عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
رابعا : عن العرب واحوالهم


رابعا : عن العرب واحوالهم صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الأحد, 02 يناير 2011 00:56








رابعا : عن العرب واحوالهم :



-
ماذا يمنع العرب من التقدم ؟

- جوانب القوة لدى العرب

- الجامعة العربية بين أمسها وغدها

- الوحدة العربية .. هل تذكرونها ؟

- أوراق العرب الباقية :

1. توحيد الموقف السياسى
2.
التحالفات العربية – الإقليمية
3.
الضغط الاقتصادى
4.
احتضان المقاومة
5.
تأكيد مقومات الهوية العربية

- اللغة .. آخر حصون العرب

- مأساة القواميس العربية

- ابن رشد الحقيقى

- مصطلحات سياسية بين الحياة والموت

- مناقشة فكرة ماكرة !!

- نظرية المؤامرة

- لماذا يلجأ العرب إلى الأمم المتحدة ؟!

ماذا يمنع العرب من التقدم؟

[الأخبار، 24/3/2009]

لكي نستطيع أن نقدم إجابة واضحة ومحددة عن هذا السؤال المهم، لابد أن نبين أولا المقصود من التقدم، وأن نستعرض ثانيا وضع العرب في الفترة الراهنة لنرى هل هم فعلا بحاجة إلى هذا التقدم أم لا؟ أما التقدم فمن الصعب تحديد مفهومه في عبارات وإنما يمكن استخلاص معناه من خلال وقائع مادية وأمثلة محسوسة.

ولاشك أننا الآن قد أصبحنا في وضع يتيح لنا أن نشهد ونتابع مظاهر التقدم في بعض البلاد، التي تتميز بالاستقرار السياسي، وقوة الردع العسكري، والزيادة المستمرة في الدخل القومي، وارتفاع مستوى معيشة الأفراد، إلى جانب التقدم التكنولوجي، وانتشار التعليم الجيد، وتطور البحث العلمي، وأخيرا ازدهار حركة الفنون والآداب. ومن الواضح أن الكثير من مظاهر هذا التقدم قد تحققت في أوروبا وأمريكا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما لبث أن لحقت بهما دول كثيرة في آسيا، أبرزها اليابان والصين وكوريا وماليزيا. أما في العالم العربي فقد كان مشروع محمد علي «1805- 1848» في مصر محاولة جيدة لتحقيق بعض عناصر التقدم، ولكنه عاد فتعثر بسبب الأطماع الاستعمارية التي تكالبت على المنطقة كلها، وأمسكت بزمام الأمور فيها، ولم تترك لها أي فرصة للنهوض أو التقدم، بل على العكس عمل الاستعمار بأسلوب منهجي على إضعافها وتفتيتها، ثم إعادة تركيبها في دول صغيرة وأصغر، حتى أصبح مجموع العالم العربي «22» دولة، تضم حاليا ما يقرب من ثلاثمائة مليون نسمة، ولا يكاد يوجد فيها بلدان متجاوران دون أن تكون بينهما مشكلات على الحدود! ومن الطبيعي أن يؤدي تفتيت الكيان الكبير إلي إضعافه، والإضعاف إلى القضاء على أي مبادرة للتقدم. وإذا كان العالم العربي يزخر بالإمكانيات ويمتلك بعض الثروات فإنه ممزق الأوصال وضعيف الإرادة لم يستطع حتى الآن أن يستفيد من إمكانية التكامل بين بلدانه، فضلا عن تبادل الخبرات بين الكفاءات المبعثرة في أرجائه. ويمكن هنا أن نتساءل هل يجرؤ أحد الآن أن يدعو العرب إلى الوحدة؟ وإذا لم يمكن تحقيق وحدة سياسية، فعلى الأقل وحدة موقف، وإن لم تكن هذه ولا تلك، فأين الوحدة الاقتصادية التي أصبحت فرض عين، وليست فرض كفاية كما يقول الفقهاء! فإذا حاولنا أن نتوقف عند قطاع واحد فقط، وليكن قطاع التعليم، فهل يمكن أن تزعم دولة عربية واحدة بأنها قد تقدمت فيه؟ الملاحظ بأسف أن كل دولة عربية تحاول جاهدة أن تحسن حال التعليم فيها، ولكنها تفشل دائما لأنها تعمل وحدها، ولا تفكر أبدا في الاستعانة بجيرانها ممن يكون لديها التمويل، أو الخبرات البشرية، أو الرؤى الاستراتيجية، والخطط التنفيذية، ثم إن هناك بعض البلاد العربية التي تستدعي جامعات أجنبية متقدمة من خلال فتح فروع صغيرة داخل جامعاتها المحلية، ويغيب عنها تماما أن التعليم خدمة وطنية، لابد أن ينبع من واقع المجتمع نفسه، مرتبطا بقضاياه، محققا لأهدافه، ثم لا يوجد مانع بعد ذلك من اتصاله بمؤسسات التعليم العالمية.

ولكي تطور الإجابة عن السؤال المطروح بصورة أوضح نقول: هل موانع التقدم لدى العرب ذاتية من الداخل لم أنها وافدة من الخارج؟ ويبدو أنها نتاج الأمرين معا. ولابد من الاعتراف بأن لدينا قصرا في النظر، وقصورا في الأداء، لكن ذلك يقابله قصد أجنبي، ظاهر أو مستتر، يمنعنا من اكتشاف المنهج الصحيح، وبذل الجهد في العمل المنتج. وأذكر هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت ذات يوم مساعدتنا في تطوير التعليم، فرصدت عددا كبيرا من المنح للمدرسين لكي يزورها ويطلعوا على نظم التعليم والتربية فيها، كانت مدة البعثة حوالي ثلاثة أشهر، وهي مدة لا تصلح إلا للسياحة والتسوق، ولا تنفع أبدا في إجادة اللغة الإنجليزية، أو الإلمام بمناهج التربية هناك!!

ويبقى دائما أن التقدم فكرة، لابد أن يؤمن بها المجتمع كله، بحيث ينام ويصحو على أحلامها وكوابيسها، إلى أن ينفتح أمامه طريق واضح فيندفع فيه بكل قوة، تاركا وراءه كل ما مر به من سنوات الضياع والتخلف..

* * *


جوانب القوة لدي العرب

[الأهرام، 2007]

سألني بعض الشباب: هل مازال العرب يملكون بعض القوة التي تمكنهم من مواجهة التحديات التي تحيط بهم من كل جانب؟ وللوهلة الأولي أجبتهم بأنهم أولاً: يملكون الطاقة التي يحتاج إليها العالم، وثانيا: لديهم أسواق تستهلك ما ينتجه الغرب، وأخيرا تركيبتهم السّكانية التي يزيد فيها عدد الشباب على عدد كبار السن، وهو عكس ما عليه الحال في الغرب بصفة عامة. لكنني عندما خلوت إلى نفسي رحت أفكر في هذه العناصر فوجدتها مع الأسف قد تكون هي نفسها نقاط الضعف لدي العرب. فالطاقة لدي بلد عربي واحد ومنعزل عن باقي البلاد العربية لا تجعل منه بلدا قويا، بل على العكس قد تكون نقطة ضعف، وتحوله إلى مطمع للدول القوية، كما أن الطاقة لا تزيد عن كونها سلعة ضرورية لا يستطيع أن يتحكم وحده فيها، وإنما هو خاضع في بيعها وتسويقها للسوق العالمية، وبصورة أدق، للقوي الأكبر التي تتحكم سياسيا وعسكريا في هذه السوق. أما كون البلاد العربية تعتبر مستهلكا كبيرا، وقريبا من مواطن الإنتاج في أوربا فهي ميزة لأوربا ولا تحسب للعرب. ونحن نعلم أن المواد الأولية التي تحصل عليها المصانع الأوربية من كل أنحاء العالم، ومنها العالم العربي إنما تشتريها بثمن بخس، ثم تقوم بتصنيعها وتصديرها بأسعار مرتفعة، وبدون منافسة داخلية من الدول المستوردة لها، وفي مقدمتها البلاد العربية. وخذ مثالاً على ذلك من السيارات، التي لا يوجد بلد عربي واحد ينتجها، ويضطر بالتالي إلى استيرادها من الخارج، ولا يتوقف الأمر عند شراء السيارة، وإنما يتجاوز ذلك إلى الاستمرار في شراء قطع الغيار على مدي سنوات طويلة. ومثال آخر يتمثل في أجهزة الكمبيوتر التي تتكون من مواد أولية رخيصة جدا، لكنها تباع بأسعار مرتفعة للغاية، وتتطلب إحلالاً وتجديد بصفة دورية قد يكلفان أكثر من ثمن شراء الجهاز الأصلي. أما العنصر الخاص بنسبة عدد الشباب إلى كبار السن في البلاد العربية، وما تحمله هذه النسبة المرتفعة من وعود مبشرة للمستقبل، فإنها تتوقف بالدرجة الأولي على حسن استغلال تلك الثروة البشرية من خلال تعليم جيد، وتدريب مستمر، وإدارة حكيمة ونشطة تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتفتح أمام الشباب أبواب المستقبل لكي يقتحموها دون خشية أو إحباط.

وهكذا يتضح أن ما يبدو أنها جوانب قوة لدي العرب يمكن أن تتحول إلى عوامل ضعف، ما لم يتم تحصينه بالشروط والظروف المناسبة لدعمه وتطويره. وتعالوا نتخيل (أقول نتخيل) أن تقيم الدول العربية المنتجة للنفط مجلس إدارة أو جمعية تلتزم بما يصدر فيها من قرارات لصالحها، وليس لمصلحة أي بلد آخر، فماذا يكون الحال؟ سوف تفرض قرارها على الجميع، وسوف يكون لها مجتمعة قيمة دولية، لا شك أنها سوف تنعكس بالإيجاب على سياستها الخارجية. أما أن تنفرد كل دولة بقرارها، وتحسب أنها سوف ترسخ مكانتها في المجتمع الدولي، فهذا مستبعد تماما. والواقع يؤيده.

وإذا كانت وحدة القرار في موقف معين من أهم مظاهر القوة لدي العرب، فإن سوقهم الاستهلاكية من الغرب يمكنها أن تصبح هي الأخرى ورقة رابحة في أيديهم، إذا أجادوا اللعب بها على مائدة الاقتصاد العالمي، لأن المشتري هو الذي يضع عادة شروط السوق، ويمكنه إذا كان رشيدا أن يفرض رأيه على البائع. وهنا أيضا لابد أن تظهر وحدة القرار التي يمكنها أن تحقق بصوت العرب الموحد مصالح أكثر بكثير مما يحققه صوت كل منهم منفردا!

هذا وسوف تظل التنمية البشرية هي المجال الذي يضمن نجاح الجانبين السابقين. ولا يتم ذلك كما نعلم إلا بأسلوب حديث للتربية، ومناهج متطورة في التعليم، وتدريب لا يتوقف مدي الحياة، وذلك كله في منظومة إدارية ذات كفاءة وفعالية، يمكنها أن تغير ميزان القوة لصالح العرب: مجتمعين وليسوا فرادي.

* * *


الجامعة العربية

بين أمسها وغدها

[الأخبار، 2007]

كشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، في أحد أحاديثه التي تبثها قناة الجزيرة، عن أحد أهم أسرار قيام جامعة الدول العربية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945، وأن تلك الدول قد استشعرت كل واحدة منها الخوف من انفراد الحلفاء الخارجين منتصرين بها، فأسرعت بإنشاء كيان أكبر يمكنه أن يقوي كل دولة على حدة ويكون مؤهلا للحديث باسم الجميع ككتلة متماسكة مع الحلفاء المنتصرين في الحرب. ولأن الدول التي كانت تهيمن على مصير العالم حينئذ كانت على بينة من قوة العرب الحقيقية وعلي رأسها بريطانيا وفرنسا، فقد سمحت لهذا الكيان أن يظهر للوجود، خاصة وأن علاقة بريطانيا مثلا بكل واحدة من تلك الدول على حدة كانت قادرة على توجيه سياستها في الطريق الذي تريده. ومن الأسرار التي كشفها هيكل أن بعض الدول العربية قد كتبت إلى بريطانيا تستأذنها في الانضمام أو عدم الانضمام إلى جامعة الدول العربية، موضحة لها أنها في انتظار ردها على ذلك، ومؤكدة أن علاقتها الثنائية معها لن تتأثر سلبا بانضمامها إلى هذا الكيان العربي الناشئ.. وقد أعطت بريطانيا الضوء الأخضر لتلك الدولة المستأذنة بالانضمام إلى جامعة الدول العربية، ولعل هذا يفسر قيام الكيان نفسه على أساس هش وغير معقول! فقد ورد في ميثاق الجامعة العربية أن أي قرار لكي يكون نافذا لابد من موافقة (جميع) الأعضاء عليه، وليس أغلبيتهم كما هو الحال في أي تجمع سياسي. لقد أدي هذا النص في ميثاق جامعة الدول العربية إلى شللها بالكامل منذ البداية عن تنفيذ أي عمل أو تحقيق أي هدف، كانت الدول المجتمعة تبذل الكثير من الوقت والجهد لمناقشته داخل أروقتها الباردة، وقاعاتها الكئيبة التصميم. ومع ذلك، وعلي الرغم من كل شيء، يبقي أن فكرة الجامعة العربية من أجمل الأفكار التي ظهرت في العالم العربي قبل منتصف القرن العشرين بقليل. وإذا كانت قد شهدت في بعض الأحيان حركة ونشاطا واضحين، واستطاعت في بعض المواقف المحزنة أن تجمع القادة والزعماء العرب على طاولة واحدة، ارتبطت بها قلوب الملايين العرب من المحيط إلى الخليج، فإنها أيضا مازالت عاجزة عن اتخاذ قرار يحقق للجماهير العربية تطلعاتها المشروعة في الخروج من حالة التخلف والتبعية إلى آفاق النهضة والاعتماد على الذات. وكيف يتحقق ذلك والجامعة – في نشأتها – مرتبطة عضويا بالتحالف المنفرد مع الغرب الذي لا يسعده أبدا أن يتقدم العرب خطوة حقيقية إلى الأمام. واسمحوا لي أن الخص الوضع الحالي كما يلي: إذا كنا قد ورثنا عن آبائنا – يغفر الله لهم – هذا الكيان الهزيل، فما أجدرنا أن نعيد بناءه من جديد على أسس متينة، وأن نصحح ميثاقه المعطوب، خاصة وأننا الآن في وضع أفضل بكثير مما كنا عليه منذ نصف قرن. ولكي نبدأ بالخطوة الأولي على هذا الطريق يمكن أن نرتب أولويات العمل العربي المشترك على ثلاث مستويات: الأول تعليمي، والثاني اقتصادي، والأخير سياسي. وهناك قرار لن يكلف الدول العربية كلها أكثر من الموافقة الشفهية عليه، وهو توحيد أنظمة التعليم الأساسي في كل البلاد العربية. وفي تصوري أن هذا ليس بالأمر المستحيل، فهل نبدأ؟!

* * *


الوحدة العربية.. هل تذكرونها ؟

[الأهرام، 2007]

في الخمسين سنة الماضية، تحررت معظم البلاد العربية من الاحتلال الأجنبي، وأمسك كل منها بزمام الأمور من أجل تنمية المجتمع، والنهوض بالحياة في مختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان من الممكن أن تتواصل هذه البلاد في وحدة أو اتحاد يأخذ بأزر بعضها البعض، وأن تتقوي في ظله الدول الضعيفة من خلال اعتمادها على جاراتها الأخرى. لكن الظروف الدولية لم تسمح بذلك. وراحت عوامل الفرقة تدب بين أنظمتها السياسية، الأمر الذي انعكس على تكريس ابتعاد بعضها عن بعض، حتى وصل بها الحال إلى حد القطيعة ثم التعاند والتصادم. وكادت الحروب تقع بين الجارات لأقل الأسباب، وراحت نعرات القبلية تطغي على المصالح القومية، وانتهي فيما يبدو ما كان يسمي بالوحدة العربية.

أما في أوربا، فقد راحت الشعوب، التي عانت بشدة من ويلات حربين عالميتين، تتنادي باللقاء من أجل طي صفحة الماضي، بخلافاته ومآسيه، والعمل من أجل مستقبل مزدهر لمجموعة الشعوب المتجاورة، رغم اختلافها في العرق واللغة، وتفاوت ما بينها في الغني والفقر. ومع قوة الإرادة وصحة العزيمة، تغلب تيار الاتحاد على كل دعوات الفرقة والتشرذم، وانتهي الأمر بظهور الاتحاد الأوربي كقوة كبري لها وزنها السياسي والعسكري والاقتصادي، وأصبحت – كما نري – تضم أكثر من خمس وعشرين دولة لم يكن يبدو في الخيال أنها سوف تجتمع على أهداف واحدة، وتستخدم في سبيل تقدمها قوانين موحدة.

وإذا كان لنا من عبرة نستخلصها فإن ما يجري في المنطقة العربية من عدوان سافر على بعض البلاد العربية، وأبرزها فلسطين والعراق، ولا يجد ردة فعل واحد من مجموعة دول عربية، أو حتى بلد عربي واحد، يكشف عن مدي الضعف والهوان واللامبالاة التي تعانيها الأمة العربية كلها، على الرغم مما تمتلكه من عناصر القوة، وإمكانيات التصدي. لكن هذه العناصر والإمكانيات لا يمكن أن يكون لها مردود يذكر إلا إذا اتحد العرب فيما بينهم، واجتمعوا ولو على هدف واحد من بين سائر الأهداف.

صحيح أن بلدا عربيا واحدا لن يكون في مقدوره رفع صوته بالاحتجاج، ولكن مجموعة دول تستطيع أن تفعل ذلك، فإذا ما تقدمنا قليلاً وقلنا إن الأمة العربية كلها مدعوة إلى رفع الصوت ضد ما يغتال كرامتها، وينتهك أغلي مقدساتها.

ومما يؤسف له أن إطار جامعة الدول العربية كان يمكنه أن يلم العرب على موقف سواء، ولكن العرب أنفسهم أضعفوا الجامعة العربية، وفرغوها من مضمونها الحقيقي، الذي كان المواطنون العرب في كل البلاد العربية يضعون عليه كل آمالهم في إسماع صوتهم للعالم، وفي التفاوض مع العالم من خلالها.

وأستطيع أن أصارحكم بأنه لا حل لمشكلة فلسطين إلا بظهور موقف عربي موحد، ولا حل لمشكلة العراق إلا بنفس الشيء.. أما أن تستمر الـ 22 دولة عربية في اتخاذ طرق متناثرة، وكل منها تزعم لنفسها أنها كيان مستقل، فسوف ينتهي أمرها جميعا إلى مستقبل مجهول.. في ظل الكيانات الكبرى الموحدة، والتي مازالت تسعي إلى مزيد من التكتل والوحدة.

لقد تذكرت أيام الدعوة إلى الوحدة العربية، وكان جيلي كله يحلم بها، ولكننا رأيناها تسقط على الأرض أمامنا مثل الحمامة البيضاء، منكسرة الأجنحة، والغريب أن الكثير من الأجيال السابقة قد شاهدوا ذلك لكنهم لم يعودوا يتحدثون عنه إلا في النادر، أما الأجيال الجديدة فإنها لم تعد تسمع مصطلح الوحدة العربية لا قليلاً ولا نادرا!!

* * *


أوراق العرب الباقية

تمهيد([1])

[الوفد، 3/8/2009]

لا شك أن الرئيس السادات كان محقا عندما أعلن ذات يوم أن أوراق اللعبة - يقصد مشكلة الشرق الأوسط - يوجد منها 99% في يد أمريكا. وقد أثبتت الأيام الطويلة والليالي الكئيبة أن عبارته تلك كانت صحيحة تماما. فالقضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط، ومصدر القلق والتوتر في المنطقة الإقليمية المحيطة، تكمن أساسا في مشكلة فلسطين، التي لم تعد تستطيع أي جهة أو دولة في العالم أن تتقدم بمحاولة وساطة، أو حتى بمجرد اقتراح لحلها.. لقد أبعدت أمريكا كل الأطراف بما فيها الدول العربية المهمومة بقضية فلسطين، وقررت أنها وحدها هي صاحبة الحل والعقد في المسألة، بل إن إسرائيل نفسها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة للأمام أو حتى للخلف دون إذن من سيدتها أمريكا!

ستون عاما إذن مضت والمشكلة المستعصية كما هي، بل إنها تزداد تعقيدا بسبب الممارسات الإسرائيلية المتواصلة في إقامة الجدار العازل، والتنكيل بالفلسطينيين، والتوسع السرطاني في الاستيطان، وإغلاق المعابر، ومحاولات تهويد مدينة القدس العربية الإسلامية والمسيحية، وخلال هذه السنوات الستين لم ينتبه عقلاء العالم إلى أنه في مقابل التعنت الإسرائيلي نشبت أربع حروب نظامية «48 ، 56 ، 67 ، 73» وهب الفلسطينيون في انتفاضتين باسلتين، وشنت إسرائيل حربين فاشلتين على لبنان وهجوما همجيا على غزة.. ثم عاد الوضع المتجمد كما كان، ولم تتحرك القضية بأي شكل.

وبنظرة موضوعية، قد نذهب إلى أن الدول العربية معذورة في عدم استرداد حقوق الفلسطينيين بالقوة، كما تم اغتصابها بالقوة، وذلك بسبب التفوق العسكري الكبير الذي أصبح يصب في صالح إسرائيل، نتيجة تسلحها بأحدث ما توصلت إليه الآلة العسكرية في أمريكا، وكذلك في الدول الأوروبية «بريطانيا وفرنسا وألمانيا» إلى جانب الإعلان الواضح والقاطع من أمريكا بأنها تضمن أمن إسرائيل، وهذا معناه أن أي دولة تدخل في حرب مع إسرائيل سوف يتم إعلان الحرب عليها من جانب أمريكا.

ولأن الوضع الحالي قد بدأ يثير الضيق والغضب لدى الشعوب العربية التي لا تتوقف عن مطالبة دولها بالتحرك لتغييره، فقد صدرت مبادرة الملك عبد الله للسلام، والتي تبنتها جميع الدول العربية، وهي تقضي بعرض السلام والتطبيع مع إسرائيل في مقابل انسحابها من جميع الأراضي التي احتلتها سنة 1967، والسماح بإقامة دولة خاصة بالفلسطينيين تكون عاصمتها القدس الشرقية، وليس القدس كلها، ومما يؤسف له أن إسرائيل، ومن ورائها بالطبع أمريكا، قد عملت على تجميد تلك المبادرة التي لم تصل حتى إلى مجال المناقشة!

والسؤال الآن: هل فقد العرب طوال ذلك الصراع المرير وخلال تلك السنوات الطويلة أي قدرة على المناورة، أو المبادرة؟.. ثم السؤال الأهم: ماذا بقي في أيدي العرب من أوراق يستطيعون أن يتفاوضوا بها مع كل من إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي «وقد أصبح الثلاثة يمثلون جبهة واحدة»؟

إن الإجابة عن هذين السؤالين المحوريين يتطلبان قدرا كبيرا من المصارحة والبعد عن المزايدة والانفعال. وبالطبع لا أستطيع أنا وحدي أو حتى مركز بحوث متخصص أن يقدم إجابة شافية، وإنما الأمر يتطلب مشاركة فكرية وسياسية على أوسع نطاق ممكن، ليس فقط من بلد عربي واحد، وإنما من سائر الدول العربية، لذلك فإن ما أطرحه هنا لا يمثل في الواقع سوى مساهمة فردية متواضعة، قابلة للصواب والخطأ، لكنني أزعم أنها صادرة عن توجه وطني وقومي خالصين.

توجد في أيدي العرب- على الرغم من حالة الضعف والإحباط السائدة حاليا- خمس أوراق مهمة هي:

الورقة الأولى: توحيد الموقف السياسي..

الورقة الثانية: التحالفات العربية- الإقليمية..

الورقة الثالثة: الضغط الاقتصادي «المفرد والجماعي»..

الورقة الرابعة: احتضان المقاومة..

الورقة الخامسة: تأكيد مقومات الهوية العربية، خاصة لدى النشء..

وسوف أفرد لكل منها مقالا مستقلاً، فيما يلي.

* * *


أوراق العرب الباقية

(1) توحيد الموقف السياسي

[---]

لابد أن نقرر في البداية احترامنا الكامل لخصوصية كل دولة عربية، وسيادتها المستقلة على أراضيها. هذا مبدأ لا يمكن المساس به، ولا التفريط فيه. لذلك عندما نتحدث عن موقف عربي موحد من الناحية السياسية فإننا نقصد اتخاذ كل دولة على حدة قرارها الخاص بها، والذي يهدف في النهاية إلى تحقيق المصلحة المشتركة للأمة العربية كلها، لكي تخرج من مشكلتها المزمنة مع إسرائيل. صحيح أن جامعة الدول العربية تمثل المظلة التي يجتمع تحتها وراء الخارجية العرب، وهم الممثلون لإرادتها السياسية، كما تشرف أحيانا على مؤتمرات القمة التي يحضرها الملوك والرؤساء والأمراء العرب، لكن هناك أيضا خلافات واختلافات مازالت قائمة، وهي بالتأكيد تحول دون بلورة توجه استراتيجي لحل القضية الفلسطينية. ولا شك أن السياسة تمثل إحدى طرق الحل، بل إنها الطريق الأسرع الذي يؤدي إليه.

وفي تصوري أنه لا توجد خلافات بين الدول العربية في ضرورة اتخاذ موقف سياسي موحد من القضية الفلسطينية، لكن الاختلاف يبرز على مستويين، الأول هو واقع العلاقة مع إسرائيل، فبعض الدول العربية عقدت معاهدات سلام معها (مصر والأردن)، وبعضها الآخر ينتظر عقد مثل هذه المعاهدات! لكن هناك دولاً عربية مازالت أراضيها محتلة من إسرائيل، وهي التي تعلو فيها نبرة الصراع المسلح على التحرك السياسي. أما المستوى الثاني فهو كيفية التعامل السياسي مع الأطراف المساندة لإسرائيل، وخاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي. وعلى العرب أن يتعاملوا مع هذه الأطراف، كل حسب درجة العلاقة به، وحسب ما يقبل سماعه منهم، أو تحقيقه لهم.

وهكذا نجد أنفسنا أمام واقع صعب ومعقد، وهو يحتاج إلى ترتيب أولوياته، وتصنيف ملفاته، ثم التحرك الواعي لمعالجة جزئياته التي قد لا تقل أهمية عن كلياته، لكن ذلك كله لا ينبغي أن يبعدنا عن تحديد الهدف الأساسي الذي ينبغي بلورته في كلمات محدودة، وعبارات غير قابلة للتأويل.

وأولى حقائق الواقع العربي أن بعض الدول العربية، وبالتحديد مصر والأردن، قد عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وكان المتوقع أن تكون هذه الاتفاقيات دافعا لإسرائيل لكي تمد يدها بالسلام، وتستجيب لمطالب الشعب الفلسطيني التي قررتها الأمم المتحدة، لكن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن.

ثانيا: أن كلا من الشعب المصري والأردني لم يرحب تماما (بل أبدا) بالصلح مع إسرائيل في ظل استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتنكيلها المستمر بالشعب الفلسطيني، ولذلك فشلت مع هذه الشعوب كل وسائل التطبيع التي كان منصوصا عليها في الاتفاقيات المكتوبة.

ثالثا: أن القانون الدولي يسمح للدول الموقعة على اتفاقيات أن تقوم بعد فترة زمنية معينة بتعديلها أو حتى إلغائها، وخاصة عندما لا تحقق هذه الاتفاقيات الأغراض الموضوعة لها. وهذا ينطبق تماما على الاتفاقيات العربية- الإسرائيلية السابقة.

رابعا: أن توحيد الموقف السياسي العربي لا يعني بالضرورة الذهاب للطريق المضاد لاتفاقيات السلام مع إسرائيل، وإنما الغرض منه إثبات أن العرب جميعا لهم مطلب محدد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في إطار الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي ينبغي أن يلتزم بها الجميع.

خامسا: أن الضغط الشعبي على امتداد الوطن العرب كله لابد من الاستجابة له في تحرك سياسي فاعل، بدلاً من حدوث انفجارات هنا أو هناك قد تمتد شراراتها إلى خارج الوطن العربي نفسه!

وهكذا على أساس هذه الحقائق الموجودة على الأرض، يمكن بلورة الهدف السياسي العربي فيما يلي (مطالبة إسرائيل بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967). وهذا الهدف الكبير ينبغي أن يكون هو المحور الذي تدور حوله السياسة العربية الموحدة، دون الانسياق إلى الدهاليز التي تحاول إسرائيل حاليا جرجرة العرب إليها، ومنها المستوطنات، وحق العودة، وفتح المعابر، وتهويد القدس، وإلغاء الحروف العربية من يافطات المرور.. بالإضافة طبعا إلى إقامة الدولة الفلسطينية الشكلية، التي يستحيل وجودها تحت وطأة الاحتلال بكل بشاعاته!

وبالطبع لابد أن تعلن السياسة العربية لإسرائيل وللعالم كله مجموعة من المزايا المترتبة على تحقيق إنهاء الاحتلال، وهي إمكانية الاعتراف بدولة إسرائيل، وفتح آفاق التطبيع الاقتصادي والثقافي معها، بالإضافة إلى عقد اتفاقية عربية- إسرائيلية تقضي بمنع الاعتداء أو التحريض عليه.

أما الوسائل السياسية فينبغي أن تأتي في مقدمتها: تعيين منسق عام على غرار منسق الاتحاد الأوربي، يكون هادئ الطبع، ولا يعلن موقفا إلا بعد اتفاق جميع الدول العربية عليه! ويبقى بعد ذلك أن تقوم كل دولة عربية بتحمل مسئوليتها السياسية من عرض الموضوع وطرحه على كل القوى الكبرى في العالم، وكذلك في المنتديات الدولية لتأكيد القرارات التي سبق أن أصدرتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو استصدار قرارات أخرى جديدة..

* * *


أوراق العرب الباقية

(2) التحالفات العربية- الإقليمية

[---]

يدور هذا المقال حول الورقة الثانية لدى العرب، وهي المتعلقة بالتحالفات العربية - الإقليمية والمقصود الأساسي من هذه التحالفات ترسيخ الموقف العربي، وتوسع دائرته في المنطقة المحيطة به، والتي يمكن أن تشكل طوقا للضغط على إسرائيل، وزيادة مساحة العزلة حولها. وليس من المعقول أبدا أن يقتصر الصراع في المشكلة الفلسطينية على الشد والجذب بين مجموعة الدول العربية، وهي حاليا ضعيفة، وبين إسرائيل، وهي مدعومة من القوى الكبرى العالمية، سواء من أمريكا أو من الاتحاد الأوربي.

إن توسيع دائرة الدعم للموقف العربي ينبغي أن تضم الدول المجاورة في الإقليم، وأهمها تركيا وإيران، ثم أفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى مجموعة الدول الإسلامية التي خرجت مؤخرا من قبضة الاتحاد السوفيتي، وهذا بالطبع إلى جانب مجموعة الدول الإفريقية، ذات المواقف المشرفة، التي ساندت وما تزال الحقوق الفلسطينية والعربية.

ولعلنا ندرك أهمية هذه الدول الإقليمية، أي المجاورة أو المحيطة بالدول العربية، حين نتابع حركة إسرائيل الواضحة والمستترة أحيانا لمحاولة انتزاع هذه الدول من تأييدها المطلق لحق الشعب الفلسطيني، وقيامها بالتسلل إليها عبر المساعدات الاقتصادية والعسكرية، وأحيانا التنموية بغرض تفتيت هذا البعد الإقليمي، وكسر الطوق الأوسع حولها.

وهكذا فإن اتجاه العرب نحو إعادة تقوية أو ترميم العلاقات مع سائر الدول الإقليمية يمكنه أن يمثل ورقة ضغط قوية على إسرائيل، وكذلك على حلفائها الأقوياء، الذين يهمهم في المقام الأول عدم مجابهة العرب، وهم محاطون بإجماع إقليمي يؤيد حقهم في القضية، ويتعاطف معهم عند حدوث أزمة لهم، بل وقد يتخذ من المواقف السياسية والاقتصادية ما يعكر صفو المياه على هذه الدول القوية نفسها.

إن العمل على هذه الجبهة ينبغي أن يضعه العرب على قائمة أولوياتهم في المجالات السياسية والدبلوماسية، وأن يكون غير بعيد عن توجهاتهم الاقتصادية والاستثمارية. فمهما كانت التحالفات طبيعية وتاريخية، إلا أنها تحتاج دائما إلى روابط اقتصادية وثقافية تعمل على دعمها باستمرار. ولا شك أن العالم العربي بدوله وشعوبه المتنوعة يمتلك الكثير الذي يمكنه أن يقدمه في هذا المجال الواعد بإمكانيات كبرى.

ويهمني هنا التأكيد على أن العلاقات الثقافية بين العرب، ومحيطها الإقليمي لا يقل أهمية عن الجانب الاقتصادي والاستثماري. ومن المؤسف أننا نهمل دائما هذا الجانب، ونكتفي بالتركيز فقط على الجانبين السياسي والاقتصادي، مع أنه من أهم العوامل التي تربط بين الشعوب، وتدفعها إلى التعاطف مع بعضها، بل وتدفعها أيضا للضغط على حكوماتها لكي تتخذ المواقف اللازمة عند حدوث الأزمات.

لكن كيف يمكن تحقيق هذه التحالفات العربية- الإقليمية؟ أولاً: بإزالة أسباب الخلاف وبؤر النزاع مع هذه الدول من خلال الدخول في مصالحات مباشرة، أو من خلال وساطات دول عربية ذات علاقة طيبة مع هذه الدول. وهو أمر ليس صعب التحقيق. وثانيا: معاهدات سياسية واقتصادية وثقافية مع هذه الدول، والعمل الجاد على تفعيل هذه المعاهدات حتى لا تصبح حبرا على ورق. وأخيرا: مناقشة هذه الدول في تنفيذ المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل طالما ظلت مصرة على ابتلاع حقوق الشعب الفلسطيني، وعدم الاستجابة لاتفاقية سلام شاملة وعادلة.

* * *


أوراق العرب الباقية

(3) الضغط الاقتصادي

[---]

لا شك أن العرب يمثلون في مجموعهم قوة اقتصادية كبيرة، ويرجع ذلك لسببين أولهما: وجود مصادر النفط والغاز بكميات هائلة في أراضيهم، والثاني امتلاكهم لرؤوس أموال ضخمة، فإذا أضيف إلى هذا وذاك أنهم يمتلكون سوقا كبرى تتميز بقدرتها الاستهلاكية النشطة وموقعها المتوسط بين الشرق والغرب أمكن أن نتصور مدى ما يتمتع به العرب من ميزات لا يستهان بها في الاقتصاد العالمي. لكن إذا كانت هذه هي نقاط القوة في الاقتصاد العربي، فإن به أيضا نقاط ضعف، أهمها تدني مستوى التجارة البينية في داخل الوطن العربي نفسه، وترك رؤوس الأموال العربية تحرك وتنشط اقتصاد الدول الأجنبية، وعدم انشاء وتشغيل مشروعات استثمارية داخل البلاد العربية أو في المنطقة المحيطة بها. ومن الواضح أن كل دولة عربية تعمل منفردة، دون أن تحاول التجمع مع زميلاتها في كيان اقتصادي أكبر على غرار ما فعل الاتحاد الأوربي، أو مجموعة دول الآسيان.

وهكذا إذا وقفنا على مواطن القوة والضعف في الاقتصاد العربي استطعنا أن نبدأ التحرك لكي نسد فجوات الخلل الموجودة فيه، وأن نعمل على توجيهه لمصلحة الأمة العربية كلها، ولصالح القضية الفلسطينية نفسها. ولست أذهب هنا على الإطلاق إلى إعلان الحرب بالاقتصاد، فهذا ما لا يمكن تصوره، نظرا لخطورته على العرب أنفسهم، وإنما المطلوب هو اللعب جيدا بورقة الاقتصاد العربي من أجل الحصول على مكاسب مباشرة لقضيتهم العادلة.

وتعالوا معي نستحضر حجم التجارة العربية- الأوروبية الذي يبلغ 40 مليار يورو، وهي بالطبع تسير في اتجاه واحد باستثناء توريد النفط والغاز، والسؤال هنا: ما الذي يمكنه أن يحدث من التلويح، مجرد التلويح، بإنقاص كمية الصادرات الأوربية إلى العالم العربي؟! وهل يمكن مناشدة الشركات الكبرى التي نتعامل معها في الضغط على حكوماتها- وهذا ممكن جدا- لكي تعدل من مواقفها المنحازة على طول الخط لإسرائيل. وحتى على المستوى السياسي والدبلوماسي يمكن للمفاوض العربي أن يجلس على مائدة المفاوضات وهو أكثر ثقة واطمئنانا على ما يملكه بالفعل من أوراق ضغط.

ويمكن هنا أيضا أن نطرح السؤال التالي: كم حجم المكاسب التي تجنيها بلد كبرى مثل الصين، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، من تجارتها التصديرية للعالم العربي؟ وبالتالي: ما هي المواقف الإيجابية التي اتخذتها الصين مع قضايا الأمة العربية، وبصفة خاصة، مع القضية الفلسطينية، التي تؤرق العالم كله؟!

ومن ناحية أخرى، فإن دول أمريكا اللاتينية، التي عانت طويلا من الاستعمار والهيمنة الأجنبية، تبدي تعاطفا واضحا مع القضايا العربية، وخاصة في المحافل الدولية، فما هي المكافأة الاقتصادية التي قدمها لها العرب، من خلال بعض الاستثمارات التي تزيد من هذا التعاطف وتؤكده؟!

أما الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، التي تحوز نصيب الأسد من رأس المال العربي، الذي يوضع في بنوكها ومؤسساتها الصناعية والتجارية، ويقوم بالتالي بدور حيوي في انعاش الاقتصاد بها، فإن الضغط عليها من هذا الجانب هو الذي يجعلها أكثر قابلية لتغيير مواقفها الداعمة لإسرائيل.

إن الاقتصاد- كما نعلم- هو عصب الحياة، وهو أقوى علاقة تقرب أو تباعد بين الدول. ولابد على البلاد العربية أن تدرك جيدا قيمة قدراتها الاقتصادية الهائلة حتى تستطيع أن توجهها التوجيه الصحيح، الذي يساهم في تحقيق أهدافها القومية، وفي مقدمتها الهدف السياسي المتعلق مباشرة بقضية فلسطين. ولعلني في غنى عن الإشارة إلى العلاقات المتميزة جدا بين بعض البلاد العربية وبين الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة على المستوى الاقتصادي البحت، والتي يمكن استغلالها لتحريك موقفها السياسي من القضية الفلسطينية.

* * *


أوراق العرب الباقية

(4) احتضان المقاومة

[---]

هناك أمور متلازمة في الحياة، لا يعقل بل لا يمكن انفصالها عن بعضها، وذلك مثل البنوة التي تستلزم وجود الأبوة، والزرع الذي يتطلب توافر الماء، والاحتلال الذي يوجب ظهور المقاومة. وإذا كان الاحتلال عملا غير مشروع في القانون الدولي، وفي سائر الأعراف الإنسانية والأخلاقية، فإن مقاومته تظل حقا مشروعا بل واجبا مقدسا على الشعب الذي يتعرض له. ومن واجب الأسرة الدولية والجيران المحيطين به أن يدعموه ويساعدوه حتى يتخلص من الاحتلال، الذي هو في الواقع نوع من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.

في أثناء الحرب العالمية الثانية، ساندت بريطانيا المقاومة الفرنسية ضد الغزو الألماني لها، وساعدت الولايات المتحدة الأمريكية المقاومة الأفغانية للتخلص من الوجود السوفيتي بها، وسبق أن ساند الاتحاد السوفيتي نفسه فيتنام للتحرر من الاحتلال الأمريكي لها. أما أمريكا نفسها فقد عانت ويلات الاحتلال المتعدد الأطراف، فقد احتلتها بريطانيا وفرنسا وأسبانيا، وحتى هولندا، واستطاعت المقاومة فيها أن تتخلص من هؤلاء جميعا، ولم يقل أحد إن المقاومة حرام، أو إنها تستهدف المدنيين، أوإنها نوع من الإرهاب، فلماذا ترفع هذه اللافتات المضللة اليوم في وجه المقاومة الفلسطينية التي تعلن للعالم كله أنها تهدف إلى تحرير أرضها وشعبها من ويلات الاحتلال الإسرائيلي، المستمر في عسفه وجبروته منذ ستين عاما؟!

وهكذا لن يستطيع أحد مهما كان مركزه ومهما بلغت قوته وسطوته أن يمنع المقاومة من الظهور والاستمرار، كذلك فإن قرارات مجلس الأمن المنحازة مهما لفت ودارت وحاولت إدانة المقاومة الفلسطينية فإنها لا تستطيع انتزاع حقها المشروع في العمل على الأرض، وتأريق طمأنينة إسرائيل حتى تقرر إنهاء احتلالها!

تلك هي الحقيقة الإنسانية، والتاريخية، وحتى المستقبلية. وبالتالي فإن من حق الشعب الفلسطيني أن يحظى بالدعم السياسي الكامل لمقاومته، وأن يحظى في نفس الوقت بالدعم المادي واللوجستي من جيرانه أولا، ثم من سائر بلاد العالم الحر لكي يجعل من تلك المقاومة أهم العوامل في حصوله على حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال.

والسؤال الآن الذي ينبغي طرحه: لماذا تقف الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الغربية المنضوبة جميعها تحت مظلة الاتحاد الأوروبي في وجه المقاومة الفلسطينية بهذا الشكل الصارخ، وتحاسبها على أساس المعايير المزدوجة؟ هنا سر لابد من الكشف عنه. وهو أن يهود أوربا الغريبة والشرقية كانوا يمثلون صداعا مزمنا في البلاد التي يعيشون فيها، فلهم عاداتهم الخاصة بهم، ولهم أسلوبهم في التعامل المادي القائم أساسا على الربا الفاحش، ولهم ترابطهم الديني الذي يعلو على الارتباط بالأوطان التي يوجدون بها، لذلك عندما بدأ اليهود يتحركون لإنشاء وطن قوي لهم، واختاروا فلسطين، رحبت الدول الأوروبية كلها، وبكل سعادة، بهذا الاتجاه للتخلص من هذه الطائفة المستعصية على الاندماج والتأقلم في الحياة الغربية، وبالطبع لم يهم الغرب حينئذ أن تؤخذ قطعة أرض من قلب العالم العربي، بل إنها وجدتها فرصة لتقسيم هذا العالم، الذي من المحتمل أن يصبح ذات يوم بفضل وحدته قوة لا يستهان بها إلى جانب أوربا، وقد حدث ذلك بالفعل في فترات معينة من التاريخ القديم والحديث.

هذا هو السر الذي ظل لفترة طويلة خافيا عن الكثيرين وراء الدعم اللامحدود من أوربا ثم أمريكا لإسرائيل. فهم يضربون بها عصفورين بحجر واحد: التخلص من اليهود في بلادهم، وتقسيم الوطن العربي الواحد إلى قسمين لا يتقاربان! وهكذا فإن المؤامرة أكبر من العرب وإسرائيل، وهي مثل شبكة عنكبوت عملاق التفت حول المنطقة كلها، وراحت تسد كل المنافذ للتخلص منها.

ومع ذلك، وعلى الرغم منه، ففي مثل هذه الحالة الشاذة، وتلك الظروف غير المواتية على الإطلاق لنشوب حروب نظامية بين العرب وإسرائيل، تصبح المقاومة الشعبية للاحتلال حقا مشروعا، بل هي واجب وطني وديني وأخلاقي.

ومن الغريب أن هناك أصواتا تدعو المقاومة إلى الهدوء والتعقل. كيف؟ والأرض محتلة، والجدار متوغل، والمعابر مسدودة، والمداهمات يومية، والمعتقلون بالآلاف في سجون المحتل، والمستوطنات في توسع مجنون، ورفض حق عودة اللاجئين يجري التأكيد عليه يوميا.. ثم عمليات تهويد القدس لمحو الهوية العربية، الإسلامية والمسيحية، منها متواصلة بدون حياء؟!

كيف تسكت المقاومة الفلسطينية تحت هذا العسف الذي يشاهده العالم كله ولا يتحرك؟ وكيف تقبل الدول العربية بالإمساك عن دعم المقاومة على ظن أو وهم انتصار خيار السلام؟ وكيف لا يطهر الشعب الفلسطيني نفسه من المتآمرين عليه، والمستفيدين من الكفاح اللفظي باسمه؟ وكيف لا تختصر أجنحة المقاومة الفلسطينية في جناحين رئيسيين، أحدهما مسلح على الأرض، والآخر مفاوض على المائدة (هذا إذا كانت هناك مائدة أصلا؟!).

والخلاصة أن إسرائيل لن تتخلي عن شبر من الأرض العربية المحتلة بدون إجبارها على ذلك، ولن يتم ذلك من خلال المفاوضات وحدها، بل لابد من إزعاجها بالمقاومة المسلحة والمشروعة، والمدعومة أخيرا من العرب حولها، ومن المسلمين في سائر أنحاء العالم.

* * *


أوراق العرب الباقية

(5) تأكيد مقومات الهوية العربية

[---]

من أهم الأوراق المتاحة أمام العرب حاليا وفي المستقبل القريب محاولة تأكيد الهوية العربية في مجتمعاتها، وذلك من خلال ثلاثة عناصر أساسية هي اللغة، والتاريخ، والدين. لكن أهم ما ينبغي التنبيه إليه هنا هو عدم التقوقع على الذات، بل لابد من الانفتاح في نفس الوقت على ثقافات العالم المعاصر، والتزود من المعرفة الإنسانية الحديثة بدون حدود.

ولكي نسترجع تجربة الماضي القريب لكي نستفيد من إيجابياتها وسلبياتها فيكفي أن نستحضر حركة القومية العربية التي شاعت في المنطقة العربية كلها خلال عهد عبد الناصر (54- 1970)، والتي نتج عنها عمل مبشر استمر ثلاث سنوات فقط هو الوحدة بين مصر وسوريا، فما الذي أجهض هذه الحركة، وجعلها تكاد تختفي تماما حتى من أقلام المفكرين والسياسيين؟ عدة أمور أولها أنها ارتبطت بالتوجه الاشتراكي الذي كانت ترفضه العديد من الدول العربية ذات الأنظمة الرأسمالية. وثانيا أنها راحت تتحدث إعلاميا عن الجذور المشتركة للعرب، والمصير المشترك دون أن تعمل جديا لتفعيل عناصرهما التي أشرت إليها وهي اللغة العربية، والدين الإسلامي والمسيحي، ثم الوعي بالتاريخ العربي للانطلاق منه نحو المستقبل.

وبالطبع كان فعل الوحدة بين مصر وسوريا، الذي حدث بسرعة خاطفة ودون مقومات تحافظ على استمراره، جرس إنذار للغرب لكي يتحرك من أجل إيقاف هذا التقارب أو الاندماج بين البلاد العربية، وهذا أحد أهم أهدافه الاستراتيجية، فليس من المطلوب أبدا أن يقوم كيان عربي موحد إلى جوار أوربا مباشرة بحيث يهدد مصالحها، ويفسد عليها حركتها الاقتصادية، وهيمنتها العسكرية والسياسية.

وهكذا تكالبت الأخطاء الداخلية في حركة القومية العربية مع المؤامرة من الخارج لكي تجهض هذا المشروع الحالم، والذي كان أهم ما فيه أنه أعاد الروح إلى الأمة العربية، وجعل أبناءها يشعرون أنهم متقاربون، ومن الممكن أن يكونوا متحدين!

لكننا الآن وقد تخلينا طوعا أو كرها عن فكرة القومية العربية بمعناها السياسي، فما علينا إلا أن نعمل على إحياء جذورها اللغوية والدينية والتاريخية التي تمهد الأرض لتقارب ثقافي، وتعاون اقتصادي مع عدم إغفال الجانب الاجتماعي الذي يتمثل في الزواج المتبادل بين البلاد العربية المختلفة.

إن هذا العمل- في تصوري- هو الذي يمكن أن يمثل حائط الصد القوي ضد كل محاولات الغرب في تمزيق نسيج الوحدة بين الشعوب العربية وبلادها، والتسرب إلى ذلك من خلال التدخل في برامج التعليم ومناهجه، وفي غزو القنوات الفضائية الناطقة بالعربية والتي تستهدف الشباب العربي لخلعهم من جذورهم الأصيلة، ثم في إشاعة الدعم اللامحدود لإسرائيل ومحاولة إثبات تفوقها الكاسح على كل الدول العربية مجتمعه حتى تظل حالة اليأس والإحباط، والاستسلام للأمر الواقع، ولما يفرضه الغرب من إملاءات!

إن العمل الذي يمارس ضد العرب يحتوي على الكثير من الذكاء والمكر، ولا شيء يمكن أن يفشل مخططاته سوى عمل على نفس المستوى. ومن العجيب أن العرب يبتلعون الطعم الذي يقدم لهم، ويندفعون أحيانا في تبني المقولات التي يطرحها لهم الغرب، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الدعوة إلى تنقية مناهج التعليم العربي من مواد التعصب، وصفحات المعارك العسكرية التي انتصر فيها العرب.. في نفس الوقت الذي تمتلئ فيه المناهج الدراسية سواء في الغرب أو لدى إسرائيل بآلاف الصفحات المقابلة لذلك عندهم!

ومثال آخر: عندما يشترط البنك الدولي لمساعدة التعليم في البلاد العربية أن تغير المناهج والمقررات بالصورة التي يرضى عنها، ويقول للعرب: إنما أفعل ذلك حتى يتمكن الخريج العربي من العمل في الاتحاد الأوروبي أو في أمريكا.. هذا في الوقت الذي ترتفع فيه ترسانة من التشريعات لطرد العرب من أوربا وأمريكا، وعدم إعطائهم الوظائف التي يستحقونها!

وأختم هنا بمثال من الرياضة. فالغرب يشجع العرب إلى إنشاء أندية كرة القدم التي تتنافس داخل كل بلد، ثم بينها وبين الفرق الأخرى من الدول العربية، وعندما يلتقي فريقان من دولتين يتهيأ المشجعون منهما لإشعال حرب طاحنة بينهما، ولم يفكر العرب حتى الآن في إنشاء منتخب عربي موحد يمكنه أن ينافس أي فريق أو منتخب أوربي؟

* * *

اللغة.. آخر حصون العرب

[الأهرام، 2007]

ما تزال اللغة العربية الفصحى (وليس اللهجات) من أهم الروابط التي توحد بين العرب في الأفكار والتطلعات والاتصال بماضيهم المجيد. ومن الواضح أن حالها على ألسنتهم بالذات لا تسر صديقا، أما مستواها على أقلامهم فمازال متماسكا. ولولا أن الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفزيون تستعين بمصححين محترفين يضبطون نطق الألفاظ وصحة الأساليب لخرجت الأمور عن السيطرة تماما. أما الذين يجيدون اللغة الفصحى حاليا فإنني أرثي لهم، لأنهم يحرصون على الأداء اللغوي الصحيح بينما لا يوجد حولهم من يعرف الصواب من الخطأ، وأخشى أن تنطبق عليهم في يوم من الأيام رواية نهر الجنون لتوفيق الحكيم! والأدهى من ذلك أن أولئك الذين يتطلب عملهم استخدام اللغة قد أصبحوا يتهاونون كثيرا في إتقانها، ومنهم المدرسون والقضاة والمحامون والمذيعون ونواب البرلمان بالإضافة إلى الموظفين الذين ينحصر عملهم في كتابة المذكرات والتقارير.

ومن العجيب أن هذا الحال المتردي لا يقتصر على بلد عربي واحد، وإنما يعم البلاد العربية كلها وبدون استثناء. فما هي العوامل التي أدت إلى ذلك؟ وكيف يمكن إصلاح الأوضاع؟ هذان هما السؤالان الكبيران اللذان يستحقان إجابة واضحة ومحددة. ولا شك أنهما مرتبطان أحدهما بالآخر ارتباط السبب بالنتيجة. وبالنسبة إلى السؤال الأول يمكن القول بأن تدهور اللغة الفصحى إنما يرجع إلى عدة مئات من السنين، وبالتحديد منذ صارت مقاليد الحكم في بلاد العرب بأيدي الأجانب، سواء كانوا من المماليك أو الأتراك، أو البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين. وفي تلك المرحلة الزمنية الطويلة لم تسقط اللغة العربية وحدها وإنما سقط الفكر العربي نفسه. ومن الحقائق المؤكدة أن كلا من الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة، أو هما مثل السوائل في الأواني المستطرقة: يصعدان معا ويهبطان معا. لذلك فإن النهضة الفكرية التي شهدها العرب في مطلع القرن العشرين قد صحبتها بالضرورة صحوة لغوية واضحة، وبرز على الفور عدد من المفكرين والكتاب الذين أعادوا للغة العربية رونقها وقوتها معا من أمثال أحمد لطفي السيد والعقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل والرافعي والزيات والمنفلوطي. وفي نفس الوقت قام الزعماء السياسيون بإلهاب المشاعر الوطنية بواسطة لغة قوية من أمثال عبد الله النديم، ومصطفي كامل، وسعد زغلول ومكرم عبيد وحتى الشعر نفسه راح ينتعش على أيدي البارودي ثم أحمد شوقي وحافظ والعديد من شعراء مصر وسائر البلاد العربية.

وهناك عاملان جديدان لابد من الإشارة إلى دورهما في اعتدال حال اللغة العربية الفصحى، وهما انتشار التعليم، وشيوع الصحافة، أما التعليم فقد راح يؤكد في أذهان التلاميذ قواعد الصحة اللغوية، ويميز لهم الصواب من الخطأ. وأما الصحافة فقد قامت بدور هام للغاية في تحرير الأسلوب العربي من المحسنات البلاغية المرهقة، ومنها السجع البغيض، ويعمم بدلا من ذلك لغة سهلة مباشرة، تصف الأحداث، وتحلل المواقف، وتصل للقارئ من أقرب الطرق. لكن الحال لم يستمر على ذلك طويلا، فما لبثت الأخطاء أن كثرت، والتفكير بالعامية زاد، والتفاخر باستخدام الألفاظ الأجنبية قد أصبح ظاهرة سيئة ومرضيا عنها (مثل استخدام كلمة سوسيولوجي بدلاً من اجتماعي !!).

أما بالنسبة لإجابة السؤال الثاني: كيف يمكن إصلاح الأوضاع؟ فسوف أكتفي هنا بذكر منظومة من خمس أدوات، لابد من توافرها لتعليم اللغة العربية الفصحى على أساس سليم. ومن الغريب أن شيئا منها لم يتحقق حتى الآن، على الرغم من وجود مدارس ومراكز ومجامع للغة العربية في سائر أنحاء الوطن العربي كله. أولي هذه الأدوات هو قاموس عصري لمفردات اللغة العربية، يكون على غرار أي قاموس إنجليزي أو فرنسي أو ألماني أو روسي أو صيني.. ثانيا: قاموس لأفعال اللغة العربية: تصريفها وإسنادها للضمائر. ثالثا: قاموس لأدوات اللغة العربية، وهي التي تربط بين الأسماء والأفعال وتتغير المعاني أحيانا باستعمالاتها المختلفة. رابعا: كتاب مبسط يتضمن  قواعد اللغة العربية، ويمكن أن يستوعبه أي قارئ بدون معلم. وأخيرا كتاب أو عدة كتب لمختارات من نصوص اللغة العربية، تتيح الفرصة لتطبيق القواعد عليها، والتعرف على مختلف أساليب الكتاب العرب المتميزين. تلك هي منظومة الأدوات الخمسة الغائبة. فهل من يسمع؟ وهل من يحاول أن يتقدم للإصلاح؟!

* * *


مأساة القواميس العربية

[الأهرام، 2007]

الأصل في القاموس أنك إذا فتحته وجدت فيه ما تريد أن تعرفه. لكن القواميس العربية الحديثة وبدون استثناء حين تفتحها تجد فيها ما لا تريد. ولا تعثر على ما تريد. لماذا؟ لأن الذين قاموا على صنعها نقلوها بالكامل أو نقلوا معظم مادتها اللغوية من القواميس القديمة. ومن المعروف أن القاموس يعتبر مجمعا لغويا لمرحلة معينة من تطور اللغة. والحق يقال إن أجدادنا العرب كانوا متميزين للغاية في وضع القواميس التي كانت تلبي حاجة المجتمعات في عصرهم، ثم حدث أن تطور اللغة قد تجاوز القواميس التي وضعوها، وعندما وصلت إلينا كانت مليئة بكلمات، بعضها حي، وبعضها انتهي استعماله، ومع ذلك قمنا بوضع هذا وذاك في قواميس مصغرة، مثل (مختار الصحاح) الذي تم اختصاره من معجم الصحاح للجوهري (المتوفى سنة 393 ﻫ) وحتى عندما قام بعض السادة العلماء بوضع قواميس جديدة مثل (الوجيز) و (الوسيط) وهما من أعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد ظل الخطأ مستمرا، وهو نقل مواد القاموس، وكذلك معاني تلك المواد من القواميس القديمة دون أي تدخل في كثير من الأحيان، وهو الأمر الذي انتهي بتلك القواميس (الحديثة) إلى أن تكون نسخة مكررة أو طبق الأصل أحيانا من القواميس القديمة. وسوف أتوقف لأضرب بعض الأمثلة من قاموس (الوجيز) فمثلاً تجد فيه (أحمض المكان: كثر فيه الحمض، وأحمض القوم: أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام) وبالطبع هذه ألفاظ ومعان بطل استعمالها، أو بتعبير آخر: ماتت من اللغة، ولا شك أن غيرها قد حل محلها، ولا مانع بالطبع من وضعها في قاموس تاريخي لمن يريد البحث عنها كحفريات قديمة، أما أن توضع في قاموس للاستعمال الحديث والعصري فهذا ما لا يعقل أو يليق. ومثال آخر (ثجر التمر أي خلطه بتفل البسر، وثجر الشيء أي غلظ وعرض، والثجرة وسط الشيء. والثجير تفل كل شيء يعصر كالعنب وغيره) وبالطبع هذه كلمات ومعان رفعت كلها من الاستعمال الحديث والعصري، ولم يكن من اللازم أبدا وضعها في قاموس، المفروض أنه مختصر، تستخدمه الأجيال في الوقت الحاضر.

ولا شك أن المشكلة هنا أو المأساة هو أننا لم نستطع حتى الآن أن نقيم فاصلاً بين اللغة العربية القديمة التي توقف استعمالها، وبين اللغة العربية الحديثة المستعملة حاليا. وليس معني إقامة هذا الفاصل أن نمحو اللغة القديمة تماما وإنما أن نرجع إليها فقط عندما تكون متصلة باللغة الحديثة، وتساعد على فهمها.

والواقع أن عددا كبيرا جدا من مفردات اللغة العربية القديمة ومعانيها مرتبط بالبيئة البدوية التي نشأت فيها، ولا شك أنه يختلف كثيرا عن الألفاظ والمعاني التي تدور في المجتمعات العربية الحضرية والحديثة. وتلك حقيقة مازال يخشى علماء اللغة مواجهتها بالصراحة والشجاعة اللازمتين. فمثلا عندما يقول إنسان تربي وعاش في المدينة (هنا مربط الفرس) فإنه يستخدم عبارة بدوية كاملة الدلالة في بيئتها التي نشأت فيها، ولكنها لا تعني له أكثر من كليشيه مصكوك، تلقاه من غيره دون أن يشارك في صنعه. وكذلك عندما يقول (نار على علم) أي على جبل، فإن هذه العبارة صحراوية قديمة لا علاقة لها على الإطلاق بإنسان المدينة!

والخلاصة أننا إذا أردنا أن نضع قواميس عصرية لابد من أن نعيد جمع اللغة التي يتكلمها الناس بالفعل، ويكتبها المفكرون والأدباء والعلماء والإعلاميون، وأن نحدد مداخلها اللغوية، ونبلور معانيها التوضيحية، وأن نكثر من الأمثلة النموذجية، ونضع الصور الفوتوغرافية التي تقرب ما لا ندركه بسهولة، ونستبعد الصور التي لا داعي لها (مثلما يحدث حاليا عندما يترك القاموس صور الحيوانات الغريبة، ويضع لنا صورة تمساح أو أرنب) !!

* * *


ابن رشد الحقيقي

[الأهرام، 2008]

ما زال ابن رشد، الفيلسوف العربي الكبير، يمثل نقطة ضوء ساطعة في سماء الفكر العربي والثقافة الإسلامية. والواقع أنه يشبه إلى حد بعيد الماسة ذات الوجوه المتعددة، من أي وجه نظرت إليها قابلتك بشعاع ينبعث منها. وإليك الدليل على ما أقول. فقد كان ابن رشد (أولاً) أفضل شارح ومختصر لفلسفة أرسطو في العالم العربي. وعندما تلقفت أوربا أعماله في هذا المجال قامت بترجمتها على الفور إلى اللغة اللاتينية، ومنها انتشرت في كل اللغات الأوربية المعروفة حاليا، وكان هذا أحد مقومات عصر النهضة الذي أخرج أوربا من مرحلة العصور الوسطي إلى فجر العصر الحديث الذي تنعم به حاليا. وكان ابن رشد (ثانيا) أحد أهم المدافعين عن الفلسفة باعتبارها بحثا عقليا في مواجهة التيار الصوفي الذي كان يقلل من شأن العقل، مع أنه أغلي نعم الله المهداة إلى الإنسان. وفي هذا الصدد قام ابن رشد بتأليف كتاب (تهافت التهافت) ردا على الغزالي الذي هاجم الفلسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة). (ثالثا) كان ابن رشد أهم فيلسوف وقف في مواجهة المتكلمين، الذين حجبوا العقيدة الإسلامية البسيطة السمحاء، وأقاموا حولها شبكة من التفاصيل والتلاعب بالألفاظ حتى فاجأهم ابن رشد بتفرقته الشهيرة بين عالم الغيب الذي لا يستطيع الإنسان أن يدرك أبعاده وتفاصيله وبين عالم الشهادة الذي يستطيع العقل والحواس أن تدركه بكل سهولة. (رابعا) كان ابن رشد هو الذي اقترح تصالحا رائعا بين الفلسفة والدين، أو بين الحكمة والشريعة، معلنا أن كلاً من الوحي الإلهي والعقل الإنساني منحة من الله تعالي، ولا يمكن بأي حال أن تتعارض منحتان آتيتان من واهب واحد. وبالتالي فإن الدين الحق لا يتعارض أبدا مع قوانين العقل الصحيحة. (خامسا) كان ابن رشد قاضيا، بل أصبح قاضي قضاة قرطبة، عاصمة الدولة الأندلسية، ومن هنا اهتم بالفقه الإسلامي ومذاهبه، وألف كتابه الشهير (بداية المجتهد) الذي أصبح مرجعا لا يستغني عنه أي باحث في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة المتداولة في العالم الإسلامي. (سادسا) كان ابن رشد طبيبا متميزا، اصطفاه الخليفة لكي يكون طبيبه الخاص بعد ابن طفيل. وقد ترك لتلاميذه في الطب مذكرات يستعينون بها على تشخيص الأمراض وعلاجها.

وهكذا من أين نظرت إلى ابن رشد وجدته يتألق، وفي أي مجال حاولت أن تختبر أفكاره وجدتها لامعة ومتطورة. لكن مأساة الرجل تمثلت في معاصريه، الذين غلبهم الحقد والحسد والكراهية فأوقعوا به، وما أسهل أن يوقع الأشرار بالإنسان الخير، كما أنه ما أيسر أو يوقع الأقزام بشخص عملاق. وقد كتب عنه أحد الدارسين الكبار كتابا سماه ابن رشد المفتري عليه. والواقع أن هذا الفيلسوف العربي الكبير قد تعرض للظلم من مختلف الجهات وحتى الآن.. فبعض مفكري أوربا سرقوا أفكاره ونسبوها إلى أنفسهم، وأهل قومه من العرب أهملوا فلسفته، وأهالوا عليها التراب عدة قرون، وفي مطلع العصر الحديث تناوله بعض المستشرقين فلم ينصفوه، وتبعهم بعض الدارسين العرب فساروا على دربهم، وأخيرا.. ظهر عنه مع الأسف فيلم سينمائي (ملبوس)، كان ينوي أن يقول فيه الكلمة الأخيرة لكنه لم ينجح في ذلك، مما يجعل الباب مفتوحا لإنتاج فيلم آخر، يتناول ابن رشد الحقيقي الذي لم يتصل على الإطلاق بدائرة الغجر!!

* * *


مصطلحات سياسية

بين الحياة والموت

[الوفد، 16/3/2009]

تتضمن لغة السياسة ما يسمى بالمصطلحات السياسية، وهي العبارات القصيرة التي يتم صكها لتعبر عن حادث سياسي معين أو أزمة سياسية محددة، أو اتجاه سياسي يراد تطبيقه أو الترويج له. ولأن السياسة دائما متغيرة، باعتبارها فن التعامل مع الواقع، والواقع دائما متغير، فإن المصطلحات السياسة تنشأ وتزدهر ثم تضعف وتموت.. وسوف أتوقف هنا عند بعض المصطلحات السياسية التي شغلتنا لفترة، ثم ما لبثت أن ذبلت وتساقطت مثل أوراق الخريف!

إن مصطلح «العالم الثالث» نشأ في سنة 1965، ليشار به إلى مجموعة الدول التي لا تدخل في دائرة الدول الرأسمالية، ولا تدخل أيضا دائرة الدول الاشتراكية.. ومن المعروف أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية 1945، قد انقسم بصورة حادة إلى معسكرين، قاد المعسكر الاشتراكي الشمولي الاتحاد السوفيتي، وقاد المعسكر الرأسمالي الديمقراطي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جرت حرب باردة بين المعسكرين، كادت أحيانا تتحول إلى حرب عالمية ثالثة بسبب أزمة الصواريخ الكوبية، ولذلك حاولت مجموعة من الدول أن تنأى بنفسها عن هذا الصراع بين الكبار، فأنشأت ما سمي بـ «مجموعة دول عدم الانحياز أو الحياد الإيجابي» أي الذي لا يقف في صف هذا المعسكر أو ذاك، وكان هذا حلما أو وهما! فإن الدول الصغيرة لا تستطيع مهما فعلت أن تسحب نفسها من تحت أقدام الفيلة المتصارعة، ولذلك ما لبثت تلك الدول نفسها أن وقعت في شباك أحد المعسكرين، واختفى مصطلح «الحياد الإيجابي» كما اختفى منذ القرن العشرين مصطلح «الدول النامية»، وذلك حين بدأت العديد من تلك الدول تتخطى حاجز التخلف وتلحق بالدول المتقدمة، كما حدث في دول جنوب وشرق آسيا، التي أطلق عليها مصطلح «النمور الآسيوية» والنمر كما نعلم حيوان مفترس، وهو شرس جدا، لكنه غاية في جمال المنظر!

وخلال حرب العراق، صدرت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزيرة خارجيتها مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» حاولت فيه أن تضم إلى البلاد العربية وإيران كلا من أفغانستان وباكستان، لكن المصطلح ولد ميتا ولم يعد أحد يشير إليه إلا في النادر، وأحيانا في مقام الهجوم أو التهكم!

ونفس الأمر حدث بالنسبة إلى مصطلح «الفوضى الخلاقة» الذي حاولت به أمريكا أن تعبر عن نظرية مؤادها إحداث اضطرابات وفوضى وقلاقل في البلاد العربية، والتي تتميز بالثبات والاستقرار منذ عهود طويلة، يتلوها خلق حالة أخرى جديدة، تختلف تماما عن وضعها الحالي بحيث تقام فيها الديمقراطية تبعا للطريقة الأمريكية وبذلك تكون مؤهلة للتعامل معها، وتسمح لها بالحياة في العالم المعاصر، لكن هذا المصطلح أيضا ما لبث أن اختفى كما ظهر، لأن الوضع الذي نتج عن حالة الفوضى في العراق لم يسفر عن أي نتيجة خلاقة، بل أدى إلى نتائج مدمرة!!

لكن المصطلح الذي وضعه الغرب، محاولاً أن يغير به اسم المنطقة العربية فهو «الشرق الأوسط»، وليس استخدامه من قبيل أن يعبر عن منطقة تقع بين شرقيين أحدهما أبعد والثاني أقرب بالنسبة للغرب، ولكنه وضع لكي يتضمن دولة إسرائيل، لأن استمرار إطلاق مصطلح «البلاد العربية» أو «المنطقة العربية» لا يشملها!. ولذلك فإن القائمين على السياسة الدولية حريصون كل الحرص على استخدام هذا المصطلح، وإشاعته وتكريسه حتى على ألسنتنا نحن!، وهذا من أعجب الأمور!!

إذن المصطلحات السياسية كما أنها تولد وتموت، فإن بعضها قد يكتب له الحياة لفترة أطول، وذلك بهدف تحقيق غرض معين، أو استمرار وضع سياسي خاص.

* * *


مناقشة فكرة ماكرة!!

[ لم ينشر من قبل ..]

سألني أحد الخبثاء قائلا: هل تعرف السر الحقيقي الذي يجعل البلاد العربية بدون استثناء لا تأخذ بأسباب التقدم والنهضة؟ فأجبته على الفور: ربما أنها لا تعرف جيدا هذه الأسباب، أو أنها تعرفها ولكنها لا تملك الوسائل التي تمكنها من ذلك.. فأسرع قائلا: كلا، إنها جميعا تعرف أسباب التقدم، وتملك وسائله، ولكنها تخشى من عقاب الغرب لها. سألت مندهشا: عقاب على التقدم! أقسم لي بأن الأمر كذلك، والدليل عليه أن كل محاولات أو ما نسميه مشاريع التقدم قد تم إجهاضها، والإطاحة بالرؤساء الذين حاولوا القيام بها!! ثم راح يضرب الأمثلة بمحاولة محمد علي، ثم محاولة إسماعيل، ثم محاولة عبد الناصر.. هذا في مصر وحدها. أما في السعودية فقد تم اغتيال الملك فيصل الذي لوح باستخدام النفط كسلاح في الحرب مع إسرائيل، كما تم إفشال مشروع التقدم في الجزائر على عهد بومدين، ولذلك فإن باقي الدول العربية قد وعت الدروس جيدا، فأمسكت عن مشروعات التقدم الحقيقي، وراحت تغازل الغرب بمشروعات شكلية ليس لها مردود فعلي في حركة التقدم والنهضة التي تطمح إليها شعوبهم، وبالطبع حظي هذا العمل الشكلي بالرضا والقبول، بل والمباركة والتشجيع من الغرب. فأصبح العالم العربي يمتلئ بالمباريات الرياضية، والحركات الفنية، وتقام فيه مهرجانات المسرح والسينما، وتدعو بعض بلاده إلى مسابقة ملكات الجمال، كما انتشرت فيه أماكن الترفية ووسائل اللهو والتسلية، أما المصانع فقد تخصص الكثير منها في إنتاج الشامبو والشيبسي، وتراجعت الأطعمة المحلية لتسود عليها المأكولات الأمريكية السريعة التجهيز، وسندوتشات الهامبورجر.. هذا في الوقت الذي مازالت فيه المدارس أقل من عدد التلاميذ، والجامعات مكتظة بأكثر من طاقتها من الطلاب، ومراكز البحوث العلمية متهالكة ومكررة ولا تقدم خدمة حقيقية للمجتمع، ولا حتى للبيئة التي توجد فيها. أما الزراعة فمعظمها لم يلحقها أي تطوير منذ آلاف السنين، وبعضها أصيب بالأمراض الناجمة عن استخدام المبيدات الضارة بالصحة، والمهددة للحياة البشرية!

قلت لصاحبي: يبدو أنك متحامل جدا، ولا تريد أن تنظر للأوضاع إلا من جانب واحد! فقال: أبداً وحياتك، وأنا أدعوك أن تقارن معي بين مجموعة البلاد العربية ومجموعة عدد مماثل لها في السكان والإمكانيات من دول جنوب وشرق آسيا، والتي استطاعت أن تنقذ نفسها من براثن التأثير الأوربي والأمريكي.. انظر إليها منذ خمسين سنة فقط، وإلى البلاد العربية التي كانت حينئذ متقدمة عليها، ماذا حدث للمجموعتين؟ ألم تنطلق تلك الدول الآسيوية انطلاقة كبرى في كل مجالات التنمية، بينما تراجعت الدول العربية عما كانت عليه سواء في مجال الخدمات أو الإنتاج؟ ألا تلاحظ أن سيارات كوريا تملأ شوارع مصر، وموتورات رفع المياه التايوانية توجد في معظم منازلنا لرفع مياه الشرب إلى الأدوار العليا؟ وإذا أردت المزيد فاذهب إلى أي بائع الكترونيات لتجد هناك معظم المنتجات من ماليزيا، واندونيسيا والصين؟!

قلت لصاحبي: لكن هذه فكرة ماكرة جدا، تلك التي تؤكد لي فيها أننا نمسك عن التقدم بأنفسنا، وليس لأسباب خارجة عن إرادتنا! فقال: هذه قناعتي التي أحاول أن أنقلها إليك، فإذا كان لديك ما ينقضها فأهلا وسهلا، وإن كان لديك أسباب أخرى غيرها فاذكرها لي، وأنا على استعداد تام لكي أغير فكرتي!

وافترقنا.. لكنني من يومها مازلت أبحث وأفتش عما يمسكنا عن الأخذ بأسباب التقدم الحقيقي، وكلما وجدت سببا وجيها أو معقولاً رأيته يتهاوى أمام تلك الفكرة الماكرة.. التي وضعها صاحبي في راسي، ومضى!

* * *


نظرية المؤامرة

[الأخبار، 15/9/2009]

المثقفون في العالم العربي منقسمون إلى قسمين غير متعادلين، أحدهما وهو الأغلبية الكاسحة يرى أن ما حدث ويحدث في مصائب ومعوقات في العالم العربي يرجع لأسباب داخلية وظروف محلية، وقد يكون هناك تأثير خارجي لكنه بسيط، والفريق الثاني وهو الأقلية التي لا تكاد تتجاوز الخمسة في المائة يرى أن كل مصائب العالم العربي قد تم التخطيط الدقيق لها في الغرب، ثم وضعت بعد ذلك موضع التنفيذ، إما بأيدي الغرب أيام الاستعمار، أو بأيدي بعض العرب أنفسهم بعد رحيله. هذه هي خلاصة نظرية المؤامرة، ومعنى النظرية أنها مجموعة أفكار متناسقة فيما بينها يمكنها أن تفسر ظاهرة معينة أو عدة ظواهر مترابطة، ومن الواضح أن الاقتناع بهذه النظرية أو رفضها يمثلان موقفين متمايزين في تقييم الأمور الحالية، والتقدم بعد ذلك لطرح رؤية واضحة للمستقبل..

ولمزيد من البيان، ينبغي أن نحدد أولا الظاهرة التي تدور حولها نظرية المؤامرة، فالعالم العربي تم احتلاله منذ قرنين تقريبا، وقد ظل يكافح الاحتلال ويقاومه حتى استطاع أن يتخلص منه مع بداية خمسينات القرن العشرين، وطوال هذه المدة حدثت الكثير من التطورات، وتمت بعض عمليات التحديث، وخرج العالم العربي من حياته التقليدية ذات الإيقاع البطيء، إلى آفاق العصر الحديث بحيويته وسرعته، لكنه لم يكن على الإطلاق عضوا فاعلاً فيه، ولا مشاركا أساسيا في حركة التقدم التي انتشرت في كل مجالات الحياة. صحيح أن بعض مظاهر التقدم والنهضة قد لحقت ببعض المجالات ولكنها ظلت محصورة ومتعثرة، ولم تمتد إلى كل المجالات وخاصة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة والبحث العلمي وتطوير وسائل الإنتاج وإنشاء حياة كريمة لا تقل عن مثيلاتها في دول العالم المتقدم. والسؤال الأول: ما الذي عاق ويعوق العالم العربي عن تحقيق مثل هذه النهضة؟ هل هو تكاسله وتقاعسه وعدم قدرته الذاتية- أم أن هناك طرفا أقوى منه مازال يعمل بكل قوة وذكاء لكي يمنعه من تحقيق تلك النهضة؟

وللإجابة عن هذا السؤال، يمكن أن نستعين ببعض إشارات فقط من تاريخ مصر الحديث، باعتبارها كانت وما تزال طليعة البلاد العربية كلها، فقد كادت النهضة المنشودة تحدث في عهد محمد علي (1805- 1848) لكن أوربا الغربية والشرقية معا اتفقت بلادها، التي كانت متخاصمة ومتعادية، لكي تجهض مشروع محمد علي، والذي يريد أن يتأكد من ذلك يراجع بنود معاهدة لندن (1840) التي تصرح بنوايا الغرب ضد نهضة إحدى أهم البلاد العربية في ذلك الوقت، ثم إذا انتقلنا سريعا إلى عهد جمال عبد الناصر (1954- 1970) الذي تميز هو أيضا بمحاولة تطبيق مشروع متكامل للنهضة، سوف نراه يضرب عسكريا (سنتي 1956، 1967) واقتصاديا بإغلاق كل منافذ التمويل الغربي على بلاده، وسياسيا من خلال حملة عالمية شعواء حاولت أن تظهره بمظهر الديكتاتور المتعطش للحرب، وإشعال الثورات في كل مكان!

ولعل الغرب لم يهدأ له بال إلا عندما دفع مصر لتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1977، وبعدها فتح لها باب المساعدات، ولكنها ظلت مساعدات هذيلة، وبشروط قاسية. فالبنك الدولي يمول التعليم لكن بشروط خاصة جدا، وصندوق النقد يوافق على بعض المعونات لكن بشرط إلغاء الدعم عن الطبقات الفقيرة، وأمريكا تشترط علنا في معاهدة الكويز ألا تقل نسبة المشاركة الإسرائيلية في الإنتاج عن 30% أما المشروعات الأساسية الكبرى، التي هي العمود الفقري للنهضة، مثل إنشاء شبكة مواصلات شاملة ومتطورة، وتشجيع الصناعات المصرية القادرة على المنافسة العالمية، والتطوير الجذري للزراعة لكي تتمشى مع مثيلاتها في الدول المتقدمة فلا يريد الغرب ولا يرغب في تقديم المساعدة لها، وذلك بهدف المحافظة على هذا الإيقاع البطيء في حركة التنمية، ولكي لا تنطلق مصر بكل طاقتها نحو النهضة التي تستحقها!

إن مصر هنا ليست سوى مثال واضح على تطبيق نظرية المؤامرة الغربية والتي يمكن بكل سهولة أن نتحقق منها في سائر البلاد العربية دون استثناء. أما العجيب في الأمر، هو أن الرافضين لنظرية المؤامرة، وقد تهاوت في أيديهم كل الحجج والبراهين، يقفون اليوم مندهشين من كمية هذا العداء المتنامي في الغرب ضد العرب، بدءا من التصديق عليهم في الحصول على تأشيرات الدخول، وانتهاء بالمطالبة الصريحة بطردهم من أوربا وأمريكا!

* * *


لماذا يلجأ العرب

إلى الأمم المتحدة؟!

[ لم ينشر من قبل ..]

الأمم المتحدة بكل منظماتها عبارة عن محكمة ومجموعة جهات مساعدة. وقد تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية لكي تمنع الحروب التي تكون على غرارها عالمية وشاملة، ثم أصبحت تبحث بعض المشكلات الصغيرة التي تحدث بين بلدين صغيرين، وتحاول أن تنهي الصراع بينهما، ولم يتم لها ذلك إلا في النادر. أما مجلس الأمن فيها، وهو المجلس القوي الذي بإمكانه أن يتدخل عسكريا لإنهاء الصراع في بعض الأماكن، فقد سيطرت عليه أمريكا وروسيا، ثم انفردت به أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهكذا أصبح مجلس الأمن الذي كان من المفروض أن يصبح دوليا، يخضع لتنفيذ رغبات بلد واحد. الخلاصة من كل ذلك أن الأمم المتحدة بجمعيتها العامة التي لا تلزم قراراتها أحدا، وبمجلس الأمن فيها الذي أصبح في قبضة بلد واحد- لم تعد أهلاً ولا محلاً لإزالة النزاع بين بلدين، فضلاً عن الحكم العادل بينهما. ولذلك نلاحظ أن معظم البلاد القادرة بنفسها على حل مشكلاتها لا تلجأ إلى الأمم المتحدة، ولا تعلق عليها أي أهمية، وأحيانا تصدر ضدها قرارات دولية فلا تطبقها، وتمضي في طريقها غير عابئة بقرارات مجلس الأمن، ولا بالجمعية العامة.

طبعا كان من الممكن أن تكون الأمم المتحدة صمام الأمان في العالم، ولكنها لم تستطيع أن تفعل ذلك. وكان من الممكن أن يعمل لها ألف حساب، ولكنها فقدت كل أهليتها لذلك. ولو أن أحدا سألني عن نفقاتها التي تصرف عليها لقلت إنها أموال ضائعة، لأنها تذهب على كلام فارغ، وتتفق فيما لا طائل وراءه، حتى المساعدات العينية التي تقوم بتقديمها أحيانا إلى بعض الدول، نجد أنها تذهب إلى غير من يستحقها، وأحيانا تستولي عليها الحكومات ثم تبيعها إلى التجار مع أنها المفروض أنها توزع على الناس المساكين مجانا!! ومن العجيب أن الأمم المتحدة تعلم ذلك، ولكنها لا تتدخل. كل ما تفعله هو اتخاذ قرارات بإرسال معونات، دون أن تتحقق من توصيلها إلى مستحقيها!

الأمم المتحدة بناء شاخ، وتآكلت جدرانه، ودب السوس في أساساته، ولم يبق أمامها سوى نفخة هواء قوية لكي تسقطها وتريح العالم منها.

والسؤال الآن: هل أدرك العرب كل هذه الحقائق عن الأمم المتحدة؟ وإذا كانوا أدركوها فلماذا يتعلقون بجبالها المهترئة؟ وماذا ينتظرون منها، وهي تتابع قضية فلسطين منذ ستين سنة دون أن يكون لقرار واحد منها تنفيذ على أرض الواقع؟ والسؤال الأهم: لماذا كلما زادت حدة المشكلات عندهم أسرعوا بالذهاب إلى الأمم المتحدة، وانتظار ما لا يجيء منها؟! عموما لقد صرح أمين عام جامعة الدول العربية أخيرا، وبعد أن فاض به الكيل أنه بعد أن يرفع (الأمر) إلى الأمم المتحدة ويتأكد من أنها لن تفعل شيئا، سوف يعرض (الأمر) على مجلس القمة العربية القادمة لكي يتخذ ما يراه في مصلحة العرب.. أخيرا، وبعد مرور ستين عاما فهم العرب أن اللجوء إلى الأمم المتحدة لن يجدي شيئا، وأن أمورهم إن لم تؤخذ بأيديهم، فلن تتقدم إلى الأمام. لقد جاء في المثل العربي القديم (ما حك جلدك مثل ظفرك) لكن العرب مع الأسف ينسون التاريخ، ولا يقرأون الحاضر، كما أنهم لا يعملون حسابا للمستقبل. والذي يعيش منهم يومه سعيدا يحسب أن السعادة سوف تدوم له، وأن باقي الأيام القادمة ستكون على غراره، مع أن الدنيا لم تكن أبدا كذلك. إنها يوما معك ويوما عليك! المهم أن الإنسان هو الذي يصنع مصيره بنفسه.. وكذلك الأمم!!

* * *


([1]) هذا المقال، والخمسة التالية عبارة عن موضوع واحد.

 






رابعا : عن العرب واحوالهم :



-
ماذا يمنع العرب من التقدم ؟

- جوانب القوة لدى العرب

- الجامعة العربية بين أمسها وغدها

- الوحدة العربية .. هل تذكرونها ؟

- أوراق العرب الباقية :

1. توحيد الموقف السياسى
2.
التحالفات العربية – الإقليمية
3.
الضغط الاقتصادى
4.
احتضان المقاومة
5.
تأكيد مقومات الهوية العربية

- اللغة .. آخر حصون العرب

- مأساة القواميس العربية

- ابن رشد الحقيقى

- مصطلحات سياسية بين الحياة والموت

- مناقشة فكرة ماكرة !!

- نظرية المؤامرة

- لماذا يلجأ العرب إلى الأمم المتحدة ؟!

ماذا يمنع العرب من التقدم؟

[الأخبار، 24/3/2009]

لكي نستطيع أن نقدم إجابة واضحة ومحددة عن هذا السؤال المهم، لابد أن نبين أولا المقصود من التقدم، وأن نستعرض ثانيا وضع العرب في الفترة الراهنة لنرى هل هم فعلا بحاجة إلى هذا التقدم أم لا؟ أما التقدم فمن الصعب تحديد مفهومه في عبارات وإنما يمكن استخلاص معناه من خلال وقائع مادية وأمثلة محسوسة.

ولاشك أننا الآن قد أصبحنا في وضع يتيح لنا أن نشهد ونتابع مظاهر التقدم في بعض البلاد، التي تتميز بالاستقرار السياسي، وقوة الردع العسكري، والزيادة المستمرة في الدخل القومي، وارتفاع مستوى معيشة الأفراد، إلى جانب التقدم التكنولوجي، وانتشار التعليم الجيد، وتطور البحث العلمي، وأخيرا ازدهار حركة الفنون والآداب. ومن الواضح أن الكثير من مظاهر هذا التقدم قد تحققت في أوروبا وأمريكا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما لبث أن لحقت بهما دول كثيرة في آسيا، أبرزها اليابان والصين وكوريا وماليزيا. أما في العالم العربي فقد كان مشروع محمد علي «1805- 1848» في مصر محاولة جيدة لتحقيق بعض عناصر التقدم، ولكنه عاد فتعثر بسبب الأطماع الاستعمارية التي تكالبت على المنطقة كلها، وأمسكت بزمام الأمور فيها، ولم تترك لها أي فرصة للنهوض أو التقدم، بل على العكس عمل الاستعمار بأسلوب منهجي على إضعافها وتفتيتها، ثم إعادة تركيبها في دول صغيرة وأصغر، حتى أصبح مجموع العالم العربي «22» دولة، تضم حاليا ما يقرب من ثلاثمائة مليون نسمة، ولا يكاد يوجد فيها بلدان متجاوران دون أن تكون بينهما مشكلات على الحدود! ومن الطبيعي أن يؤدي تفتيت الكيان الكبير إلي إضعافه، والإضعاف إلى القضاء على أي مبادرة للتقدم. وإذا كان العالم العربي يزخر بالإمكانيات ويمتلك بعض الثروات فإنه ممزق الأوصال وضعيف الإرادة لم يستطع حتى الآن أن يستفيد من إمكانية التكامل بين بلدانه، فضلا عن تبادل الخبرات بين الكفاءات المبعثرة في أرجائه. ويمكن هنا أن نتساءل هل يجرؤ أحد الآن أن يدعو العرب إلى الوحدة؟ وإذا لم يمكن تحقيق وحدة سياسية، فعلى الأقل وحدة موقف، وإن لم تكن هذه ولا تلك، فأين الوحدة الاقتصادية التي أصبحت فرض عين، وليست فرض كفاية كما يقول الفقهاء! فإذا حاولنا أن نتوقف عند قطاع واحد فقط، وليكن قطاع التعليم، فهل يمكن أن تزعم دولة عربية واحدة بأنها قد تقدمت فيه؟ الملاحظ بأسف أن كل دولة عربية تحاول جاهدة أن تحسن حال التعليم فيها، ولكنها تفشل دائما لأنها تعمل وحدها، ولا تفكر أبدا في الاستعانة بجيرانها ممن يكون لديها التمويل، أو الخبرات البشرية، أو الرؤى الاستراتيجية، والخطط التنفيذية، ثم إن هناك بعض البلاد العربية التي تستدعي جامعات أجنبية متقدمة من خلال فتح فروع صغيرة داخل جامعاتها المحلية، ويغيب عنها تماما أن التعليم خدمة وطنية، لابد أن ينبع من واقع المجتمع نفسه، مرتبطا بقضاياه، محققا لأهدافه، ثم لا يوجد مانع بعد ذلك من اتصاله بمؤسسات التعليم العالمية.

ولكي تطور الإجابة عن السؤال المطروح بصورة أوضح نقول: هل موانع التقدم لدى العرب ذاتية من الداخل لم أنها وافدة من الخارج؟ ويبدو أنها نتاج الأمرين معا. ولابد من الاعتراف بأن لدينا قصرا في النظر، وقصورا في الأداء، لكن ذلك يقابله قصد أجنبي، ظاهر أو مستتر، يمنعنا من اكتشاف المنهج الصحيح، وبذل الجهد في العمل المنتج. وأذكر هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت ذات يوم مساعدتنا في تطوير التعليم، فرصدت عددا كبيرا من المنح للمدرسين لكي يزورها ويطلعوا على نظم التعليم والتربية فيها، كانت مدة البعثة حوالي ثلاثة أشهر، وهي مدة لا تصلح إلا للسياحة والتسوق، ولا تنفع أبدا في إجادة اللغة الإنجليزية، أو الإلمام بمناهج التربية هناك!!

ويبقى دائما أن التقدم فكرة، لابد أن يؤمن بها المجتمع كله، بحيث ينام ويصحو على أحلامها وكوابيسها، إلى أن ينفتح أمامه طريق واضح فيندفع فيه بكل قوة، تاركا وراءه كل ما مر به من سنوات الضياع والتخلف..

* * *


جوانب القوة لدي العرب

[الأهرام، 2007]

سألني بعض الشباب: هل مازال العرب يملكون بعض القوة التي تمكنهم من مواجهة التحديات التي تحيط بهم من كل جانب؟ وللوهلة الأولي أجبتهم بأنهم أولاً: يملكون الطاقة التي يحتاج إليها العالم، وثانيا: لديهم أسواق تستهلك ما ينتجه الغرب، وأخيرا تركيبتهم السّكانية التي يزيد فيها عدد الشباب على عدد كبار السن، وهو عكس ما عليه الحال في الغرب بصفة عامة. لكنني عندما خلوت إلى نفسي رحت أفكر في هذه العناصر فوجدتها مع الأسف قد تكون هي نفسها نقاط الضعف لدي العرب. فالطاقة لدي بلد عربي واحد ومنعزل عن باقي البلاد العربية لا تجعل منه بلدا قويا، بل على العكس قد تكون نقطة ضعف، وتحوله إلى مطمع للدول القوية، كما أن الطاقة لا تزيد عن كونها سلعة ضرورية لا يستطيع أن يتحكم وحده فيها، وإنما هو خاضع في بيعها وتسويقها للسوق العالمية، وبصورة أدق، للقوي الأكبر التي تتحكم سياسيا وعسكريا في هذه السوق. أما كون البلاد العربية تعتبر مستهلكا كبيرا، وقريبا من مواطن الإنتاج في أوربا فهي ميزة لأوربا ولا تحسب للعرب. ونحن نعلم أن المواد الأولية التي تحصل عليها المصانع الأوربية من كل أنحاء العالم، ومنها العالم العربي إنما تشتريها بثمن بخس، ثم تقوم بتصنيعها وتصديرها بأسعار مرتفعة، وبدون منافسة داخلية من الدول المستوردة لها، وفي مقدمتها البلاد العربية. وخذ مثالاً على ذلك من السيارات، التي لا يوجد بلد عربي واحد ينتجها، ويضطر بالتالي إلى استيرادها من الخارج، ولا يتوقف الأمر عند شراء السيارة، وإنما يتجاوز ذلك إلى الاستمرار في شراء قطع الغيار على مدي سنوات طويلة. ومثال آخر يتمثل في أجهزة الكمبيوتر التي تتكون من مواد أولية رخيصة جدا، لكنها تباع بأسعار مرتفعة للغاية، وتتطلب إحلالاً وتجديد بصفة دورية قد يكلفان أكثر من ثمن شراء الجهاز الأصلي. أما العنصر الخاص بنسبة عدد الشباب إلى كبار السن في البلاد العربية، وما تحمله هذه النسبة المرتفعة من وعود مبشرة للمستقبل، فإنها تتوقف بالدرجة الأولي على حسن استغلال تلك الثروة البشرية من خلال تعليم جيد، وتدريب مستمر، وإدارة حكيمة ونشطة تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتفتح أمام الشباب أبواب المستقبل لكي يقتحموها دون خشية أو إحباط.

وهكذا يتضح أن ما يبدو أنها جوانب قوة لدي العرب يمكن أن تتحول إلى عوامل ضعف، ما لم يتم تحصينه بالشروط والظروف المناسبة لدعمه وتطويره. وتعالوا نتخيل (أقول نتخيل) أن تقيم الدول العربية المنتجة للنفط مجلس إدارة أو جمعية تلتزم بما يصدر فيها من قرارات لصالحها، وليس لمصلحة أي بلد آخر، فماذا يكون الحال؟ سوف تفرض قرارها على الجميع، وسوف يكون لها مجتمعة قيمة دولية، لا شك أنها سوف تنعكس بالإيجاب على سياستها الخارجية. أما أن تنفرد كل دولة بقرارها، وتحسب أنها سوف ترسخ مكانتها في المجتمع الدولي، فهذا مستبعد تماما. والواقع يؤيده.

وإذا كانت وحدة القرار في موقف معين من أهم مظاهر القوة لدي العرب، فإن سوقهم الاستهلاكية من الغرب يمكنها أن تصبح هي الأخرى ورقة رابحة في أيديهم، إذا أجادوا اللعب بها على مائدة الاقتصاد العالمي، لأن المشتري هو الذي يضع عادة شروط السوق، ويمكنه إذا كان رشيدا أن يفرض رأيه على البائع. وهنا أيضا لابد أن تظهر وحدة القرار التي يمكنها أن تحقق بصوت العرب الموحد مصالح أكثر بكثير مما يحققه صوت كل منهم منفردا!

هذا وسوف تظل التنمية البشرية هي المجال الذي يضمن نجاح الجانبين السابقين. ولا يتم ذلك كما نعلم إلا بأسلوب حديث للتربية، ومناهج متطورة في التعليم، وتدريب لا يتوقف مدي الحياة، وذلك كله في منظومة إدارية ذات كفاءة وفعالية، يمكنها أن تغير ميزان القوة لصالح العرب: مجتمعين وليسوا فرادي.

* * *


الجامعة العربية

بين أمسها وغدها

[الأخبار، 2007]

كشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، في أحد أحاديثه التي تبثها قناة الجزيرة، عن أحد أهم أسرار قيام جامعة الدول العربية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945، وأن تلك الدول قد استشعرت كل واحدة منها الخوف من انفراد الحلفاء الخارجين منتصرين بها، فأسرعت بإنشاء كيان أكبر يمكنه أن يقوي كل دولة على حدة ويكون مؤهلا للحديث باسم الجميع ككتلة متماسكة مع الحلفاء المنتصرين في الحرب. ولأن الدول التي كانت تهيمن على مصير العالم حينئذ كانت على بينة من قوة العرب الحقيقية وعلي رأسها بريطانيا وفرنسا، فقد سمحت لهذا الكيان أن يظهر للوجود، خاصة وأن علاقة بريطانيا مثلا بكل واحدة من تلك الدول على حدة كانت قادرة على توجيه سياستها في الطريق الذي تريده. ومن الأسرار التي كشفها هيكل أن بعض الدول العربية قد كتبت إلى بريطانيا تستأذنها في الانضمام أو عدم الانضمام إلى جامعة الدول العربية، موضحة لها أنها في انتظار ردها على ذلك، ومؤكدة أن علاقتها الثنائية معها لن تتأثر سلبا بانضمامها إلى هذا الكيان العربي الناشئ.. وقد أعطت بريطانيا الضوء الأخضر لتلك الدولة المستأذنة بالانضمام إلى جامعة الدول العربية، ولعل هذا يفسر قيام الكيان نفسه على أساس هش وغير معقول! فقد ورد في ميثاق الجامعة العربية أن أي قرار لكي يكون نافذا لابد من موافقة (جميع) الأعضاء عليه، وليس أغلبيتهم كما هو الحال في أي تجمع سياسي. لقد أدي هذا النص في ميثاق جامعة الدول العربية إلى شللها بالكامل منذ البداية عن تنفيذ أي عمل أو تحقيق أي هدف، كانت الدول المجتمعة تبذل الكثير من الوقت والجهد لمناقشته داخل أروقتها الباردة، وقاعاتها الكئيبة التصميم. ومع ذلك، وعلي الرغم من كل شيء، يبقي أن فكرة الجامعة العربية من أجمل الأفكار التي ظهرت في العالم العربي قبل منتصف القرن العشرين بقليل. وإذا كانت قد شهدت في بعض الأحيان حركة ونشاطا واضحين، واستطاعت في بعض المواقف المحزنة أن تجمع القادة والزعماء العرب على طاولة واحدة، ارتبطت بها قلوب الملايين العرب من المحيط إلى الخليج، فإنها أيضا مازالت عاجزة عن اتخاذ قرار يحقق للجماهير العربية تطلعاتها المشروعة في الخروج من حالة التخلف والتبعية إلى آفاق النهضة والاعتماد على الذات. وكيف يتحقق ذلك والجامعة – في نشأتها – مرتبطة عضويا بالتحالف المنفرد مع الغرب الذي لا يسعده أبدا أن يتقدم العرب خطوة حقيقية إلى الأمام. واسمحوا لي أن الخص الوضع الحالي كما يلي: إذا كنا قد ورثنا عن آبائنا – يغفر الله لهم – هذا الكيان الهزيل، فما أجدرنا أن نعيد بناءه من جديد على أسس متينة، وأن نصحح ميثاقه المعطوب، خاصة وأننا الآن في وضع أفضل بكثير مما كنا عليه منذ نصف قرن. ولكي نبدأ بالخطوة الأولي على هذا الطريق يمكن أن نرتب أولويات العمل العربي المشترك على ثلاث مستويات: الأول تعليمي، والثاني اقتصادي، والأخير سياسي. وهناك قرار لن يكلف الدول العربية كلها أكثر من الموافقة الشفهية عليه، وهو توحيد أنظمة التعليم الأساسي في كل البلاد العربية. وفي تصوري أن هذا ليس بالأمر المستحيل، فهل نبدأ؟!

* * *


الوحدة العربية.. هل تذكرونها ؟

[الأهرام، 2007]

في الخمسين سنة الماضية، تحررت معظم البلاد العربية من الاحتلال الأجنبي، وأمسك كل منها بزمام الأمور من أجل تنمية المجتمع، والنهوض بالحياة في مختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان من الممكن أن تتواصل هذه البلاد في وحدة أو اتحاد يأخذ بأزر بعضها البعض، وأن تتقوي في ظله الدول الضعيفة من خلال اعتمادها على جاراتها الأخرى. لكن الظروف الدولية لم تسمح بذلك. وراحت عوامل الفرقة تدب بين أنظمتها السياسية، الأمر الذي انعكس على تكريس ابتعاد بعضها عن بعض، حتى وصل بها الحال إلى حد القطيعة ثم التعاند والتصادم. وكادت الحروب تقع بين الجارات لأقل الأسباب، وراحت نعرات القبلية تطغي على المصالح القومية، وانتهي فيما يبدو ما كان يسمي بالوحدة العربية.

أما في أوربا، فقد راحت الشعوب، التي عانت بشدة من ويلات حربين عالميتين، تتنادي باللقاء من أجل طي صفحة الماضي، بخلافاته ومآسيه، والعمل من أجل مستقبل مزدهر لمجموعة الشعوب المتجاورة، رغم اختلافها في العرق واللغة، وتفاوت ما بينها في الغني والفقر. ومع قوة الإرادة وصحة العزيمة، تغلب تيار الاتحاد على كل دعوات الفرقة والتشرذم، وانتهي الأمر بظهور الاتحاد الأوربي كقوة كبري لها وزنها السياسي والعسكري والاقتصادي، وأصبحت – كما نري – تضم أكثر من خمس وعشرين دولة لم يكن يبدو في الخيال أنها سوف تجتمع على أهداف واحدة، وتستخدم في سبيل تقدمها قوانين موحدة.

وإذا كان لنا من عبرة نستخلصها فإن ما يجري في المنطقة العربية من عدوان سافر على بعض البلاد العربية، وأبرزها فلسطين والعراق، ولا يجد ردة فعل واحد من مجموعة دول عربية، أو حتى بلد عربي واحد، يكشف عن مدي الضعف والهوان واللامبالاة التي تعانيها الأمة العربية كلها، على الرغم مما تمتلكه من عناصر القوة، وإمكانيات التصدي. لكن هذه العناصر والإمكانيات لا يمكن أن يكون لها مردود يذكر إلا إذا اتحد العرب فيما بينهم، واجتمعوا ولو على هدف واحد من بين سائر الأهداف.

صحيح أن بلدا عربيا واحدا لن يكون في مقدوره رفع صوته بالاحتجاج، ولكن مجموعة دول تستطيع أن تفعل ذلك، فإذا ما تقدمنا قليلاً وقلنا إن الأمة العربية كلها مدعوة إلى رفع الصوت ضد ما يغتال كرامتها، وينتهك أغلي مقدساتها.

ومما يؤسف له أن إطار جامعة الدول العربية كان يمكنه أن يلم العرب على موقف سواء، ولكن العرب أنفسهم أضعفوا الجامعة العربية، وفرغوها من مضمونها الحقيقي، الذي كان المواطنون العرب في كل البلاد العربية يضعون عليه كل آمالهم في إسماع صوتهم للعالم، وفي التفاوض مع العالم من خلالها.

وأستطيع أن أصارحكم بأنه لا حل لمشكلة فلسطين إلا بظهور موقف عربي موحد، ولا حل لمشكلة العراق إلا بنفس الشيء.. أما أن تستمر الـ 22 دولة عربية في اتخاذ طرق متناثرة، وكل منها تزعم لنفسها أنها كيان مستقل، فسوف ينتهي أمرها جميعا إلى مستقبل مجهول.. في ظل الكيانات الكبرى الموحدة، والتي مازالت تسعي إلى مزيد من التكتل والوحدة.

لقد تذكرت أيام الدعوة إلى الوحدة العربية، وكان جيلي كله يحلم بها، ولكننا رأيناها تسقط على الأرض أمامنا مثل الحمامة البيضاء، منكسرة الأجنحة، والغريب أن الكثير من الأجيال السابقة قد شاهدوا ذلك لكنهم لم يعودوا يتحدثون عنه إلا في النادر، أما الأجيال الجديدة فإنها لم تعد تسمع مصطلح الوحدة العربية لا قليلاً ولا نادرا!!

* * *


أوراق العرب الباقية

تمهيد([1])

[الوفد، 3/8/2009]

لا شك أن الرئيس السادات كان محقا عندما أعلن ذات يوم أن أوراق اللعبة - يقصد مشكلة الشرق الأوسط - يوجد منها 99% في يد أمريكا. وقد أثبتت الأيام الطويلة والليالي الكئيبة أن عبارته تلك كانت صحيحة تماما. فالقضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط، ومصدر القلق والتوتر في المنطقة الإقليمية المحيطة، تكمن أساسا في مشكلة فلسطين، التي لم تعد تستطيع أي جهة أو دولة في العالم أن تتقدم بمحاولة وساطة، أو حتى بمجرد اقتراح لحلها.. لقد أبعدت أمريكا كل الأطراف بما فيها الدول العربية المهمومة بقضية فلسطين، وقررت أنها وحدها هي صاحبة الحل والعقد في المسألة، بل إن إسرائيل نفسها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة للأمام أو حتى للخلف دون إذن من سيدتها أمريكا!

ستون عاما إذن مضت والمشكلة المستعصية كما هي، بل إنها تزداد تعقيدا بسبب الممارسات الإسرائيلية المتواصلة في إقامة الجدار العازل، والتنكيل بالفلسطينيين، والتوسع السرطاني في الاستيطان، وإغلاق المعابر، ومحاولات تهويد مدينة القدس العربية الإسلامية والمسيحية، وخلال هذه السنوات الستين لم ينتبه عقلاء العالم إلى أنه في مقابل التعنت الإسرائيلي نشبت أربع حروب نظامية «48 ، 56 ، 67 ، 73» وهب الفلسطينيون في انتفاضتين باسلتين، وشنت إسرائيل حربين فاشلتين على لبنان وهجوما همجيا على غزة.. ثم عاد الوضع المتجمد كما كان، ولم تتحرك القضية بأي شكل.

وبنظرة موضوعية، قد نذهب إلى أن الدول العربية معذورة في عدم استرداد حقوق الفلسطينيين بالقوة، كما تم اغتصابها بالقوة، وذلك بسبب التفوق العسكري الكبير الذي أصبح يصب في صالح إسرائيل، نتيجة تسلحها بأحدث ما توصلت إليه الآلة العسكرية في أمريكا، وكذلك في الدول الأوروبية «بريطانيا وفرنسا وألمانيا» إلى جانب الإعلان الواضح والقاطع من أمريكا بأنها تضمن أمن إسرائيل، وهذا معناه أن أي دولة تدخل في حرب مع إسرائيل سوف يتم إعلان الحرب عليها من جانب أمريكا.

ولأن الوضع الحالي قد بدأ يثير الضيق والغضب لدى الشعوب العربية التي لا تتوقف عن مطالبة دولها بالتحرك لتغييره، فقد صدرت مبادرة الملك عبد الله للسلام، والتي تبنتها جميع الدول العربية، وهي تقضي بعرض السلام والتطبيع مع إسرائيل في مقابل انسحابها من جميع الأراضي التي احتلتها سنة 1967، والسماح بإقامة دولة خاصة بالفلسطينيين تكون عاصمتها القدس الشرقية، وليس القدس كلها، ومما يؤسف له أن إسرائيل، ومن ورائها بالطبع أمريكا، قد عملت على تجميد تلك المبادرة التي لم تصل حتى إلى مجال المناقشة!

والسؤال الآن: هل فقد العرب طوال ذلك الصراع المرير وخلال تلك السنوات الطويلة أي قدرة على المناورة، أو المبادرة؟.. ثم السؤال الأهم: ماذا بقي في أيدي العرب من أوراق يستطيعون أن يتفاوضوا بها مع كل من إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي «وقد أصبح الثلاثة يمثلون جبهة واحدة»؟

إن الإجابة عن هذين السؤالين المحوريين يتطلبان قدرا كبيرا من المصارحة والبعد عن المزايدة والانفعال. وبالطبع لا أستطيع أنا وحدي أو حتى مركز بحوث متخصص أن يقدم إجابة شافية، وإنما الأمر يتطلب مشاركة فكرية وسياسية على أوسع نطاق ممكن، ليس فقط من بلد عربي واحد، وإنما من سائر الدول العربية، لذلك فإن ما أطرحه هنا لا يمثل في الواقع سوى مساهمة فردية متواضعة، قابلة للصواب والخطأ، لكنني أزعم أنها صادرة عن توجه وطني وقومي خالصين.

توجد في أيدي العرب- على الرغم من حالة الضعف والإحباط السائدة حاليا- خمس أوراق مهمة هي:

الورقة الأولى: توحيد الموقف السياسي..

الورقة الثانية: التحالفات العربية- الإقليمية..

الورقة الثالثة: الضغط الاقتصادي «المفرد والجماعي»..

الورقة الرابعة: احتضان المقاومة..

الورقة الخامسة: تأكيد مقومات الهوية العربية، خاصة لدى النشء..

وسوف أفرد لكل منها مقالا مستقلاً، فيما يلي.

* * *


أوراق العرب الباقية

(1) توحيد الموقف السياسي

[---]

لابد أن نقرر في البداية احترامنا الكامل لخصوصية كل دولة عربية، وسيادتها المستقلة على أراضيها. هذا مبدأ لا يمكن المساس به، ولا التفريط فيه. لذلك عندما نتحدث عن موقف عربي موحد من الناحية السياسية فإننا نقصد اتخاذ كل دولة على حدة قرارها الخاص بها، والذي يهدف في النهاية إلى تحقيق المصلحة المشتركة للأمة العربية كلها، لكي تخرج من مشكلتها المزمنة مع إسرائيل. صحيح أن جامعة الدول العربية تمثل المظلة التي يجتمع تحتها وراء الخارجية العرب، وهم الممثلون لإرادتها السياسية، كما تشرف أحيانا على مؤتمرات القمة التي يحضرها الملوك والرؤساء والأمراء العرب، لكن هناك أيضا خلافات واختلافات مازالت قائمة، وهي بالتأكيد تحول دون بلورة توجه استراتيجي لحل القضية الفلسطينية. ولا شك أن السياسة تمثل إحدى طرق الحل، بل إنها الطريق الأسرع الذي يؤدي إليه.

وفي تصوري أنه لا توجد خلافات بين الدول العربية في ضرورة اتخاذ موقف سياسي موحد من القضية الفلسطينية، لكن الاختلاف يبرز على مستويين، الأول هو واقع العلاقة مع إسرائيل، فبعض الدول العربية عقدت معاهدات سلام معها (مصر والأردن)، وبعضها الآخر ينتظر عقد مثل هذه المعاهدات! لكن هناك دولاً عربية مازالت أراضيها محتلة من إسرائيل، وهي التي تعلو فيها نبرة الصراع المسلح على التحرك السياسي. أما المستوى الثاني فهو كيفية التعامل السياسي مع الأطراف المساندة لإسرائيل، وخاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي. وعلى العرب أن يتعاملوا مع هذه الأطراف، كل حسب درجة العلاقة به، وحسب ما يقبل سماعه منهم، أو تحقيقه لهم.

وهكذا نجد أنفسنا أمام واقع صعب ومعقد، وهو يحتاج إلى ترتيب أولوياته، وتصنيف ملفاته، ثم التحرك الواعي لمعالجة جزئياته التي قد لا تقل أهمية عن كلياته، لكن ذلك كله لا ينبغي أن يبعدنا عن تحديد الهدف الأساسي الذي ينبغي بلورته في كلمات محدودة، وعبارات غير قابلة للتأويل.

وأولى حقائق الواقع العربي أن بعض الدول العربية، وبالتحديد مصر والأردن، قد عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وكان المتوقع أن تكون هذه الاتفاقيات دافعا لإسرائيل لكي تمد يدها بالسلام، وتستجيب لمطالب الشعب الفلسطيني التي قررتها الأمم المتحدة، لكن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن.

ثانيا: أن كلا من الشعب المصري والأردني لم يرحب تماما (بل أبدا) بالصلح مع إسرائيل في ظل استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتنكيلها المستمر بالشعب الفلسطيني، ولذلك فشلت مع هذه الشعوب كل وسائل التطبيع التي كان منصوصا عليها في الاتفاقيات المكتوبة.

ثالثا: أن القانون الدولي يسمح للدول الموقعة على اتفاقيات أن تقوم بعد فترة زمنية معينة بتعديلها أو حتى إلغائها، وخاصة عندما لا تحقق هذه الاتفاقيات الأغراض الموضوعة لها. وهذا ينطبق تماما على الاتفاقيات العربية- الإسرائيلية السابقة.

رابعا: أن توحيد الموقف السياسي العربي لا يعني بالضرورة الذهاب للطريق المضاد لاتفاقيات السلام مع إسرائيل، وإنما الغرض منه إثبات أن العرب جميعا لهم مطلب محدد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في إطار الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي ينبغي أن يلتزم بها الجميع.

خامسا: أن الضغط الشعبي على امتداد الوطن العرب كله لابد من الاستجابة له في تحرك سياسي فاعل، بدلاً من حدوث انفجارات هنا أو هناك قد تمتد شراراتها إلى خارج الوطن العربي نفسه!

وهكذا على أساس هذه الحقائق الموجودة على الأرض، يمكن بلورة الهدف السياسي العربي فيما يلي (مطالبة إسرائيل بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967). وهذا الهدف الكبير ينبغي أن يكون هو المحور الذي تدور حوله السياسة العربية الموحدة، دون الانسياق إلى الدهاليز التي تحاول إسرائيل حاليا جرجرة العرب إليها، ومنها المستوطنات، وحق العودة، وفتح المعابر، وتهويد القدس، وإلغاء الحروف العربية من يافطات المرور.. بالإضافة طبعا إلى إقامة الدولة الفلسطينية الشكلية، التي يستحيل وجودها تحت وطأة الاحتلال بكل بشاعاته!

وبالطبع لابد أن تعلن السياسة العربية لإسرائيل وللعالم كله مجموعة من المزايا المترتبة على تحقيق إنهاء الاحتلال، وهي إمكانية الاعتراف بدولة إسرائيل، وفتح آفاق التطبيع الاقتصادي والثقافي معها، بالإضافة إلى عقد اتفاقية عربية- إسرائيلية تقضي بمنع الاعتداء أو التحريض عليه.

أما الوسائل السياسية فينبغي أن تأتي في مقدمتها: تعيين منسق عام على غرار منسق الاتحاد الأوربي، يكون هادئ الطبع، ولا يعلن موقفا إلا بعد اتفاق جميع الدول العربية عليه! ويبقى بعد ذلك أن تقوم كل دولة عربية بتحمل مسئوليتها السياسية من عرض الموضوع وطرحه على كل القوى الكبرى في العالم، وكذلك في المنتديات الدولية لتأكيد القرارات التي سبق أن أصدرتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو استصدار قرارات أخرى جديدة..

* * *


أوراق العرب الباقية

(2) التحالفات العربية- الإقليمية

[---]

يدور هذا المقال حول الورقة الثانية لدى العرب، وهي المتعلقة بالتحالفات العربية - الإقليمية والمقصود الأساسي من هذه التحالفات ترسيخ الموقف العربي، وتوسع دائرته في المنطقة المحيطة به، والتي يمكن أن تشكل طوقا للضغط على إسرائيل، وزيادة مساحة العزلة حولها. وليس من المعقول أبدا أن يقتصر الصراع في المشكلة الفلسطينية على الشد والجذب بين مجموعة الدول العربية، وهي حاليا ضعيفة، وبين إسرائيل، وهي مدعومة من القوى الكبرى العالمية، سواء من أمريكا أو من الاتحاد الأوربي.

إن توسيع دائرة الدعم للموقف العربي ينبغي أن تضم الدول المجاورة في الإقليم، وأهمها تركيا وإيران، ثم أفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى مجموعة الدول الإسلامية التي خرجت مؤخرا من قبضة الاتحاد السوفيتي، وهذا بالطبع إلى جانب مجموعة الدول الإفريقية، ذات المواقف المشرفة، التي ساندت وما تزال الحقوق الفلسطينية والعربية.

ولعلنا ندرك أهمية هذه الدول الإقليمية، أي المجاورة أو المحيطة بالدول العربية، حين نتابع حركة إسرائيل الواضحة والمستترة أحيانا لمحاولة انتزاع هذه الدول من تأييدها المطلق لحق الشعب الفلسطيني، وقيامها بالتسلل إليها عبر المساعدات الاقتصادية والعسكرية، وأحيانا التنموية بغرض تفتيت هذا البعد الإقليمي، وكسر الطوق الأوسع حولها.

وهكذا فإن اتجاه العرب نحو إعادة تقوية أو ترميم العلاقات مع سائر الدول الإقليمية يمكنه أن يمثل ورقة ضغط قوية على إسرائيل، وكذلك على حلفائها الأقوياء، الذين يهمهم في المقام الأول عدم مجابهة العرب، وهم محاطون بإجماع إقليمي يؤيد حقهم في القضية، ويتعاطف معهم عند حدوث أزمة لهم، بل وقد يتخذ من المواقف السياسية والاقتصادية ما يعكر صفو المياه على هذه الدول القوية نفسها.

إن العمل على هذه الجبهة ينبغي أن يضعه العرب على قائمة أولوياتهم في المجالات السياسية والدبلوماسية، وأن يكون غير بعيد عن توجهاتهم الاقتصادية والاستثمارية. فمهما كانت التحالفات طبيعية وتاريخية، إلا أنها تحتاج دائما إلى روابط اقتصادية وثقافية تعمل على دعمها باستمرار. ولا شك أن العالم العربي بدوله وشعوبه المتنوعة يمتلك الكثير الذي يمكنه أن يقدمه في هذا المجال الواعد بإمكانيات كبرى.

ويهمني هنا التأكيد على أن العلاقات الثقافية بين العرب، ومحيطها الإقليمي لا يقل أهمية عن الجانب الاقتصادي والاستثماري. ومن المؤسف أننا نهمل دائما هذا الجانب، ونكتفي بالتركيز فقط على الجانبين السياسي والاقتصادي، مع أنه من أهم العوامل التي تربط بين الشعوب، وتدفعها إلى التعاطف مع بعضها، بل وتدفعها أيضا للضغط على حكوماتها لكي تتخذ المواقف اللازمة عند حدوث الأزمات.

لكن كيف يمكن تحقيق هذه التحالفات العربية- الإقليمية؟ أولاً: بإزالة أسباب الخلاف وبؤر النزاع مع هذه الدول من خلال الدخول في مصالحات مباشرة، أو من خلال وساطات دول عربية ذات علاقة طيبة مع هذه الدول. وهو أمر ليس صعب التحقيق. وثانيا: معاهدات سياسية واقتصادية وثقافية مع هذه الدول، والعمل الجاد على تفعيل هذه المعاهدات حتى لا تصبح حبرا على ورق. وأخيرا: مناقشة هذه الدول في تنفيذ المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل طالما ظلت مصرة على ابتلاع حقوق الشعب الفلسطيني، وعدم الاستجابة لاتفاقية سلام شاملة وعادلة.

* * *


أوراق العرب الباقية

(3) الضغط الاقتصادي

[---]

لا شك أن العرب يمثلون في مجموعهم قوة اقتصادية كبيرة، ويرجع ذلك لسببين أولهما: وجود مصادر النفط والغاز بكميات هائلة في أراضيهم، والثاني امتلاكهم لرؤوس أموال ضخمة، فإذا أضيف إلى هذا وذاك أنهم يمتلكون سوقا كبرى تتميز بقدرتها الاستهلاكية النشطة وموقعها المتوسط بين الشرق والغرب أمكن أن نتصور مدى ما يتمتع به العرب من ميزات لا يستهان بها في الاقتصاد العالمي. لكن إذا كانت هذه هي نقاط القوة في الاقتصاد العربي، فإن به أيضا نقاط ضعف، أهمها تدني مستوى التجارة البينية في داخل الوطن العربي نفسه، وترك رؤوس الأموال العربية تحرك وتنشط اقتصاد الدول الأجنبية، وعدم انشاء وتشغيل مشروعات استثمارية داخل البلاد العربية أو في المنطقة المحيطة بها. ومن الواضح أن كل دولة عربية تعمل منفردة، دون أن تحاول التجمع مع زميلاتها في كيان اقتصادي أكبر على غرار ما فعل الاتحاد الأوربي، أو مجموعة دول الآسيان.

وهكذا إذا وقفنا على مواطن القوة والضعف في الاقتصاد العربي استطعنا أن نبدأ التحرك لكي نسد فجوات الخلل الموجودة فيه، وأن نعمل على توجيهه لمصلحة الأمة العربية كلها، ولصالح القضية الفلسطينية نفسها. ولست أذهب هنا على الإطلاق إلى إعلان الحرب بالاقتصاد، فهذا ما لا يمكن تصوره، نظرا لخطورته على العرب أنفسهم، وإنما المطلوب هو اللعب جيدا بورقة الاقتصاد العربي من أجل الحصول على مكاسب مباشرة لقضيتهم العادلة.

وتعالوا معي نستحضر حجم التجارة العربية- الأوروبية الذي يبلغ 40 مليار يورو، وهي بالطبع تسير في اتجاه واحد باستثناء توريد النفط والغاز، والسؤال هنا: ما الذي يمكنه أن يحدث من التلويح، مجرد التلويح، بإنقاص كمية الصادرات الأوربية إلى العالم العربي؟! وهل يمكن مناشدة الشركات الكبرى التي نتعامل معها في الضغط على حكوماتها- وهذا ممكن جدا- لكي تعدل من مواقفها المنحازة على طول الخط لإسرائيل. وحتى على المستوى السياسي والدبلوماسي يمكن للمفاوض العربي أن يجلس على مائدة المفاوضات وهو أكثر ثقة واطمئنانا على ما يملكه بالفعل من أوراق ضغط.

ويمكن هنا أيضا أن نطرح السؤال التالي: كم حجم المكاسب التي تجنيها بلد كبرى مثل الصين، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، من تجارتها التصديرية للعالم العربي؟ وبالتالي: ما هي المواقف الإيجابية التي اتخذتها الصين مع قضايا الأمة العربية، وبصفة خاصة، مع القضية الفلسطينية، التي تؤرق العالم كله؟!

ومن ناحية أخرى، فإن دول أمريكا اللاتينية، التي عانت طويلا من الاستعمار والهيمنة الأجنبية، تبدي تعاطفا واضحا مع القضايا العربية، وخاصة في المحافل الدولية، فما هي المكافأة الاقتصادية التي قدمها لها العرب، من خلال بعض الاستثمارات التي تزيد من هذا التعاطف وتؤكده؟!

أما الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، التي تحوز نصيب الأسد من رأس المال العربي، الذي يوضع في بنوكها ومؤسساتها الصناعية والتجارية، ويقوم بالتالي بدور حيوي في انعاش الاقتصاد بها، فإن الضغط عليها من هذا الجانب هو الذي يجعلها أكثر قابلية لتغيير مواقفها الداعمة لإسرائيل.

إن الاقتصاد- كما نعلم- هو عصب الحياة، وهو أقوى علاقة تقرب أو تباعد بين الدول. ولابد على البلاد العربية أن تدرك جيدا قيمة قدراتها الاقتصادية الهائلة حتى تستطيع أن توجهها التوجيه الصحيح، الذي يساهم في تحقيق أهدافها القومية، وفي مقدمتها الهدف السياسي المتعلق مباشرة بقضية فلسطين. ولعلني في غنى عن الإشارة إلى العلاقات المتميزة جدا بين بعض البلاد العربية وبين الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة على المستوى الاقتصادي البحت، والتي يمكن استغلالها لتحريك موقفها السياسي من القضية الفلسطينية.

* * *


أوراق العرب الباقية

(4) احتضان المقاومة

[---]

هناك أمور متلازمة في الحياة، لا يعقل بل لا يمكن انفصالها عن بعضها، وذلك مثل البنوة التي تستلزم وجود الأبوة، والزرع الذي يتطلب توافر الماء، والاحتلال الذي يوجب ظهور المقاومة. وإذا كان الاحتلال عملا غير مشروع في القانون الدولي، وفي سائر الأعراف الإنسانية والأخلاقية، فإن مقاومته تظل حقا مشروعا بل واجبا مقدسا على الشعب الذي يتعرض له. ومن واجب الأسرة الدولية والجيران المحيطين به أن يدعموه ويساعدوه حتى يتخلص من الاحتلال، الذي هو في الواقع نوع من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.

في أثناء الحرب العالمية الثانية، ساندت بريطانيا المقاومة الفرنسية ضد الغزو الألماني لها، وساعدت الولايات المتحدة الأمريكية المقاومة الأفغانية للتخلص من الوجود السوفيتي بها، وسبق أن ساند الاتحاد السوفيتي نفسه فيتنام للتحرر من الاحتلال الأمريكي لها. أما أمريكا نفسها فقد عانت ويلات الاحتلال المتعدد الأطراف، فقد احتلتها بريطانيا وفرنسا وأسبانيا، وحتى هولندا، واستطاعت المقاومة فيها أن تتخلص من هؤلاء جميعا، ولم يقل أحد إن المقاومة حرام، أو إنها تستهدف المدنيين، أوإنها نوع من الإرهاب، فلماذا ترفع هذه اللافتات المضللة اليوم في وجه المقاومة الفلسطينية التي تعلن للعالم كله أنها تهدف إلى تحرير أرضها وشعبها من ويلات الاحتلال الإسرائيلي، المستمر في عسفه وجبروته منذ ستين عاما؟!

وهكذا لن يستطيع أحد مهما كان مركزه ومهما بلغت قوته وسطوته أن يمنع المقاومة من الظهور والاستمرار، كذلك فإن قرارات مجلس الأمن المنحازة مهما لفت ودارت وحاولت إدانة المقاومة الفلسطينية فإنها لا تستطيع انتزاع حقها المشروع في العمل على الأرض، وتأريق طمأنينة إسرائيل حتى تقرر إنهاء احتلالها!

تلك هي الحقيقة الإنسانية، والتاريخية، وحتى المستقبلية. وبالتالي فإن من حق الشعب الفلسطيني أن يحظى بالدعم السياسي الكامل لمقاومته، وأن يحظى في نفس الوقت بالدعم المادي واللوجستي من جيرانه أولا، ثم من سائر بلاد العالم الحر لكي يجعل من تلك المقاومة أهم العوامل في حصوله على حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال.

والسؤال الآن الذي ينبغي طرحه: لماذا تقف الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الغربية المنضوبة جميعها تحت مظلة الاتحاد الأوروبي في وجه المقاومة الفلسطينية بهذا الشكل الصارخ، وتحاسبها على أساس المعايير المزدوجة؟ هنا سر لابد من الكشف عنه. وهو أن يهود أوربا الغريبة والشرقية كانوا يمثلون صداعا مزمنا في البلاد التي يعيشون فيها، فلهم عاداتهم الخاصة بهم، ولهم أسلوبهم في التعامل المادي القائم أساسا على الربا الفاحش، ولهم ترابطهم الديني الذي يعلو على الارتباط بالأوطان التي يوجدون بها، لذلك عندما بدأ اليهود يتحركون لإنشاء وطن قوي لهم، واختاروا فلسطين، رحبت الدول الأوروبية كلها، وبكل سعادة، بهذا الاتجاه للتخلص من هذه الطائفة المستعصية على الاندماج والتأقلم في الحياة الغربية، وبالطبع لم يهم الغرب حينئذ أن تؤخذ قطعة أرض من قلب العالم العربي، بل إنها وجدتها فرصة لتقسيم هذا العالم، الذي من المحتمل أن يصبح ذات يوم بفضل وحدته قوة لا يستهان بها إلى جانب أوربا، وقد حدث ذلك بالفعل في فترات معينة من التاريخ القديم والحديث.

هذا هو السر الذي ظل لفترة طويلة خافيا عن الكثيرين وراء الدعم اللامحدود من أوربا ثم أمريكا لإسرائيل. فهم يضربون بها عصفورين بحجر واحد: التخلص من اليهود في بلادهم، وتقسيم الوطن العربي الواحد إلى قسمين لا يتقاربان! وهكذا فإن المؤامرة أكبر من العرب وإسرائيل، وهي مثل شبكة عنكبوت عملاق التفت حول المنطقة كلها، وراحت تسد كل المنافذ للتخلص منها.

ومع ذلك، وعلى الرغم منه، ففي مثل هذه الحالة الشاذة، وتلك الظروف غير المواتية على الإطلاق لنشوب حروب نظامية بين العرب وإسرائيل، تصبح المقاومة الشعبية للاحتلال حقا مشروعا، بل هي واجب وطني وديني وأخلاقي.

ومن الغريب أن هناك أصواتا تدعو المقاومة إلى الهدوء والتعقل. كيف؟ والأرض محتلة، والجدار متوغل، والمعابر مسدودة، والمداهمات يومية، والمعتقلون بالآلاف في سجون المحتل، والمستوطنات في توسع مجنون، ورفض حق عودة اللاجئين يجري التأكيد عليه يوميا.. ثم عمليات تهويد القدس لمحو الهوية العربية، الإسلامية والمسيحية، منها متواصلة بدون حياء؟!

كيف تسكت المقاومة الفلسطينية تحت هذا العسف الذي يشاهده العالم كله ولا يتحرك؟ وكيف تقبل الدول العربية بالإمساك عن دعم المقاومة على ظن أو وهم انتصار خيار السلام؟ وكيف لا يطهر الشعب الفلسطيني نفسه من المتآمرين عليه، والمستفيدين من الكفاح اللفظي باسمه؟ وكيف لا تختصر أجنحة المقاومة الفلسطينية في جناحين رئيسيين، أحدهما مسلح على الأرض، والآخر مفاوض على المائدة (هذا إذا كانت هناك مائدة أصلا؟!).

والخلاصة أن إسرائيل لن تتخلي عن شبر من الأرض العربية المحتلة بدون إجبارها على ذلك، ولن يتم ذلك من خلال المفاوضات وحدها، بل لابد من إزعاجها بالمقاومة المسلحة والمشروعة، والمدعومة أخيرا من العرب حولها، ومن المسلمين في سائر أنحاء العالم.

* * *


أوراق العرب الباقية

(5) تأكيد مقومات الهوية العربية

[---]

من أهم الأوراق المتاحة أمام العرب حاليا وفي المستقبل القريب محاولة تأكيد الهوية العربية في مجتمعاتها، وذلك من خلال ثلاثة عناصر أساسية هي اللغة، والتاريخ، والدين. لكن أهم ما ينبغي التنبيه إليه هنا هو عدم التقوقع على الذات، بل لابد من الانفتاح في نفس الوقت على ثقافات العالم المعاصر، والتزود من المعرفة الإنسانية الحديثة بدون حدود.

ولكي نسترجع تجربة الماضي القريب لكي نستفيد من إيجابياتها وسلبياتها فيكفي أن نستحضر حركة القومية العربية التي شاعت في المنطقة العربية كلها خلال عهد عبد الناصر (54- 1970)، والتي نتج عنها عمل مبشر استمر ثلاث سنوات فقط هو الوحدة بين مصر وسوريا، فما الذي أجهض هذه الحركة، وجعلها تكاد تختفي تماما حتى من أقلام المفكرين والسياسيين؟ عدة أمور أولها أنها ارتبطت بالتوجه الاشتراكي الذي كانت ترفضه العديد من الدول العربية ذات الأنظمة الرأسمالية. وثانيا أنها راحت تتحدث إعلاميا عن الجذور المشتركة للعرب، والمصير المشترك دون أن تعمل جديا لتفعيل عناصرهما التي أشرت إليها وهي اللغة العربية، والدين الإسلامي والمسيحي، ثم الوعي بالتاريخ العربي للانطلاق منه نحو المستقبل.

وبالطبع كان فعل الوحدة بين مصر وسوريا، الذي حدث بسرعة خاطفة ودون مقومات تحافظ على استمراره، جرس إنذار للغرب لكي يتحرك من أجل إيقاف هذا التقارب أو الاندماج بين البلاد العربية، وهذا أحد أهم أهدافه الاستراتيجية، فليس من المطلوب أبدا أن يقوم كيان عربي موحد إلى جوار أوربا مباشرة بحيث يهدد مصالحها، ويفسد عليها حركتها الاقتصادية، وهيمنتها العسكرية والسياسية.

وهكذا تكالبت الأخطاء الداخلية في حركة القومية العربية مع المؤامرة من الخارج لكي تجهض هذا المشروع الحالم، والذي كان أهم ما فيه أنه أعاد الروح إلى الأمة العربية، وجعل أبناءها يشعرون أنهم متقاربون، ومن الممكن أن يكونوا متحدين!

لكننا الآن وقد تخلينا طوعا أو كرها عن فكرة القومية العربية بمعناها السياسي، فما علينا إلا أن نعمل على إحياء جذورها اللغوية والدينية والتاريخية التي تمهد الأرض لتقارب ثقافي، وتعاون اقتصادي مع عدم إغفال الجانب الاجتماعي الذي يتمثل في الزواج المتبادل بين البلاد العربية المختلفة.

إن هذا العمل- في تصوري- هو الذي يمكن أن يمثل حائط الصد القوي ضد كل محاولات الغرب في تمزيق نسيج الوحدة بين الشعوب العربية وبلادها، والتسرب إلى ذلك من خلال التدخل في برامج التعليم ومناهجه، وفي غزو القنوات الفضائية الناطقة بالعربية والتي تستهدف الشباب العربي لخلعهم من جذورهم الأصيلة، ثم في إشاعة الدعم اللامحدود لإسرائيل ومحاولة إثبات تفوقها الكاسح على كل الدول العربية مجتمعه حتى تظل حالة اليأس والإحباط، والاستسلام للأمر الواقع، ولما يفرضه الغرب من إملاءات!

إن العمل الذي يمارس ضد العرب يحتوي على الكثير من الذكاء والمكر، ولا شيء يمكن أن يفشل مخططاته سوى عمل على نفس المستوى. ومن العجيب أن العرب يبتلعون الطعم الذي يقدم لهم، ويندفعون أحيانا في تبني المقولات التي يطرحها لهم الغرب، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الدعوة إلى تنقية مناهج التعليم العربي من مواد التعصب، وصفحات المعارك العسكرية التي انتصر فيها العرب.. في نفس الوقت الذي تمتلئ فيه المناهج الدراسية سواء في الغرب أو لدى إسرائيل بآلاف الصفحات المقابلة لذلك عندهم!

ومثال آخر: عندما يشترط البنك الدولي لمساعدة التعليم في البلاد العربية أن تغير المناهج والمقررات بالصورة التي يرضى عنها، ويقول للعرب: إنما أفعل ذلك حتى يتمكن الخريج العربي من العمل في الاتحاد الأوروبي أو في أمريكا.. هذا في الوقت الذي ترتفع فيه ترسانة من التشريعات لطرد العرب من أوربا وأمريكا، وعدم إعطائهم الوظائف التي يستحقونها!

وأختم هنا بمثال من الرياضة. فالغرب يشجع العرب إلى إنشاء أندية كرة القدم التي تتنافس داخل كل بلد، ثم بينها وبين الفرق الأخرى من الدول العربية، وعندما يلتقي فريقان من دولتين يتهيأ المشجعون منهما لإشعال حرب طاحنة بينهما، ولم يفكر العرب حتى الآن في إنشاء منتخب عربي موحد يمكنه أن ينافس أي فريق أو منتخب أوربي؟

* * *

اللغة.. آخر حصون العرب

[الأهرام، 2007]

ما تزال اللغة العربية الفصحى (وليس اللهجات) من أهم الروابط التي توحد بين العرب في الأفكار والتطلعات والاتصال بماضيهم المجيد. ومن الواضح أن حالها على ألسنتهم بالذات لا تسر صديقا، أما مستواها على أقلامهم فمازال متماسكا. ولولا أن الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفزيون تستعين بمصححين محترفين يضبطون نطق الألفاظ وصحة الأساليب لخرجت الأمور عن السيطرة تماما. أما الذين يجيدون اللغة الفصحى حاليا فإنني أرثي لهم، لأنهم يحرصون على الأداء اللغوي الصحيح بينما لا يوجد حولهم من يعرف الصواب من الخطأ، وأخشى أن تنطبق عليهم في يوم من الأيام رواية نهر الجنون لتوفيق الحكيم! والأدهى من ذلك أن أولئك الذين يتطلب عملهم استخدام اللغة قد أصبحوا يتهاونون كثيرا في إتقانها، ومنهم المدرسون والقضاة والمحامون والمذيعون ونواب البرلمان بالإضافة إلى الموظفين الذين ينحصر عملهم في كتابة المذكرات والتقارير.

ومن العجيب أن هذا الحال المتردي لا يقتصر على بلد عربي واحد، وإنما يعم البلاد العربية كلها وبدون استثناء. فما هي العوامل التي أدت إلى ذلك؟ وكيف يمكن إصلاح الأوضاع؟ هذان هما السؤالان الكبيران اللذان يستحقان إجابة واضحة ومحددة. ولا شك أنهما مرتبطان أحدهما بالآخر ارتباط السبب بالنتيجة. وبالنسبة إلى السؤال الأول يمكن القول بأن تدهور اللغة الفصحى إنما يرجع إلى عدة مئات من السنين، وبالتحديد منذ صارت مقاليد الحكم في بلاد العرب بأيدي الأجانب، سواء كانوا من المماليك أو الأتراك، أو البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين. وفي تلك المرحلة الزمنية الطويلة لم تسقط اللغة العربية وحدها وإنما سقط الفكر العربي نفسه. ومن الحقائق المؤكدة أن كلا من الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة، أو هما مثل السوائل في الأواني المستطرقة: يصعدان معا ويهبطان معا. لذلك فإن النهضة الفكرية التي شهدها العرب في مطلع القرن العشرين قد صحبتها بالضرورة صحوة لغوية واضحة، وبرز على الفور عدد من المفكرين والكتاب الذين أعادوا للغة العربية رونقها وقوتها معا من أمثال أحمد لطفي السيد والعقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل والرافعي والزيات والمنفلوطي. وفي نفس الوقت قام الزعماء السياسيون بإلهاب المشاعر الوطنية بواسطة لغة قوية من أمثال عبد الله النديم، ومصطفي كامل، وسعد زغلول ومكرم عبيد وحتى الشعر نفسه راح ينتعش على أيدي البارودي ثم أحمد شوقي وحافظ والعديد من شعراء مصر وسائر البلاد العربية.

وهناك عاملان جديدان لابد من الإشارة إلى دورهما في اعتدال حال اللغة العربية الفصحى، وهما انتشار التعليم، وشيوع الصحافة، أما التعليم فقد راح يؤكد في أذهان التلاميذ قواعد الصحة اللغوية، ويميز لهم الصواب من الخطأ. وأما الصحافة فقد قامت بدور هام للغاية في تحرير الأسلوب العربي من المحسنات البلاغية المرهقة، ومنها السجع البغيض، ويعمم بدلا من ذلك لغة سهلة مباشرة، تصف الأحداث، وتحلل المواقف، وتصل للقارئ من أقرب الطرق. لكن الحال لم يستمر على ذلك طويلا، فما لبثت الأخطاء أن كثرت، والتفكير بالعامية زاد، والتفاخر باستخدام الألفاظ الأجنبية قد أصبح ظاهرة سيئة ومرضيا عنها (مثل استخدام كلمة سوسيولوجي بدلاً من اجتماعي !!).

أما بالنسبة لإجابة السؤال الثاني: كيف يمكن إصلاح الأوضاع؟ فسوف أكتفي هنا بذكر منظومة من خمس أدوات، لابد من توافرها لتعليم اللغة العربية الفصحى على أساس سليم. ومن الغريب أن شيئا منها لم يتحقق حتى الآن، على الرغم من وجود مدارس ومراكز ومجامع للغة العربية في سائر أنحاء الوطن العربي كله. أولي هذه الأدوات هو قاموس عصري لمفردات اللغة العربية، يكون على غرار أي قاموس إنجليزي أو فرنسي أو ألماني أو روسي أو صيني.. ثانيا: قاموس لأفعال اللغة العربية: تصريفها وإسنادها للضمائر. ثالثا: قاموس لأدوات اللغة العربية، وهي التي تربط بين الأسماء والأفعال وتتغير المعاني أحيانا باستعمالاتها المختلفة. رابعا: كتاب مبسط يتضمن  قواعد اللغة العربية، ويمكن أن يستوعبه أي قارئ بدون معلم. وأخيرا كتاب أو عدة كتب لمختارات من نصوص اللغة العربية، تتيح الفرصة لتطبيق القواعد عليها، والتعرف على مختلف أساليب الكتاب العرب المتميزين. تلك هي منظومة الأدوات الخمسة الغائبة. فهل من يسمع؟ وهل من يحاول أن يتقدم للإصلاح؟!

* * *


مأساة القواميس العربية

[الأهرام، 2007]

الأصل في القاموس أنك إذا فتحته وجدت فيه ما تريد أن تعرفه. لكن القواميس العربية الحديثة وبدون استثناء حين تفتحها تجد فيها ما لا تريد. ولا تعثر على ما تريد. لماذا؟ لأن الذين قاموا على صنعها نقلوها بالكامل أو نقلوا معظم مادتها اللغوية من القواميس القديمة. ومن المعروف أن القاموس يعتبر مجمعا لغويا لمرحلة معينة من تطور اللغة. والحق يقال إن أجدادنا العرب كانوا متميزين للغاية في وضع القواميس التي كانت تلبي حاجة المجتمعات في عصرهم، ثم حدث أن تطور اللغة قد تجاوز القواميس التي وضعوها، وعندما وصلت إلينا كانت مليئة بكلمات، بعضها حي، وبعضها انتهي استعماله، ومع ذلك قمنا بوضع هذا وذاك في قواميس مصغرة، مثل (مختار الصحاح) الذي تم اختصاره من معجم الصحاح للجوهري (المتوفى سنة 393 ﻫ) وحتى عندما قام بعض السادة العلماء بوضع قواميس جديدة مثل (الوجيز) و (الوسيط) وهما من أعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد ظل الخطأ مستمرا، وهو نقل مواد القاموس، وكذلك معاني تلك المواد من القواميس القديمة دون أي تدخل في كثير من الأحيان، وهو الأمر الذي انتهي بتلك القواميس (الحديثة) إلى أن تكون نسخة مكررة أو طبق الأصل أحيانا من القواميس القديمة. وسوف أتوقف لأضرب بعض الأمثلة من قاموس (الوجيز) فمثلاً تجد فيه (أحمض المكان: كثر فيه الحمض، وأحمض القوم: أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام) وبالطبع هذه ألفاظ ومعان بطل استعمالها، أو بتعبير آخر: ماتت من اللغة، ولا شك أن غيرها قد حل محلها، ولا مانع بالطبع من وضعها في قاموس تاريخي لمن يريد البحث عنها كحفريات قديمة، أما أن توضع في قاموس للاستعمال الحديث والعصري فهذا ما لا يعقل أو يليق. ومثال آخر (ثجر التمر أي خلطه بتفل البسر، وثجر الشيء أي غلظ وعرض، والثجرة وسط الشيء. والثجير تفل كل شيء يعصر كالعنب وغيره) وبالطبع هذه كلمات ومعان رفعت كلها من الاستعمال الحديث والعصري، ولم يكن من اللازم أبدا وضعها في قاموس، المفروض أنه مختصر، تستخدمه الأجيال في الوقت الحاضر.

ولا شك أن المشكلة هنا أو المأساة هو أننا لم نستطع حتى الآن أن نقيم فاصلاً بين اللغة العربية القديمة التي توقف استعمالها، وبين اللغة العربية الحديثة المستعملة حاليا. وليس معني إقامة هذا الفاصل أن نمحو اللغة القديمة تماما وإنما أن نرجع إليها فقط عندما تكون متصلة باللغة الحديثة، وتساعد على فهمها.

والواقع أن عددا كبيرا جدا من مفردات اللغة العربية القديمة ومعانيها مرتبط بالبيئة البدوية التي نشأت فيها، ولا شك أنه يختلف كثيرا عن الألفاظ والمعاني التي تدور في المجتمعات العربية الحضرية والحديثة. وتلك حقيقة مازال يخشى علماء اللغة مواجهتها بالصراحة والشجاعة اللازمتين. فمثلا عندما يقول إنسان تربي وعاش في المدينة (هنا مربط الفرس) فإنه يستخدم عبارة بدوية كاملة الدلالة في بيئتها التي نشأت فيها، ولكنها لا تعني له أكثر من كليشيه مصكوك، تلقاه من غيره دون أن يشارك في صنعه. وكذلك عندما يقول (نار على علم) أي على جبل، فإن هذه العبارة صحراوية قديمة لا علاقة لها على الإطلاق بإنسان المدينة!

والخلاصة أننا إذا أردنا أن نضع قواميس عصرية لابد من أن نعيد جمع اللغة التي يتكلمها الناس بالفعل، ويكتبها المفكرون والأدباء والعلماء والإعلاميون، وأن نحدد مداخلها اللغوية، ونبلور معانيها التوضيحية، وأن نكثر من الأمثلة النموذجية، ونضع الصور الفوتوغرافية التي تقرب ما لا ندركه بسهولة، ونستبعد الصور التي لا داعي لها (مثلما يحدث حاليا عندما يترك القاموس صور الحيوانات الغريبة، ويضع لنا صورة تمساح أو أرنب) !!

* * *


ابن رشد الحقيقي

[الأهرام، 2008]

ما زال ابن رشد، الفيلسوف العربي الكبير، يمثل نقطة ضوء ساطعة في سماء الفكر العربي والثقافة الإسلامية. والواقع أنه يشبه إلى حد بعيد الماسة ذات الوجوه المتعددة، من أي وجه نظرت إليها قابلتك بشعاع ينبعث منها. وإليك الدليل على ما أقول. فقد كان ابن رشد (أولاً) أفضل شارح ومختصر لفلسفة أرسطو في العالم العربي. وعندما تلقفت أوربا أعماله في هذا المجال قامت بترجمتها على الفور إلى اللغة اللاتينية، ومنها انتشرت في كل اللغات الأوربية المعروفة حاليا، وكان هذا أحد مقومات عصر النهضة الذي أخرج أوربا من مرحلة العصور الوسطي إلى فجر العصر الحديث الذي تنعم به حاليا. وكان ابن رشد (ثانيا) أحد أهم المدافعين عن الفلسفة باعتبارها بحثا عقليا في مواجهة التيار الصوفي الذي كان يقلل من شأن العقل، مع أنه أغلي نعم الله المهداة إلى الإنسان. وفي هذا الصدد قام ابن رشد بتأليف كتاب (تهافت التهافت) ردا على الغزالي الذي هاجم الفلسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة). (ثالثا) كان ابن رشد أهم فيلسوف وقف في مواجهة المتكلمين، الذين حجبوا العقيدة الإسلامية البسيطة السمحاء، وأقاموا حولها شبكة من التفاصيل والتلاعب بالألفاظ حتى فاجأهم ابن رشد بتفرقته الشهيرة بين عالم الغيب الذي لا يستطيع الإنسان أن يدرك أبعاده وتفاصيله وبين عالم الشهادة الذي يستطيع العقل والحواس أن تدركه بكل سهولة. (رابعا) كان ابن رشد هو الذي اقترح تصالحا رائعا بين الفلسفة والدين، أو بين الحكمة والشريعة، معلنا أن كلاً من الوحي الإلهي والعقل الإنساني منحة من الله تعالي، ولا يمكن بأي حال أن تتعارض منحتان آتيتان من واهب واحد. وبالتالي فإن الدين الحق لا يتعارض أبدا مع قوانين العقل الصحيحة. (خامسا) كان ابن رشد قاضيا، بل أصبح قاضي قضاة قرطبة، عاصمة الدولة الأندلسية، ومن هنا اهتم بالفقه الإسلامي ومذاهبه، وألف كتابه الشهير (بداية المجتهد) الذي أصبح مرجعا لا يستغني عنه أي باحث في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة المتداولة في العالم الإسلامي. (سادسا) كان ابن رشد طبيبا متميزا، اصطفاه الخليفة لكي يكون طبيبه الخاص بعد ابن طفيل. وقد ترك لتلاميذه في الطب مذكرات يستعينون بها على تشخيص الأمراض وعلاجها.

وهكذا من أين نظرت إلى ابن رشد وجدته يتألق، وفي أي مجال حاولت أن تختبر أفكاره وجدتها لامعة ومتطورة. لكن مأساة الرجل تمثلت في معاصريه، الذين غلبهم الحقد والحسد والكراهية فأوقعوا به، وما أسهل أن يوقع الأشرار بالإنسان الخير، كما أنه ما أيسر أو يوقع الأقزام بشخص عملاق. وقد كتب عنه أحد الدارسين الكبار كتابا سماه ابن رشد المفتري عليه. والواقع أن هذا الفيلسوف العربي الكبير قد تعرض للظلم من مختلف الجهات وحتى الآن.. فبعض مفكري أوربا سرقوا أفكاره ونسبوها إلى أنفسهم، وأهل قومه من العرب أهملوا فلسفته، وأهالوا عليها التراب عدة قرون، وفي مطلع العصر الحديث تناوله بعض المستشرقين فلم ينصفوه، وتبعهم بعض الدارسين العرب فساروا على دربهم، وأخيرا.. ظهر عنه مع الأسف فيلم سينمائي (ملبوس)، كان ينوي أن يقول فيه الكلمة الأخيرة لكنه لم ينجح في ذلك، مما يجعل الباب مفتوحا لإنتاج فيلم آخر، يتناول ابن رشد الحقيقي الذي لم يتصل على الإطلاق بدائرة الغجر!!

* * *


مصطلحات سياسية

بين الحياة والموت

[الوفد، 16/3/2009]

تتضمن لغة السياسة ما يسمى بالمصطلحات السياسية، وهي العبارات القصيرة التي يتم صكها لتعبر عن حادث سياسي معين أو أزمة سياسية محددة، أو اتجاه سياسي يراد تطبيقه أو الترويج له. ولأن السياسة دائما متغيرة، باعتبارها فن التعامل مع الواقع، والواقع دائما متغير، فإن المصطلحات السياسة تنشأ وتزدهر ثم تضعف وتموت.. وسوف أتوقف هنا عند بعض المصطلحات السياسية التي شغلتنا لفترة، ثم ما لبثت أن ذبلت وتساقطت مثل أوراق الخريف!

إن مصطلح «العالم الثالث» نشأ في سنة 1965، ليشار به إلى مجموعة الدول التي لا تدخل في دائرة الدول الرأسمالية، ولا تدخل أيضا دائرة الدول الاشتراكية.. ومن المعروف أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية 1945، قد انقسم بصورة حادة إلى معسكرين، قاد المعسكر الاشتراكي الشمولي الاتحاد السوفيتي، وقاد المعسكر الرأسمالي الديمقراطي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جرت حرب باردة بين المعسكرين، كادت أحيانا تتحول إلى حرب عالمية ثالثة بسبب أزمة الصواريخ الكوبية، ولذلك حاولت مجموعة من الدول أن تنأى بنفسها عن هذا الصراع بين الكبار، فأنشأت ما سمي بـ «مجموعة دول عدم الانحياز أو الحياد الإيجابي» أي الذي لا يقف في صف هذا المعسكر أو ذاك، وكان هذا حلما أو وهما! فإن الدول الصغيرة لا تستطيع مهما فعلت أن تسحب نفسها من تحت أقدام الفيلة المتصارعة، ولذلك ما لبثت تلك الدول نفسها أن وقعت في شباك أحد المعسكرين، واختفى مصطلح «الحياد الإيجابي» كما اختفى منذ القرن العشرين مصطلح «الدول النامية»، وذلك حين بدأت العديد من تلك الدول تتخطى حاجز التخلف وتلحق بالدول المتقدمة، كما حدث في دول جنوب وشرق آسيا، التي أطلق عليها مصطلح «النمور الآسيوية» والنمر كما نعلم حيوان مفترس، وهو شرس جدا، لكنه غاية في جمال المنظر!

وخلال حرب العراق، صدرت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزيرة خارجيتها مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» حاولت فيه أن تضم إلى البلاد العربية وإيران كلا من أفغانستان وباكستان، لكن المصطلح ولد ميتا ولم يعد أحد يشير إليه إلا في النادر، وأحيانا في مقام الهجوم أو التهكم!

ونفس الأمر حدث بالنسبة إلى مصطلح «الفوضى الخلاقة» الذي حاولت به أمريكا أن تعبر عن نظرية مؤادها إحداث اضطرابات وفوضى وقلاقل في البلاد العربية، والتي تتميز بالثبات والاستقرار منذ عهود طويلة، يتلوها خلق حالة أخرى جديدة، تختلف تماما عن وضعها الحالي بحيث تقام فيها الديمقراطية تبعا للطريقة الأمريكية وبذلك تكون مؤهلة للتعامل معها، وتسمح لها بالحياة في العالم المعاصر، لكن هذا المصطلح أيضا ما لبث أن اختفى كما ظهر، لأن الوضع الذي نتج عن حالة الفوضى في العراق لم يسفر عن أي نتيجة خلاقة، بل أدى إلى نتائج مدمرة!!

لكن المصطلح الذي وضعه الغرب، محاولاً أن يغير به اسم المنطقة العربية فهو «الشرق الأوسط»، وليس استخدامه من قبيل أن يعبر عن منطقة تقع بين شرقيين أحدهما أبعد والثاني أقرب بالنسبة للغرب، ولكنه وضع لكي يتضمن دولة إسرائيل، لأن استمرار إطلاق مصطلح «البلاد العربية» أو «المنطقة العربية» لا يشملها!. ولذلك فإن القائمين على السياسة الدولية حريصون كل الحرص على استخدام هذا المصطلح، وإشاعته وتكريسه حتى على ألسنتنا نحن!، وهذا من أعجب الأمور!!

إذن المصطلحات السياسية كما أنها تولد وتموت، فإن بعضها قد يكتب له الحياة لفترة أطول، وذلك بهدف تحقيق غرض معين، أو استمرار وضع سياسي خاص.

* * *


مناقشة فكرة ماكرة!!

[ لم ينشر من قبل ..]

سألني أحد الخبثاء قائلا: هل تعرف السر الحقيقي الذي يجعل البلاد العربية بدون استثناء لا تأخذ بأسباب التقدم والنهضة؟ فأجبته على الفور: ربما أنها لا تعرف جيدا هذه الأسباب، أو أنها تعرفها ولكنها لا تملك الوسائل التي تمكنها من ذلك.. فأسرع قائلا: كلا، إنها جميعا تعرف أسباب التقدم، وتملك وسائله، ولكنها تخشى من عقاب الغرب لها. سألت مندهشا: عقاب على التقدم! أقسم لي بأن الأمر كذلك، والدليل عليه أن كل محاولات أو ما نسميه مشاريع التقدم قد تم إجهاضها، والإطاحة بالرؤساء الذين حاولوا القيام بها!! ثم راح يضرب الأمثلة بمحاولة محمد علي، ثم محاولة إسماعيل، ثم محاولة عبد الناصر.. هذا في مصر وحدها. أما في السعودية فقد تم اغتيال الملك فيصل الذي لوح باستخدام النفط كسلاح في الحرب مع إسرائيل، كما تم إفشال مشروع التقدم في الجزائر على عهد بومدين، ولذلك فإن باقي الدول العربية قد وعت الدروس جيدا، فأمسكت عن مشروعات التقدم الحقيقي، وراحت تغازل الغرب بمشروعات شكلية ليس لها مردود فعلي في حركة التقدم والنهضة التي تطمح إليها شعوبهم، وبالطبع حظي هذا العمل الشكلي بالرضا والقبول، بل والمباركة والتشجيع من الغرب. فأصبح العالم العربي يمتلئ بالمباريات الرياضية، والحركات الفنية، وتقام فيه مهرجانات المسرح والسينما، وتدعو بعض بلاده إلى مسابقة ملكات الجمال، كما انتشرت فيه أماكن الترفية ووسائل اللهو والتسلية، أما المصانع فقد تخصص الكثير منها في إنتاج الشامبو والشيبسي، وتراجعت الأطعمة المحلية لتسود عليها المأكولات الأمريكية السريعة التجهيز، وسندوتشات الهامبورجر.. هذا في الوقت الذي مازالت فيه المدارس أقل من عدد التلاميذ، والجامعات مكتظة بأكثر من طاقتها من الطلاب، ومراكز البحوث العلمية متهالكة ومكررة ولا تقدم خدمة حقيقية للمجتمع، ولا حتى للبيئة التي توجد فيها. أما الزراعة فمعظمها لم يلحقها أي تطوير منذ آلاف السنين، وبعضها أصيب بالأمراض الناجمة عن استخدام المبيدات الضارة بالصحة، والمهددة للحياة البشرية!

قلت لصاحبي: يبدو أنك متحامل جدا، ولا تريد أن تنظر للأوضاع إلا من جانب واحد! فقال: أبداً وحياتك، وأنا أدعوك أن تقارن معي بين مجموعة البلاد العربية ومجموعة عدد مماثل لها في السكان والإمكانيات من دول جنوب وشرق آسيا، والتي استطاعت أن تنقذ نفسها من براثن التأثير الأوربي والأمريكي.. انظر إليها منذ خمسين سنة فقط، وإلى البلاد العربية التي كانت حينئذ متقدمة عليها، ماذا حدث للمجموعتين؟ ألم تنطلق تلك الدول الآسيوية انطلاقة كبرى في كل مجالات التنمية، بينما تراجعت الدول العربية عما كانت عليه سواء في مجال الخدمات أو الإنتاج؟ ألا تلاحظ أن سيارات كوريا تملأ شوارع مصر، وموتورات رفع المياه التايوانية توجد في معظم منازلنا لرفع مياه الشرب إلى الأدوار العليا؟ وإذا أردت المزيد فاذهب إلى أي بائع الكترونيات لتجد هناك معظم المنتجات من ماليزيا، واندونيسيا والصين؟!

قلت لصاحبي: لكن هذه فكرة ماكرة جدا، تلك التي تؤكد لي فيها أننا نمسك عن التقدم بأنفسنا، وليس لأسباب خارجة عن إرادتنا! فقال: هذه قناعتي التي أحاول أن أنقلها إليك، فإذا كان لديك ما ينقضها فأهلا وسهلا، وإن كان لديك أسباب أخرى غيرها فاذكرها لي، وأنا على استعداد تام لكي أغير فكرتي!

وافترقنا.. لكنني من يومها مازلت أبحث وأفتش عما يمسكنا عن الأخذ بأسباب التقدم الحقيقي، وكلما وجدت سببا وجيها أو معقولاً رأيته يتهاوى أمام تلك الفكرة الماكرة.. التي وضعها صاحبي في راسي، ومضى!

* * *


نظرية المؤامرة

[الأخبار، 15/9/2009]

المثقفون في العالم العربي منقسمون إلى قسمين غير متعادلين، أحدهما وهو الأغلبية الكاسحة يرى أن ما حدث ويحدث في مصائب ومعوقات في العالم العربي يرجع لأسباب داخلية وظروف محلية، وقد يكون هناك تأثير خارجي لكنه بسيط، والفريق الثاني وهو الأقلية التي لا تكاد تتجاوز الخمسة في المائة يرى أن كل مصائب العالم العربي قد تم التخطيط الدقيق لها في الغرب، ثم وضعت بعد ذلك موضع التنفيذ، إما بأيدي الغرب أيام الاستعمار، أو بأيدي بعض العرب أنفسهم بعد رحيله. هذه هي خلاصة نظرية المؤامرة، ومعنى النظرية أنها مجموعة أفكار متناسقة فيما بينها يمكنها أن تفسر ظاهرة معينة أو عدة ظواهر مترابطة، ومن الواضح أن الاقتناع بهذه النظرية أو رفضها يمثلان موقفين متمايزين في تقييم الأمور الحالية، والتقدم بعد ذلك لطرح رؤية واضحة للمستقبل..

ولمزيد من البيان، ينبغي أن نحدد أولا الظاهرة التي تدور حولها نظرية المؤامرة، فالعالم العربي تم احتلاله منذ قرنين تقريبا، وقد ظل يكافح الاحتلال ويقاومه حتى استطاع أن يتخلص منه مع بداية خمسينات القرن العشرين، وطوال هذه المدة حدثت الكثير من التطورات، وتمت بعض عمليات التحديث، وخرج العالم العربي من حياته التقليدية ذات الإيقاع البطيء، إلى آفاق العصر الحديث بحيويته وسرعته، لكنه لم يكن على الإطلاق عضوا فاعلاً فيه، ولا مشاركا أساسيا في حركة التقدم التي انتشرت في كل مجالات الحياة. صحيح أن بعض مظاهر التقدم والنهضة قد لحقت ببعض المجالات ولكنها ظلت محصورة ومتعثرة، ولم تمتد إلى كل المجالات وخاصة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة والبحث العلمي وتطوير وسائل الإنتاج وإنشاء حياة كريمة لا تقل عن مثيلاتها في دول العالم المتقدم. والسؤال الأول: ما الذي عاق ويعوق العالم العربي عن تحقيق مثل هذه النهضة؟ هل هو تكاسله وتقاعسه وعدم قدرته الذاتية- أم أن هناك طرفا أقوى منه مازال يعمل بكل قوة وذكاء لكي يمنعه من تحقيق تلك النهضة؟

وللإجابة عن هذا السؤال، يمكن أن نستعين ببعض إشارات فقط من تاريخ مصر الحديث، باعتبارها كانت وما تزال طليعة البلاد العربية كلها، فقد كادت النهضة المنشودة تحدث في عهد محمد علي (1805- 1848) لكن أوربا الغربية والشرقية معا اتفقت بلادها، التي كانت متخاصمة ومتعادية، لكي تجهض مشروع محمد علي، والذي يريد أن يتأكد من ذلك يراجع بنود معاهدة لندن (1840) التي تصرح بنوايا الغرب ضد نهضة إحدى أهم البلاد العربية في ذلك الوقت، ثم إذا انتقلنا سريعا إلى عهد جمال عبد الناصر (1954- 1970) الذي تميز هو أيضا بمحاولة تطبيق مشروع متكامل للنهضة، سوف نراه يضرب عسكريا (سنتي 1956، 1967) واقتصاديا بإغلاق كل منافذ التمويل الغربي على بلاده، وسياسيا من خلال حملة عالمية شعواء حاولت أن تظهره بمظهر الديكتاتور المتعطش للحرب، وإشعال الثورات في كل مكان!

ولعل الغرب لم يهدأ له بال إلا عندما دفع مصر لتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1977، وبعدها فتح لها باب المساعدات، ولكنها ظلت مساعدات هذيلة، وبشروط قاسية. فالبنك الدولي يمول التعليم لكن بشروط خاصة جدا، وصندوق النقد يوافق على بعض المعونات لكن بشرط إلغاء الدعم عن الطبقات الفقيرة، وأمريكا تشترط علنا في معاهدة الكويز ألا تقل نسبة المشاركة الإسرائيلية في الإنتاج عن 30% أما المشروعات الأساسية الكبرى، التي هي العمود الفقري للنهضة، مثل إنشاء شبكة مواصلات شاملة ومتطورة، وتشجيع الصناعات المصرية القادرة على المنافسة العالمية، والتطوير الجذري للزراعة لكي تتمشى مع مثيلاتها في الدول المتقدمة فلا يريد الغرب ولا يرغب في تقديم المساعدة لها، وذلك بهدف المحافظة على هذا الإيقاع البطيء في حركة التنمية، ولكي لا تنطلق مصر بكل طاقتها نحو النهضة التي تستحقها!

إن مصر هنا ليست سوى مثال واضح على تطبيق نظرية المؤامرة الغربية والتي يمكن بكل سهولة أن نتحقق منها في سائر البلاد العربية دون استثناء. أما العجيب في الأمر، هو أن الرافضين لنظرية المؤامرة، وقد تهاوت في أيديهم كل الحجج والبراهين، يقفون اليوم مندهشين من كمية هذا العداء المتنامي في الغرب ضد العرب، بدءا من التصديق عليهم في الحصول على تأشيرات الدخول، وانتهاء بالمطالبة الصريحة بطردهم من أوربا وأمريكا!

* * *


لماذا يلجأ العرب

إلى الأمم المتحدة؟!

[ لم ينشر من قبل ..]

الأمم المتحدة بكل منظماتها عبارة عن محكمة ومجموعة جهات مساعدة. وقد تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية لكي تمنع الحروب التي تكون على غرارها عالمية وشاملة، ثم أصبحت تبحث بعض المشكلات الصغيرة التي تحدث بين بلدين صغيرين، وتحاول أن تنهي الصراع بينهما، ولم يتم لها ذلك إلا في النادر. أما مجلس الأمن فيها، وهو المجلس القوي الذي بإمكانه أن يتدخل عسكريا لإنهاء الصراع في بعض الأماكن، فقد سيطرت عليه أمريكا وروسيا، ثم انفردت به أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهكذا أصبح مجلس الأمن الذي كان من المفروض أن يصبح دوليا، يخضع لتنفيذ رغبات بلد واحد. الخلاصة من كل ذلك أن الأمم المتحدة بجمعيتها العامة التي لا تلزم قراراتها أحدا، وبمجلس الأمن فيها الذي أصبح في قبضة بلد واحد- لم تعد أهلاً ولا محلاً لإزالة النزاع بين بلدين، فضلاً عن الحكم العادل بينهما. ولذلك نلاحظ أن معظم البلاد القادرة بنفسها على حل مشكلاتها لا تلجأ إلى الأمم المتحدة، ولا تعلق عليها أي أهمية، وأحيانا تصدر ضدها قرارات دولية فلا تطبقها، وتمضي في طريقها غير عابئة بقرارات مجلس الأمن، ولا بالجمعية العامة.

طبعا كان من الممكن أن تكون الأمم المتحدة صمام الأمان في العالم، ولكنها لم تستطيع أن تفعل ذلك. وكان من الممكن أن يعمل لها ألف حساب، ولكنها فقدت كل أهليتها لذلك. ولو أن أحدا سألني عن نفقاتها التي تصرف عليها لقلت إنها أموال ضائعة، لأنها تذهب على كلام فارغ، وتتفق فيما لا طائل وراءه، حتى المساعدات العينية التي تقوم بتقديمها أحيانا إلى بعض الدول، نجد أنها تذهب إلى غير من يستحقها، وأحيانا تستولي عليها الحكومات ثم تبيعها إلى التجار مع أنها المفروض أنها توزع على الناس المساكين مجانا!! ومن العجيب أن الأمم المتحدة تعلم ذلك، ولكنها لا تتدخل. كل ما تفعله هو اتخاذ قرارات بإرسال معونات، دون أن تتحقق من توصيلها إلى مستحقيها!

الأمم المتحدة بناء شاخ، وتآكلت جدرانه، ودب السوس في أساساته، ولم يبق أمامها سوى نفخة هواء قوية لكي تسقطها وتريح العالم منها.

والسؤال الآن: هل أدرك العرب كل هذه الحقائق عن الأمم المتحدة؟ وإذا كانوا أدركوها فلماذا يتعلقون بجبالها المهترئة؟ وماذا ينتظرون منها، وهي تتابع قضية فلسطين منذ ستين سنة دون أن يكون لقرار واحد منها تنفيذ على أرض الواقع؟ والسؤال الأهم: لماذا كلما زادت حدة المشكلات عندهم أسرعوا بالذهاب إلى الأمم المتحدة، وانتظار ما لا يجيء منها؟! عموما لقد صرح أمين عام جامعة الدول العربية أخيرا، وبعد أن فاض به الكيل أنه بعد أن يرفع (الأمر) إلى الأمم المتحدة ويتأكد من أنها لن تفعل شيئا، سوف يعرض (الأمر) على مجلس القمة العربية القادمة لكي يتخذ ما يراه في مصلحة العرب.. أخيرا، وبعد مرور ستين عاما فهم العرب أن اللجوء إلى الأمم المتحدة لن يجدي شيئا، وأن أمورهم إن لم تؤخذ بأيديهم، فلن تتقدم إلى الأمام. لقد جاء في المثل العربي القديم (ما حك جلدك مثل ظفرك) لكن العرب مع الأسف ينسون التاريخ، ولا يقرأون الحاضر، كما أنهم لا يعملون حسابا للمستقبل. والذي يعيش منهم يومه سعيدا يحسب أن السعادة سوف تدوم له، وأن باقي الأيام القادمة ستكون على غراره، مع أن الدنيا لم تكن أبدا كذلك. إنها يوما معك ويوما عليك! المهم أن الإنسان هو الذي يصنع مصيره بنفسه.. وكذلك الأمم!!

* * *


([1]) هذا المقال، والخمسة التالية عبارة عن موضوع واحد.

آخر تحديث الجمعة, 29 مايو 2020 16:20