عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
ثالثا : فى الاقتصاد واوضاعه


ثالثا : فى الاقتصاد واوضاعه صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الأحد, 02 يناير 2011 00:44

 

 

 

 

ثالثا : فى الاقتصاد وأوضاعه :



-
خطاب مفتوح إلى علماء الاقتصاد

- بنوك .. بنوك

- مع بداية الأزمة الاقتصادية العالمية (قراءة فى آدم سميث )

- عالم الاقتصاد بين نارين !

- الطريق الاقتصادى الثالث

- رأى علمى فى سبب الأزمة المالية العالمية

- رأس المال نوعان

- البترول وجنونه

- حوار حول الخصخصة

- الوصايا العشرون لتخفيف الأزمة المالية والاقتصادية

- ثقافة الاستهلاك كيف ؟ ولمن ؟

- الروتين والبيروقراطية

- الإنتاج لمن يريد

خطاب مفتوح

إلى علماء الاقتصاد


[
لم ينشر من قبل.. ]

السادة الأفاضل علماء الاقتصاد..
تحية طيبة وبعد.. فقد آثرت أن أكتب إلى حضراتكم هذا الخطاب المفتوح ليكون أولا: علامة تقدير لجهودكم، وشكرا على ما قدمتموه لمجتمعكم. وثانيا: لكي ألخص لكم فيه ما يعاني منه الاقتصاد المصري، والمسئولية الملقاة عليكم نحو علاجه وشفائه، وأخيرا لكي يكون دعوة لكم أمام الجميع من أجل مشاركتكم بالرأي في مسيرة هذا الاقتصاد وتعديله إذا لزم الأمر.
الواقع أن الاقتصاد هو عصب الحياة الاجتماعية، وهو المحرك الرئيسي لمختلف أنشطة المجتمع، وعليه يتوقف مؤشر الرفاه لدى أفراده، وبه تقاس مكانة الدولة في العالم، وتحترم كلمتها في محافله ومنتدياته.
وليس يخفى عليكم بالطبع أن مصر قد مرت نهضتها الحديثة              في عهد محمد علي بتطوير اقتصادي بطيء. فقد اعتمدت أساسا على             مجال الزراعة، ثم حصرت نفسها في نبات واحد هو القطن، الذي             كانت تصدره إلى بريطانيا، فإن ارتفع سعره في العالم ازدهرت               أحوال مزارعيها، وانعكس ذلك على حركة الشراء والبيع في مجالات أخرى، وإن هبط سعره ساءت أحوالهم، وتراكمت ديونهم، ونزعت ملكية أراضيهم!
أما الصناعة فكانت تسير على استحياء. وباستثناء صناعة الغزل وبعض مصانع الزجاج، فإنها كانت في الغالب عبارة عن مهن وحرف يدوية في الوقت الذي كانت أوربا قد توسعت في استخدام الميكنة، وأوقفت استخدام الحيوانات في الحقول والشوارع!
ولا شك أن ثورة يوليه 1952 كانت تحمل أمالاً عريضة لتطوير الصناعة المصرية، فقامت ببناء ترسانة ضخمة في حلوان، وحاولت أن تتخلص من جلدها الزراعي، وتصبح دولة صناعية بالكامل. وكان هذا كما تعلمون خطأ استراتيجيا، لأن كل الدول الغربية التي تقدمت  صناعيا ظلت محافظة على إنتاجها الزراعي، بل وطورته بالأدوات والآلات الزراعية التي لم يقتنع بها الفلاح المصري حتى اليوم!
ثم جاء عهد الانفتاح في السبعينيات، فاتجه المصريون بعيدا عن الزراعة والصناعة إلى ما يسمى (الاستيراد والتصدير) حتى أن كل عمارة، خصص صاحبها شقة لأبنائه تحت هذا الاسم. ومن المقرر أن الاستيراد والتصدير ليس عملاً اقتصاديا منتجا، بل إنه مجرد سمسرة مؤقتة، ولذلك راح يختفي بسرعة، كما ظهر بسرعة. لأن المصريين ليسوا شطارا في هذا المجال كاليهود مثلا!
وها نحن الآن نعاني من زيادة عدد السكان (80 مليون)، ومن تدنى الدخل القومي، ومن تراكم الديون، ومن تذبذب البورصة، ومن زيادة البطالة، وما يرتبط بها من أزمة الإسكان ومشكلات العنوسة.. فأين آراؤكم المستنيرة، وحلولكم المبتكرة، واقتراحاتكم المفيدة؟ وكيف توظفون            دراساتكم الاقتصادية في مواجهة مشكلات الواقع، والعمل على تجاوزها؟ وما هي أفضل الطرق الاقتصادية التي تنطلق فيها مصر؟ وبأي الوسائل تستعين؟
السادة الأفاضل علماء الاقتصاد..
إنني لا أسمع صوتكم بوضوح، ولا أقرأ لكم في الصحف مقالات، ولا أتابع لكم مؤتمرات أو ورش عمل لبحث قضية اقتصادية ومحاولة حلها!
وعلى الرغم من أن الدولة تستعين دائما بكم في وزارات المالية والاقتصاد، إلا أنكم تتركون وحده من يتم تعيينه وزيرا، ولا تضعون أيديكم في يده لكي ينهض بالاقتصاد المصري على النحو الأمثل، وقد نسمع منكم بعض التعليقات الخاطفة على قرار هنا أوقرار هناك، ولكنكم لا تقدمون تصورا متكاملا للإصلاح الاقتصادي، وكيف يمكن تنفيذه في مختلف المجالات!
المسألة إذن من أولها إلى أخرها أمانة بين أيديكم، وهي مسئوليتكم الوطنية الأولى. وهي جد لا هزل فيه، كما أنها ملحة لا تحتمل أي تأخير أو تسويف، وأنا على ثقة في علمكم العزيز، ومن إخلاصكم لهذا الوطن، الذي ينتظر منكم الكثير. والسلام ختام.


*  *  *

بنوك.. بنوك

[الجمهورية، 2007]

عندما سمعت أن لدينا في مصر حوالي سبعين بنكا، تذكرت قول الشاعر العربي

إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا

وقد خابت معظم تلك البنوك في إدارتها، وسلمت أموالها لمجموعة من النصابين، الذين أطلقوا على أنفسهم لقب رجال الأعمال، وهم لا يمتون لهذا المصطلح المحترم بأي صلة. والدليل على ذلك أن جمعية رجال الأعمال باعتراف رئيسها على شاشة التلفزيون المصري لا تضم أكثر من 450 شخصا، بينما الذين كانوا يريدون الانضمام إليها يبلغون أكثر من أربعة آلاف. فلماذا رفضتهم الجمعية؟ كما يقول رئيسها إن الجمعية حريصة على سمعة أعضائها الحقيقيين- أي الأربعمائة- ولذلك لم تمنح عضويتها لسائر الأربعة آلاف نصاب..
طبعا النصب فن قديم صحب الإنسان منذ وجد على الأرض، وسيظل من أهم عيوبه حتى تنتهي حياته فوقها. هناك من ينصب عليك في البيع فيعطيك سلعة معطوبة على أنها سليمة، أو بايته على أنها طازجة، أو منتهية الصلاحية على أنها صالحة للاستهلاك الآدمي.. وهناك من تذهب لتشتري منه كيلو تفاح فيعطيك حبتين أو ثلاثة لا تصلح للأكل، وتضطر إلى إلقائها في القمامة، وهناك من يبيع لك قطعة أرض أو شقة ثم تكتشف أن بها عيبا أساسيا، أو أنها مشتبكة مع مشترين آخرين. وهناك المحامي الذي يؤكد لك أن كسب القضية مضمون، ويأخذ منك أتعابا ضخمة، ثم تخسرها ولا تراه بعد ذلك لكي يعتذر لك.. وأنا نفسي نصبوا علي في شراء قطع غيار سيارة، اشتريتها على أنها جديدة ومكتوب على أوراقها اسم المصنع والبلد الأجنبي ثم تبين أنها مستعملة أعيد طلاؤها وجلفنتها ثم عرضت للبيع، وعندما حاولنا تشغيل السيارة لم تعمل، فاضطررت لشراء قطعة أخرى غيرها..
لماذا إذن لا ينصب بعض هؤلاء على البنوك التي تمتلئ بالمال؟ الواقع أن ظاهرة كثرة البنوك في مصر قد أغرت هؤلاء بالتفنن في النصب عليها. والأدهى من ذلك أن عددا من العاملين في البنوك قد سهلوا لهم عمليات النصب، ولابد أنهم شاركوهم في الحصول على قدر من الغنيمة.. وهنا مربط الفرس كما يقولون. فلو أننا امسكنا بهؤلاء الموظفين، وحاسبناهم لأوقفنا نزيف النصب على البنوك، ونزح أموالها بتلك الصورة التي جعلت كل المواطنين مستاءين، ودفعت الرئيس مبارك إلى أن يعلن عن ضرورة عقاب الهاربين بأموال البنوك دون وجه حق، في نفس الوقت الذي تقوم فيه الدولة بمساعدة المتعثرين في السداد، لظروف خارجة عن إرادتهم..
أتمنى أن تستفيد البنوك (الكثيرة جدا) عندنا من عدم الوقوع فريسة لمحاولات النصب، وأن تضع في داخلها لافتات تحمل المثل المصري الصادق الذي يقول إن (المال السايب يعلم السرقة).


*  *  *

مع بداية الأزمة الاقتصادية العالمية
قراءة في آدم سميث

[الأخبار، 9/12/2008]

بعد تفاقم الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية، نهاية عهد بوش وإدارته المتصلبة الرأي، راحت سحب الأزمة الاقتصادية العالمية تتجمع وتتراكم بل وتزمجر بالرعد، ويصيب برقها بعض المؤسسات الكبرى والبنوك العملاقة التي لم تصمد للحظات، بل أسرعت بالتدهور والتناثر.. العالم كله خائف من أن تكون هذه الأزمة الحالية شبيهة بأزمة القرن الماضي التي حدثت سنة 1929 والسنوات العجاف التي تلتها. أما الإنسان المعاصر فهو مازال مشدوها من هول الأخبار، ولا يجد أمامه أحدا يسأله أو يطمئنه إلى مستقبله، فضلا عن حاضره.. فقط كل ما لديه: وسائل الإعلام التي تمتلئ بالأخبار عن إفلاس بعض البنوك والشركات الكبرى، وعن محاولات اندماج بعضها في بعض حتى لا تتهاوى كل منها على حدة، وعن تسريح آلاف الموظفين والعمال في أكبر الشركات             التي كانت إعلاناتها تملأ الشاشات ومنتجاتها تحظى بسمعة عالمية لا بأس بها!
أما أنا فقد اخترت طريقا آخر ربما كان أكثر كلاسيكية وهدوءا، وأعني به العودة إلى كتاب «آدم سميث» الذي يطلقون عليه أبا الاقتصاد الرأسمالي، وعنوانه المختصر «ثروة الأمم» الذي صدر سنة 1776، وهو يحتوي على المبادئ والأسس والقوانين التي تقوم عليها الرأسمالية التي مازال العالم يأخذ بها حتى الوقت الحاضر.
فماذا يقول آدم سميث؟ يقول إن المصدر الأول لثروة الأمة ليست هي الأرض، وإنما العمل، عمل الأفراد الذي يزودهم بالحاجات الضرورية والكمالية التي يستهلكونها سواء كانت مما ينتجونه بأنفسهم أو ما يتبادلونه  مع منتجات الأمم الأخرى،، وهكذا فإن ثروة الأمة تزيد كلما زاد العمل،          ولا سبيل إلى زيادة العمل إلا بالتخصص وتقسيم العمل وتطوير                أدوات الإنتاج وآلاته، وفي حالة زيادة عدد السكان المستهلكين لابد أن          يزيد عدد العمال المنتجين، وهذا بالطبع يتطلب زيادة رؤوس الأموال المستثمرة.
ويرى آدم سميث أن أهم قوة تنمي الثروة هي غريزة المصلحة الشخصية التي تدفع الفرد إلى تحسين أحواله، وبالتالي تتكون ثروة المجتمع من مجموع تحقيق هذه المصالح الشخصية للأفراد، حتى دون أن يكونوا قد قصدوا أساسا إليها. وهكذا فإن النظام الاقتصادي عند آدم سميث يقوم على النظام الطبيعي الذي تحكمه تلك الغرائز الشخصية.
وهنا قد يسأل سائل: كيف تنوعت المجالات الاقتصادية وتكاملت في المجتمع؟ والإجابة أن كل فرد عندما يسعى لتحقيق مصلحته الشخصية، فإنه يجد نفسه مضطرا للتخصص في العمل الذي يجيده لكي يخرج منه منتجا يتبادله مع غيره ممن يحتاج إلى منتجاتهم، ومن هنا جاء تقسيم العمل والتخصص فيه أيضا.. بصورة طبيعية.
لكن كيف يتكون رأس المال الذي يحرك الإنتاج في المجتمع؟ يجيب آدم سميث أن ذلك يحدد كذلك بسبب غريزة طبيعية تدفع الإنسان إلى الادخار، وتحثه بالتالي على زيادة مدخراته من خلال الاستثمار، وبذلك تزيد رؤوس الأموال التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج، وتشغيل العمال، ومنهما جميعا تتكون ثروة الأمة.
وفي هذه الحركة للاقتصاد تبعا لتنوع الغرائز الإنسانية، يقتصر دور الدولة على تهيئة البيئة المناسبة، وذلك من خلال شق الطرق، وتنظيم حركة النقود، وضمان تنفيذ العقود بصورة أمينة. وعلى الدولة أن تحقق حرية الصناعة والتجارة بامتناعها عن التدخل فيها، وبذلك تتيح الحرية الكاملة لكل من العمل والإنتاج ورأس المال، لكي يحقق أصحابها مصالحهم الشخصية، ويزيدوا بالتالي من ثروة مجتمعهم.
إن أي دولة- مهما كان نظامها الإداري وعقول موظفيها الأذكياء- لن تستطيع أن تحقق للأفراد مصالحهم الشخصية، كما أنها لن تحقق لمجموعهم الازدهار الاقتصادي بما تفرضه عادة من قوانين وضوابط واشتراطات، وسوف تصاب بخيبة الأمل عندما يتدهور النظام الاقتصادي فيها بسبب هذا التدخل الذي يتنافى تماما مع حرية الاقتصاد.
لكن آدم سميث يعود فيعترف للدولة ببعض السلطة في منع الاحتكار، والربا، كما يسمح لها بفرض ضرائب على السلع الواردة من الخارج والتي تشكل تهديدا للسلع المشابهة التي ينتجها المجتمع. لكن القاعدة الأساسية في نظام الدولة هو أن يقتصر دورها على تهيئة المناخ المناسب لحرية الزراعة والصناعة والتجارة، مع ضرورة توفير الأمن والعدالة والتعليم لجميع أبناء المجتمع.
وبالنسبة إلى السلع، يرى آدم سميث أن كل سلعة لها قيمتان: قيمة يحددها حاجة المنتفع بها واستعماله لها، وقيمة مبادلة يحددها ما يمكن أن يحصل عليه صاحبها في مقابلها من سلع أخرى. ومن الواضح أن القيمتين مختلفتان، لكن الأساس الذي يجمعهما هو قيمة العمل المبذول فيهما، لأنه القيمة الثابتة التي ستظل في كل الأحوال معيارا صادقا لقيمة السلعة الحقيقية في أي زمان ومكان.
لكن تظل بعض الأسئلة مطروحة بقوة على نظرية آدم سميث:           ماذا لو اجتمع عدد من الأفراد دون مصالح مشتركة للعمل ضد مصلحة المجتمع؟ وكيف يتم تقييم أجر العمال عن المجهود الذي يبذلونه في             إنتاج السلع؟ وما الحل بالنسبة إلى الأفراد الذين قد يتعثرون في               تحقيق مصالحهم الشخصية، أي مشروعاتهم الخاصة؟ ثم إذا أخذ بلد              ما بهذا النظام الطبيعي في الاقتصاد، كيف يتعامل مع بلاد أخرى             لا تطبقه؟
لكن النظرية في أساسها صحيحة، وهي تطلق طاقات كل أفراد المجتمع ليحقق كل منهم رغبته الشخصية في النشاط الاقتصادي الذي يختاره بدلاً من من تحولهم إلى موظفين لدى الدولة التي تفشل عادة في إدارتهم، وتوزيعهم على مختلف الأعمال. ومن المؤكد أن الدولة المزدهرة اقتصاديا سوف تكون دولة مزدهرة سياسيا وعسكريا، لأنها من خلال الضرائب المتوفرة لها سوف تكون قادرة على الوفاء بمسئولياتها.
ومن وصايا آدم سميث ألا يسرف الأفراد والمجتمع في التبذير، ويفضل عليه التعقل والحرص. كما أنه يميز بين نوعين من العمل، أحدهما عمل منتج والآخر يحقق نفعا ومتعة سريعين لكنه لا يضيف شيئا لموارد المجتمع، ويدخل في ذلك عدد من أعمال الخدمات التي تروج لها الدعاية دون أن يكون لها عائد حقيقي على المجتمع.
لقد أخذ النظام الرأسمالي الحالي بنظرية آدم سميث بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات، كما استفاد من بعض عناصر النظام الاشتراكي دون أن يصرح بذلك. والملاحظ حاليا أن النظام الاشتراكي قد ثبت فشله تماما، كما أن النظام الرأسمالي بعد أن اصطبغ بطابع العولمة قد ظهر تعثره، وأصبح كل إنسان في العالم مدعوا لكي يرفعه من تلك الحفرة التي وقع فيها، فهل يمكن إدخال بعض الإصلاحات عليه، أم يتم استبداله تماما من خلال ابتكار نظام جديد.. هذا هو السؤال؟!


*  *  *

عالم الاقتصاد بين نارين!

[الأخبار، 7/4/2009]

بعد محاولات عديدة في النجاح والتعثر، وصل العالم إلى نظامين         لا ثالث لهما في الاقتصاد: النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي.. ولكل منهما- كما نعلم- مزاياه وعيوبه. وقد جرب العالم الاثنين معا، وتبين أن النظام الاشتراكي قد يحقق العدالة بين غالبية أفراد الشعب، ولكنه لا يحقق الازدهار الاقتصادي، بينما النظام الرأسمالي يحقق الازدهار لكنه لا يحقق العدالة في المجتمع، لذلك فإن المقارنة بين النظامين تعتبر من أصعب الأمور.. وإذا فتحنا باب المناقشة فيها فإنها سوف تتحول إلى مباراة حامية، يتعصب كل فريق فيها لرأيه، مبينا مزايا النظام الذي يؤيده، وملصقا كل أنواع المفاسد بالنظام الآخر!
أما إذا احتكمنا إلى واقع التجربة التي مر بها العالم في القرن العشرين فإننا سنجد أن النظام الاشتراكي قد تم تطبيقه في دول أوروبا الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السوفيتي، وكذلك في آسيا حيث أخذت به الصين على نحو أكثر صرامة. فما الذي حدث؟ تبين أن العدالة المنشودة لم تتحقق، وأن المساواة الكاملة لم تشعر بها الجماهير، وأن الناتج القومي راح ينحدر بصورة هائلة، كما أن دخل الأفراد وصل إلى أدنى معدل له في العالم، ثم كان سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي اعترافا بفشل هذا النظام، وعدم تحقيقه للأهداف الرائعة، والأحلام الوردية التي كان يروج لها! صحيح أن هناك صناعات ثقيلة كانت تدار بواسطة الدولة قد تقدمت ولكنها ما لبثت أن تدهورت بسبب ضعف التمويل، الذي أدى مباشرة إلى سوء الأداء، وتدني مستوى الإنتاج. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال عدة مؤشرات من أبرزها وأسوأها معا حادث المفاعل النووي في تشيرنوبل، ثم صناعة السيارات التي لم تتمكن من مجاراة نظيرتها في الدول الرأسمالية، وأخيرا تدهور قطاع الزراعة في ظل إشراف الدولة على المزارعين، وعدم شعور هؤلاء بانتمائهم إلى الأرض التي يزرعونها لأنها ليست ملكا لهم، كما أنها لن تكون في المستقبل لأولادهم!
وفي الجانب المقابل، راحت الرأسمالية تزدهر وتتألق، لكن عوائدها الضخمة صبت أساسا في  جيوب قلة من رجال الأعمال وملاك الأراضي والمصالح بالإضافة إلى كبار الموظفين في المؤسسات المالية، بينما رزحت الغالبية العظمى في مستوى اقتصادي يبدو في الظاهر أنه باهر، ولكنه في حقيقة الأمر مريض ومتهالك. إن ما ظهر أخيرا في الأزمة المالية العالمية، والتي تحولت بسرعة إلى أزمة اقتصادية مفزعة- قد كشف المستور في النظام الرأسمالي الذي أجاد لعبة الدعاية لنفسه، كما أجاد في نفس الوقت لعبتها ضد النظام الآخر.. في هذا النظام المتوحش، وجدنا مدى الجشع الرهيب لدى القائمين على المؤسسات المالية، في البنوك، وشركات التأمين، والعقارات، والبورصة.. وكيف أن مؤسسة واحدة في أمريكا خسرت خلال ستة أشهر فقط سبعين مليار دولار، ذهب معظمها كرواتب ومكافآت في جيوب كبار الموظفين فيها!!
وهكذا يتبين أن العالم واقع بالفعل بين نارين، كلاهما محرق: نار الاشتراكية ونار الرأسمالية، فهل يمكن لأحد الاقتصاديين العباقرة أن يقترح علينا نظاما ثالثا يكون أقل ضررا، وأكثر فائدة؟! في رأيي أنه لا يكاد يوجد أمل إلا في ظهور مثل هذا العبقري الذي يمكنه أن يقدم للعالم المعاصر نظاما اقتصاديا جديدا، يخلو من عيوب النظامين السابقين، ويحتوي في نفس الوقت على أفضل ما كان فيهما.

الطريق الاقتصادي الثالث

[الأخبار، 5/5/2009]

سبق أن نشرت أكثر من مقال حول حاجتنا إلى طريق آخر في مجال الاقتصاد، يتجنب أخطاء الاشتراكية التي تغلب الجانب الاجتماعي فينتج عن ذلك ضمور الازدهار الاقتصادي ولكنها لا تستجيب للمطالب الاجتماعية، وكذلك النظام الرأسمالي الذي يحقق من حيث الظاهر الازدهار الاستهلاكي، ولكنه يصب فوائده الضخمة أخيرا في جيوب فئه قليلة من المجتمع. وقد جرب العالم خلال القرن العشرين بالذات كلا من هذين المذهبين الاقتصاديين، وكانت النتيجة أن انهار المذهب الاشتراكي بسقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن العشرين، كما ترنح المذهب الرأسمالي بظهور الأزمة المالية التي أعقبتها على الفور أزمة اقتصادية عالمية. والمشكلة هنا أن أنصار الرأسمالية يتمتعون بقدر كبير من المكابرة والعناد، فهم لا يريدون أن يعترفوا بأن النظام نفسه يحتوي على أسباب انهياره، ومازالوا يحاولون إقناع العالم، بعد إقناع أنفسهم، بأن ما يجري الآن من اضطراب، وما يحدث من فشل إنما هو في الحواشي وليس في المتن. وأن الأزمة سوف تنتهي في القريب العاجل، فإذا سألتهم هل يمكنكم تحديد موعد محدد لهذا القريب العاجل؟ تهربوا منك ومن الإجابة!!
كذلك فإنني سوف أتجرأ فأتقدم هنا باقتراح الأخذ بالطريق الثالث            في الاقتصاد، وهو ذلك الطريق الذي يجمع بين مزايا النظامين             الرأسمالي والاشتراكي، ويتجنب في نفس الوقت عيوبهما. فما هي معالم هذا النظام؟
أولا: أن يترك للأفراد حرية إنشاء مشاريعهم الخاصة، وأن تشجعهم الدولة على ذلك بكل الوسائل، لكي تتحرك عجلة الاقتصاد، ويتم استيعاب طاقة العمل في المجتمع.
ثانيا: أن تتولى الدولة الإشراف الكامل على قطاعات الخدمات المباشرة للمواطنين، وأهمها: التعليم والصحة والمواصلات والاتصالات بالإضافة طبعا إلى الكهرباء والغاز ومياه الشرب والصرف الصحي.
ثالثا: وضع نظام صارم للرقابة على البنوك من خلال البنك المركزي.
رابعا: أن يتم ربط الضرائب على أساس تصاعدي وليس كما هو معمول به في مصر حاليا من التوحيد بين الغني جدا، ومتوسط الحال، والموظفين!!
خامسا: توجيه سياسة الدولة الخارجية لخدمة اقتصادها بالدرجة  الأولى، ومحاسبة السفارات على مدى جذبها المستثمرين الأجانب إلى  البلاد.
سادسا: قيام الدولة بمسئوليتها كاملة في محاربة ثلاثة عيوب تنخر في أساس أي اقتصاد، وهي: الربا، والغش، والاحتكار!
سابعا: تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وحمايتها من إغراق المنتجات المستوردة.
ثامنا: ترتيب أوليات الاقتصاد على أساس الاحتياجات العاجلة للمواطنين بحيث يأتي المسكن والطعام والملابس قبل غيرها من الحاجات والكماليات.
تاسعا: السير بصورة عقلانية في البورصة المصرية، وعدم التورط في مضاربات الأوراق المالية بالبورصات العالمية.
عاشرا: محاولة الاستفادة من تجارب الدول التي صمدت للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وفي مقدمتها الصين، وكذلك ماليزيا.
وأخيرا فإنني أتمنى أن يدلي علماء الاقتصاد عندنا بآرائهم في هذا الموضوع الحيوي.

رأي علمي
في سبب الأزمة المالية العالمية

[ لم ينشر من قبل..]

يحدد أوجست كونت العلوم الأساسية في الستة التالية (الرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والحياه.. ثم الاجتماع) ويضم علم الاجتماع أربعة علوم، ما لبث أن استقل كل واحد منها بنفسه، وهي السياسة والأخلاق والقانون والاقتصاد. وقد كان من رأي أوجست كونت عدم فصل هذه العلوم الأربعة عن بعضها نظرا لأنها تدرس أحوال الهيئة الاجتماعية التي تمتزج فيها السياسة بالأخلاق، وكلاهما بالقانون والاقتصاد، لكن المعارضين لأوجست كونت انتصروا أخيرا في فصل كل واحد من تلك العلوم المتقاربة، بحيث أصبح كل واحد منها علما مستقلا، يدرس في تخصص أو تخصصات منفردة ويتم تلقينه للطلاب على أربع كليات مختلفة هي: العلوم السياسية، والآداب، والحقوق، والتجارة..
لماذا هذه المقدمة التاريخية؟ لأن الأزمة المالية العالمية التي تحولت بسرعة إلى أزمة اقتصادية خطيرة قد نتجت عن فصل هذه المجالات الأربعة بعضها عن بعض. وبيان ذلك أن الاقتصاديين أصبحوا يضعون نظرياتهم الاقتصادية بعيدا عن الأخلاق، وظلوا يتململون حتى تخلصوا من القانون، بل أصبحوا أخيرا فوق السياسة نفسها، وهذا ما حدث في داخل منظومة العولمة التي راحت الولايات المتحدة الأمريكية تروج لها، بل وتطبقها في العالم كله، وذلك من خلال إقرار اتفاقية التجارة العالمية الحرة، التي نسفت الحدود، وأنهت الجمارك، وقلصت سلطة الدولة فلم تعد تسيطر على مواردها ونفقاتها، وخضع الجميع للشركات العملاقة متعددة الجنسيات وعابرة القارات- التي راحت تتحكم في تجارة الدول عن طريق الإنترنت والفيزا كارد.. فماذا كانت النتيجة؟ حين انهارت شركة واحدة أو بنك واحد جر معه باقي الشركات والبنوك بسبب أنها كلها مرتبطة معه بنظام واحد، وخاضعة لأسلوب موحد! ومن الغريب أن هذا النظام الذي أعلن الثورة على النظام الاشتراكي الشمولي قد وقع في نفس الخطأ الذي عابه عليه، وهو الشمولية، وعدم الاعتراف بالتنوع أو التعدد الذي يقوم على النظام الطبيعي، وهو ما سبق أن دعا إليه أبو الرأسمالية آدم سميث في كتابه الرائع (ثروة الأمم).
لقد حاولت أمريكا أن تنقذ خسائر شركاتها وبنوكها فرصدت مبلغا لم نسمع به من قبل، وهو 700 مليار دولار!! ومع ذلك فقد تبين بسرعة أن هذا المبلغ الخرافي ليس سوى قطرة في بحر، وأن الإصلاح الاقتصادي لديها يحتاج إلى مثل هذا المبلغ عشرات المرات، ومع ذلك فقد خرج علينا رئيسها المنتهية ولايته ليقول إن أمريكا مستمسكة بهذا النظام رغم ما حدث فيه، وأن خطة الإصلاح ستمضي في طريقها حتى النهاية.. حسنا، وليته يتحقق!! لكن المسألة ليست في أمريكا وحدها، لقد انتقلت بسرعة البرق إلى روسيا ثم إلى الدول الغنية في آسيا، وأهمها اليابان، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم.. ثم راحت الأزمة تطال باقي الدول التي مازالت تتردد في الإعلان بصراحة عن خسائرها.. إن المسألة هنا لا تتعلق بخطأ يمكن إصلاحه في نظام اقتصادي متماسك، ولكن النظام نفسه أصابه المرض، وأنهكته الشيخوخة، وهذه هي نهايته.. لذلك لابد من سرعة البحث عن نظام اقتصادي بديل             ينقذ العالم من أزماته، التي لم تعد مالية فقط، بل إنها اقتصادية على              كل المستويات: الإنتاج، والعمالة، والسيولة، والقروض، والاستثمارات..  إلخ.
إن الاقتصاد ليس كتابا منزلاً من السماء، ولكنه من صنع البشر، وقد وضعوه بأنفسهم، وتطور بتطور حاجاتهم ومعاملاتهم، وهو قابل لمزيد من التطوير والتغيير، فلا ينبغي أن نضرب رؤوسنا في الصخر، ونقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان، بل ينبغي أن نفكر محاولين الاستفادة من كل الأخطاء السابقة، ومن أبرزها فصل الاقتصاد عن باقي زملائه في منظومة العمل الاجتماعي، وهي الأخلاق والقانون والسياسة، كما نبهنا لذلك         أوجست كونت!!.


*  *  *

رأس المال نوعان

[الأخبار، 4/11/2008]

يفرق علماء الاقتصاد بين نوعين من رأس المال، أحدهما رأس مال منتج، والثاني رأس مال مربح. ومن الواضح أن رأس المال المنتج هو الذي يعود بفائدة على صاحبه وعلى المجتمع، أما رأس المال المربح فتقتصر فائدة على صاحبه فقط. والمشكلة هنا أن الإنسان يريد دائما الربح، ويرغب فيه، ولا يهمه- كفرد- أن يستفيد المجتمع أم لا، المهم أن يزيد رأس ماله، وتتراكم فوائده حتى يتضاعف عدة مرات، وإذا أردنا مثالا على ذلك وجدناه بسهولة فيمن يضع مبلغا من ماله في أحد البنوك وربما تعامل به في البورصة أو إذا كان أحمق وضعه في شركة توظيف أموال. أما رأس المال المنتج فهو الذي يوضع في مشروع «زراعي أو صناعي أو تجاري أو سياحي» ويصبح جزءا أساسيا منه، سواء في صورة أصول ثابتة أو مستلزمات يتم استهلاكها في الإنتاج، الذي تعمل فيه أعداد لا بأس بها من الموظفين والعاملين، وبالتالي فإن المشروع يتسم بطابع اجتماعي إلى جانب كونه اقتصاديا.
إن كل عامل أو موظف يعمل في مشروع يمكنه أن يكون أسرة، وأن تصبح هذه الأسرة لبنة من لبنات المجتمع المنتج، حيث من الممكن جدا أن يقوم أحد الأبناء، أو البنات فيما بعد بإنشاء مشروع خاص به، يعمل فيه عدد من العمال والموظفين، وهكذا يصبح المشروع الأول مثل الحصاة التي يلقبها صاحبها في البركة الراكدة فتتكون منها دائرة تظل تتسع وتتسع حتى تبلغ حواف البركة نفسها.
وهكذا يمكن  القول بأن رأس المال المنتج هو الذي ينشأ عنه المجتمع المتحرك، الذي تعمل كل تروسه، ولا تكاد نجد فيه متعطلا عن العمل، وذلك بخلاف المجتمع الهامد الذي تنتشر فيه البطالة، وتتقلص المشروعات الخاصة بسبب حرص أصحاب رءوس الأموال المربحة على مصالحهم الخاصة، والتي لا تكاد تضم سوى عائلاتهم الصغيرة جدا!
ومع ذلك فإن علماء الاقتصاد يؤكدون تعرض رأس المال المربح للخسارة أكبر بكثير من رأس المال المنتج، لأن هذا الأخير إذا تعرض للخسارة في مبيعاته نتيجة كساد الأسواق، أو ظهور منتجات أكثر حداثة مما لديه، فإن ما يمتلكه من أصول ثابتة أو متحركة يظل يمثل ركيزة اقتصادية تدعم صاحبه، ولا تقضي عليه تماما.
أما رأس المال المربح فإن أي خسارة تلحق به تقضي عليه تماما، لأنها حين تطيح برأس المال لا يتبقى له شيء آخر، فليس لديه أصول، ولا حتى اسم محترم لدى البنوك، أو الشركات الأخرى.
أما في العصر الحديث فإن رأس المال المربح الذي هو عبارة عن «نقود فقط» تتراكم فوائدها قد أصبح معرضا لخطر صعود وهبوط سعر العملة، وتعرضها- عالميا- للنكسات التي لا تكاد تستثنى بلدا قويا أو آخر ضعيفا، فالإسترليني يتماسك بعنف، واليورو الصاعد حاليا يقابله هبوط الدولار إلى أدنى مستوياته، أما الين الياباني فإنه يتذبذب بصعوبة، وكما يقول بعض خبراء الاقتصاد إن الذي يعتمد في ثروته على تكديس النقود يشبه من يمسك الماء بأصابعه!
والآن: هل يمكن لأصحاب الثروة عندنا أن يقرأوا هذا المقال جيدا ليدركوا الفارق الكبير بين رأس المال المنتج، وزميله المربح.. أم أن الذي يقرأ هذا المقال هم الذين لا يملكون أي قدر من الثروة فيزدادون معرفة، في حين يزداد الآخرون جهلا؟!

البترول وجنونه

[الأخبار، 13/1/2009]

ماذا حدث لأسعار البترول في الشهور القليلة الماضية؟ لقد ظل السعر يرتفع حتى وصل ثمن البرميل الواحد إلى «147» دولارا، ثم وقعت الأزمة المالية العالمية، فانحسر الثمن إلى «34» دولارا. ومن الواضح أن الخسارة بالنسبة للمنتجين كبيرة، بل هائلة، أما بالنسبة للمستهلكين فالمسألة فاقت تصوراتهم. والعجيب في الموضوع أن منظمة أوبك التي تضم «40%» من منتجي البترول في العالم وغالبا هي التي تحدد أسعاره، قد خفضت إنتاجها بمعدل «2» مليون برميل يوميا بغرض إحداث التوازن في السعر المنخفض، ولكن النتيجة جاءت بالعكس، فقد ظل السعر ينخفض، وطبعا هناك أسباب لذلك: منها العناد بين المستهلكين والمنتجين. ومنها أن الدول التي تنتج البترول، وليست في منظمة أوبك، تضمن استمرار ضخه لمن يريد بأي سعر. ومنها أخيرا تلك الأزمة المالية التي تسببت فيها الدولة الأغنى في العالم نتيجة سوء إدارتها المالية والمصرفية والائتمانية.
ما هو الضرر الذي وقع على البلاد المنتجة للبترول ومنها                البلاد العربية؟ طبعا كبير، فالخطط التي وضعتها هذه البلاد لمختلف             أنواع التنمية لن يمكن استمرارها بالمعدل الذي كانت موضوعة على أساسه، ولا بالتمويل الذي كان مخصصا لها. ولذلك فسوف تتقلص هذه الخطط، بل ويتم إلغاء بعضها ويترتب على ذلك الاستغناء عن الكثير من أعداد            العمالة الأجنبية وربما المحلية، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أموال البترول التي كانت تبيع بها هذه الدول للبلاد الأجنبية موضوعة في بنوكها، ومنتشرة في استثماراتها التي أصيبت هي الأخرى بضربة الأزمة العالمية، بحيث         يصعب بل يستحيل أحيانا، استردادها في الوقت المطلوب وفي هذا في الوقت الحرج.
لكن إذا كان لكل مصيبة أثر إيجابي، فإن البلاد العربية المصدرة للبترول سوف تدرك جيدا أن التعامل مع العالم الخارجي ينبغي أن يتم على أساس الحرص، والتخوف من احتمال الخطأ، بل وكذلك النصب! فما معنى استثمار أموال البترول في مشروعات أجنبية قد تكسب وقد تخسر؟ وما معنى وضع هذه الأموال في بنوك قد تقدم اليوم عائدا مجزيا، ولكنها قد تفلس غدا؟ وما معنى أن يضع الإنسان البيض كله في سلة واحدة؟ وأخيرا ما معنى أن تظل الدول المصدرة للبترول متخلفة في تصنيعه وتكتفي ببيعه كمادة خام في براميل؟! وأخيرا وليس أخرا ما معنى ألا تحقق التنمية الشاملة في مجمل أنحاء الوطن العربي، الذي تعاني الكثير من دوله من الفقر، وأحيانا المجاعة!
لقد كانت الأنباء تتوالى عن تذمر الغرب من الاعتماد الكبير على البترول، وعن أنه يبحث عن مصادر بديلة للطاقة، ومنها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح إلى جانب الطاقة النووية بالطبع- وقد حاولت إحدى الشركات الأمريكية بالفعل ونجحت في إنتاج سيارة تسير بالكهرباء لكنها ما لبث أن أوقفت إنتاجها وسحبها من السوق لكي لا تهدر أرباح شركات السيارات التقليدية التي تسير بالبنزين والسولار!! فماذا يعني ذلك؟ يعني أن العالم غير مرتاح إلى إن يستورد البترول من خارجه ويعتمد بالتالي على بعض البلاد العربية التي لا يحبها، ولا يطيق حتى ذكر اسمها، ومع ذلك فهو مضطر إلى التعامل معها، والابتسام في وجهها!!

*  *  *

حوار حول الخصخصة

[آخر ساعة، 2007]

أذكر منذ عدة سنوات أنه عندما ظهر هذا المصطلح في المجتمع المصري آثار الكثير من البلبلة لدي الإنسان العادي، وراح بعض اللغويين يعارضون صياغة المصطلح نفسه، ولكنه بمرور الوقت أصبح معترفا به من الجميع، وأظن أن مفهومه الآن قد اتضح واستقر معناه على أنه تحويل مؤسسات القطاع العام التي تمتلكها الدولة إلى شركات خاصة يملكها الأفراد. أما سبب انتشاره فيرجع إلى أن معدلات العائد منه تزيد بكثير عن العائد من القطاع العام، وذلك لسبب بسيط للغاية، هو أن العاملين في القطاع العام موظفون يتقاضون رواتبهم الأساسية سواء أحسنوا في عملهم أو أساءوا، أما موظفو الشركات الخاصة فإنهم مرتبطون بتحقيق الربح، وإلا تم تسريحهم، واستبدل بهم غيرهم ممن هم أكثر كفاءة. كذلك فإن تعثر إحدى شركات القطاع العام لا يُؤدي بالضرورة إلى إغلاقها، وإنما تجد نفسها مدعومة بصورة أو بأخرى من الدولة، أما شركات القطاع الخاص فإنها تعمل بدون سند حكومي، ولذلك تبذل قصارى جهدها في جودة الأداء، وتحقيق الربح
وقد سألت الدكتور حلمي البشبيشى أستاذ المحاسبة ووكيل كلية التجارة بجامعة القاهرة عن أشكال الخصخصة فأجاب بأنها تتمثل في ثلاثة أساليب: الأول نقل ملكية المنشآت العامة كليا أو جزئيا من القطاع العام إلى القطاع الخاص، والثاني نقل إدارة المنشآت العامة إلى القطاع الخاص مع بقاء حق الملكية في يد الدولة، والثالث: تحرير النشاط الاقتصادي من أي قيود تنتقص من حق الملكية الفردية، بما في ذلك مثلاً عدم توريد المحاصيل الزراعية بسعر محدد للحكومة.
وعندما سألته عن الدول التي سبقتنا في مجال الخصخصة، قال بأنها تصل إلى ما يقرب من ستين دولة، تشمل أهم الدول المتقدمة ومنها بريطانيا في عهد السيدة تاتشر. وقد استخدمت في ذلك أسلوبا فريدا يجمع بين طرح المنشآت المراد بيعها في مزاد، بعد إصدار سندات تمليك محددة السعر. وبذلك قامت بتمليك العاملين في الشركات نفسها جزءا منها، وشجعت في نفس الوقت الأفراد العاديين على المساهمة في التملك وجني الأرباح من       تلك الشركات بعد خصخصتها. وهو الأمر الذي سجل زيادة في امتلاك الأسهم من ثلاثة ملايين سهم إلى تسعة ملايين سهم خلال ست سنوات      فقط
قلت للدكتور حلمي البشبيشى: ألا توجد وصفة مستخلصة من تجارب الدول المتقدمة التي نجحت في الخصخصة لكي نأخذ بها عندنا فقال: إليك أهم الشروط :
أولاً: تهيئة بيئة اقتصادية مواتية للملكية الخاصة، وينطوي ذلك على العديد من الإصلاحات الضريبية والجمركية. قلت: إن الدولة عندنا سائرة في هذا الاتجاه.
ثانيا: تنظيم إعلام جماهيري لإقناع المجتمع بمزايا الخصخصة. قلت: وهذا لم يحدث بعد بصورة كافية.
ثالثا: إعداد خطة شاملة للخصخصة يتولى الإشراف على إعدادها وتنفيذها متخصصون مؤهلون جيدا. قلت: وهنا مربط الفرس!
رابعا: تهيئة المؤسسات العامة لتقبل الخصخصة باعتبارها المخرج من الأزمة الاقتصادية والباب المفتوح لمزيد من النجاح. قلت: وهذا ما لا يقبله ببساطه رؤساء الشركات القابضة!
لكننا سمعنا أحيانا عن بيع بعض الشركات بأقل من سعرها الحقيقي، وأحيانا أخري عن بيع شركات كسبانه على أنها خسرانه!ومن رأيي هنا أن نقسم شركات القطاع العام إلى ثلاثة مستويات: الأول يكسب وينبغي عدم التفريط فيه بسهولة. والثاني متوسط الحال، ويمكن دعمه والأخذ بيده حتى ينهض فيخصخص، أما الثالث وهو الخسران فلابد من سرعة بيعه للقطاع الخاص من قبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. هذا كله على المستوي القريب والمتوسط، أما على المستوي الاستراتيجي البعيد، فلابد من تحويل مؤسسات القطاع العام إلى شركات خاصة، تقوم على المنافسة الحرة، التي لا تزدهر بدونها الحياة الاقتصادية في أي مجتمع


*  *  *


الوصايا العشرون

لتخفيف الأزمة المالية والاقتصادية

[الأخبار، 4/12/2008]

أولاً: استمرار البنك المركزي في الرقابة الدقيقة للبنوك، والإعلان القوي عن أية مخالفات مع ضمان ودائع المواطنين.
ثانيا:  التدقيق في عدم قيام البنوك بإقراض رجال الأعمال بدون ضمانات محددة، مع نزع ملكياتهم عند عدم الوفاء بالتزاماتهم.
ثالثا: إرسال مندوبي البنوك إلى أصحاب الورش والمشروعات الصغيرة والمتوسطة لإعطائهم قروضا ميسرة، ولأجل محدود، بهدف تشجيعهم على توسيع أعمالهم.
رابعا: ترشيد الانفاق الحكومي، بدءا من استهلاك الماء والغاز والكهرباء وانتهاء بالأثاث الفاخر، والديكورات، والسيارات!
خامسا: تقليل نفقات الوزارات عموما، وبخاصة وزارات الخدمات التي لا تقدم عائدا للميزانية، كالثقافة والإعلام والأوقاف والبيئة، والحكم المحلي، والتنمية الإدارية.
سادسا: الاستغناء عن أساطيل السيارات المخصصة لموظفي الدولة، وإعطاؤهم «بدل انتقال»، عوضا عن ذلك!!
سابعا: إعادة النظر في مكافآت أعضاء مجلس الشعب والشورى الذين من المفروض أن يقوموا بهذا العمل تطوعا.. وليس وظيفة!
ثامنا: الحد من إقامة المهرجانات والمؤتمرات التي تتكلف ملايين الجنيهات، ويلاحظ عدم وجود أي عائد مفيد منها على الدولة أو المجتمع.
تاسعا: ضرورة الأخذ بنظام الضريبة التصاعدية بدلا من تلك الضريبة الموحدة «20%» التي يتساوى فيها الغني جدا، ومتوسط الدخل، ومحدود الدخل!
عاشرا: الحد من استيراد الكماليات، مع أهمية نشر ثقافة الاستهلاك المعقول في المجتمع.
حادي عشر: التوقف عن استيراد السيارات من الخارج لمدة عامين أو ثلاثة، مع الاتجاه لإنتاج سيارة مصرية.
ثاني عشر: تشجيع أصحاب المشروعات الصغيرة، والمتوسطة على تشغيل عمالة، في مقابل تخفيض الضرائب عنهم، وكذلك تقديم قروض ميسرة لهم.
ثالث عشر: المنع التام للسلع الصينية التي عرقلت حركة الصناعة المصرية، وأغلقت بسببها الكثير من المصانع التي لم تقدر على منافستها.
رابع عشر: تشجيع زراعة الحبوب وخاصة «القمح، الذرة، الأرز» والبقول «الفول والعدس»، مع الاهتمام بزراعة الخضروات وضرورة تصنيعها وتعليبها.
خامس عشر: إعادة الحياة والتنظيم الجيد إلى المجمعات الاستهلاكية لضمان توحيد الأسعار، وتوزيع السلع على جميع المواطنين.
سادس عشر: ضرورة الاتجاه إلى الدول الإفريقية التي يمكنها أن تستوعب منتجات الصناعة المصرية، وهي تتطلع إلى ذلك..
سابع عشر: فتح فرص عمل مستمرة للشباب في مختلف مجالات الإنتاج والخدمات على ألا تقل رواتبهم عن ثلاثمائة جنيه في الشهر.
ثامن عشر: رفع شعار قيمة العمل في المجتمع ، وجعلها المعيار الذي يتم على أساسه تقييم الأفراد ماديا وأدبيا.
تاسع عشر: توعية الشعب بعدم إنفاق أمواله في أمور لا طائل من ورائها، وفي مقدمتها الحديث المبالغ فيه في التليفون المحمول!
عشرين: مصارحة الشعب يوميا بمجمل إنفاقه، وفي نفس الوقت مجمل إنتاجه.. ليكون على بينة باستمرار من الموازنة بين دخله ونفقاته.


*  *  *

ثقافة الاستهلاك
كيف؟ ولمن؟

[الأخبار، 8/11/2008]

من الذي يستطيع أن يصارح المجتمع فيقول له: أنت كثير الاستهلاك فحاول أن تقلل منه؟ ومن الذي يقرر أن يواجه التجار الذين يستوردون مختلف البضائع الكمالية فيقول لهم: رفقا بنا، وكفاكم تبديدا للعملة الصعبة التي تحتاجها البلاد لشراء ما هو أنفع وأجدى من الضروريات؟ وهل يمكن للدولة من خلال منافذها الجمركية أن تمنع الواردات التافهة، والتي يثبت بالفعل أن ضررها أكثر من نفعها؟
في تقديري أن هذه الجهات لا يمكن مخاطبتها وجها لوجه، كما إنها إذا خوطبت لن تستجيب لأي نصيحة لأن الخطأ الشائع- كما يقال- أكثر قبولا من الحقيقة المهجورة؟ من هنا لا يبقى الحديث معه عن ثقافة الاستهلاك وضرورة ترشيده- سوى الفرد، وليس مجموع الناس. لأن الأمل في تطوير ثقافته، وبالتالي في تعديل سلوكه، أكبر بكثير من محاولة تطوير وتعديل ثقافة وسلوك الجماهير الغفيرة. وأنا هنا اختلف مع فريق من علماء الاجتماع الذين يذهبون إلى أن المجتمع هو الذي يملي على الفرد رغباته ويتحكم بالتالي في تصرفاته، وفي رأيي أن هذا لا يتحقق إلا عندما تفرض الدولة على جميع الأفراد قانونا معينا، فحينئذ يلتزم به الجميع، ويسقط أخيرا على الفرد فيضطر إلى تنفيذه، أما عندما يترك الفرد لنفسه، فإنه يظل حرا في اختيار نوع الثقافة التي يرتضيها، ويصبح من حقه أن يفعل أو لا يفعل، بعد أن يقتنع أو لا يقتنع.
ولو أننا تحدثنا مع إنسان عاقل في مجتمعنا المصري المعاصر، عن ثقافة الاستهلاك الخاصة به، وحاولنا أن نحدد له معالمها، من خلال قائمة تحتوي على عدد من الأسئلة، ثم تركنا له حرية الإجابة عنها، فماذا يكون الوضع:
-
ما هي أنواع الطعام التي تحتاج إليها في غذائك اليومي؟
- ما هي الفواكه أو الحلويات التي تتناولها بعد الطعام؟
- هل تتناول أدوية مهضمة؟ وكم تكلفك شهريا؟
- ما هو حجم استخدامك للتليفون الأرضي؟ وهل تزيد المكالمة عن خمس دقائق؟
- هل أنت ممن يربون الحيوانات الأليفة «كلاب- قطط» أو طيور زينة.
-
هل تفضل استقبال أصدقائك في المنزل؟ وماذا تعد لهم؟
- إذا فاض معك مبلغ من المال، فكيف تنفقه: «عليك، على أسرتك، على أقربائك، على أصدقائك..»؟
- هل تذهب في رحلات خارج مدينتك؟ ولكم يوم؟
- هل لديك سيارة؟ وهل تستخدمها في العمل فقط أم في النزهات أيضا؟ وكم يكلفك تصليحها وثمن البنزين في الشهر؟
- هل تزور الطبيب «من مرض مزمن أم من أمراض عارضة» كم يكلفك أجره؟ وثمن الدواء؟
- هل أنت من هواة القراءة؟ وهل لديك مكتبة صغيرة في البيت؟
- لمن تلجأ عندما تقع في أزمة مالية «للسلفة من عملك؟ أم من الأقارب والأصدقاء؟ أم تشترك في جمعية»؟
- هل لديك إمكانية لتوفير بعض المال الفائض عن حاجتك الضرورية؟ وهل لديك رصيد في بنك؟
إن الإجابة عما ورد بهذه القائمة من جانب كل فرد على حدة، وبكل صراحة بينه وبين نفسه، يمكنها- في رأيي- أن تضع يده على أسلوبه في الحياة اليومية المعاصرة، وبالتالي على طريقته في الاستهلاك، ولأنني أثق في قدرات الفرد، وحسن تقييمه لأموره الخاصة، قبل تقديره لأمور الآخرين. وبهذا الأسلوب البسيط للغاية يمكننا أن نضع الركيزة الأساسية لثقافة الاستهلاك لدى الفرد، الذي هو أساس المجتمع، ونريح أنفسنا من أكثر ما يقال عن تلك الثقافة من كلام في الهواء!!


*  *  *

الروتين والبيروقراطية

[الأخبار، 7/7/2009]

الروتين والبيروقراطية من الكلمات الأجنبية التي دخلت كما هي إلى اللغة العربية، ولم تتم ترجمتها حتى الآن، ولذلك ظلت الكلمتان تستعملان بنطقهما الأجنبي لدى المتعلمين والأميين، والسبب في ذلك أن مفهومهما راح يطبق في مختلف المجالات وخاصة في المصالح الحكومية التي تتعامل مع الجمهور.
الروتين في معناه الأصلي عبارة عن مجموعة أعمال اعتيادية يتم تنفيذها بصورة ميكانيكية مكررة، لا تسمح بالاستجابة إلى أي مبادرة جديدة أو فكرة مبتكرة. أما البيروقراطية فهي كلمة فرنسية ترجع في الأصل إلى كلمة Bureau أي مكتب وتشير إلى مجموعة من الموظفين الذين يعملون           في الإدارة الحكومية، ويكون لهم نفوذ قوى في التحكم بسير الأمور          أو تعطيلها.
ولا شك أنه كلما تخلصت الإدارة في أي دولة أو حكومة من الروتين والبيروقراطية انطلقت عجلة الإنتاج، وتيسر تحقيق الخدمات، وشعر الشعب بالراحة والامتنان.. وما أشبه دورة الإدارة في أي مجال بالدورة الدموية في جسم الإنسان. فهي تبدأ من القلب، ثم تمتد إلى سائر الأطراف، لكي تعود إلى القلب مرة أخرى.. فإذا حدث انسداد في أحد الشرايين نتج عنه ما يسميه الأطباء بالجلطة، التي توقف نشاط الإنسان كله، ونفس الحال إذا قام موظف جاهل أو ملعون بتعطيل الأوراق، عندئذ تتعطل حركة الإدارة كلها، وتعلو الأصوات بالشكوى، وقد يزيد الغضب فيؤدي البعض إلى الاعتصام أو الاضطرابات، وهكذا فإن المدير الناجح هو الذي يتابع من مكتبه دورة الإدارة منذ أن يدخل إليها المواطن صاحب المصلحة، وكيف تنتقل أوراقة من مكتب إلى أخر، حتى يحصل على موافقته النهائية بسرعة وسهولة ودون معوقات. وأفضل من هذا المدير: المدير الآخر الذي يخرج من مكتبه ليشاهد بنفسه كيف تسير الأمور؟ فإذا رأى خللا أصلحه على الفور، وإذا لمح موظفا يتلكأ أو يتكاسل عاقبه، بل إنه إذا وجد مواطنا متعثرا في الإجراءات أخذ بيده لكي ينجز له مهمته. وهكذا فإن مثل هذا المدير هو الذي يمكنه أن يقضي على بطء الإجراءات الروتينية، ويكسر تقاليد البيروقراطية.
وإذا كانت كثير من البلاد النامية تشكو من الفساد الإداري، فإن ذلك يرجع في المقام الأول إلى غلبة سلطان الروتين والبيروقراطية حيث يكثر استخدام الأوراق، وتتزايد توقيعات الموظفين وأخيرا يوضع عليها ختم الدولة العتيد! ومن الطبيعي، أن يتحكم الموظف صاحب التوقيع في المواطن المسكين صاحب المصلحة، وتنفتح الأدراج لقبول الرشاوى التي أصبحت تسمى إكراميات! وإذا لم يتنبه المواطن الطيب لذلك أرشده بسرعة خاطفة العمال المتواجدون بكثرة في طرقات المصلحة. أما المواطن الذي يرفض الانصياع لهذا النظام الجائر، فإنه قد يحصل بعد عناء على أوراقه ثم لا يلبث أن يفاجأ أن ختم الدولة الموضوع على الأوراق غير واضح.. فيضطر للعودة إلى المصلحة من جديد، وهيهات إذا عثر على الموظف المسئول عن الختم جالسا على مكتبه!!
والنتيجة أن أي إدارة سواء كانت إنتاجية أو خدمية، لابد أن تتخلص باستمرار من أعدى أعدائها، كما يتخلص الفلاح من دودة القطن، وهما الروتين والبيروقراطية، وهما دائما مرتبطان بنظم عتيقة، وأفراد لابد من تقييم أدائهم كل يوم، بل كل ساعة، وليس هذا مستحيلا، بل إنه في غاية الإمكان.

الإنتاج لمن يريد..

[الأخبار، 30/12/2008]

يعتقد البعض خطأ أن الإنتاج يتعلق فقط بالأشياء المادية، التي نجد مظاهرها واضحة في الزراعة والصناعة والتجارة، ولكن الحقيقة أن الإنتاج يشمل الأشياء المادية كما يشمل الأمور المعنوية كاستشارة الطبيب، ودرس المعلم، وإبداعات الفنان التشكيلية والموسيقية، كما تشمل أنواع أخرى من الخدمات التي تحقق منفعة للمجتمع كنقل الركاب والبضائع، ورفع القمامة من المنازل والطرق، وهكذا فإن الإنتاج بمفهومه الاقتصادي يعني كل ما يحقق فائدة أو يساعد عليها.
وتنحصر عوامل الإنتاج في ثلاثة هي الطبيعة، والعمل، ورأس            المال. وقد حاول بعض علماء الاقتصاد السابقين حذف بعض هذه العوامل، أو تفضيل بعضها على بعض، ولكن الحقيقة أيضا هي أن هذه العوامل الثلاثة كلها ضرورية ولازمة لبدء الإنتاج واستمراره بل وازدهاره.
أما بالنسبة للطبيعة فقد حلت محل كلمة الأرض التي كانت تعني موضع الزراعة وهي المصدر الرئيسي للإنتاج في العصور القديمة، لكن التطور ما لبث أن لحق بكل ما يتعلق بالطبيعة التي تعتبر الأرض جزءا منها، لذلك بدأ الاهتمام بالبيئة الطبيعية التي تشمل الأحوال الجوية والجغرافية التي تتدخل مباشرة أو بطريق غير مباشر في إنتاج الأرض: وفرة وجودة، ومن ذلك أيضا البحث في باطن الأرض عن الفحم والمعادن وغيرها واستخدام مساقط المياه ثم السدود فيما بعد لإنتاج الطاقة، واستخراج البترول لتسيير المركبات والطائرات، وفي الفترة الأخيرة راح الإنسان يستخرج الطاقة الكهربائية من قوة الرياح وأشعة الشمس، إلى جانب القوة الهائلة التي تستخرج من الطاقة النووية.
وأما العمل فهو المجهود المبذول من الإنسان بإرادته لتحقيق منفعته، وبدونه تظل الطبيعة بخيلة بخيراتها، والكون مغلقا على كنوزه. ولا شك أن العمل هو العامل الأساسي لحركة الإنتاج، لكنه وحده لا يفعل شيئا. وينقسم العمل من حيث طبيعته إلى عقلي وجسماني، ومن حيث أدائه إلى يدوي وميكانيكي، ومن حيث الغرض منه إلى صناعة وخدمة. يقول بوفون Buffon إن اليد والعقل هما ميزتا الإنسان على غيره من الحيوانات، ويقول           سيمون Simon إن الثروة الحقيقية للأمة هي ثروتها العقلية بشرط أن تعرف كيفية استخدامها، أي بالعمل اليدوي.
في هذا المجال يظهر الاختراع والابتكار الذي يحدث الطفرات الكبرى في تطوير الأساليب والوسائل التي تساعد الإنسان في الحصول على أكبر قدر من خيرات الطبيعة، ومن أمثلة ذلك اختراع الآلات لرفع المياه لسقي الأرض، وبناء السدود لضبط الفيضانات وتوليد الكهرباء، واختراع القطار والسيارة والطائرة للانتقال السريع والأسرع من مكان لآخر.
لكن تقسيم العمل إلى صناعات وخدمات أمر يستحق الاهتمام، لأن الصناعات هي الأعمال المنتجة للثروة، والتي غرضها تحويل المادة من شكلها الأول القليل الفائدة إلى شكل جديد عظيم المنفعة. أما الخدمات فهي عبارة عن الأعمال المنتجة للفائدة دون اختلاطها بالأشياء المادية، ومن ذلك أعمال السمسرة والترفيه والدعاية، والإعلان..
والسؤال هنا:  هل كل عمل يعد منتجا؟ ذهب بعض الاقتصاديين إلى أن الزراعة والصيد وأعمال المعادن والمناجم والغابات هي الأعمال المنتجة لأنها تحقق ربحا صافيا، في حين أن كلا من الصناعة والتجارة تعيشان على غيرهما! وقد أكد البعض على أن صناعة النقل والتجارة لا تغير شيئا من المادة الأولية، ولذلك فهي لا تضيف جديدا إلى الثروة، إلا أن هناك من عارض ذلك قائلا: إن الإنتاج الزراعي إذا لم ينقل من الحقول، ويتم توزيعه تجاريا فإنه لن يصل إلى المستهلك، وبهذا تصبح التجارة والنقل من الصناعات المنتجة.
إن العمل يحتاج إلى مجهود بدني وعقلي، كما يحتاج إلى زمن يمكن إنجازه فيه، وأخيرا يتطلب تعليما وتدريبا متواصلين، وهذا ما يؤكد ضرورة وجود وانتشار المعاهد الفنية، التي ضعف الاهتمام بها مع الأسف في  مصر!
وأخيرا نأتي إلى العامل الثالث للإنتاج، وهو رأس المال، وفي الماضي لم يكن لهذا العامل أي تأثير، لأن الناس كانوا يبحثون عن تحقيق منافعهم بأنفسهم، ودون الحاجة إلى نقود، ولم تظهر قيمة النقود إلا عندما ازدهرت  التجارة المحلية والدولية وزادت التعاملات الاقتصادية عن طريق تبادل السلع، فدخلت العملة وسيطا في عمليات التبادل، ثم تطورت إلى ما يطلق عليه الأوراق المالية القابلة للتداول في البورصة.
ومن المعروف أن رأس المال نوعان أحدهما مربح يتم ادخاره  وتكديسه وجني أرباح عائده، والثاني هو الذي يوضع في إنشاء            المصانع، ويحرك المشروعات الزراعية والتجارية، ويوظف العديد من العاملين.
في مطلع 1928، نشر د. حسين الرفاعي، وكان عائدا من فرنسا بعد حصوله على الدكتوراه في الاقتصاد كتابا بعنوان «خلاصة الاقتصاد السياسي» قدم له د. محمد حسين هيكل الذي كان يدرس هذا المقرر بقسم الحقوق بالجامعة المصرية سنة 1922، وقد أراد مؤلف الكتاب أن تكون أفكاره الاقتصادية التي نقلها من أساتذته في أوربا مدخلا لتطور الاقتصاد المصري، الذي كان يعتمد حينئذ على الزراعة وحدها، لكي ينطلق إلى ميادين واسعة من التقدم والازدهار، لكن الاستفادة الكاملة من الكتاب.. لم تحدث مع الأسف حتى الآن.


*  *  *

 

 

 

 

 

 

ثالثا : فى الاقتصاد وأوضاعه :



-
خطاب مفتوح إلى علماء الاقتصاد

- بنوك .. بنوك

- مع بداية الأزمة الاقتصادية العالمية (قراءة فى آدم سميث )

- عالم الاقتصاد بين نارين !

- الطريق الاقتصادى الثالث

- رأى علمى فى سبب الأزمة المالية العالمية

- رأس المال نوعان

- البترول وجنونه

- حوار حول الخصخصة

- الوصايا العشرون لتخفيف الأزمة المالية والاقتصادية

- ثقافة الاستهلاك كيف ؟ ولمن ؟

- الروتين والبيروقراطية

- الإنتاج لمن يريد

خطاب مفتوح

إلى علماء الاقتصاد


[
لم ينشر من قبل.. ]

السادة الأفاضل علماء الاقتصاد..
تحية طيبة وبعد.. فقد آثرت أن أكتب إلى حضراتكم هذا الخطاب المفتوح ليكون أولا: علامة تقدير لجهودكم، وشكرا على ما قدمتموه لمجتمعكم. وثانيا: لكي ألخص لكم فيه ما يعاني منه الاقتصاد المصري، والمسئولية الملقاة عليكم نحو علاجه وشفائه، وأخيرا لكي يكون دعوة لكم أمام الجميع من أجل مشاركتكم بالرأي في مسيرة هذا الاقتصاد وتعديله إذا لزم الأمر.
الواقع أن الاقتصاد هو عصب الحياة الاجتماعية، وهو المحرك الرئيسي لمختلف أنشطة المجتمع، وعليه يتوقف مؤشر الرفاه لدى أفراده، وبه تقاس مكانة الدولة في العالم، وتحترم كلمتها في محافله ومنتدياته.
وليس يخفى عليكم بالطبع أن مصر قد مرت نهضتها الحديثة              في عهد محمد علي بتطوير اقتصادي بطيء. فقد اعتمدت أساسا على             مجال الزراعة، ثم حصرت نفسها في نبات واحد هو القطن، الذي             كانت تصدره إلى بريطانيا، فإن ارتفع سعره في العالم ازدهرت               أحوال مزارعيها، وانعكس ذلك على حركة الشراء والبيع في مجالات أخرى، وإن هبط سعره ساءت أحوالهم، وتراكمت ديونهم، ونزعت ملكية أراضيهم!
أما الصناعة فكانت تسير على استحياء. وباستثناء صناعة الغزل وبعض مصانع الزجاج، فإنها كانت في الغالب عبارة عن مهن وحرف يدوية في الوقت الذي كانت أوربا قد توسعت في استخدام الميكنة، وأوقفت استخدام الحيوانات في الحقول والشوارع!
ولا شك أن ثورة يوليه 1952 كانت تحمل أمالاً عريضة لتطوير الصناعة المصرية، فقامت ببناء ترسانة ضخمة في حلوان، وحاولت أن تتخلص من جلدها الزراعي، وتصبح دولة صناعية بالكامل. وكان هذا كما تعلمون خطأ استراتيجيا، لأن كل الدول الغربية التي تقدمت  صناعيا ظلت محافظة على إنتاجها الزراعي، بل وطورته بالأدوات والآلات الزراعية التي لم يقتنع بها الفلاح المصري حتى اليوم!
ثم جاء عهد الانفتاح في السبعينيات، فاتجه المصريون بعيدا عن الزراعة والصناعة إلى ما يسمى (الاستيراد والتصدير) حتى أن كل عمارة، خصص صاحبها شقة لأبنائه تحت هذا الاسم. ومن المقرر أن الاستيراد والتصدير ليس عملاً اقتصاديا منتجا، بل إنه مجرد سمسرة مؤقتة، ولذلك راح يختفي بسرعة، كما ظهر بسرعة. لأن المصريين ليسوا شطارا في هذا المجال كاليهود مثلا!
وها نحن الآن نعاني من زيادة عدد السكان (80 مليون)، ومن تدنى الدخل القومي، ومن تراكم الديون، ومن تذبذب البورصة، ومن زيادة البطالة، وما يرتبط بها من أزمة الإسكان ومشكلات العنوسة.. فأين آراؤكم المستنيرة، وحلولكم المبتكرة، واقتراحاتكم المفيدة؟ وكيف توظفون            دراساتكم الاقتصادية في مواجهة مشكلات الواقع، والعمل على تجاوزها؟ وما هي أفضل الطرق الاقتصادية التي تنطلق فيها مصر؟ وبأي الوسائل تستعين؟
السادة الأفاضل علماء الاقتصاد..
إنني لا أسمع صوتكم بوضوح، ولا أقرأ لكم في الصحف مقالات، ولا أتابع لكم مؤتمرات أو ورش عمل لبحث قضية اقتصادية ومحاولة حلها!
وعلى الرغم من أن الدولة تستعين دائما بكم في وزارات المالية والاقتصاد، إلا أنكم تتركون وحده من يتم تعيينه وزيرا، ولا تضعون أيديكم في يده لكي ينهض بالاقتصاد المصري على النحو الأمثل، وقد نسمع منكم بعض التعليقات الخاطفة على قرار هنا أوقرار هناك، ولكنكم لا تقدمون تصورا متكاملا للإصلاح الاقتصادي، وكيف يمكن تنفيذه في مختلف المجالات!
المسألة إذن من أولها إلى أخرها أمانة بين أيديكم، وهي مسئوليتكم الوطنية الأولى. وهي جد لا هزل فيه، كما أنها ملحة لا تحتمل أي تأخير أو تسويف، وأنا على ثقة في علمكم العزيز، ومن إخلاصكم لهذا الوطن، الذي ينتظر منكم الكثير. والسلام ختام.


*  *  *

بنوك.. بنوك

[الجمهورية، 2007]

عندما سمعت أن لدينا في مصر حوالي سبعين بنكا، تذكرت قول الشاعر العربي

إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا

وقد خابت معظم تلك البنوك في إدارتها، وسلمت أموالها لمجموعة من النصابين، الذين أطلقوا على أنفسهم لقب رجال الأعمال، وهم لا يمتون لهذا المصطلح المحترم بأي صلة. والدليل على ذلك أن جمعية رجال الأعمال باعتراف رئيسها على شاشة التلفزيون المصري لا تضم أكثر من 450 شخصا، بينما الذين كانوا يريدون الانضمام إليها يبلغون أكثر من أربعة آلاف. فلماذا رفضتهم الجمعية؟ كما يقول رئيسها إن الجمعية حريصة على سمعة أعضائها الحقيقيين- أي الأربعمائة- ولذلك لم تمنح عضويتها لسائر الأربعة آلاف نصاب..
طبعا النصب فن قديم صحب الإنسان منذ وجد على الأرض، وسيظل من أهم عيوبه حتى تنتهي حياته فوقها. هناك من ينصب عليك في البيع فيعطيك سلعة معطوبة على أنها سليمة، أو بايته على أنها طازجة، أو منتهية الصلاحية على أنها صالحة للاستهلاك الآدمي.. وهناك من تذهب لتشتري منه كيلو تفاح فيعطيك حبتين أو ثلاثة لا تصلح للأكل، وتضطر إلى إلقائها في القمامة، وهناك من يبيع لك قطعة أرض أو شقة ثم تكتشف أن بها عيبا أساسيا، أو أنها مشتبكة مع مشترين آخرين. وهناك المحامي الذي يؤكد لك أن كسب القضية مضمون، ويأخذ منك أتعابا ضخمة، ثم تخسرها ولا تراه بعد ذلك لكي يعتذر لك.. وأنا نفسي نصبوا علي في شراء قطع غيار سيارة، اشتريتها على أنها جديدة ومكتوب على أوراقها اسم المصنع والبلد الأجنبي ثم تبين أنها مستعملة أعيد طلاؤها وجلفنتها ثم عرضت للبيع، وعندما حاولنا تشغيل السيارة لم تعمل، فاضطررت لشراء قطعة أخرى غيرها..
لماذا إذن لا ينصب بعض هؤلاء على البنوك التي تمتلئ بالمال؟ الواقع أن ظاهرة كثرة البنوك في مصر قد أغرت هؤلاء بالتفنن في النصب عليها. والأدهى من ذلك أن عددا من العاملين في البنوك قد سهلوا لهم عمليات النصب، ولابد أنهم شاركوهم في الحصول على قدر من الغنيمة.. وهنا مربط الفرس كما يقولون. فلو أننا امسكنا بهؤلاء الموظفين، وحاسبناهم لأوقفنا نزيف النصب على البنوك، ونزح أموالها بتلك الصورة التي جعلت كل المواطنين مستاءين، ودفعت الرئيس مبارك إلى أن يعلن عن ضرورة عقاب الهاربين بأموال البنوك دون وجه حق، في نفس الوقت الذي تقوم فيه الدولة بمساعدة المتعثرين في السداد، لظروف خارجة عن إرادتهم..
أتمنى أن تستفيد البنوك (الكثيرة جدا) عندنا من عدم الوقوع فريسة لمحاولات النصب، وأن تضع في داخلها لافتات تحمل المثل المصري الصادق الذي يقول إن (المال السايب يعلم السرقة).


*  *  *

مع بداية الأزمة الاقتصادية العالمية
قراءة في آدم سميث

[الأخبار، 9/12/2008]

بعد تفاقم الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية، نهاية عهد بوش وإدارته المتصلبة الرأي، راحت سحب الأزمة الاقتصادية العالمية تتجمع وتتراكم بل وتزمجر بالرعد، ويصيب برقها بعض المؤسسات الكبرى والبنوك العملاقة التي لم تصمد للحظات، بل أسرعت بالتدهور والتناثر.. العالم كله خائف من أن تكون هذه الأزمة الحالية شبيهة بأزمة القرن الماضي التي حدثت سنة 1929 والسنوات العجاف التي تلتها. أما الإنسان المعاصر فهو مازال مشدوها من هول الأخبار، ولا يجد أمامه أحدا يسأله أو يطمئنه إلى مستقبله، فضلا عن حاضره.. فقط كل ما لديه: وسائل الإعلام التي تمتلئ بالأخبار عن إفلاس بعض البنوك والشركات الكبرى، وعن محاولات اندماج بعضها في بعض حتى لا تتهاوى كل منها على حدة، وعن تسريح آلاف الموظفين والعمال في أكبر الشركات             التي كانت إعلاناتها تملأ الشاشات ومنتجاتها تحظى بسمعة عالمية لا بأس بها!
أما أنا فقد اخترت طريقا آخر ربما كان أكثر كلاسيكية وهدوءا، وأعني به العودة إلى كتاب «آدم سميث» الذي يطلقون عليه أبا الاقتصاد الرأسمالي، وعنوانه المختصر «ثروة الأمم» الذي صدر سنة 1776، وهو يحتوي على المبادئ والأسس والقوانين التي تقوم عليها الرأسمالية التي مازال العالم يأخذ بها حتى الوقت الحاضر.
فماذا يقول آدم سميث؟ يقول إن المصدر الأول لثروة الأمة ليست هي الأرض، وإنما العمل، عمل الأفراد الذي يزودهم بالحاجات الضرورية والكمالية التي يستهلكونها سواء كانت مما ينتجونه بأنفسهم أو ما يتبادلونه  مع منتجات الأمم الأخرى،، وهكذا فإن ثروة الأمة تزيد كلما زاد العمل،          ولا سبيل إلى زيادة العمل إلا بالتخصص وتقسيم العمل وتطوير                أدوات الإنتاج وآلاته، وفي حالة زيادة عدد السكان المستهلكين لابد أن          يزيد عدد العمال المنتجين، وهذا بالطبع يتطلب زيادة رؤوس الأموال المستثمرة.
ويرى آدم سميث أن أهم قوة تنمي الثروة هي غريزة المصلحة الشخصية التي تدفع الفرد إلى تحسين أحواله، وبالتالي تتكون ثروة المجتمع من مجموع تحقيق هذه المصالح الشخصية للأفراد، حتى دون أن يكونوا قد قصدوا أساسا إليها. وهكذا فإن النظام الاقتصادي عند آدم سميث يقوم على النظام الطبيعي الذي تحكمه تلك الغرائز الشخصية.
وهنا قد يسأل سائل: كيف تنوعت المجالات الاقتصادية وتكاملت في المجتمع؟ والإجابة أن كل فرد عندما يسعى لتحقيق مصلحته الشخصية، فإنه يجد نفسه مضطرا للتخصص في العمل الذي يجيده لكي يخرج منه منتجا يتبادله مع غيره ممن يحتاج إلى منتجاتهم، ومن هنا جاء تقسيم العمل والتخصص فيه أيضا.. بصورة طبيعية.
لكن كيف يتكون رأس المال الذي يحرك الإنتاج في المجتمع؟ يجيب آدم سميث أن ذلك يحدد كذلك بسبب غريزة طبيعية تدفع الإنسان إلى الادخار، وتحثه بالتالي على زيادة مدخراته من خلال الاستثمار، وبذلك تزيد رؤوس الأموال التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج، وتشغيل العمال، ومنهما جميعا تتكون ثروة الأمة.
وفي هذه الحركة للاقتصاد تبعا لتنوع الغرائز الإنسانية، يقتصر دور الدولة على تهيئة البيئة المناسبة، وذلك من خلال شق الطرق، وتنظيم حركة النقود، وضمان تنفيذ العقود بصورة أمينة. وعلى الدولة أن تحقق حرية الصناعة والتجارة بامتناعها عن التدخل فيها، وبذلك تتيح الحرية الكاملة لكل من العمل والإنتاج ورأس المال، لكي يحقق أصحابها مصالحهم الشخصية، ويزيدوا بالتالي من ثروة مجتمعهم.
إن أي دولة- مهما كان نظامها الإداري وعقول موظفيها الأذكياء- لن تستطيع أن تحقق للأفراد مصالحهم الشخصية، كما أنها لن تحقق لمجموعهم الازدهار الاقتصادي بما تفرضه عادة من قوانين وضوابط واشتراطات، وسوف تصاب بخيبة الأمل عندما يتدهور النظام الاقتصادي فيها بسبب هذا التدخل الذي يتنافى تماما مع حرية الاقتصاد.
لكن آدم سميث يعود فيعترف للدولة ببعض السلطة في منع الاحتكار، والربا، كما يسمح لها بفرض ضرائب على السلع الواردة من الخارج والتي تشكل تهديدا للسلع المشابهة التي ينتجها المجتمع. لكن القاعدة الأساسية في نظام الدولة هو أن يقتصر دورها على تهيئة المناخ المناسب لحرية الزراعة والصناعة والتجارة، مع ضرورة توفير الأمن والعدالة والتعليم لجميع أبناء المجتمع.
وبالنسبة إلى السلع، يرى آدم سميث أن كل سلعة لها قيمتان: قيمة يحددها حاجة المنتفع بها واستعماله لها، وقيمة مبادلة يحددها ما يمكن أن يحصل عليه صاحبها في مقابلها من سلع أخرى. ومن الواضح أن القيمتين مختلفتان، لكن الأساس الذي يجمعهما هو قيمة العمل المبذول فيهما، لأنه القيمة الثابتة التي ستظل في كل الأحوال معيارا صادقا لقيمة السلعة الحقيقية في أي زمان ومكان.
لكن تظل بعض الأسئلة مطروحة بقوة على نظرية آدم سميث:           ماذا لو اجتمع عدد من الأفراد دون مصالح مشتركة للعمل ضد مصلحة المجتمع؟ وكيف يتم تقييم أجر العمال عن المجهود الذي يبذلونه في             إنتاج السلع؟ وما الحل بالنسبة إلى الأفراد الذين قد يتعثرون في               تحقيق مصالحهم الشخصية، أي مشروعاتهم الخاصة؟ ثم إذا أخذ بلد              ما بهذا النظام الطبيعي في الاقتصاد، كيف يتعامل مع بلاد أخرى             لا تطبقه؟
لكن النظرية في أساسها صحيحة، وهي تطلق طاقات كل أفراد المجتمع ليحقق كل منهم رغبته الشخصية في النشاط الاقتصادي الذي يختاره بدلاً من من تحولهم إلى موظفين لدى الدولة التي تفشل عادة في إدارتهم، وتوزيعهم على مختلف الأعمال. ومن المؤكد أن الدولة المزدهرة اقتصاديا سوف تكون دولة مزدهرة سياسيا وعسكريا، لأنها من خلال الضرائب المتوفرة لها سوف تكون قادرة على الوفاء بمسئولياتها.
ومن وصايا آدم سميث ألا يسرف الأفراد والمجتمع في التبذير، ويفضل عليه التعقل والحرص. كما أنه يميز بين نوعين من العمل، أحدهما عمل منتج والآخر يحقق نفعا ومتعة سريعين لكنه لا يضيف شيئا لموارد المجتمع، ويدخل في ذلك عدد من أعمال الخدمات التي تروج لها الدعاية دون أن يكون لها عائد حقيقي على المجتمع.
لقد أخذ النظام الرأسمالي الحالي بنظرية آدم سميث بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات، كما استفاد من بعض عناصر النظام الاشتراكي دون أن يصرح بذلك. والملاحظ حاليا أن النظام الاشتراكي قد ثبت فشله تماما، كما أن النظام الرأسمالي بعد أن اصطبغ بطابع العولمة قد ظهر تعثره، وأصبح كل إنسان في العالم مدعوا لكي يرفعه من تلك الحفرة التي وقع فيها، فهل يمكن إدخال بعض الإصلاحات عليه، أم يتم استبداله تماما من خلال ابتكار نظام جديد.. هذا هو السؤال؟!


*  *  *

عالم الاقتصاد بين نارين!

[الأخبار، 7/4/2009]

بعد محاولات عديدة في النجاح والتعثر، وصل العالم إلى نظامين         لا ثالث لهما في الاقتصاد: النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي.. ولكل منهما- كما نعلم- مزاياه وعيوبه. وقد جرب العالم الاثنين معا، وتبين أن النظام الاشتراكي قد يحقق العدالة بين غالبية أفراد الشعب، ولكنه لا يحقق الازدهار الاقتصادي، بينما النظام الرأسمالي يحقق الازدهار لكنه لا يحقق العدالة في المجتمع، لذلك فإن المقارنة بين النظامين تعتبر من أصعب الأمور.. وإذا فتحنا باب المناقشة فيها فإنها سوف تتحول إلى مباراة حامية، يتعصب كل فريق فيها لرأيه، مبينا مزايا النظام الذي يؤيده، وملصقا كل أنواع المفاسد بالنظام الآخر!
أما إذا احتكمنا إلى واقع التجربة التي مر بها العالم في القرن العشرين فإننا سنجد أن النظام الاشتراكي قد تم تطبيقه في دول أوروبا الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السوفيتي، وكذلك في آسيا حيث أخذت به الصين على نحو أكثر صرامة. فما الذي حدث؟ تبين أن العدالة المنشودة لم تتحقق، وأن المساواة الكاملة لم تشعر بها الجماهير، وأن الناتج القومي راح ينحدر بصورة هائلة، كما أن دخل الأفراد وصل إلى أدنى معدل له في العالم، ثم كان سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي اعترافا بفشل هذا النظام، وعدم تحقيقه للأهداف الرائعة، والأحلام الوردية التي كان يروج لها! صحيح أن هناك صناعات ثقيلة كانت تدار بواسطة الدولة قد تقدمت ولكنها ما لبثت أن تدهورت بسبب ضعف التمويل، الذي أدى مباشرة إلى سوء الأداء، وتدني مستوى الإنتاج. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال عدة مؤشرات من أبرزها وأسوأها معا حادث المفاعل النووي في تشيرنوبل، ثم صناعة السيارات التي لم تتمكن من مجاراة نظيرتها في الدول الرأسمالية، وأخيرا تدهور قطاع الزراعة في ظل إشراف الدولة على المزارعين، وعدم شعور هؤلاء بانتمائهم إلى الأرض التي يزرعونها لأنها ليست ملكا لهم، كما أنها لن تكون في المستقبل لأولادهم!
وفي الجانب المقابل، راحت الرأسمالية تزدهر وتتألق، لكن عوائدها الضخمة صبت أساسا في  جيوب قلة من رجال الأعمال وملاك الأراضي والمصالح بالإضافة إلى كبار الموظفين في المؤسسات المالية، بينما رزحت الغالبية العظمى في مستوى اقتصادي يبدو في الظاهر أنه باهر، ولكنه في حقيقة الأمر مريض ومتهالك. إن ما ظهر أخيرا في الأزمة المالية العالمية، والتي تحولت بسرعة إلى أزمة اقتصادية مفزعة- قد كشف المستور في النظام الرأسمالي الذي أجاد لعبة الدعاية لنفسه، كما أجاد في نفس الوقت لعبتها ضد النظام الآخر.. في هذا النظام المتوحش، وجدنا مدى الجشع الرهيب لدى القائمين على المؤسسات المالية، في البنوك، وشركات التأمين، والعقارات، والبورصة.. وكيف أن مؤسسة واحدة في أمريكا خسرت خلال ستة أشهر فقط سبعين مليار دولار، ذهب معظمها كرواتب ومكافآت في جيوب كبار الموظفين فيها!!
وهكذا يتبين أن العالم واقع بالفعل بين نارين، كلاهما محرق: نار الاشتراكية ونار الرأسمالية، فهل يمكن لأحد الاقتصاديين العباقرة أن يقترح علينا نظاما ثالثا يكون أقل ضررا، وأكثر فائدة؟! في رأيي أنه لا يكاد يوجد أمل إلا في ظهور مثل هذا العبقري الذي يمكنه أن يقدم للعالم المعاصر نظاما اقتصاديا جديدا، يخلو من عيوب النظامين السابقين، ويحتوي في نفس الوقت على أفضل ما كان فيهما.

الطريق الاقتصادي الثالث

[الأخبار، 5/5/2009]

سبق أن نشرت أكثر من مقال حول حاجتنا إلى طريق آخر في مجال الاقتصاد، يتجنب أخطاء الاشتراكية التي تغلب الجانب الاجتماعي فينتج عن ذلك ضمور الازدهار الاقتصادي ولكنها لا تستجيب للمطالب الاجتماعية، وكذلك النظام الرأسمالي الذي يحقق من حيث الظاهر الازدهار الاستهلاكي، ولكنه يصب فوائده الضخمة أخيرا في جيوب فئه قليلة من المجتمع. وقد جرب العالم خلال القرن العشرين بالذات كلا من هذين المذهبين الاقتصاديين، وكانت النتيجة أن انهار المذهب الاشتراكي بسقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن العشرين، كما ترنح المذهب الرأسمالي بظهور الأزمة المالية التي أعقبتها على الفور أزمة اقتصادية عالمية. والمشكلة هنا أن أنصار الرأسمالية يتمتعون بقدر كبير من المكابرة والعناد، فهم لا يريدون أن يعترفوا بأن النظام نفسه يحتوي على أسباب انهياره، ومازالوا يحاولون إقناع العالم، بعد إقناع أنفسهم، بأن ما يجري الآن من اضطراب، وما يحدث من فشل إنما هو في الحواشي وليس في المتن. وأن الأزمة سوف تنتهي في القريب العاجل، فإذا سألتهم هل يمكنكم تحديد موعد محدد لهذا القريب العاجل؟ تهربوا منك ومن الإجابة!!
كذلك فإنني سوف أتجرأ فأتقدم هنا باقتراح الأخذ بالطريق الثالث            في الاقتصاد، وهو ذلك الطريق الذي يجمع بين مزايا النظامين             الرأسمالي والاشتراكي، ويتجنب في نفس الوقت عيوبهما. فما هي معالم هذا النظام؟
أولا: أن يترك للأفراد حرية إنشاء مشاريعهم الخاصة، وأن تشجعهم الدولة على ذلك بكل الوسائل، لكي تتحرك عجلة الاقتصاد، ويتم استيعاب طاقة العمل في المجتمع.
ثانيا: أن تتولى الدولة الإشراف الكامل على قطاعات الخدمات المباشرة للمواطنين، وأهمها: التعليم والصحة والمواصلات والاتصالات بالإضافة طبعا إلى الكهرباء والغاز ومياه الشرب والصرف الصحي.
ثالثا: وضع نظام صارم للرقابة على البنوك من خلال البنك المركزي.
رابعا: أن يتم ربط الضرائب على أساس تصاعدي وليس كما هو معمول به في مصر حاليا من التوحيد بين الغني جدا، ومتوسط الحال، والموظفين!!
خامسا: توجيه سياسة الدولة الخارجية لخدمة اقتصادها بالدرجة  الأولى، ومحاسبة السفارات على مدى جذبها المستثمرين الأجانب إلى  البلاد.
سادسا: قيام الدولة بمسئوليتها كاملة في محاربة ثلاثة عيوب تنخر في أساس أي اقتصاد، وهي: الربا، والغش، والاحتكار!
سابعا: تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وحمايتها من إغراق المنتجات المستوردة.
ثامنا: ترتيب أوليات الاقتصاد على أساس الاحتياجات العاجلة للمواطنين بحيث يأتي المسكن والطعام والملابس قبل غيرها من الحاجات والكماليات.
تاسعا: السير بصورة عقلانية في البورصة المصرية، وعدم التورط في مضاربات الأوراق المالية بالبورصات العالمية.
عاشرا: محاولة الاستفادة من تجارب الدول التي صمدت للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وفي مقدمتها الصين، وكذلك ماليزيا.
وأخيرا فإنني أتمنى أن يدلي علماء الاقتصاد عندنا بآرائهم في هذا الموضوع الحيوي.

رأي علمي
في سبب الأزمة المالية العالمية

[ لم ينشر من قبل..]

يحدد أوجست كونت العلوم الأساسية في الستة التالية (الرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والحياه.. ثم الاجتماع) ويضم علم الاجتماع أربعة علوم، ما لبث أن استقل كل واحد منها بنفسه، وهي السياسة والأخلاق والقانون والاقتصاد. وقد كان من رأي أوجست كونت عدم فصل هذه العلوم الأربعة عن بعضها نظرا لأنها تدرس أحوال الهيئة الاجتماعية التي تمتزج فيها السياسة بالأخلاق، وكلاهما بالقانون والاقتصاد، لكن المعارضين لأوجست كونت انتصروا أخيرا في فصل كل واحد من تلك العلوم المتقاربة، بحيث أصبح كل واحد منها علما مستقلا، يدرس في تخصص أو تخصصات منفردة ويتم تلقينه للطلاب على أربع كليات مختلفة هي: العلوم السياسية، والآداب، والحقوق، والتجارة..
لماذا هذه المقدمة التاريخية؟ لأن الأزمة المالية العالمية التي تحولت بسرعة إلى أزمة اقتصادية خطيرة قد نتجت عن فصل هذه المجالات الأربعة بعضها عن بعض. وبيان ذلك أن الاقتصاديين أصبحوا يضعون نظرياتهم الاقتصادية بعيدا عن الأخلاق، وظلوا يتململون حتى تخلصوا من القانون، بل أصبحوا أخيرا فوق السياسة نفسها، وهذا ما حدث في داخل منظومة العولمة التي راحت الولايات المتحدة الأمريكية تروج لها، بل وتطبقها في العالم كله، وذلك من خلال إقرار اتفاقية التجارة العالمية الحرة، التي نسفت الحدود، وأنهت الجمارك، وقلصت سلطة الدولة فلم تعد تسيطر على مواردها ونفقاتها، وخضع الجميع للشركات العملاقة متعددة الجنسيات وعابرة القارات- التي راحت تتحكم في تجارة الدول عن طريق الإنترنت والفيزا كارد.. فماذا كانت النتيجة؟ حين انهارت شركة واحدة أو بنك واحد جر معه باقي الشركات والبنوك بسبب أنها كلها مرتبطة معه بنظام واحد، وخاضعة لأسلوب موحد! ومن الغريب أن هذا النظام الذي أعلن الثورة على النظام الاشتراكي الشمولي قد وقع في نفس الخطأ الذي عابه عليه، وهو الشمولية، وعدم الاعتراف بالتنوع أو التعدد الذي يقوم على النظام الطبيعي، وهو ما سبق أن دعا إليه أبو الرأسمالية آدم سميث في كتابه الرائع (ثروة الأمم).
لقد حاولت أمريكا أن تنقذ خسائر شركاتها وبنوكها فرصدت مبلغا لم نسمع به من قبل، وهو 700 مليار دولار!! ومع ذلك فقد تبين بسرعة أن هذا المبلغ الخرافي ليس سوى قطرة في بحر، وأن الإصلاح الاقتصادي لديها يحتاج إلى مثل هذا المبلغ عشرات المرات، ومع ذلك فقد خرج علينا رئيسها المنتهية ولايته ليقول إن أمريكا مستمسكة بهذا النظام رغم ما حدث فيه، وأن خطة الإصلاح ستمضي في طريقها حتى النهاية.. حسنا، وليته يتحقق!! لكن المسألة ليست في أمريكا وحدها، لقد انتقلت بسرعة البرق إلى روسيا ثم إلى الدول الغنية في آسيا، وأهمها اليابان، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم.. ثم راحت الأزمة تطال باقي الدول التي مازالت تتردد في الإعلان بصراحة عن خسائرها.. إن المسألة هنا لا تتعلق بخطأ يمكن إصلاحه في نظام اقتصادي متماسك، ولكن النظام نفسه أصابه المرض، وأنهكته الشيخوخة، وهذه هي نهايته.. لذلك لابد من سرعة البحث عن نظام اقتصادي بديل             ينقذ العالم من أزماته، التي لم تعد مالية فقط، بل إنها اقتصادية على              كل المستويات: الإنتاج، والعمالة، والسيولة، والقروض، والاستثمارات..  إلخ.
إن الاقتصاد ليس كتابا منزلاً من السماء، ولكنه من صنع البشر، وقد وضعوه بأنفسهم، وتطور بتطور حاجاتهم ومعاملاتهم، وهو قابل لمزيد من التطوير والتغيير، فلا ينبغي أن نضرب رؤوسنا في الصخر، ونقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان، بل ينبغي أن نفكر محاولين الاستفادة من كل الأخطاء السابقة، ومن أبرزها فصل الاقتصاد عن باقي زملائه في منظومة العمل الاجتماعي، وهي الأخلاق والقانون والسياسة، كما نبهنا لذلك         أوجست كونت!!.


*  *  *

رأس المال نوعان

[الأخبار، 4/11/2008]

يفرق علماء الاقتصاد بين نوعين من رأس المال، أحدهما رأس مال منتج، والثاني رأس مال مربح. ومن الواضح أن رأس المال المنتج هو الذي يعود بفائدة على صاحبه وعلى المجتمع، أما رأس المال المربح فتقتصر فائدة على صاحبه فقط. والمشكلة هنا أن الإنسان يريد دائما الربح، ويرغب فيه، ولا يهمه- كفرد- أن يستفيد المجتمع أم لا، المهم أن يزيد رأس ماله، وتتراكم فوائده حتى يتضاعف عدة مرات، وإذا أردنا مثالا على ذلك وجدناه بسهولة فيمن يضع مبلغا من ماله في أحد البنوك وربما تعامل به في البورصة أو إذا كان أحمق وضعه في شركة توظيف أموال. أما رأس المال المنتج فهو الذي يوضع في مشروع «زراعي أو صناعي أو تجاري أو سياحي» ويصبح جزءا أساسيا منه، سواء في صورة أصول ثابتة أو مستلزمات يتم استهلاكها في الإنتاج، الذي تعمل فيه أعداد لا بأس بها من الموظفين والعاملين، وبالتالي فإن المشروع يتسم بطابع اجتماعي إلى جانب كونه اقتصاديا.
إن كل عامل أو موظف يعمل في مشروع يمكنه أن يكون أسرة، وأن تصبح هذه الأسرة لبنة من لبنات المجتمع المنتج، حيث من الممكن جدا أن يقوم أحد الأبناء، أو البنات فيما بعد بإنشاء مشروع خاص به، يعمل فيه عدد من العمال والموظفين، وهكذا يصبح المشروع الأول مثل الحصاة التي يلقبها صاحبها في البركة الراكدة فتتكون منها دائرة تظل تتسع وتتسع حتى تبلغ حواف البركة نفسها.
وهكذا يمكن  القول بأن رأس المال المنتج هو الذي ينشأ عنه المجتمع المتحرك، الذي تعمل كل تروسه، ولا تكاد نجد فيه متعطلا عن العمل، وذلك بخلاف المجتمع الهامد الذي تنتشر فيه البطالة، وتتقلص المشروعات الخاصة بسبب حرص أصحاب رءوس الأموال المربحة على مصالحهم الخاصة، والتي لا تكاد تضم سوى عائلاتهم الصغيرة جدا!
ومع ذلك فإن علماء الاقتصاد يؤكدون تعرض رأس المال المربح للخسارة أكبر بكثير من رأس المال المنتج، لأن هذا الأخير إذا تعرض للخسارة في مبيعاته نتيجة كساد الأسواق، أو ظهور منتجات أكثر حداثة مما لديه، فإن ما يمتلكه من أصول ثابتة أو متحركة يظل يمثل ركيزة اقتصادية تدعم صاحبه، ولا تقضي عليه تماما.
أما رأس المال المربح فإن أي خسارة تلحق به تقضي عليه تماما، لأنها حين تطيح برأس المال لا يتبقى له شيء آخر، فليس لديه أصول، ولا حتى اسم محترم لدى البنوك، أو الشركات الأخرى.
أما في العصر الحديث فإن رأس المال المربح الذي هو عبارة عن «نقود فقط» تتراكم فوائدها قد أصبح معرضا لخطر صعود وهبوط سعر العملة، وتعرضها- عالميا- للنكسات التي لا تكاد تستثنى بلدا قويا أو آخر ضعيفا، فالإسترليني يتماسك بعنف، واليورو الصاعد حاليا يقابله هبوط الدولار إلى أدنى مستوياته، أما الين الياباني فإنه يتذبذب بصعوبة، وكما يقول بعض خبراء الاقتصاد إن الذي يعتمد في ثروته على تكديس النقود يشبه من يمسك الماء بأصابعه!
والآن: هل يمكن لأصحاب الثروة عندنا أن يقرأوا هذا المقال جيدا ليدركوا الفارق الكبير بين رأس المال المنتج، وزميله المربح.. أم أن الذي يقرأ هذا المقال هم الذين لا يملكون أي قدر من الثروة فيزدادون معرفة، في حين يزداد الآخرون جهلا؟!

البترول وجنونه

[الأخبار، 13/1/2009]

ماذا حدث لأسعار البترول في الشهور القليلة الماضية؟ لقد ظل السعر يرتفع حتى وصل ثمن البرميل الواحد إلى «147» دولارا، ثم وقعت الأزمة المالية العالمية، فانحسر الثمن إلى «34» دولارا. ومن الواضح أن الخسارة بالنسبة للمنتجين كبيرة، بل هائلة، أما بالنسبة للمستهلكين فالمسألة فاقت تصوراتهم. والعجيب في الموضوع أن منظمة أوبك التي تضم «40%» من منتجي البترول في العالم وغالبا هي التي تحدد أسعاره، قد خفضت إنتاجها بمعدل «2» مليون برميل يوميا بغرض إحداث التوازن في السعر المنخفض، ولكن النتيجة جاءت بالعكس، فقد ظل السعر ينخفض، وطبعا هناك أسباب لذلك: منها العناد بين المستهلكين والمنتجين. ومنها أن الدول التي تنتج البترول، وليست في منظمة أوبك، تضمن استمرار ضخه لمن يريد بأي سعر. ومنها أخيرا تلك الأزمة المالية التي تسببت فيها الدولة الأغنى في العالم نتيجة سوء إدارتها المالية والمصرفية والائتمانية.
ما هو الضرر الذي وقع على البلاد المنتجة للبترول ومنها                البلاد العربية؟ طبعا كبير، فالخطط التي وضعتها هذه البلاد لمختلف             أنواع التنمية لن يمكن استمرارها بالمعدل الذي كانت موضوعة على أساسه، ولا بالتمويل الذي كان مخصصا لها. ولذلك فسوف تتقلص هذه الخطط، بل ويتم إلغاء بعضها ويترتب على ذلك الاستغناء عن الكثير من أعداد            العمالة الأجنبية وربما المحلية، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أموال البترول التي كانت تبيع بها هذه الدول للبلاد الأجنبية موضوعة في بنوكها، ومنتشرة في استثماراتها التي أصيبت هي الأخرى بضربة الأزمة العالمية، بحيث         يصعب بل يستحيل أحيانا، استردادها في الوقت المطلوب وفي هذا في الوقت الحرج.
لكن إذا كان لكل مصيبة أثر إيجابي، فإن البلاد العربية المصدرة للبترول سوف تدرك جيدا أن التعامل مع العالم الخارجي ينبغي أن يتم على أساس الحرص، والتخوف من احتمال الخطأ، بل وكذلك النصب! فما معنى استثمار أموال البترول في مشروعات أجنبية قد تكسب وقد تخسر؟ وما معنى وضع هذه الأموال في بنوك قد تقدم اليوم عائدا مجزيا، ولكنها قد تفلس غدا؟ وما معنى أن يضع الإنسان البيض كله في سلة واحدة؟ وأخيرا ما معنى أن تظل الدول المصدرة للبترول متخلفة في تصنيعه وتكتفي ببيعه كمادة خام في براميل؟! وأخيرا وليس أخرا ما معنى ألا تحقق التنمية الشاملة في مجمل أنحاء الوطن العربي، الذي تعاني الكثير من دوله من الفقر، وأحيانا المجاعة!
لقد كانت الأنباء تتوالى عن تذمر الغرب من الاعتماد الكبير على البترول، وعن أنه يبحث عن مصادر بديلة للطاقة، ومنها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح إلى جانب الطاقة النووية بالطبع- وقد حاولت إحدى الشركات الأمريكية بالفعل ونجحت في إنتاج سيارة تسير بالكهرباء لكنها ما لبث أن أوقفت إنتاجها وسحبها من السوق لكي لا تهدر أرباح شركات السيارات التقليدية التي تسير بالبنزين والسولار!! فماذا يعني ذلك؟ يعني أن العالم غير مرتاح إلى إن يستورد البترول من خارجه ويعتمد بالتالي على بعض البلاد العربية التي لا يحبها، ولا يطيق حتى ذكر اسمها، ومع ذلك فهو مضطر إلى التعامل معها، والابتسام في وجهها!!

*  *  *

حوار حول الخصخصة

[آخر ساعة، 2007]

أذكر منذ عدة سنوات أنه عندما ظهر هذا المصطلح في المجتمع المصري آثار الكثير من البلبلة لدي الإنسان العادي، وراح بعض اللغويين يعارضون صياغة المصطلح نفسه، ولكنه بمرور الوقت أصبح معترفا به من الجميع، وأظن أن مفهومه الآن قد اتضح واستقر معناه على أنه تحويل مؤسسات القطاع العام التي تمتلكها الدولة إلى شركات خاصة يملكها الأفراد. أما سبب انتشاره فيرجع إلى أن معدلات العائد منه تزيد بكثير عن العائد من القطاع العام، وذلك لسبب بسيط للغاية، هو أن العاملين في القطاع العام موظفون يتقاضون رواتبهم الأساسية سواء أحسنوا في عملهم أو أساءوا، أما موظفو الشركات الخاصة فإنهم مرتبطون بتحقيق الربح، وإلا تم تسريحهم، واستبدل بهم غيرهم ممن هم أكثر كفاءة. كذلك فإن تعثر إحدى شركات القطاع العام لا يُؤدي بالضرورة إلى إغلاقها، وإنما تجد نفسها مدعومة بصورة أو بأخرى من الدولة، أما شركات القطاع الخاص فإنها تعمل بدون سند حكومي، ولذلك تبذل قصارى جهدها في جودة الأداء، وتحقيق الربح
وقد سألت الدكتور حلمي البشبيشى أستاذ المحاسبة ووكيل كلية التجارة بجامعة القاهرة عن أشكال الخصخصة فأجاب بأنها تتمثل في ثلاثة أساليب: الأول نقل ملكية المنشآت العامة كليا أو جزئيا من القطاع العام إلى القطاع الخاص، والثاني نقل إدارة المنشآت العامة إلى القطاع الخاص مع بقاء حق الملكية في يد الدولة، والثالث: تحرير النشاط الاقتصادي من أي قيود تنتقص من حق الملكية الفردية، بما في ذلك مثلاً عدم توريد المحاصيل الزراعية بسعر محدد للحكومة.
وعندما سألته عن الدول التي سبقتنا في مجال الخصخصة، قال بأنها تصل إلى ما يقرب من ستين دولة، تشمل أهم الدول المتقدمة ومنها بريطانيا في عهد السيدة تاتشر. وقد استخدمت في ذلك أسلوبا فريدا يجمع بين طرح المنشآت المراد بيعها في مزاد، بعد إصدار سندات تمليك محددة السعر. وبذلك قامت بتمليك العاملين في الشركات نفسها جزءا منها، وشجعت في نفس الوقت الأفراد العاديين على المساهمة في التملك وجني الأرباح من       تلك الشركات بعد خصخصتها. وهو الأمر الذي سجل زيادة في امتلاك الأسهم من ثلاثة ملايين سهم إلى تسعة ملايين سهم خلال ست سنوات      فقط
قلت للدكتور حلمي البشبيشى: ألا توجد وصفة مستخلصة من تجارب الدول المتقدمة التي نجحت في الخصخصة لكي نأخذ بها عندنا فقال: إليك أهم الشروط :
أولاً: تهيئة بيئة اقتصادية مواتية للملكية الخاصة، وينطوي ذلك على العديد من الإصلاحات الضريبية والجمركية. قلت: إن الدولة عندنا سائرة في هذا الاتجاه.
ثانيا: تنظيم إعلام جماهيري لإقناع المجتمع بمزايا الخصخصة. قلت: وهذا لم يحدث بعد بصورة كافية.
ثالثا: إعداد خطة شاملة للخصخصة يتولى الإشراف على إعدادها وتنفيذها متخصصون مؤهلون جيدا. قلت: وهنا مربط الفرس!
رابعا: تهيئة المؤسسات العامة لتقبل الخصخصة باعتبارها المخرج من الأزمة الاقتصادية والباب المفتوح لمزيد من النجاح. قلت: وهذا ما لا يقبله ببساطه رؤساء الشركات القابضة!
لكننا سمعنا أحيانا عن بيع بعض الشركات بأقل من سعرها الحقيقي، وأحيانا أخري عن بيع شركات كسبانه على أنها خسرانه!ومن رأيي هنا أن نقسم شركات القطاع العام إلى ثلاثة مستويات: الأول يكسب وينبغي عدم التفريط فيه بسهولة. والثاني متوسط الحال، ويمكن دعمه والأخذ بيده حتى ينهض فيخصخص، أما الثالث وهو الخسران فلابد من سرعة بيعه للقطاع الخاص من قبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. هذا كله على المستوي القريب والمتوسط، أما على المستوي الاستراتيجي البعيد، فلابد من تحويل مؤسسات القطاع العام إلى شركات خاصة، تقوم على المنافسة الحرة، التي لا تزدهر بدونها الحياة الاقتصادية في أي مجتمع


*  *  *


الوصايا العشرون

لتخفيف الأزمة المالية والاقتصادية

[الأخبار، 4/12/2008]

أولاً: استمرار البنك المركزي في الرقابة الدقيقة للبنوك، والإعلان القوي عن أية مخالفات مع ضمان ودائع المواطنين.
ثانيا:  التدقيق في عدم قيام البنوك بإقراض رجال الأعمال بدون ضمانات محددة، مع نزع ملكياتهم عند عدم الوفاء بالتزاماتهم.
ثالثا: إرسال مندوبي البنوك إلى أصحاب الورش والمشروعات الصغيرة والمتوسطة لإعطائهم قروضا ميسرة، ولأجل محدود، بهدف تشجيعهم على توسيع أعمالهم.
رابعا: ترشيد الانفاق الحكومي، بدءا من استهلاك الماء والغاز والكهرباء وانتهاء بالأثاث الفاخر، والديكورات، والسيارات!
خامسا: تقليل نفقات الوزارات عموما، وبخاصة وزارات الخدمات التي لا تقدم عائدا للميزانية، كالثقافة والإعلام والأوقاف والبيئة، والحكم المحلي، والتنمية الإدارية.
سادسا: الاستغناء عن أساطيل السيارات المخصصة لموظفي الدولة، وإعطاؤهم «بدل انتقال»، عوضا عن ذلك!!
سابعا: إعادة النظر في مكافآت أعضاء مجلس الشعب والشورى الذين من المفروض أن يقوموا بهذا العمل تطوعا.. وليس وظيفة!
ثامنا: الحد من إقامة المهرجانات والمؤتمرات التي تتكلف ملايين الجنيهات، ويلاحظ عدم وجود أي عائد مفيد منها على الدولة أو المجتمع.
تاسعا: ضرورة الأخذ بنظام الضريبة التصاعدية بدلا من تلك الضريبة الموحدة «20%» التي يتساوى فيها الغني جدا، ومتوسط الدخل، ومحدود الدخل!
عاشرا: الحد من استيراد الكماليات، مع أهمية نشر ثقافة الاستهلاك المعقول في المجتمع.
حادي عشر: التوقف عن استيراد السيارات من الخارج لمدة عامين أو ثلاثة، مع الاتجاه لإنتاج سيارة مصرية.
ثاني عشر: تشجيع أصحاب المشروعات الصغيرة، والمتوسطة على تشغيل عمالة، في مقابل تخفيض الضرائب عنهم، وكذلك تقديم قروض ميسرة لهم.
ثالث عشر: المنع التام للسلع الصينية التي عرقلت حركة الصناعة المصرية، وأغلقت بسببها الكثير من المصانع التي لم تقدر على منافستها.
رابع عشر: تشجيع زراعة الحبوب وخاصة «القمح، الذرة، الأرز» والبقول «الفول والعدس»، مع الاهتمام بزراعة الخضروات وضرورة تصنيعها وتعليبها.
خامس عشر: إعادة الحياة والتنظيم الجيد إلى المجمعات الاستهلاكية لضمان توحيد الأسعار، وتوزيع السلع على جميع المواطنين.
سادس عشر: ضرورة الاتجاه إلى الدول الإفريقية التي يمكنها أن تستوعب منتجات الصناعة المصرية، وهي تتطلع إلى ذلك..
سابع عشر: فتح فرص عمل مستمرة للشباب في مختلف مجالات الإنتاج والخدمات على ألا تقل رواتبهم عن ثلاثمائة جنيه في الشهر.
ثامن عشر: رفع شعار قيمة العمل في المجتمع ، وجعلها المعيار الذي يتم على أساسه تقييم الأفراد ماديا وأدبيا.
تاسع عشر: توعية الشعب بعدم إنفاق أمواله في أمور لا طائل من ورائها، وفي مقدمتها الحديث المبالغ فيه في التليفون المحمول!
عشرين: مصارحة الشعب يوميا بمجمل إنفاقه، وفي نفس الوقت مجمل إنتاجه.. ليكون على بينة باستمرار من الموازنة بين دخله ونفقاته.


*  *  *

ثقافة الاستهلاك
كيف؟ ولمن؟

[الأخبار، 8/11/2008]

من الذي يستطيع أن يصارح المجتمع فيقول له: أنت كثير الاستهلاك فحاول أن تقلل منه؟ ومن الذي يقرر أن يواجه التجار الذين يستوردون مختلف البضائع الكمالية فيقول لهم: رفقا بنا، وكفاكم تبديدا للعملة الصعبة التي تحتاجها البلاد لشراء ما هو أنفع وأجدى من الضروريات؟ وهل يمكن للدولة من خلال منافذها الجمركية أن تمنع الواردات التافهة، والتي يثبت بالفعل أن ضررها أكثر من نفعها؟
في تقديري أن هذه الجهات لا يمكن مخاطبتها وجها لوجه، كما إنها إذا خوطبت لن تستجيب لأي نصيحة لأن الخطأ الشائع- كما يقال- أكثر قبولا من الحقيقة المهجورة؟ من هنا لا يبقى الحديث معه عن ثقافة الاستهلاك وضرورة ترشيده- سوى الفرد، وليس مجموع الناس. لأن الأمل في تطوير ثقافته، وبالتالي في تعديل سلوكه، أكبر بكثير من محاولة تطوير وتعديل ثقافة وسلوك الجماهير الغفيرة. وأنا هنا اختلف مع فريق من علماء الاجتماع الذين يذهبون إلى أن المجتمع هو الذي يملي على الفرد رغباته ويتحكم بالتالي في تصرفاته، وفي رأيي أن هذا لا يتحقق إلا عندما تفرض الدولة على جميع الأفراد قانونا معينا، فحينئذ يلتزم به الجميع، ويسقط أخيرا على الفرد فيضطر إلى تنفيذه، أما عندما يترك الفرد لنفسه، فإنه يظل حرا في اختيار نوع الثقافة التي يرتضيها، ويصبح من حقه أن يفعل أو لا يفعل، بعد أن يقتنع أو لا يقتنع.
ولو أننا تحدثنا مع إنسان عاقل في مجتمعنا المصري المعاصر، عن ثقافة الاستهلاك الخاصة به، وحاولنا أن نحدد له معالمها، من خلال قائمة تحتوي على عدد من الأسئلة، ثم تركنا له حرية الإجابة عنها، فماذا يكون الوضع:
-
ما هي أنواع الطعام التي تحتاج إليها في غذائك اليومي؟
- ما هي الفواكه أو الحلويات التي تتناولها بعد الطعام؟
- هل تتناول أدوية مهضمة؟ وكم تكلفك شهريا؟
- ما هو حجم استخدامك للتليفون الأرضي؟ وهل تزيد المكالمة عن خمس دقائق؟
- هل أنت ممن يربون الحيوانات الأليفة «كلاب- قطط» أو طيور زينة.
-
هل تفضل استقبال أصدقائك في المنزل؟ وماذا تعد لهم؟
- إذا فاض معك مبلغ من المال، فكيف تنفقه: «عليك، على أسرتك، على أقربائك، على أصدقائك..»؟
- هل تذهب في رحلات خارج مدينتك؟ ولكم يوم؟
- هل لديك سيارة؟ وهل تستخدمها في العمل فقط أم في النزهات أيضا؟ وكم يكلفك تصليحها وثمن البنزين في الشهر؟
- هل تزور الطبيب «من مرض مزمن أم من أمراض عارضة» كم يكلفك أجره؟ وثمن الدواء؟
- هل أنت من هواة القراءة؟ وهل لديك مكتبة صغيرة في البيت؟
- لمن تلجأ عندما تقع في أزمة مالية «للسلفة من عملك؟ أم من الأقارب والأصدقاء؟ أم تشترك في جمعية»؟
- هل لديك إمكانية لتوفير بعض المال الفائض عن حاجتك الضرورية؟ وهل لديك رصيد في بنك؟
إن الإجابة عما ورد بهذه القائمة من جانب كل فرد على حدة، وبكل صراحة بينه وبين نفسه، يمكنها- في رأيي- أن تضع يده على أسلوبه في الحياة اليومية المعاصرة، وبالتالي على طريقته في الاستهلاك، ولأنني أثق في قدرات الفرد، وحسن تقييمه لأموره الخاصة، قبل تقديره لأمور الآخرين. وبهذا الأسلوب البسيط للغاية يمكننا أن نضع الركيزة الأساسية لثقافة الاستهلاك لدى الفرد، الذي هو أساس المجتمع، ونريح أنفسنا من أكثر ما يقال عن تلك الثقافة من كلام في الهواء!!


*  *  *

الروتين والبيروقراطية

[الأخبار، 7/7/2009]

الروتين والبيروقراطية من الكلمات الأجنبية التي دخلت كما هي إلى اللغة العربية، ولم تتم ترجمتها حتى الآن، ولذلك ظلت الكلمتان تستعملان بنطقهما الأجنبي لدى المتعلمين والأميين، والسبب في ذلك أن مفهومهما راح يطبق في مختلف المجالات وخاصة في المصالح الحكومية التي تتعامل مع الجمهور.
الروتين في معناه الأصلي عبارة عن مجموعة أعمال اعتيادية يتم تنفيذها بصورة ميكانيكية مكررة، لا تسمح بالاستجابة إلى أي مبادرة جديدة أو فكرة مبتكرة. أما البيروقراطية فهي كلمة فرنسية ترجع في الأصل إلى كلمة Bureau أي مكتب وتشير إلى مجموعة من الموظفين الذين يعملون           في الإدارة الحكومية، ويكون لهم نفوذ قوى في التحكم بسير الأمور          أو تعطيلها.
ولا شك أنه كلما تخلصت الإدارة في أي دولة أو حكومة من الروتين والبيروقراطية انطلقت عجلة الإنتاج، وتيسر تحقيق الخدمات، وشعر الشعب بالراحة والامتنان.. وما أشبه دورة الإدارة في أي مجال بالدورة الدموية في جسم الإنسان. فهي تبدأ من القلب، ثم تمتد إلى سائر الأطراف، لكي تعود إلى القلب مرة أخرى.. فإذا حدث انسداد في أحد الشرايين نتج عنه ما يسميه الأطباء بالجلطة، التي توقف نشاط الإنسان كله، ونفس الحال إذا قام موظف جاهل أو ملعون بتعطيل الأوراق، عندئذ تتعطل حركة الإدارة كلها، وتعلو الأصوات بالشكوى، وقد يزيد الغضب فيؤدي البعض إلى الاعتصام أو الاضطرابات، وهكذا فإن المدير الناجح هو الذي يتابع من مكتبه دورة الإدارة منذ أن يدخل إليها المواطن صاحب المصلحة، وكيف تنتقل أوراقة من مكتب إلى أخر، حتى يحصل على موافقته النهائية بسرعة وسهولة ودون معوقات. وأفضل من هذا المدير: المدير الآخر الذي يخرج من مكتبه ليشاهد بنفسه كيف تسير الأمور؟ فإذا رأى خللا أصلحه على الفور، وإذا لمح موظفا يتلكأ أو يتكاسل عاقبه، بل إنه إذا وجد مواطنا متعثرا في الإجراءات أخذ بيده لكي ينجز له مهمته. وهكذا فإن مثل هذا المدير هو الذي يمكنه أن يقضي على بطء الإجراءات الروتينية، ويكسر تقاليد البيروقراطية.
وإذا كانت كثير من البلاد النامية تشكو من الفساد الإداري، فإن ذلك يرجع في المقام الأول إلى غلبة سلطان الروتين والبيروقراطية حيث يكثر استخدام الأوراق، وتتزايد توقيعات الموظفين وأخيرا يوضع عليها ختم الدولة العتيد! ومن الطبيعي، أن يتحكم الموظف صاحب التوقيع في المواطن المسكين صاحب المصلحة، وتنفتح الأدراج لقبول الرشاوى التي أصبحت تسمى إكراميات! وإذا لم يتنبه المواطن الطيب لذلك أرشده بسرعة خاطفة العمال المتواجدون بكثرة في طرقات المصلحة. أما المواطن الذي يرفض الانصياع لهذا النظام الجائر، فإنه قد يحصل بعد عناء على أوراقه ثم لا يلبث أن يفاجأ أن ختم الدولة الموضوع على الأوراق غير واضح.. فيضطر للعودة إلى المصلحة من جديد، وهيهات إذا عثر على الموظف المسئول عن الختم جالسا على مكتبه!!
والنتيجة أن أي إدارة سواء كانت إنتاجية أو خدمية، لابد أن تتخلص باستمرار من أعدى أعدائها، كما يتخلص الفلاح من دودة القطن، وهما الروتين والبيروقراطية، وهما دائما مرتبطان بنظم عتيقة، وأفراد لابد من تقييم أدائهم كل يوم، بل كل ساعة، وليس هذا مستحيلا، بل إنه في غاية الإمكان.

الإنتاج لمن يريد..

[الأخبار، 30/12/2008]

يعتقد البعض خطأ أن الإنتاج يتعلق فقط بالأشياء المادية، التي نجد مظاهرها واضحة في الزراعة والصناعة والتجارة، ولكن الحقيقة أن الإنتاج يشمل الأشياء المادية كما يشمل الأمور المعنوية كاستشارة الطبيب، ودرس المعلم، وإبداعات الفنان التشكيلية والموسيقية، كما تشمل أنواع أخرى من الخدمات التي تحقق منفعة للمجتمع كنقل الركاب والبضائع، ورفع القمامة من المنازل والطرق، وهكذا فإن الإنتاج بمفهومه الاقتصادي يعني كل ما يحقق فائدة أو يساعد عليها.
وتنحصر عوامل الإنتاج في ثلاثة هي الطبيعة، والعمل، ورأس            المال. وقد حاول بعض علماء الاقتصاد السابقين حذف بعض هذه العوامل، أو تفضيل بعضها على بعض، ولكن الحقيقة أيضا هي أن هذه العوامل الثلاثة كلها ضرورية ولازمة لبدء الإنتاج واستمراره بل وازدهاره.
أما بالنسبة للطبيعة فقد حلت محل كلمة الأرض التي كانت تعني موضع الزراعة وهي المصدر الرئيسي للإنتاج في العصور القديمة، لكن التطور ما لبث أن لحق بكل ما يتعلق بالطبيعة التي تعتبر الأرض جزءا منها، لذلك بدأ الاهتمام بالبيئة الطبيعية التي تشمل الأحوال الجوية والجغرافية التي تتدخل مباشرة أو بطريق غير مباشر في إنتاج الأرض: وفرة وجودة، ومن ذلك أيضا البحث في باطن الأرض عن الفحم والمعادن وغيرها واستخدام مساقط المياه ثم السدود فيما بعد لإنتاج الطاقة، واستخراج البترول لتسيير المركبات والطائرات، وفي الفترة الأخيرة راح الإنسان يستخرج الطاقة الكهربائية من قوة الرياح وأشعة الشمس، إلى جانب القوة الهائلة التي تستخرج من الطاقة النووية.
وأما العمل فهو المجهود المبذول من الإنسان بإرادته لتحقيق منفعته، وبدونه تظل الطبيعة بخيلة بخيراتها، والكون مغلقا على كنوزه. ولا شك أن العمل هو العامل الأساسي لحركة الإنتاج، لكنه وحده لا يفعل شيئا. وينقسم العمل من حيث طبيعته إلى عقلي وجسماني، ومن حيث أدائه إلى يدوي وميكانيكي، ومن حيث الغرض منه إلى صناعة وخدمة. يقول بوفون Buffon إن اليد والعقل هما ميزتا الإنسان على غيره من الحيوانات، ويقول           سيمون Simon إن الثروة الحقيقية للأمة هي ثروتها العقلية بشرط أن تعرف كيفية استخدامها، أي بالعمل اليدوي.
في هذا المجال يظهر الاختراع والابتكار الذي يحدث الطفرات الكبرى في تطوير الأساليب والوسائل التي تساعد الإنسان في الحصول على أكبر قدر من خيرات الطبيعة، ومن أمثلة ذلك اختراع الآلات لرفع المياه لسقي الأرض، وبناء السدود لضبط الفيضانات وتوليد الكهرباء، واختراع القطار والسيارة والطائرة للانتقال السريع والأسرع من مكان لآخر.
لكن تقسيم العمل إلى صناعات وخدمات أمر يستحق الاهتمام، لأن الصناعات هي الأعمال المنتجة للثروة، والتي غرضها تحويل المادة من شكلها الأول القليل الفائدة إلى شكل جديد عظيم المنفعة. أما الخدمات فهي عبارة عن الأعمال المنتجة للفائدة دون اختلاطها بالأشياء المادية، ومن ذلك أعمال السمسرة والترفيه والدعاية، والإعلان..
والسؤال هنا:  هل كل عمل يعد منتجا؟ ذهب بعض الاقتصاديين إلى أن الزراعة والصيد وأعمال المعادن والمناجم والغابات هي الأعمال المنتجة لأنها تحقق ربحا صافيا، في حين أن كلا من الصناعة والتجارة تعيشان على غيرهما! وقد أكد البعض على أن صناعة النقل والتجارة لا تغير شيئا من المادة الأولية، ولذلك فهي لا تضيف جديدا إلى الثروة، إلا أن هناك من عارض ذلك قائلا: إن الإنتاج الزراعي إذا لم ينقل من الحقول، ويتم توزيعه تجاريا فإنه لن يصل إلى المستهلك، وبهذا تصبح التجارة والنقل من الصناعات المنتجة.
إن العمل يحتاج إلى مجهود بدني وعقلي، كما يحتاج إلى زمن يمكن إنجازه فيه، وأخيرا يتطلب تعليما وتدريبا متواصلين، وهذا ما يؤكد ضرورة وجود وانتشار المعاهد الفنية، التي ضعف الاهتمام بها مع الأسف في  مصر!
وأخيرا نأتي إلى العامل الثالث للإنتاج، وهو رأس المال، وفي الماضي لم يكن لهذا العامل أي تأثير، لأن الناس كانوا يبحثون عن تحقيق منافعهم بأنفسهم، ودون الحاجة إلى نقود، ولم تظهر قيمة النقود إلا عندما ازدهرت  التجارة المحلية والدولية وزادت التعاملات الاقتصادية عن طريق تبادل السلع، فدخلت العملة وسيطا في عمليات التبادل، ثم تطورت إلى ما يطلق عليه الأوراق المالية القابلة للتداول في البورصة.
ومن المعروف أن رأس المال نوعان أحدهما مربح يتم ادخاره  وتكديسه وجني أرباح عائده، والثاني هو الذي يوضع في إنشاء            المصانع، ويحرك المشروعات الزراعية والتجارية، ويوظف العديد من العاملين.
في مطلع 1928، نشر د. حسين الرفاعي، وكان عائدا من فرنسا بعد حصوله على الدكتوراه في الاقتصاد كتابا بعنوان «خلاصة الاقتصاد السياسي» قدم له د. محمد حسين هيكل الذي كان يدرس هذا المقرر بقسم الحقوق بالجامعة المصرية سنة 1922، وقد أراد مؤلف الكتاب أن تكون أفكاره الاقتصادية التي نقلها من أساتذته في أوربا مدخلا لتطور الاقتصاد المصري، الذي كان يعتمد حينئذ على الزراعة وحدها، لكي ينطلق إلى ميادين واسعة من التقدم والازدهار، لكن الاستفادة الكاملة من الكتاب.. لم تحدث مع الأسف حتى الآن.


*  *  *

آخر تحديث الجمعة, 29 مايو 2020 16:06