أخري جديدة تماما عليها. أليس هؤلاء الشباب هم الذين دعاهم شيوخ الأمس إلى ضرورة التمسك بالدين، والالتزام بتعاليمه، وعدم ارتكاب نواهيه؟!وهذا بالتحديد هو ما جعل علماء المسلمين في كل البلاد الإسلامية، وليس في بلد واحد فقط، لا يعرفون كيف يتحاورون مع هؤلاء الشباب المتحمسين، والذين تجاوزوا دوائر شيوخهم المعرفية حول الفقه وأصوله وعلم الكلام إلى الدخول مباشرة في قلب الشئون السياسية. والواقع أن هذه (الشئون) ظلت مستبعدة تماما من دائرة العلوم الدينية التي تربي عليها المشايخ، وقاموا بتدريسها في هدوء كامل على مدي قرون للأجيال التالية. لقد كانت حجة هؤلاء الشباب التي لا يستطيع أحد أن يعارضها مهما أوتي من قوة الجدل وروعة البلاغة كالتالي: نحن نسعى لتطبيق أحكام الشريعة بحذافيرها. وهكذا سارت الأمور، فأصبح صوت الإسلام المتشدد هو الصوت الوحيد الذي يدوي في جنبات العالم الإسلامي، وتتردد أصداؤه في الغرب، الذي كان قد أجهز على عدوه التقليدي الاتحاد السوفيتي، فجعل من المسلمين حائط الرماية الذي يتدرب عليه ويعلق فوقه أحيانا قصوره في تحقيق واجباته الداخلية.
وإذا تأملنا الوضع الحالي وجدناه يتلخص في مطالبة الغرب للدول الإسلامية كلها، وبدون استثناء، أن تقوم بعملية إصلاح داخلية، لكي تنزع فتيل الغضب من نفوس هؤلاء الشباب الذين أصبحوا يمثلون خطرا داهما على الغرب نفسه. ومن المؤكد أن المسألة ليست سهلة على الإطلاق. فالإصلاح ليس مجرد وضع استراتيجية أو سنّ قوانين ولوائح، وإنما هو عملية مجتمعية شاملة يشارك فيها الجميع، ولا يستثني منها أحد. وهي ليست بلغة الفقه الإسلامي فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإنما هي فرض عين ينبغي على كل أفراد المجتمع أن يشاركوا ويشتركوا فيها. ولكي يحدث ذلك لابد من تمهيد الأرض لاستقبال مختلف الرؤى الإصلاحية واختيار أسلوب تنفيذها.
وهنا تبرز أهمية إعادة الاعتبار لصوت الإسلام المعتدل، الذي هو في نفس الوقت صوت ملايين المسلمين الذين لم تتح لهم خلال الخمسة والثلاثين سنة الماضية فرصة التعبير الكافي عن آرائهم وتطلعاتهم. إن صوت الإسلام المعتدل هو الذي يؤكد للعالم كله أنه لا يتمشى فقط مع البنود الثلاثين لإعلان حقوق الإنسان بل إنه يشملها ويزيد عليها. لا يوجد في صحيح الإسلام مساس بالملكية الخاصة، ولا اعتداء على أرواح الناس، ولا إجبار لهم على اعتناق دين معين، كما لا يوجد فيه إرهاب للمدنيين، ولا ترويع للمستأمنين، ولا تغيير للمنكر إلا في إطار نظام الدولة. وعلي الجانب المقابل لابد من تحقيق مبادئ العدالة والمساواة والشورى لكي تنتظم الحياة السياسية، ومنع الربا والغش والاحتكار لكي تستقيم الحياة الاقتصادية، وتدعيم النظام القضائي لكي يستقر العدل وتصان الحقوق. ومن أعجب العجائب أن الإسلام الذي هو أساسا دين التوحيد والسلام والتسامح قد تحولت صورته في العالم، وبفعل بعض المسلمين، إلى دين للفرقة والتعصب والعدوان، وأصبح المسلم في كل مطارات العالم، ينظر إليه – حتى يثبت العكس – على أنه إرهابي. والسؤال الآن: هل تريد الأغلبية الساحقة من المسلمين أن يتفاقم هذا الوضع، أم أن الوقت قد آن بالفعل لكي يعبر الإسلام المعتدل عن موقفه.



*  *  *


طبيعة الحكم
في الدولة الإسلامية

[اليوم السابع،4/8/2009]

يجمع المؤرخون على أن نظام الدولة لدى المسلمين إنما بدأ في عهد الرسول r فقد كان بالإضافة إلى مهمته النبوية الشريفة هو الحاكم الفعلي للدولة الناشئة: يشرف على شئونها، ويوحد عناصرها، ويقود حروبها، وعندما استقرت قام بتعيين الحكام على بعض الأقاليم البعيدة عنها، كما أرسل السفراء إلى الدول الكبرى المجاورة.
وعندما توفى الرسول r لم يحدد أحدا يخلفه، ولا نظام حكم معين يسير عليه المسلمون.. ولذلك كانت المبادرة منهم بإنشاء «نظام الخلافة» الذي يبدأ بأخذ البيعة من سائر المسلمين، على أن يحكم خليفة رسول الله بما يرضى الله ورسوله.
وعلى هذا النظام استمر المسلمون في مبايعة الخلفاء الأربعة «أبو بكر، عمر، عثمان، علي»، وكان الحاكم صاحب سلطات مدنية، ومكانة دينية في نفس لوقت. فهو الذي يحكم ويؤم المسلمين في الصلاة. أي أنه كان قائدا مدنيا وإماما دينيا، وكما نعلم حاول كل منهم أن يترسم خطي الرسول r في كل أحكامه، وأن يحقق العدل والمساواة بين المسلمين، ولهذا استحق كل منهم، وهم مجتمعون، لقب الخلفاء الراشدين.
ثم تحولت الأمور يعد ذلك، فنشأت الدولة الأموية عقب انتصار معاوية بن أبي سفيان على علي بن أبي طالب في حرب أهلية مؤسفة، قتل فيها العديد من المسلمين، وأتبعها نظام حكم يراعي الإسلام من حيث الظاهر، لكنه يحكم في الواقع بأسلوب مدني، استمد بعض مناهجه، ومظاهره أيضا من الحكم في دولة الروم، الأقرب إلى العاصمة دمشق في الشام. ومن ذلك مثلا أن المسلم كان يأتي من بلده البعيد، فيقابل الخليفة وهو جالس في المسجد مباشرة، فأصبح لا يستطيع لقاءه إلا بعد مروره على الحجاب، وسؤاله عن طلبه، والاستيثاق من مخبره!
لكن مما يذكر لصالح الدولة الأموية أن الفتوحات الإسلامية امتدت في عهدها(40- 132 هجرية) من حدود الصين شرقا إلى شواطئ الأطلسي في المغرب العربي. وهنا يمكن القول بأن الذي يريد أن يكشف عن كثير من عناصر الحكم المدني عليه أن يفتش جيدا في نظام الأمويين، فقد كانوا يتخذون قراراتهم في الغالب على أساس من المنفعة العملية، ويقيمون علاقاتهم الدولية على أساس المصالح، ولم يكن الدافع الديني هو المسيطر عليهم تماما في ذلك.
ولعل هذه النقطة ذاتها هي التي استغلها خصومهم العباسيون لنقد دولتهم، فقد اتهموهم بالبعد عن الدين، وعدم التمسك الدقيق بتعاليمه، واستغلوا بالطبع بعض الأخطاء لدى حكامهم المتأخرين فأثاروا عليهم الجماهير، التي تعاطفت معهم، لأنهم رفعوا شعار عودة الحكم لأهل بيت النبوة، والمقصود من ذلك أحفاد علي بن أبي طالب، لكنهم بعد انتصارهم نكلوا بهؤلاء الأحفاد، وتتبعوا شيعتهم بالقتل في كل مكان!
قامت الدولة العباسية سنة 132 هـ وهي ترفع شعار العودة إلى الدين، وهذا أمر عادة ما يجذب الجماهير، ومع ذلك فقد استمروا في نظام الحكم بنفس أسلوب الأمويين، وتأثير أكبر من دولة الفرس، الأقراب إلى عاصمتهم الجديدة في بغداد التي استمر فيها الحكم من 132- 656 وهو تاريخ غزو التتار، وتدمير العاصمة، والزحف حتى حدود مصر، حيث أوقفهم المماليك، بقيادة قطز وبيبرس في معركة عين جالوت 658هـ.
كيف كانت طبيعة حكم العباسيين؟ احترام ظاهري لتعاليم الدين، فالخليفة له جانبان: سياسي وديني، وفي نفس الوقت عندما تفرض الظروف تغليب الجانب الدنيوي فإن الخليفة نظرا لمصلحته ينحاز إليه.. وفي هذا العهد، تم إبعاد العنصر العربي عن الحكم، وكذلك الفرس، وحل محل الاثنين الجنود والقواد الأتراك الذين ما لبثوا أن سيطروا على مقاليد الدولة، وصاروا يعزلون ويعينون الخليفة الذي يحقق مصالحهم.
لم تتقدم الفتوحات الإسلامية شبرا واحدا في عهد العباسيين رغم طوله، بل كان عليهم أن يحافظوا على الحدود التي بلغها أسلافهم من الأمويين. والأدهى من ذلك أن بعض المناطق البعيدة انتزعت منهم! كما أن اللغة العربية اختفت في عهدهم من بلاد فارس نفسها، التي كانت قد تقبلت اللغة العربية، وكتب علماؤها بها العديد من المؤلفات.
ماذا كان حال المعارضة السياسية؟ كان أسلوب الضرب بيد من حديد هو الأسلوب المتبع في كل من الدولتين الأموية، والعباسية. الأولون حاربوا الخوارج حتى قضوا عليهم، وكذلك الشيعة، أما العباسيون فقد كان الشيعة هم ألد أعدائهم. ولهذا السبب استشعر العلماء المسلمون الكثير من الخوف على حياتهم، فلم يخوضوا في السياسة، على الرغم من غزارة إنتاجهم في مختلف مجالات الحياة، وأكاد أزعم أن المؤلفات السياسية لا تبلغ عشرة كتب معتبرة، يأتي على رأسها بالطبع «مقدمة ابن خلدون»!
أما نظام القضاء، الذي كان يتصل مباشرة بمشكلات الناس، فقد كان الخليفة هو الذي يعين «قاضي القضاة»، وهذا بدوره يعين القضاة الذين  يتفقون مع مذهبه الفقهي، وبالطبع كان بيد الخليفة أن يعزل قاضي القضاة متى شاء!
مشكلة المسلمين أنهم لم يدركوا جيدا المساحة المفتوحة في السياسة التي أتاحها لهم القرآن الكريم، والرسول r في سنته الشريفة، وبالتالي كان عليهم أن ينشئوا النظام السياسي الذي يتمشى مع طبيعة كل عصر، وكانت أكبر الأخطاء هو استغلال شعارات الدين دون العمل الحقيقي على تنزيل أحكامه على أرض الواقع وفي حياة الناس.
ولا شك أن نظام الخلافة الذي أنشأه المسلمون قد أبرز عددا من الحكام الجيدين، بل الرائعين، لكنه في عمومه أوقف عملية الاختيار الأفضل من بين متنافسين متكافئين، كما حدث يوم السقيفة حين جرى اختيار أبي بكر، وكما حدث عند اختيار عثمان بن عفان.
وهنا ينبغي أن يطرح سؤال: هل كانت البيعة تؤخذ برضا جميع المسلمين، وباختيارهم الحر؟ إن الواقع التاريخي يؤكد أنها لم تكن دائما كذلك، وفي أحيان كثيرة كانت تفرض على المسلمين فرضا، والذي يعترض لا مكان له إلا في السجن أو في القبر!
وأخيرا، فإن التاريخ الحقيقي للنظام السياسي في الدولة الإسلامية مازال يستحق المزيد من الفحص، والبحث المجرد من الهوى، وعدم التعصب من أجل تحرير الأحكام الصادرة عليه، والتي من الممكن أن تمثل ثروة حقيقية للمسلمين في العصر الحاضر، لكي يبعدوا عما وقع فيه أسلافهم من أخطاء، ويستعينوا بما ظهر لديهم من إيجابيات.


*  *  *

المسلمون والديمقراطية

[الوفد، 22/5/2009]

مازال المسلمون في كل بلاد العالم المعاصر غير مستعدين ولا متجاوبين مع الديمقراطية. وقد حاولت في البداية أن أقصر ملاحظاتي وأحكامي هنا على مجموعة البلاد العربية، لكنني وجدت أن ما ينطبق عليها في هذا المجال ينسحب على كل البلاد الإسلامية بدون استثناء. والملاحظة الأولى أن المسلمون الآن، وبعد مرور أكثر من قرنين على نجاح التجربة الديمقراطية في الغرب عموما، لم يقبلوها، بل إنهم لم يحاولوا ولو في بعض الأحيان أن يطبقوها بصورتها المتكاملة. وهذا يؤدي بنا مباشرة إلى الملاحظة الثانية، وهي أن بعض البلاد الإسلامية حين حاولت تطبيق الديمقراطية، إما بضغط من الدول الغربية أو ذرا للرماد في العيون، فإنها لم تطبقها على نحو متكامل، بل أخذت بعض عناصرها وتركت الباقي. ويمكن القول إنها أخذت المظاهر الخارجية، وتركت الأسس الحقيقية. والملاحظة الثالثة أن هناك من علماء المسلمين وباحثيهم من يعتقد أن الديمقراطية نظام يتوازى مع الإسلام، ولا يتكامل معه. وهم يحتجون على ذلك بأسلوب الشورى داخل نظام الخلافة. فإذا سألتهم عن آليات الشورى في العصر الحديث؟ وهل هي ملزمة للحاكم أم لا؟ لا تجد إجابة دقيقة ولا واضحة. أما الملاحظة الرابعة فتتمثل في مقولة كبرى تشيع بين المسلمين، وهي أن ظروف حياتهم وتقاليدهم إنما يناسبها نظام الحكم الخاص الذي يسيرون عليه، ولذلك فإن الديمقراطية الوافدة من الغرب لا تصلح لهم. ومن الواضح أن هذه المقولة يمكن أن تسقط بسهولة إذا استحضرنا بلدا شرقيا كاليابان، وكيف أنه أصبح ديمقراطيا بالكامل، على الرغم من تمسكه بتقاليده، وحرصه على عدم الخروج من جلده!
المسألة إذن تحتاج إلى تفسير. والتفسير يتطلب طرح أسئلة. والأسئلة تستدعي إجابات لابد أن تكون صريحة ومقنعة.
والسؤال الأول: ما هي حقيقة الديمقراطية؟ والإجابة باختصار أنها نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يقوم على احترام حقوق كل فرد في المجتمع، ويعطيه حق التصويت، والترشيح (لكل مناصب الدولة في النظام الجمهوري، وحتى منصب رئيس الوزراء في الأنظمة الملكية والإمبراطورية) وتقوم الديمقراطية أساسا على استقلال السلطات الثلاث في الدولة: التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما تعتمد على تداول السلطة، بحيث لا تزيد مدة رئاسة الدولة عن فترتين، لكي تتواصل عملية التغيير والتطوير، ولا تتوحش مراكز القوى! وفي النظام الديمقراطي لكل إنسان حق اختيار عمله، والتعبير عن فكره، كما أن الضرائب التي يدفعها للدولة تلزمها بتعميم الخدمات الأساسية التي تعود على المجتمع كله كالدفاع والأمن والتعليم والصحة. أما إذا وقع ظلم أو انحراف فهناك إلى جانب السلطة القضائية إمكانية تنظيم المظاهرات والاحتجاجات.
السؤال الثاني: هل يتعارض هذا النظام- الذي عرضته باختصار شديد- مع ظروف الدول الإسلامية؟ أو هل يتناقض مع مبادئ دينها الحنيف؟ أما الإجابة عن السؤال الثاني فأعتقد تماما أنها بالنفي، لأن النظام السياسي في الإسلام يقوم على ثلاثة مبادئ هي العدالة والمساواة والشورى. وهذه المبادئ ذات طابع نظري، ومن الممكن تطبيقها من خلال آليات الديمقراطية الحديثة التي ذكرناها. بل إن هناك ومضات من هذا النظام قد تحققت بالفعل في بعض فترات الحكم الإسلامي، لكنها مع الأسف كانت خاطفة، ومتناثرة! أما أن ظروف المسلمين لا تسمح بالديمقراطية فهذا صحيح، بل إنه مؤكد. لماذا؟ لأنهم تعودوا في نظام تربيتهم على الطاعة المطلقة، وفي نظام تعليمهم على عدم المناقشة، وفي مجال عملهم على تنفيذ الأوامر دون إبداء أي ملاحظة. فإذا عرضت لهم مشكلة بعد ذلك توجهوا إلى علماء الدين فسألوهم عنها. وإجابة هؤلاء عبارة عن (فتوى) لا يجوز المناقشة فيها أو الاعتراض عليها. ثم إن أسئلة الناس لعلماء الدين عن نظام الحكم وأصوله تكاد تكون نادرة، بل هي في الواقع معدومة!
أما حكام المسلمين فقد استمرأوا والرئاسة، وتدخلوا في الدساتير لتلبي رغباتهم في الاستمرار في الحكم بدون حدود. والملوك منهم هم الذين يعينون رؤساء الوزارة، ولا يسمحون بإجراء انتخابات نزيهة. ونتيجة لانكباب كل حاكم منهم على شئونه الخاصة، ومتابعة ضبط الأمن في بلده- لم تقم بين البلاد الإسلامية وحدة في المواقف، ولم يحدث بينها تبادل في المصالح، بل إن التقارب بين أي بلدين إسلاميين يتوقف أساسا على صداقة خاصة أو استلطاف بين حاكميهما، وليس على أسس سياسية أو اقتصادية راسخة بين البلدين.
السؤال الثالث: ماذا كانت نتيجة استمرار هذه الأوضاع في البلاد الإسلامية؟ أن الفروق قد زادت إلى حد كبير بين مجموع البلاد الإسلامية من ناحية، وبين العالم الغربي، بل والشرقي أيضا الذي راح يطبق الديمقراطية من ناحية أخرى. وقد ترتب على ذلك تزايد حركات الغضب والاحتجاج، والتمرد المسلح أحيانا ضد الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية، وهو الأمر الذي زاد من حوادث الإرهاب التي تقع في العالم، وينسب أكثر من (90%) منها إلى مسلمين، وأصبح من السهل جدا في الغرب ربط الإسلام- الذي هو دين السلام والتسامح والمؤاخاة- بالتعصب والإرهاب، وكراهية الآخرين!
وأخيرا فإن الديمقراطية- كأي نظام سياسي من وضع البشر- لا تخلو من عيوب. ومن أهمها: محاولات الإغراء لاجتذاب أصوات الناخبين، ومحاولات التربيط لتكوين جماعات الضغط، سواء في البرلمان أو النقابات، ومحاولات تدخل رجال الأعمال لتمرير التشريعات والقوانين التي تخدم مصالحهم. لكن ما يمنع الانفلات والتسيب في النظام الديمقراطي: وجود متابعة يقظة من الأجهزة الرقابية، إلى جانب حركة الصحافة التي تتمتع بأكبر قدر من الحرية في الحصول على المعلومات، والكشف المستمر عن المخالفات، كما أن هناك نظاما صارما في تحصيل الضرائب وضبط المتلاعبين، وأخيرا هناك صمام الأمان الدائم المتمثل في السلطة القضائية التي يمكنها أن تحاسب الجميع دون تفرقة أو تمييز. وهكذا يحدث التوازن في النظام الديمقراطي، وتصحيح الأمور أولاً بأول.
من هذا كله يتضح أن مشكلة الديمقراطية لدى المسلمين تتمثل في أنهم لا يتصورونها على أنها نظام متكامل، وإنما يختصرونها في النظام السياسي وحده، وأحيانا في الانتخابات وحدها، في حين أنها تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية، وكذلك الاجتماعية والثقافية. وفي تقديري أن عدم وضوح هذا المفهوم المتكامل للديمقراطية، أو بالأحرى اختزاله، هو الذي يزيد من حدة التصادم القائم حتى الآن بين المسلمين والديمقراطية. وجزي الله علماء السياسة عندنا الذين يتحملون هذه المسئولية، ولا يقومون بدورهم في بيانها للناس!!
*  *  *

في علاقة الغرب بالمسلمين
التحدي والمواجهة

[الأهرام، 2007]

وصل تحدي العالم الإسلامي (في الأقل على مستوي المشاعر) للولايات المتحدة الأمريكية (قاعدة الغرب العملاقة) مستوي عاليا للغاية، يوم 4 نوفمبر 1979 حين احتل طلاب الثورة الإيرانية السفارة الأمريكية العتيدة في إيران، واحتجزوا 52 رهينة أمريكيا لمدة 444 يوما، ولم يتم الإفراج عنهم إلا في إطار تسوية اضطر الرئيس الأمريكي آنذاك لعقدها بصورة سرية مع حكومة الثورة الإسلامية في إيران. أما قمة التحدي فقد تمثلت في ضربات 11 سبتمبر 2001، على كل من مركز التجارة العالمي ومبني وزارة الخارجية الأمريكية (البنتاجون) بواسطة طائرات مدنية، وقيادة انتحاريين إسلاميين. وعلي هامش هذين الحدثين الكبيرين، وقعت اعتداءات قام بها بعض الإسلاميين في أشهر عواصم العالم الأوربية (باريس وموسكو ومدريد ولندن) وهي التي جعلت الغرب كل يتحسب لأي هجوم (إسلامي) مفاجئ، وينتقل بالتالي من مرحلة التراشق بالحجج والألفاظ إلى مرحلة المواجهة بالخطط والاستحكامات، بل وصلت الأمور إلى شن حرب كاملة على بلاد إسلامية هي أفغانستان والعراق.
هذا هو الوضع الحالي الذي يسجل مرحلة هامة للغاية وخطيرة من مراحل العلاقة المتوترة بين المسلمين والغرب. ومهما حاول بعض العقلاء من كلا الطرفين التغطية عليها بالكلام المعسول الذي يرفع كليشيهات: حوار الحضارات، وتفاعل الثقافات، وقبول الآخر.. فإن ما يجري على أرض الواقع آخذ في التوثب، وهو ينتظر أي هبة ريح لكي يشعل الحريق في أشجار الغابة كلها!
غير أن ما يمنع الموقف المتأزم من الانفجار حاليا يتمثل في مجموعة من العوامل والمصالح المتداخلة، يمكن الإشارة إليها فيما يلي: أولاً أن مصدر الطاقة الرئيسي في العالم يوجد في الأراضي الإسلامية وثانيا أن العديد من المواد الأولية التي تنهض على أساسها الصناعة الغربية مازالت تستورد من العالم الإسلامي، ثالثا أن هذا العالم هو أكبر سوق استهلاكية للمنتجات الغربية، وبدونه يمكن أن يتدهور الازدهار الاقتصادي الذي يشهده الغرب منذ عدة قرون. هذا من الناحية الاقتصادية البحتة، أما على المستوي الاستراتيجي فإن العالم الإسلامي هو الجار الأقرب لأوربا، بل إنه متداخل معها من خلال شبكة علاقات متنوعة، ومن بينها وجود الأقليات الإسلامية التي تعيش في أوربا، ويمكن أن تمثل تهديدا لاستقرارها.
كذلك فإن عاملاً جديدا ومفاجئا قد طرأ على الساحة أفقد السياسة الغربية تجاه المسلمين توازنها التقليدي، فقد قامت هذه السياسة على أساس عقد الاتفاقيات مع الحكومات، في حين أن الجماعات الإسلامية المتطرفة، والخارجة على سلطة حكوماتها، قد أخذت زمام المبادرة بنفسها وأصبحت تتعامل مباشرة مع الغرب، غير عابئة باتفاقيات تلك الحكومات الموقعة مع الغرب. وأخيرا فإن النظام العالمي الجديد الذي جعل من العالم كله قرية واحدة إنما يقوم على أساس التعايش السلمي وليس التنافر والصراعات التي تضر بمصالح الشركاء. ومن الواضح أن أي حادث يقع في منطقة ما من العالم يؤثر بالسلب على باقي المناطق. وهكذا فإن الغرب، الذي يمتلك بدون حدود القدرة العسكرية الكاسحة، قد أصبح يجد نفسه عاجزا عن الدخول في مواجهة صريحة مع المسلمين، وإن كان راغبا في ذلك. وفارق كبير بين الرغبة والقدرة. لكنه مع ذلك يسعى بكل الوسائل (الأخرى) إلى محاصرة المسلمين في مواقعهم لكي يظلوا داخلها، ولا يخرجوا منها خوفا من أن يتغلبوا عليه. وهنا يمكن للسلاح الاقتصادي أن يكون مؤثرا للغاية، وذلك من خلال فرض الغرب للحصار الاقتصادي المتعدد المستويات، والذي أصبح يعلن عن بعضها فيما يسمي العقوبات الذكية. كما يمكن استغلال المنظمات الدولية في استصدار أحكام تزيد من عزلة بعض الدول الإسلامية، وفي كلا الحالين يجري استخدام السلاح الإعلامي الرهيب في توجيه الرأي العام العالمي ضد المسلمين عموما، ونجاحه حتى الآن في إظهارهم (جميعا) بمظهر المتعصبين الأشرار الذين يهدفون لتدمير الحضارة الإنسانية!!
وهكذا نصل إلى السؤال الكبير الذي يطرح نفسه على كلا الطرفين: كيف يمكن نزع فتيل الخطر من تلك الأزمة؟ في الحقيقة أن النوايا الطيبة لم تعد كافية، لأن الأمور تتطلب عملاً ملموسا على أرض الواقع. وهذا العمل لابد أن يحدث بالتزامن في كلا الجانبين، وذلك من خلال وضع ميثاق شرف يشبه إلى حد كبير ميثاق الأمم المتحدة الذي وضع سنة 1945، وبحيث تشارك في وضعه كل أطراف النزاع وقادة التوتر، أقول: ومن الخير للبشرية كلها أن يحدث ذلك قبل نشوب حرب عالمية ثالثة بدلاً من أن يحدث بعدها!!  


*  *  *

الخطأ الكبير
في علاقة المسلمين بالغرب

[الأهرام، 2007]

إذا أردنا بحق تصحيحا ملموسا في مسار العلاقة بين المسلمين والغرب، علينا أن نتحلى أولاً بأكبر قدر من الموضوعية. وهذا معناه أن نبحث عن الحقائق ونكشف عنها، وفي نفس الوقت لابد أن نتجنب مجموعة الآراء التي شاعت خطأ حول تلك العلاقة، والتي أدت بالتالي إلى تحويرها بل وإفسادها.
أما الوسائل التي ينبغي علينا أن نعتمد عليها في هذا المجال فهي تتمثل في أمرين: أحداث التاريخ، وبداهة العقل. والسبب في الاعتماد عليهما معا أن أحداث التاريخ قد تتعرض لعوامل خارجية مثل الإخفاء، أو التزييف، أو التهوين، أو التهويل.. لذلك فإن ضوابط العقل الصحيح هي التي يمكن أن تعيد الأمور إلى نصابها.
ومن المعروف أن العلاقة بين الإسلام والغرب لم تكن في كل الأحيان علاقة مودة، وإن كانت في غالبها علاقة تعايش، يشوبها صراع مستتر أو تصادمي. ومنذ اللحظة التي ظهر فيها الإسلام لم يعترف به علماء الدين في الغرب، واعتبروه مجرد دين بشري تلفيقي، أُخذت الكثير من عناصره من الأديان السابقة عليه، بالإضافة إلى تقاليد التراث الشعبي في جزيرة العرب. وتلك هي الفكرة العامة التي التزمت الكنسية الغربية بإشاعتها لدي أتباعها، سواء في الغرب أو الشرق.
وقد حفظ لنا التاريخ مجموعات لا بأس بها من ألوان الجدل العلمي الذي دار بين علماء المسيحية والإسلام، تزود فيها كلا الفريقين بأقوى الأسلحة التي استطاع الحصول عليها لكي يهزم الفريق الأخر. والملاحظ هنا أن تلك المجادلة أو المصارعة لم تنته أبدا بفوز فريق على صاحبه، الأمر الذي جعلها مازالت مفتوحة حتى اليوم، على الرغم من إعلان البابا يوحنا بولس الثاني، رأس الكنيسة الكاثوليكية، أن الإسلام هو أحد الأديان الثلاثة الموحي بها.
لكن الإسلام لم يطرح نفسه على الغرب كدين فقط، وإنما أيضا كأسلوب حياة وحضارة. وهنا لم يجد الغرب أي غضاضة في الاستفادة منه، واستعارة الكثير من أنماطه. وقد تمثل ذلك في (المجال العلمي) الذي قامت الترجمة من العربية إلى اللاتينية بنقل أهم كنوزه إلى أوربا من خلال وسيط ثالث هم اليهود في أسبانيا، أثناء ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس. كما ظهر بصورة أخري في (أسلوب الحياة اليومية) من خلال الأنظمة التي قامت عليها تلك الحضارة. ومن ذلك نظام الوزارة، وانضباط الأسواق، والعناية بالشئون العامة، والآداب..
وقد كان من المتوقع أن يطغي هذا الجانب الحضاري بحيث يتجاوز الاختلاف الديني، لكن عاملاً حاسما تدخل فغطي عليه. وهو الذي تمثل في قوة المسلمين السياسية والعسكرية التي اقتطعت من أملاك الغرب أجزاءً هامة على أطرافها، وما لبثت أن هددت القلب نفسه. وهنا لا ينبغي أن ننكر الآثار التي أحدثتها عملية استيلاء الأتراك على القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية سنة 1456 والتي رد عليها الغرب بطرد سائر المسلمين من الأندلس عقب سقوط غرناطة في سنة 1492.
تلك هي أهم معالم التاريخ القديم. أما في العصر الحديث، وخاصة منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي، فقد بدأت الأمور تميل لغلبة الغرب على المسلمين. وانطلقت حركة الاستعمار الذي استولي على معظم أملاك المسلمين واستمر حتى منتصف القرن العشرين. وخلال هذه الفترة التي يمكن أن نسميها فترة الاستعمار ومقاومته، تأصلت أنواع جديدة من العداء للغرب، امتزج بها في نفس الوقت اتجاه قوي للإفادة من أساليبه المستحدثة. وراح المسلمون يطرحون على أنفسهم السؤال الكبير: ماذا نأخذ وماذا نترك؟ وهو نفس السؤال الذي طرحه الغرب على نفسه إبان ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس. لكن الفارق أن إجابة الغرب على السؤال              كانت سريعة وحاسمة، بينما مازال المسلمون مترددين حتى اليوم في الإجابة عليه!
فما هو سبب التردد؟ الواقع أن هناك فكرة عامة لدي المسلمين تؤكد لهم أن الحضارة الغربية الحديثة متعارضة مع حضارتهم. ولعلنا جميعا نتذكر الكتابات العديدة للمفكر المصري الكبير د. زكي نجيب محمود حول هذا الموضوع، وكيف أنه كان حريصا على إمكانية التوفيق بين الحضارتين. وأذكر أنه رحل عن دنيانا دون أن يترك إجابة محددة في هذا الصدد، كما اعترف بذلك صراحة في مقالاته التي كان ينشرها في جريدة الأهرام.
وفي نفس الوقت نشر هنتجتون فكرته حول صراع الحضارات، مؤكدا أن الفارق لا يمكن محوه بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى حدوث تصادم بينهما، وهذا ما اندفعت الولايات المتحدة إلى تحقيقه في السنوات الأخيرة، تحت شعار محاربة الإرهاب، والمقصود فيما يبدو محاربة الإسلام.
أين الخطأ إذن؟ إنه موجود في كلا الجانبين. في الغرب الذي يصر على تكريس عوامل الاختلاف، معتمدا على سلبيات العلاقة التاريخية مع المسلمين، ولدي المسلمين الذين يرون الحضارة الغربية نبتا شيطانيا دون أن تكون لها جذور إسلامية. من هنا فإننا ندعو كلا الطرفين أن يتخلص من النظرة الأحادية، وأن يكثرا من الجلوس معا لاستعراض تاريخهما المشترك، من أجل تصحيح مسار العلاقة المستقبلية بينهما، والتي بدونها لن يتحقق سلام العالم وأمنه، فضلاً عن تقدمه وازدهاره.

*  *  *


الخطاب الديني
بين مشكلاته المزمنة وحلوله العاجلة

[الأهرام، 2007]

كان وما يزال الخطاب الديني يحتوي على مشكلات عديدة تعاني منها المجتمعات الإسلامية، نظرا لما يترتب على هذا الخطاب – وخاصة إذا كان ضعيفا أو مخطئا – من نتائج سلبية في مختلف مجالات الحياة اليومية، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية، أو حتى اقتصادية وسياسية. ومن الملاحظ تاريخيا أن العلماء المحققين في كل العصور الإسلامية قد تنبهوا إلى أهمية الخطاب الديني، وخطورة تأثيره في عقول الناس. ولدينا مقتطفات واضحة جدا في التحذير الشديد من أولئك الذين يتصدون لإلقاء هذا الخطاب، تبدأ من تحذير الرسول r نفسه من أولئك الذين يتعمدون الكذب عليه، أي ينسبون إليه كلاما لم يقله. ونظرا لأنه r كان متأكدا من عدم تحريف نص القرآن الكريم، فقد أوصي أصحابه بعدم كتابة أحاديثه لكي لا تختلط بالقرآن الكريم، فيحسبها الناس بعد ذلك نصا قرآنيا. وليس معني ذلك عدم الاهتمام بالسنة النبوية، فمن المقرر أنها هي الشارحة والمبينة والمفسرة للقرآن الكريم، الذي هو مصدر المصادر الإسلامية. يقول الرسول r: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي. أما كتاب الله فقد تمت العناية الفائقة به في حياة الرسول r نفسه من خلال تدوينه كتابة على أيدي أشخاص تخصصوا في هذا المجال، وأطلق عليهم "  كتاب الوحي "، وأما السنة النبوية فقد كان الصحابة متشددين جدا في قبولها، كما كانوا على علم كامل بها، وبالرواة الذين كانوا ينقلونها مباشرة من الرسول r وفي بعض الأحيان لم يكونوا يقبلون حديثا نبويا إلا بعد أن يتأكدوا من راويه بشاهد آخر. يقول الأوزاعي: " كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابه r كما نعرض الدينار الزائف، فما عرفوا منه أجزناه، وما أنكروا أنكرناه ".
ثم جاء عصر التابعين، وفيه كثرت رواية الأحاديث كما بدأ يشيع تفسير القرآن. وهنا راح الخطاب الديني يجمع بين الصحيح والزائف، ومما ساعد على ذلك انتشار المسلمين في بلاد أخري كثيرة وبعيدة عن مركز العلم الديني في المدينة المنورة. وكان أسوأ ما تعرض له الخطاب الديني هو خضوعه للصراعات السياسية والمذهبية حينما افترق المسلمون إلى سنة وشيعة وخوارج، وصار لكل طائفة خطابها الخاص بها، وكذلك خطابها الآخر الذي تهاجم فيه الطوائف الأخرى.
وإلي جانب التوسع في كل من تفسير القرآن، ورواية الأحاديث، ظهرت طوائف ثلاثة قامت بدور كبير في تحريف الخطاب الديني واستقراره في نفس الوقت لدي جماهير المسلمين، وهي طائفة القصّاص، والمذكرين، والوعاظ. وهؤلاء كانوا يجلسون في المساجد ليحدثوا الناس بأحاديث تشبع فضولهم، وتستثير خيالهم، وتلهب عواطفهم. وكانوا في معظم الأحيان يتقاضون عليها أجرا من المستمعين يتفاوت تبعا لقوة أو ضعف تأثيرهم في استدرار دموعهم!
ومما يؤسف له أن هذا الخطاب الديني الذي كان يلقي شفويا على الناس،  قد تم تدوينه فيما بعد في مؤلفات جري تداولها بين الناس، وراح الذين يتصدون لخطاب الجماهير يعتمدون عليها بكل ما فيها من آراء مغلوطة، وأحاديث ضعيفة، وخرافات تتعارض مع العقل، وتهويلات لا أصل لها في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية (الصحيحة).
وعلي الرغم من تصدي عدد كبير من علماء المسلمين لظاهرة انحراف الخطاب الديني وتحذيرهم منه، مثل ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) والحافظ العراقي في كتابه (الباعث على الخلاص من أحاديث القصاص) والسيوطي في كتابه (تحذير الأيقاظ من أكاذيب الوعاظ) إلا أن الظاهرة كانت قد عمت، بل واستقرت في المجتمعات الإسلامية، حتى أصبحت تمثل تركة ثقيلة (يصعب) بل يكاد (يستحيل) التخلص منها.
والآن ما الحل؟ أولاً: قيام المؤسسات الدينية الرسمية في سائر البلاد الإسلامية بتنقية مناهج الدراسة بها من تلك المؤلفات التي مازالت تعتمد عليها. ثانيا: العودة المباشرة لمصدر الإسلام الرئيسي وهو القرآن الكريم والاعتماد في بيانه على السنة النبوية الصحيحة. ثالثا: المتابعة اليقظة للخطاب الديني الذي يلقي في المساجد والمنتديات الخاصة، والكشف عما يحتوي عليه من مظاهر الغلو أو الانحراف. رابعا: تدقيق وسائل الإعلام في اختيار الشخصيات الدينية التي تخاطب الجماهير، مع ضرورة منع أولئك الدعاة الذين يتباكون ويبكون الناس على أساس أن هذا من الدين، وهو في الواقع أبعد ما يكون عنه. وكذلك الدعاة الذين يفتون في أمور تافهة. وقد سبق أن قال عبد الله بن عمر لأهل العراق: أنتم تسألون عن  دم البعوض وتستحلون دم الحسين!! وأخيرا لابد من قيام مراكز تدريب للدعاة يتوافر فيها علماء متخصصون في مختلف مجالات الحياة لتزويدهم برؤية عصرية للمجتمع الذي يعيشون فيه، وللعالم الذي يحيط بهم.

*  *  *


تعايش الأديان

[الجمهورية، 2007]

يعني مصطلح تعايش الأديان قبول أتباع مختلف الأديان السماوية والديانات الوضعية أن يعيشوا معا في سلام وأمان، وبدون عداوة أو تنازع. وهذا يتطلب بالطبع أن يعترف أتباع كل دين لأتباع الأديان الأخرى  بحقهم في الإيمان بها، وأداء الشعائر والطقوس الخاصة بهم في الأماكن المخصصة لها، وذلك من غير أن يؤثر ذلك على تعامل بعضهم مع بعض في سائر شئون الحياة، مع ضرورة التناصر عند اللزوم للدفاع عن مصالح الوطن. ولعل هذا ما نادي به الشعار الذي رفعه المصريون أيام ثورة 1919 عندما اتفق المسلمون والأقباط على أن (الدين لله والوطن للجميع).   ولا شك أن تلك كانت لحظة رائعة تجلي فيها مفهوم الإخاء الديني والانتماء الوطني في أعلي مستوياته. لكن إذا كان هذا الشعار الرائع قد رفع في فترة عصيبة من تاريخ مصر الحديث، عندما كان المحتل الأجنبي جاثما على صدر المصريين جميعا، فإنه ما لبث أن ضعف وتلاشي بعد أن انتصر المصريون على الاحتلال الأجنبي وأخرجوه من بلادهم، وراحت دعوات التعصب البغيض، وأصوات التراشق بالنعرات الدينية هي التي تحكم الساحة، وتغطي أحيانا وبصورة كاملة على أبناء الوطن الواحد.
لكن مصر والحمد لله تمتلك من مقومات الإخاء الديني ما يجعلها في صدارة دول العالم التي تتعايش فيها الأديان ولا تتصادم، ويندمج فيها المسلمون والمسيحيون (الأقباط) في بوتقة حياة يومية، لا توجد فيها حواجز ولا محاذير، وذلك باستثناء حالات خاصة، تتدخل فيها عوامل خارجية، لأسباب ما تلبث أن تظهر للمجتمع، ثم تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي في سلاسة وتسامح.
والواقع أن المصريين يمتلكون من مقومات التعايش بين الأديان ركيزتين أساسيتين. الأولي هي ما ورد في صحيح الإسلام والمسيحية من عدم إجبار أحد على اعتناق الدين، ومن التحاور بين أصحاب الأديان المختلفة بالحسنى بل بالتي هي أحسن، أي بأفضل طريقة من الحوار. أما الركيزة الثانية فهي واقع انتشار الإسلام نفسه في مصر، وقد تم بصورة سلسلة، فالذين اعتنقوه لم يفرض عليهم أحد ذلك، ولو كان حدث لكانوا قد تخلوا عنه بعد تخلصهم منه. والدليل على ذلك أن الأقباط الذين ظلوا على دينهم قد عاشوا خلال قرون طويلة يمارسون دينهم دون حذر أو خوف. وهكذا تضافر العامل الديني مع العامل التاريخي في استقرار روح الإخاء الديني في مصر، ذلك الإخاء الذي يتجلى في قيام المسجد قريبا من الكنيسة، وأحيانا في الشارع الواحد دون أن يطغي أحدهما على الآخر، وهو ما تفتقده البلاد الأخرى، ومنها المتقدمة.

*  *  *


الحوار بين الأديان
حقيقة وعقباته

[الأخبار، 30/6/2009]

الحوار بين الأديان مصطلح جميل ومريح.. وقد أطلقه الغرب، وروجت له الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حملتها إلى العولمة، وراحت الدول النامية، المسكينة والواقعة تحت الضغط تسعى للقبول به، فعقدت له ندوات، وحشدت حوله مؤتمرات لم يخرج واحد منها حتى اليوم بنتيجة واحدة محددة وملموسة على أرض الواقع.. لماذا؟ لأن الذين يسبحون في مياهه لن يجدوا سمكة واحدة، والسبب في ذلك أنهم يحاولون الصيد في حمام سباحة، وليس في بحر مفتوح أو نهر طبيعي.. ومعلوم أن حمام السباحة يكون خاليا من السمك، والمياه التي به صافية جدا، بحيث لا يمكنك إذا نظرت فيها أن ترى سوى بلاط القاع!
أترك التشبيهات البلاغية، وأعود لحقيقة الموضوع، وهو أن الأديان الموجودة في العالم تنقسم إلى قسمين.. أحدهما أديان سماوية، أي منزلة من الله تعالى على رسل معينين، مثل اليهودية على موسى، والمسيحية على عيسى، والإسلام على محمد، عليهم جميعا السلام، والقسم الثاني أديان وضعية أي من صنع البشر أنفسهم مثل الكونفوشيوسيه التي صاغها كونفوشيوس، والبوذية التي أنشأها بوذا. وهنا لا يمكن بحال من الأحوال أن نتحاور حول دين أنزله الله تعالى للبشر، وبين دين آخر ابتدعه أحد البشر، ثم اعتنقه عدد كبير من الناس.
أما الحقيقة الثانية، فتتمثل في أن كل دين سواء كان سماويا أو وضعيا، له أتباعه الذي يؤمنون به، ليس عن طريق العقل وحده، وإنما كذلك بواسطة القلب والروح والوجدان.. ومن أصعب الأمور، بل يكاد يكون من المستحيل التحاور بالعقل مع اتباع الأديان الذين استقرت عقائدهم من خلال هذه المناطق الثلاث، كذلك فإن اتباع تلك الأديان، منهم القادة أي العلماء الذين يحرسون الدين، ويدافعون عنه، ويعملون بكل الطرق على تقويته في نفوس الاتباع، لكي يبقى ويستمر، بل يزيد وينتشر. والواقع أن هؤلاء القادة بعضهم صادق ومخلص في التمسك بدينه والدفاع عنه، لكن بعضهم الآخر حريص على صيانة مكتسباته المادية والاجتماعية التي يحصل عليها من موقعه! والمهم أن كلا النوعين غير مستعد على الإطلاق إلى الدخول في حوار موضوعي مع علماء الأديان الأخرى، لأن مثل هذا الحوار قد يؤدي إلى خلخلة الأوضاع المستقرة، وبالتالي إلى الإطاحة بمواقع القيادة، أو ضخامة المكتسبات!
وحقيقة ثالثة تكمن في أن كل الأديان الموجودة حاليا في العالم تحتوي على جزء جوهري كان وما يزال هو حقيقة الدين الأصلي، وجزء آخر تم إلحاقه به على مدى العصور من واقع أراء البشر، وأفكارهم الخاصة. ولا شك أن الإقدام الحقيقي على الحوار سوف يتطلب في البداية ضرورة التفرقة بين جوهر الدين، والإضافات التي لحقت به، وهذا عمل صعب جدا على نفوس القادة الذين يروجون للدين بهذين الجانبين معا.
تبقى الحقيقة الرابعة، وهي عقبة لا حل لها، فإن كل دين يحتوي على تشريعاته الخاصة، التي تحدد لأتباعه مناطق الحلال والحرام، وتضع الحدود الفاصلة بينهما، والأديان الموجودة في العالم بدون استثناء يحلل بعضها ما يحرمه الآخر، فكيف نصل من خلال الحوار بين الأديان إلى تحليل محرم، أو تحريم حلال؟!
وأخيرا، فليس معنى وجود هذه «الحقائق- العقبات» في مجال الحوار بين الأديان بمانعة من «التعايش» بين اتباعها، فلكل إنسان في الوجود حق اعتناق الدين الذي يقتنع به، وإنما عليه في نفس الوقت أن يسمح لغيره بهذا الحق. والقرآن الكريم يؤكد ذلك بقوله «لكم دينكم ولي دين» وبقوله «فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر».
أما الذين يسعون إلى أن يجعلوا الناس كلهم على عقيدة واحدة فهم واهمون ومخطئون.. فالقرآن الكريم يقول «ولا يزالون مختلفين» لكنه يقول أيضا «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» وهذا هو الخيط الأبيض الذي يخرجنا من الظلام ذلك النفق.. فنحن مختلفون في أشكالنا وقومياتنا وأدياننا، ولكننا مطالبون جميعا أن نتعارف. والتعارف يعني الفهم. والفهم يؤدي إلى التسامح، ومن ثم إلى التعايش الذي هو إحدى أهم الغايات من وجود البشر على كوكب الأرض.


*  *  *
عالم إسلامي.. أمة إسلامية!!

[الأخبار، 18/8/2009]

منذ أعلن الزعيم التركي كمال أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية كنظام للحكم سنة 1924، لم تعد توجد للمسلمين رابطة سياسية تجمع بلادهم في كيان موحد، وبذلك تخلصت أوربا الشرقية من عدو تقليدي، قائم ومحتمل، وراحت تعمل على استمرار تفتيت أجزائه، وإنشاء دول صغيرة فيه، وكان الظن أن القضاء على الدولة الإسلامية، التي كانت في الماضي قوية وقادرة، قد تحقق، وسوف تستمر في الذوبان، وخاصة في ظل الاستعمار الغربي الذي طال معظم ممتلكاتها، وأصبح مسيطرا على تقاليدها، ومتحكما في مقدراتها ومصائرها.
وليس صحيحا على الإطلاق أن الاستعمار الغربي كان يهدف إلى الارتقاء بأحوال الشعوب الإسلامية التي احتل بلادها، بل إنه أخذ يعمل بكل الوسائل، القانونية وغير المشروعة، على تحطيمها من الداخل، وطمس هويتها الإسلامية، وإضعاف عقيدتها الدينية التي تمثل الأساس المتين لبقائها واستمرارها. والواقع أن دراسة الغرب للإسلام قد جعلته يدرك جيدا أن هذا الدين يحتوي على قوة ديناميكية، تظل تدفع أتباعه إلى محاولة النهوض من النكسات، وعدم الخضوع للأمر الواقع، والمفروض عليهم بقوة السلاح، أو التسلط الأجنبي.
ولنتساءل اليوم بصراحة: ماذا فعله الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية التي احتلها؟ عسكريا: أضعف جيوشها، وأمسك بمصادر تسليحها، بل جعلها أحيانا في خدمة أهدافه الاستراتيجية. وقانونيا: غير الأنظمة والإجراءات الإسلامية السارية، وأحل محلها قوانين وضعية لم تصل تماما إلى مستوى القوانين التي يطبقها في بلاده. واقتصاديا: سيطر على وسائل الإنتاج، وراح يستنزف الموارد الأولية، ويبعد الأيدي العاملة عن المهارة التقنية اللازمة، وثقافيا: غير أنظمة التعليم، وجعلها مفرغة من المناهج الدراسية التي تكون النشئ، وتعد الإنسان لممارسة دوره الإيجابي في المجتمع. وسياسيا: حافظ على بعض الأنظمة المتهالكة، كما شجع العديد من الأحزاب الكرتونية ليستكمل بها الديكور السياسي في الدولة. واجتماعيا: راح يشجع طبقة طفيلية على التمتع ببعض خيرات البلاد، لكي يجعلها نموذجا لمن يرغب في محاكاتها، والخضوع بالتالي لتوجهاته من خلالها.
ولا شك أن خطة الغرب في هذا المجال كانت محكمة، وتنفيذها تم بكل دقة. وإذا كان بعض المستعمرين قد استخدم العنف في فرض سياسته كما فعلت فرنسا في الجزائر، فقد كان بعضهم أكثر لينا لتحقيق أغراضه كما فعلت بريطانيا في الهند ومصر. وهكذا انتهى القرن العشرون، وقد اختفى تماما ما كان يسمى بالدولة الإسلامية أو حتى الدول الإسلامية! ولم يعد يجري على ألسنة المسلمين سوى (الأمة الإسلامية) وأحيانا (العالم الإسلامي) وهي كما نعلم مصطلحات غائمة وخاصة في عرف القانون الدولي،             بمعنى أن أي دولة غربية إذا أرادت أن تخاطب المسلمين لم تجد لهم            كيانا سياسيا تتحدث معهم من خلاله، وإنما الموجود: دول صغيرة                 ومتناثرة ومختلفة أشد الاختلاف في أنظمتها السياسية، وتوجهاتها الأيديولوجية، إلى جانب بعض الخصومات التي تصل إلى حد العداء بين الكثير منها!
أجل، قد يكون هناك (منظمة المؤتمر الإسلامي) وهي منظمة اسمية فاقدة التأثير والفعالية، ويكفي أنها لم تستطيع حتى الآن أن تحول نفسها من هيئة مشرفة على تنظيم مؤتمر إلى اتحاد دولي يضم الدول الإسلامية، ومنظماته الأهلية، بل إن أمينها العام مختار بعناية من تركيا، التي سبق أن ألغت الخلافة الإسلامية!!
لقد بلغت استهانة الغرب بالمسلمين حدا جعلته يتخير بنفسه من يتعامل معهم، ومن يوقفهم على الحياد، ومن يرفضهم تماما. ثم اخترع مصطلح (الإسلام السياسي) الذي ربطه بالإرهاب، لكي يكون مسمار جحا الذي يتدخل به في شئون أي دولة إسلامية ذات سيادة، وأعطى لنفسه الحق في أن يهاجم داخلها من يشاء، ويعتقل من يريد، ثم الأدهى أنه يفرض على هذه الدول أن تعدل قوانينها وإجراءاتها لكي تتمشي في ذلك مع رغبته السامية!!
والسؤال الآن: هل من مصلحة المسلمين، في عصر الكيانات الكبرى العملاقة، أن يظلوا مبعثرين ومتفرقين بهذا الشكل الذي رسمه لهم الاستعمار الغربي خلال القرنين 19، 20، أم أن في إمكانهم أن يتجاوزوا خلافاتهم، وأن يتجمعوا في شكل قانوني موحد، يعبر عن رغبة شعوبهم من ناحية، ويصلح أن يتعامل مع تلك الكيانات العملاقة من ناحية أخرى.
أما أن يظل الدعاة عندنا يتحدثون بحماسة عن (الأمة الإسلامية) و(العالم الإسلامي) فهذا أمر يشبه من يظل يصرخ في واد، ويكتفي بأن يعود إليه وحده.. صدى صوته!

*  *  *

الفلسفة الإسلامية وآفاقها

[الأخبار، 2/8/2009]

الفلسفة الإسلامية هي مجموع الفكر الديني الذي دار حول القرآن الكريم وسنة الرسول r وتضم مختلف الآراء والنظريات والمذاهب التي تناولت المفاهيم والعلاقات المتبادلة بين الله والعالم والإنسان.
وقد بدأت الفلسفة الإسلامية أولى خطواتها في محاولة وضع تصور عقلي للمقولات الدينية التي راح يهاجمها خصوم الإسلام بحجج عقلية وظهر ذلك بداية في قضية حرية الإنسان في مقابل الإرادة الإلهية ثم أخذت القضايا الدينية والفكرية تتعدد وتتنوع حول النبوة، ووحدانية الله، وتعدد صفاته، إلى جانب حدود المعرفة الإنسانية، وعلاقة العقل بالوحي. وفي سبيل ذلك راح الفلاسفة المسلمون وعلماء الكلام يستعينون بمنطق أرسطو لكي يجادلوا به خصومهم، ثم يستخدموه بعد ذلك فيما بينهم! ومنذ عصر مبكر في تاريخ المسلمين انفصل عن التيار العام (تيار أهل السنة) فصيلان مازالا موجودين حتى اليوم، وهما (الخوارج والشيعة). وكان الخلاف في هذه الدائرة سياسيا حول الأحقية في الحكم، لكن كلا منهما ما لبث أن تحول إلى مذهب ديني- سياسي، له قواعده ونظرياته، كما برز فيه أعلام كبار وضعوا من المؤلفات ما لا يحصى.
أما الخلاف العقائدي الخالص فقد كان بين مذاهب ثلاثة هي (المعتز له والأشاعرة والماتريدية)، بينما خاصمهم أهل الحديث (السلفيون) المتمسكون بالنصوص الدينية دون تأويل، وحاولت الابتعاد عن الجميع (طائفة الصوفية) التي بدأت بالتعبد والزهد في الدنيا، ثم اتخذت اتجاها أخلاقيا عمليا، وأخيرا استقرت في طرق صوفية منظمة حتى اليوم. ومع ذلك، فقد ظهر في هذه الطائفة فلاسفة كبار حاولوا أن يضعوا لها نظريات ومذاهب (السهروردي والغزالي، وابن عربي).
الفلسفة الإسلامية إذن ليست شيئا موحدا، وإنما هي عبارة عن مجالات متعددة ومتنوعة، كما أنها ليست حديقة ذات أسوار محددة، وإنما هي عبارة عن غابة ممتدة الأطراف، لها صلات مع ما سبقها من فلسفات إغريقية وفارسية وهندية ثم يهودية ومسيحية وأفلاطونية محدثة، ويمكن الوقوف على ذلك كله بوضوح في موسوعة إخوان الصفا التي كتبت في القرن الرابع الهجري، وكان لها تأثيرها على معظم المفكرين الذين جاءوا بعدها لعدة قرون.
الفلسفة الإسلامية تعتبر حلقة وسطي في تاريخ الفلسفة العام. تأتي قبلها الفلسفة القديمة، وخاصة اليونانية (أفلاطون وأرسطو ومن حولهما) ثم تأتي معها الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، وأخيرا تبدأ الفلسفة الحديثة من القرن السابع عشر الميلادي. وليس من الإنصاف أن يهمل عدد كبير من مؤرخي الفلسفة الغربية الدور الذي قامت به الفلسفة الإسلامية في الحفاظ على التراث الفلسفي القديم، والتمهيد للفلسفة الحديثة. ولولا روح الاستعلاء والتعصب لاعترف الغرب صراحة بقيمة الفلسفة الإسلامية وأدخلوها- كما تستحق- في بناء الفكر الفلسفي العالمي.
في الفلسفة الإسلامية، يبرز أعلام كبار من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن عربي، ولكل منهم مذهب فلسفي لا يقل انسجاما وروعة عن مذاهب كبار مفكري الغرب مثل ديكارت، واسبيتورا، وكانط، وبرجسون..
وفي الفلسفة الإسلامية أفكار ونظريات متألقة، مثل نظرية السعادة، ونظرية النبوة، ونظرية النفس وخلودها، إلى جانب البحث المعمق في مفهوم الألوهية، ونظرية حرية الإرادة. وما زال الباحثون، سواء في الشرق أو الغرب يقومون باكتشاف أفكار ونظريات في الفلسفة الإسلامية كلما توافرت بين أيديهم مخطوطات جديدة، كانت مجهولة، أو تعمقوا في بحث الفكر الفلسفي في الإسلام، ومن ذلك نظرية الاتفاق بين الحكمة والشريعة لدى ابن رشد، ومنهج الشك لدى الغزالي الذي يتشابه كثيرا مع منهج الشك لدى الفيلسوف الفرنسي ديكارت، وفكرة التفاؤل لدى ابن عربي التي تكاد تتطابق مع نفس الفكرة لدى المفكر الهولندي ليبنتز.
أما تاريخ الفلسفة في العصر الحديث، فتبدأ خيوطه مع النهضة التي شهدها المسلمون، أولاً في مقاومة الاستعمار الغربي، وثانيا في محاولة بناء أسلوب جديد للحياة في بلادهم المحررة. وهنا تبرز شخصيات مثل الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وخير الدين التونسي، ومالك بن نبي، ومحمد إقبال وغيرهم، حيث نجد لكل منهم فكرة عن النهضة، ومنهجا للإصلاح يرقيان به لكي يكون بكل جدارة فيلسوفا إسلاميا حديثا ومعاصرا، أما مستقبل الفلسفة الإسلامية فهو مرتبط بفتح النوافذ أمامها لكي تتفاعل مع الفلسفات المعاصرة، ولكي تقوم بدورها الجديد في المجتمعات العربية والإسلامية، وأهمها توسيع آفاق أفراده لكي يتمكنوا من الحياة الكريمة والسعيدة في العالم المعاصر.


*  *  *

فن المناظرة وآدابها

[الأخبار، 11/9/2009]

عندما ازدهرت الحركة العلمية والثقافية لدى المسلمين، وخاصة في العلوم العقائدية والشرعية، بدءا من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وجدوا أنفسهم مدفوعين لتنظيم الخلاف الذي كان يحدث بينهم، فأنشأوا علما، أو بالأحرى فنا، أطلقوا عليه اسم (آداب البحث والمناظرة) مستمدا بعض عناصره من منطق أرسطو. وقد قام بعض العلماء بجمع وتنظيم الأسس والآداب التي تقوم عليها المناظرة بين طرفين مختلفين في الرأي حول مسألة من مسائل علم الكلام والعقيدة، أو الفقه وأصول الفقه، كذلك كانت بعض المناظرات تجري في مجال اللغة والأدب، وأحيانا في الانتصار لمجال على آخر، مثل المناظرة الشهيرة التي جرت بين السيرافي ومتّى بن يونس حول النحو والمنطق، وسجلها أبو حيان التوحيدي في كتابه: الإمتاع والمؤانسة.
ويبدو أن تدوين علم أو فن (آداب البحث والمناظرة) لم يحدث إلا بعد وقت طويل من ممارسته الفعلية، وبالتالي لم يأخذ مكانه اللائق ضمن منظومة العلوم الإسلامية، ثم ما لبث أو توارت الكثير من مخطوطاته، ولم يلتفت إلى أهميته أحد من الباحثين العرب أو المستشرقين! لكن الأزهر الشريف اهتم بهذا العلم، فجعله مقررا دراسيا في المرحلة الثانوية تارة، وفي كلية أصول الدين لفترة معينة، وهذا ما دفع بعض أساتذته الأفاضل إلى الاستعانة ببعض رسائله القديمة وشروحها، بعد أن قاموا أحيانا بالتعليق عليها، وتقريبها للطلاب مثل رسالة على الجرجاني (المتوفى 816هـ) التي حققها وشرحها الشيخ علي الغزالي سنة 1929. أو تأليف رسائل في الموضوع، كما فعل الشيخ أحمد مكي في رسالته التي سماها (آداب البحث) سنة 1931، ومن بعده الشيخ محيي الدين عبد الحميد في رسالة بعنوانه (رسالة الآداب: في علم آداب البحث والمناظرة) سنة 1942.
ومما يؤسف له أن هذا العلم أو الفن قد عاد مرة أخرى فتوارى من مناهج التدريس بالأزهر، كما أن نظام التعليم المدني لم يتنبه إليه على الإطلاق، (وكنت أتمنى أن تقوم كليات الحقوق، وكذلك كلية مثل الاقتصاد والعلوم السياسية بتدريس هذا الفن ضمن مناهجها، فهو ألزم ما يكون لأبنائها!) أما حركة نشر التراث التي ازدهرت في العالم العربي خلال القرن العشرين فإنها أهملته هي الأخرى، ولا نكاد نجد رسالة محققة فيه، أو حتى مطبوعة دون تحقيق!
وقد ذكر الشيخ محيي الدين عبد الحميد أن أول من ألف في هذا العلم هو العميدي (المتوفى سنة 615هـ)، لكن المصادفة الحسنة جعلتني أذهب إلى أن الجويني (المتوفى سنة 478هـ) هو أول من وضع في هذا الفن كتابه الضخم (الكافية في الجدل) وهو الكتاب الذي حققته د. فوقية حسين على نسخة وحيدة، وجعلته يمثل اتجاها مغايرا للجدل الأرسطي في العالم الإسلامي، دون أن تشير إلى أن الكتاب يعد المصدر الأوسع لفن آداب البحث والمناظرة الذي تم اكتشافه حتى الآن!
وعلى آية حال، فإن المنهج الذي سار عليه معظم المؤلفين              أو الأحرى المصنفين في هذا الفن، يتكون من مقدمة أو تمهيد يشتمل          على تحديد المصطلحات المستخدمة والملزمة لكلا الطرفين المتناظرين،         يتلو ذلك ثلاثة أبواب رئيسية: الأول عن التعريف، والثاني عن            التقسيم، والثالث حول التصديق ويتناول: المنع، والنقض،             والمعارضة.
وإلى جانب ذلك (الأصول) المعتمدة في المناظرة، والتي ينبغي أن (يلتزم) بها كلا الطرفين، فهناك عدة (أداب) ينبغي أن (يتحلى) بها، ومن أهمها: أن يقصد العالم من مناظرته وجه الله والحق، لا مجرد الغلبة على منافسه، وإظهار احترامه وتقديره، وعدم رفع الصوت، وتجنب الإطالة التي تبعث على الملل، وعدم الاعتماد على أحد من الحاضرين لتأكيد وجهة نظرك فلعله يخذلك، وضرورة الاستبشار في وجه الخصم وعدم العبوس، والإقبال بالوجه عليه، والاهتمام بكل ما يقوله، ومن آداب المناظرة عدم الدخول فيها إلا مع كفء مثلك. وقد زاد الجويني على ذلك فعقد فصلا في كتابه تناول فيه بعض الحيل التي قد يلجأ إليها أحد طرفي المناظرة، بغرض تجنبها، لكنه قدم مجموعة مختارة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأشعار التي يمكن أن يذكرها المناظر في مختلف المواقف لتلخيص الموقف، أو إسكات أتباع الطرف الآخر الذين قد يتدخلون للتشويش من أجل نصرته بأي ثمن!
إن قيمة (آداب البحث والمناظرة) لا تنحصر فقط في تنظيم الحوار بين طرفين مختلفين حول قضية معينة بهدف الوصول إلى وجه الصواب فيها، وإنما أيضا في المستوى الحضاري الذي يبدأ فيه الحوار، ويستمر، وينتهي بصورة هادئة وموضوعية، دون أن يترك أي جرح في نفوس المتحاورين. وإذا كان العالم كله يتجه اليوم إلى الحوار لإيجاد حلول مناسبة للمشكلات التي يعاني منها، أو لإخماد النيران في بعض مناطق النزاع المسلح، فما أحوجنا إلى إعادة أحياء فن (آداب البحث والمناظرة) وتقديمه للعالم في ثوب عصري، بعد أن نقوم نحن بتطبيقه أولاً فيما بيننا!!

*  *  *

أخلاقيات

[الأهرام، 2007]

كان الموظفون الذين يعملون في الزمن الماضي بدار الكتب المصرية من هواة القراءة والبحث، وفي أحيان كثيرة كانوا يقومون بالتأليف نتيجة تزودهم بالثقافة التي يعيشون فيها، ويقدمونها للقراء من خلال قاعات الاطلاع أو الإعارة الخارجية. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به السيد على فكري، رئيس قسم المغيرين بدار الكتب المصرية، حين نشر كتابا عام 1935 سماه (علم الأخلاق) جمع فيه شذرات من زواجر الدين الحنيف، وعقوبات القوانين، وحكم المتأدبين، ونصائح المرشدين، مع ذكر الشواهد، وضرب الأمثال، بأخلاق العظماء والأبطال، لتكون منها عبرة لمن أراد أن يعتبر، أو ألقي السمع وهو شهيد!
وقد عرف علم الأخلاق بأنه العلم الذي يبحث عن حالة النفس، ونزوعها في أفعالها إلى الخير أو الشر، وعن الصفات الإنسانية عاليها وسافلها، وعن بقاء تلك الصفات في الإنسان وقبولها للتغيير. ثم أوضح مختلف أنواع التأثير في الأخلاق، فجعل منها تأثيرا للعقل، وتأثيرا للعلم، وتأثيرا للبيئة، وتأثيرا للمصاحبة، وتأثيرا للوراثة.
أما حسن الخلق فهو أن يكون الإنسان طلق الوجه، باسم الثغر، بشاشا هشاشا، لين الجانب، رحب الصدر، نقي القلب، سهل المعاملة، حسن المعاشرة، طيب الكلمة، صادق القول، قليل الكلام، كثير العمل، قليل النفور من الناس، ميالاً للألفة والائتناس، حافظا للود، وفيا للعهد. وفي المقابل من ذلك، فإن سوء الخلق يعني أن يكون الإنسان عابس الوجه، بذيء اللسان، شرس الطباع، خشن الجانب، سيء السلوك، يغضب لأقل إساءة، وتبدو عليه الحدة لأدني إهانة، غليظ القلب، متكبرا.
ومن الطبيعي أن نتائج حسن الخلق تتمثل في محبة الناس لصاحبه، واجتماعهم عليه في السراء والضراء، أما سوء الخلق فلا تنتج سوي النفرة من صاحبه، والابتعاد عنه قدر الإمكان.
وكما أن الإنسان معرض في جسده للأمراض الحسّية، فإنه أيضا معرض في نفسه لأمراض الأخلاق. وإذا كان الأطباء هم الذين يقومون بعلاجه من أمراض الجسد، فإن الحكماء هم الذين يداوونه من أمراض الأخلاق. وأولي خطوات علاج الأخلاق هي الإصغاء للنصيحة، وتقبلها من أهلها، ثم العمل بها. كذلك إذا كان الإنسان يبحث عن طبيب جيد ليعالجه، وربما يسافر بحثا عنه إلى بلاد بعيدة، فالأولي به أيضا أن يبحث عن حكماء الأخلاق ليستفيد منهم. وأكمل الحكماء في هذا الصدد هم الأنبياء، الذين اصطفاهم الله تعالي من بين جميع البشر ليبلغوا رسالته، وجعل قولهم يطابق فعلهم. وقد قال رسول الله، r: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقال عن نفسه: أدبني ربي فأحسن تأديبي. ومن المعروف عنه أنه لم يفتخر قط بجاه ولا مال ولا سلطان، وإنما اعتمد على حسن خلقه في التعامل مع الناس جميعا، واستطاع أن يكون مدرسة من الصحابة، انعكست عليهم أخلاقه، حتى صار كل منهم قدوة في مجاله، وقد قال عنهم: أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم..
سئل رسول الله، r عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوي الله وحسن الخلق. وقال: إن أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا. وقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه. وقال: إنكم لا تَسَعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق. ويحكي أن صبيا تكلم أمام الخليفة المأمون فأحسن، فقال له المأمون: ابن من أنت؟ فقال الصبي: ابن الأدب يا أمير المؤمنين. فقال المأمون: نعم النسب يا بنى!

 

آخر تحديث الأحد, 01 فبراير 2015 14:48