عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
ثانيا : فى التعليم واصلاحه


ثانيا : فى التعليم واصلاحه صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الأحد, 02 يناير 2011 00:38

ثانيا : فى التعليم واصلاحه :


- التعليم وسيادة الدولة

-
حول شعار مجانية التعليم ودفن الرؤوس فى الرمال

- الأعمدة الخمسة لجودة التعليم

- العقبات السبع أمام تطوير التعليم

- تطوير الجامعات وأصوله

- تنسيخ الجامعات المصرية !!

- الرياضيات فى مصر

- التعليم الفنى

- ما هدف التعليم الابتدائى ؟

- خطاب مفتوح إلى علماء التربية

- خطاب مفتوح إلى علماء اللغة العربية

- خطاب مفتوح إلى علماء التاريخ

- مقرر للتربية الأخلاقية

- القراءة والكتابة

- مأساة الذين تعلموا فى الغرب

- المستشرقون من هم ؟ وماذا فعلوا ؟

- التعليم والثقافة

التعليم وسيادة الدولة

[
الأخبار، 10/3/2009]

من المقرر في كل بلاد العالم أن التعليم هو أحد أهم الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، وهو في نفس الوقت حق من حقوق الإنسان في العالم المعاصر. ونظرا لأهمية التعليم في بناء وتكوين الأفراد، وإعدادهم ليكونوا مواطنين فاعلين في حركة التنمية، وتقدم وازدهار المجتمع الذي يعيشون فيه- فقد أولت الدول أهمية خاصة للتعليم، بحيث جعلته إلزاميا في المرحلة الأولى «حتى سن الخامسة عشرة تقريبا» ومعنى الإلزام هنا أنه يكون مجانيا، وفي نفس الوقت يوجب على أولياء الأمور إرسال أبنائهم إلى المدارس لمحو أميتهم وتزويدهم بمفاتيح العلوم الأساسية «القراءة والكتابة»، ومبادئ الرياضيات والعلوم والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب تعويدهم النظام والتعاون والسلوك القويم، كما تتضمن الحياة المدرسية في تلك المرحلة محاولة ربط هؤلاء التلاميذ بأوطانهم من خلال الأناشيد الجماعية، وتحية العلم، والأنشطة المختلفة التي تجمع قلوبهم على هدف واحد، وتحثهم على التفوق والانتصار من خلال المسابقات التي يتبارون فيها، ويسعى كل منهم أن يحتل مكانا مرموقا في المقدمة..

وإذا كان التعليم قد بدأ بسيطا في الماضي، إلا أنه بمرور الزمن تطور وتعقد وأصبح عملية مركبة تتطلب توافر الكثير من الإمكانيات المادية والبشرية ذات الكلفة العالية، وهو الأمر الذي أثقل كاهل الحكومات، فاتجهت إلى دعوة أفراد قادرين من المجتمع لمشاركتها في تحمل جزء من هذا العبء.

ومن هنا نشأت المدارس الخاصة، ثم الجامعات الخاصة، التي جعلت من أهم أهدافها بجانب المساهمة في التعليم: تحقيق الربح، وهذا أمر طبيعي، فإن كل من ينشئ مدرسة أو جامعة يستثمر جزءا من رأسماله الذي يسعى دائما إلى تعظيم العائد منه، ولكي تحد الدولة أو الحكومة من استغلال هذا الهدف والمبالغة فيه، وضعت بعض القوانين التي تجعل هذا النوع من التعليم تحت رقابة الدولة، ومن المعلوم أن هذه الرقابة تبدأ دقيقة وصارمة، ثم تتحول بمرور الوقت إلى رقابة هادئة ومستأنسة، بحكم أنها تتعامل مع أصحاب رؤوس أموال، إن لم يكن لهم نفوذهم، فإن لديهم العديد من الوسائل التي لا يعدمون أن يتوصلوا من خلالها إلى تحقيق مأربهم، أو التستر على عيوبهم!

ومع ذلك، وعلى الرغم منه، فقد قام التعليم الخاص لدينا في مصر سواء كان في المدارس أو في الجامعات بدور لا يمكن إنكاره في مساعدة التعليم الحكومي، وكان أهم ما قدمه في هذا الصدد هو استيعابه لعدد من التلاميذ والطلاب الذين كان ينبغي أن يستوعبهم التعليم الحكومي بصعوبة بالغة نظرا لكثرة الأعداد المقبلة عليه، أما نوعية التعليم الخاص، وكفاءة أدائه، ومستواه فهي أمور مازالت موضع نظر، إن لم تكن أحيانا موضع شك، ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد الحصول على شهادة إتمام دراسة معينة، وإنما يقتضي بناء فرد يكون مرتبطا بقضايا مجتمعه، ومنتميا إلى ثوابت وطنه، وهذا الجانب هو ما أشك أنا شخصيا في أن التعليم الخاص يقوم به..

صحيح أن التعليم الحكومي أصبح مثل البقال التقليدي الذي تتكدس عنده السلع بصورة غير جذابة، وأحيانا غير مرتبة، في حين أن التعليم الخاص يشبه السوبر ماركت الذي يبهر بأضوائه ومعروضاته عيون المشترين، ولكن هذا لا يجعل التعليم الخاص أفضل من التعليم الحكومي، فكلاهما يقدم نفس السلعة، بل أن ما يقدمه التعليم الحكومي أفضل بكثير، لأنه لا يخلو- مثل التعليم الخاص- من دعم روح المواطنة، التي لا تقل أهمية أبدا عن أجهزة الكمبيوتر!!

* * *



حول شعار مجانية التعليم


ودفن الرؤوس في الرمال


[
الوفد، 24/2/2008]

مازال شعار مجانية التعليم- الذي أطلقه طه حسين، وتبناه حزب الوفد في الأربعينيات، ثم طبقته ثورة يوليه في الخمسينيات من القرن الماضي- مرفوعا بقوة في الأجواء، يردده المسئولون بكل حسم، ويتمسك به الكتاب بكل حماسة، ويسكر آذان المجتمع بحلاوة وقعه، وجميل رناته! وذلك كله دون أن «يفكر» أحد في مدى تطبيقه داخل مؤسساتنا التعليمية بكل مراحلها ابتداء من دور الحضانة مرورا بالمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم الجامعة.. وانتهاء بالدراسات العليا التي تشمل الماجستير والدكتوراه.

وأنا هنا أريد أن أقف وقفه صراحة مع نفسي أولاً، ثم مع المجتمع ثانيا وأطرح السؤال التالي: هل (فعلا) التعليم مجاني؟

فإذا انتقلنا من بواب عمارتنا إلى جيران المنزل، وجدناهم جميعا يعطون أولادهم دروسا خصوصية، وهم يدفعون فيها الشيء الفلاني.. أما إذا سألنا أحد أولياء الأمور الذي يرسل ابنه أو ابنته إلى إحدى المدارس أو الجامعات الخاصة، وجدنا المبلغ المدفوع في تعليمه يتراوح بين ثلاثين وخمسين ألف جنيه في العام، ومع ذلك فهو راض بهذا النوع من التعليم، لأن الولد أو البنت ينجحون بسهولة كل عام، ولا يحتاجون إلى دروس خصوصية! فإذا هبطنا إلى دور الحضانة وجدناها تتراوح بين مئات الجنيهات وآلافها، ومن العجيب أن آفة الدروس الخصوصية بدأت تنخر في جذع الحضانة، فهناك من يحرص على استئجار المدرسين الخصوصيين لمساعدة أبنائهم في تلك المرحلة المبكرة من التعليم؟!

مسألة التعليم إذن تحتاج إلى فتح صفحتها أمامنا بكل وضوح ومناقشتها بكل صراحة، لأنني وجدت أن مشكلاتها التي كنا نناقشها منذ عشرات السنين مازالت قائمة حتى الآن على الرغم من أننا قدمنا لها عشرات الحلول، ولكنها ظلت في مكانها، والسبب الرئيسي في تصوري هو عدم مواجهة واقع التعليم بالصراحة المطلوبة، مع الخضوع لشعارات براقة لا يتم تنفيذها على أرض الواقع.

إن التعليم- أيها السادة- عملية مكلفة منذ بداية التاريخ وفي كل البلاد التي تقدم فيها، وتقدمت به. ويعني هذا ببساطة أنه يحتاج إلى تمويل كاف لكي يغطي كل متطلباته. وبالطبع سوف أكون سعيدا جدا إذا قامت الدولة به، واستطاعت أن تموله بالكامل، وتجعله «بالفعل» مجانيا، لكن هذا العبء أصبح فوق طاقتها، بل فوق طاقة أي دولة غنية في العالم كله سواء كانت رأسمالية، أو اشتراكية. والذي حدث ويحدث في مصر أننا نرفع الشعار ثم نمارس تطبيقات عشوائية تسمح بالتعليم الممول من طلابه وتلاميذه، ولم يقتصر ذلك فقط على المدارس والجامعات الخاصة التي تم السماح لها بذلك، وإنما بدأ يمتد إلى التعليم المجاني الذي ظهرت فيه أنواع من التعليم المتميز (أي بفلوس كثيرة جدا) جنبا إلى جنب مع التعليم الذي يطلق عليه: مجاني؟!

لقد آن الأوان أن ترفع النعامة رأسها من الرمال، وأن تواجه الواقع وتحسب الحسبة: كم يدفع الناس بالفعل؟ وكيف نقيم تعليما ممولا منهم بنسبة معينة، بشرط أن التلميذ أو الطالب الذي لا يقدر على مواصلة التعليم لابد أن تقدم له منحة دراسية من أي جهة كانت سواء الحكومة أو رجال الأعمال، أو أهل الخير وأصحاب الأوقاف.. وبهذا نفعل مثل ما يفعله العقلاء في كل بلاد العالم حتى تستطيع قاطرة التعليم عندنا أن تتحرك بكفاءة، ويرجع عائدها على المجتمع مرة أخرى.

الأعمدة الخمسة لجودة التعليم

[
روزاليوسف، 2007]

التعليم في كل البلاد المتقدمة يخضع لمعايير الجودة التي تطبق عليه دون مجاملة أو استثناء. والغرض الأساسي من تلك المعايير هو ضمان قيام التعليم بدوره في إعداد الكوادر البشرية المؤهلة والمدربة والقادرة على اقتحام سوق العمل بكفاءة وإيجابية. ومن المعروف أن تلك المعايير تتوزع تطبيقاتها أولاً على (المنشآت) ومدي مناسبتها لأعداد الطلبة، وثانيا على (التجهيزات) ومدي كفايتها لاستخداماتهم، وثالثا على (أعضاء هيئة التدريس) ومتابعة تطورهم المستمر لكي يحسنوا القيام بالعملية التعليمية والبحث العلمي الذي ينعكس بالضرورة عليها، ورابعا في (الإدارة التعليمية) التي توفر الامكانات اللازمة وتزيل أي عقبة قد تعترض تحقيق الأداء الجيد على أكمل وجه ممكن. وأخيرا يأتي دور (التمويل) اللازم لهذه المنظومة التعليمية لكي يمكنها من التشغيل الجيد بطاقاتها الكاملة.

والسؤال الآن: هل تتوافر لدينا في التعليم الجامعي وما قبل الجامعي، وفي التعليم الفني هذه المعايير؟ من المؤكد أن الإجابة يعرفها جيدا أهل التعليم، والقائمون عليه، والمسئولون عنه. وهم وحدهم أقدر الناس على تحديد مستوي تطبيق تلك المعايير. المهم أن تتاح لهم أولاً الفرصة للقيام بعمل تقييم ذاتي للمؤسسات التعليمية التي يعملون فيها، وذلك قبل أن تطبق عليهم (من خارجها) المعايير العالمية للجودة والاعتماد. ولا شك أن التعليم عندنا بكل مراحله في حاجة إلى مظلة تتحقق له تحتها الجودة المطلوبة، والتي تحسن من أدائه، وتطور مناهجه ومقرراته، وتدرب الكوادر البشرية فيه، سواء من أعضاء العملية التعليمية والبحثية أو من الإدارة. لأن الإدارة في مجال التعليم تقوم بدور محوري حيث يتوقف على جزء كبير منها نجاح أو فشل العملية التعليمية والبحث العلمي. فالإدارة هي التي تتابع تنفيذ الخطط، وتوفر لها التمويل اللازم في الوقت والمكان المناسبين، كما أنها المنوطة بحل أي مشكلات تطرأ، أو عقبات تظهر، كذلك فإن الإدارة هي المسئولة عن توفير الجو الملائم والنظام المطرد، والبيئة المناسبة التي يمكن أن تزدهر فيها العملية التعليمية والبحث العلمي المتزامن معها.

إن الكثير منا يتحسر على التعليم (أيام زمان)، والواقع أن التعليم في ذلك الزمان كان يحتوي على عدد كاف من أعضاء هيئة التدريس، وأعداد معقولة من الطلبة في مكان فسيح، وتجهيزات متواضعة لكنها شبه كافية، ثم إدارة منضبطة، وتمويل حكومي مناسب. وحين راح الخلل يصيب هذه الأعمدة الخمسة اهتز البناء التعليمي، وأصبح يخرج حشودا كبيرة دون التركيز على نوعيتهم المتميزة. والأمل الآن في أن تتعافي الأعمدة الخمسة من جديد، إذا كنا بالفعل حريصين على تقدم المجتمع كله، والنهضة الحقيقية لمصرنا الغالية.

* * *


العقبات السبع


أمام تطوير التعليم


[
الأهرام، 2007]

ا

لعقبة الأولي: تتمثل في زيادة أعداد تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات في حين لا تتوافر في مقابل هذه الزيادة الأماكن المناسبة، ولا التجهيزات اللازمة، ولا العدد الكافي من الأساتذة.

العقبة الثانية: ضعف تأهيل المدرسين والأساتذة على النحو الذي يمكنهم من تحقيق التطوير اللازم في العملية التعليمية. وأوضح دليل على ذلك في المدارس هو فشل كليات التربية (ذات النظام التكاملي) في تخريج مدرس مؤهل متمكن في تخصصه. وبالنسبة للجامعات: التراجع المؤسف في أعداد البعثات إلى الجامعات المتقدمة، الأمر الذي ترتب عليه هبوط حاد في مستوي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات.

العقبة الثالثة: جمود المقررات التدريسية، وعدم تحديثها في إطار الحركة المتسارعة في حركة العلوم الحديثة، والتطور غير المسبوق في الطفرة التكنولوجية. وإذا كان من المعقول أن يتم تحديث المقرر الدراسي كل خمس سنوات، فإن هناك مقررات جامعية مضي عليها أكثر من  عشرين عاما دون أن تلحقها يد التحديث!

العقبة الرابعة: لا يمكن للحياة الجامعية أن تكتمل بدون مكتبة شاملة ومتنوعة لكي يرجع إليها الطالب (وكذلك الأستاذ) للاستزادة من المعرفة أو للتثبت من المعلومات، أو لإجراء بحث.. ويمكن القول بأن مثل هذه المكتبة غير متوافرة في معظم إن لم يكن في كل كليات الجامعات.

العقبة الخامسة: مازال يجري تداول (الكتاب الجامعي) باعتباره مرجعا أساسيا وحصريا للطالب، يستمد منه معلوماته، ويمتحن فيما ورد به من معلومات. ولا شك أن هذا الكتاب ليس سوي مذكرات تدون فيها بعض المعلومات الأولية عن العلم الذي يدرسه الطلاب، وكثيرا ما يجري تحريفها بآراء مؤلفه أو مصنفه. وهو في كل الأحوال خال من أي ابتكار أو حتى وجهات نظر قابلة للمناقشة أو فتح آفاق جديدة أمام الطلاب.

العقبة السادسة: ضعف التمويل اللازم لحسن سير العملية التعليمية وتوابعها في ظل مجانية شاملة وغير مرشدة، وهو الأمر الذي أدي إلى تدني مرتبات أعضاء هيئة التدريس، واستهلاك الأجهزة والمعامل دون أي إحلال وتجديد، وتهالك حالة المنشآت التعليمية بحيث أصبح الكثير منها غير صالح للاستعمال. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ميزانية التعليم ليست متاحة في الوقت المناسب أو تبعا للحالة الحرجة، وإنما هي خاضعة لشبكة معقدة من اللوائح المالية والقوانين الإدارية العتيقة التي تحول دون الاستجابة السريعة لأي متطلب في الوقت المناسب.

العقبة السابعة: الدروس الخصوصية التي أصبحت تعد بكل المقاييس جريمة تعليمية لا تكاد توجد في أي بلد في العالم. وهي جريمة يشترك فيها ثلاثة أطراف: المدرس والتلميذ وولي الأمر. لكنها ترجع في بعض أسبابها إلى الصعوبة أو التعجيز في المادة العلمية التي لا يستطيع التلميذ فهمها أو استيعابها إلا بمساعدة مدرس خارجي. ومن العجيب أن نسبة الإنفاق على هذه الدروس الخصوصية قد بلغ حسب إحصائية مركز المعلومات ودعم القرار بمجلس الوزراء: خمسة عشر مليار جنيه في العام!

تلك هي أهم العقبات التي تقف أمام تطوير التعليم، وتحول دون الانطلاق بقاطرته إلى الأفق المنشود. لذلك فإن التوجه مباشرة إلى إزالتها يعتبر الخطوة الأولي التي تسبق تطوير التعليم، وبالتالي تمهد الطريق إلى إنشاء هيئة ضمان الجودة والاعتماد.

* * *


تطوير الجامعات وأصوله


[الوفد، 22/11/2008]

الجامعات المصرية كيانات تعليمية وبحثية ضخمة، مضى على بعضها مائة عام، وتم إنشاء بعضها الآخر منذ عدة أعوام، وهي تستوعب أعدادا كبيرة من الطلبة يصلون إلى أكثر من مليون ونصف المليون، وعشرات الآلاف من هيئة التدريس، وأكثر منهم من الموظفين والعاملين.

ولابد من الاعتراف في البداية بأن هذه الجامعات التي تقوم بدور حيوي في المجتمع ليست ضعيفة أو متدهورة، كما يشاع عادة دون الاعتماد على حقائق وبيانات، ولكنها فقط في حاجة إلى تطوير مستمر، لأن التطوير في مجال التعليم عملية متواصلة، لا أقول إنها ينبغي أن تحدث كل عام أو عدة أعوام، بل في كل محاضرة أو بحث علمي لابد أن تشهد قدرا من التطوير، وإلا توقف العلم فيها عند حد معين، وليس هذا من طبيعة العلم نفسه.

وفي الآونة الأخيرة تولى وزارة التعليم العالي عدة وزراء، حاول كل منهم على قدر جهده وتبعا لثقافته وتصوراته أن يقوم بتطوير الجامعات، ولكن محاولاتهم جميعا باءت بالفشل، لماذا؟ لأنهم حاولوا أن يفرضوا التطوير على الجامعات من خارجها، أي من خارج مجالسها العلمية، ومجالس كلياتها، ثم الأهم من خارج أساتذتها وطلابها الذين يعيشون في داخلها، وهم أدرى بمواطن الضعف والقوة فيها، ولو أنهم اتجهوا ببساطة إلى هؤلاء الأساتذة والطلاب لوجدوا لديهم الكثير من التصورات وأوجه الإصلاح والتطوير التي تنهض بالجامعات المصرية، وتتقدم بها إلى الأمام.

ليست الجامعات المصرية ملعبا يتبارى فيه الوزراء للحصول على المجد الشخصي والشهرة نتيجة تطبيق قانون معين، لا يتفق مع طبيعة العمل الجماعي، بشقيه التعليمي والبحثي، والذي أضيف إليها بالقوة الجانب الخدمي الذي جرى استغلاله بصورة لم تخدم الجامعة ولا المجتمع، ولأنه دخيل على النظام الجامعي فقد فشل هو الآخر، والرأي العام في الجامعات كلها يشهد بذلك.

إن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الجامعات المصرية حاليا هي مشكلة ثلاثية الأضلاع، تتمثل في كثرة أعداد الطلاب، وضعف التكوين العلمي لأعضاء هيئة التدريس، وقلة الإمكانيات المادية. وأستطيع أن أؤكد أن تلك المشكلة ليست مستحيلة الحل، ولا صعبة، بل إنها مجرد عقبة يمكن تجاوزها لكن بشروط، وأهم هذه الشروط هو توافر كل من الرغبة والإرادة لدى الدولة والمجتمع في حلها، لماذا؟ لأن الدولة والمجتمع هما اللذان يمتلكان «كيس النقود» الذي ينفق على هذا الحل، وكما يقول المثل المصري القديم «اطبخي يا جارية.. كلف يا سيدي» أما أن نترك تطوير الجامعات لصندوق النقد الدولي أو لبعض المعونات الأمريكية أو الأوروبية، فإننا ندرك جيدا أن هذه المعونات لا تقدم إلا بشروط، وتلك إحدى المآسي التي تعاني منها حركة التطوير الحالية، التي تحاول تطبيق بعض المفاهيم الأمريكية على الجامعات المصرية!

أما ضعف التكوين العلمي لأعضاء هيئة التدريس، فينبغي التغلب عليه بالإكثار من عدد البعثات إلى الجامعات المتقدمة لكي يستكمل المعيدون فيها دراساتهم العليا، وليس من الضروري أن يذهب الجميع وإنما على الأقل لابد أن نبعث ثلث المعيدين. أما الترقيات العلمية فلابد أن تكون بلجان تشارك فيها الجامعات المتقدمة لكي نضمن تقييما موضوعيا لأعمال الأساتذة. وهنا لابد من أن يحصل الأستاذ الجامعي على ما يحصل عليه نظيره في الجامعات الأخرى من رواتب ومكافآت، بالإضافة إلى تفرغه العلمي لمدة سنة كل ست سنوات كما يحدث مع أساتذة الجامعات في العالم كله.

وأما قلة الإمكانيات المادية، فهي أم الصعاب، لكن حلها ليس عسيرا، فبالإضافة إلى رفع بند الجامعات في موازنة الدولة، ينبغي أن نشجع بقوة رجال الأعمال على التبرعات غير المشروطة للجامعات ومراكز البحث العلمي بها، وهذا يحدث في كل الدول المتقدمة. ويبقى أن أطرح من جديد فكرة التعليم الموازي الذي يمكن أن تطلقوا عليه التعليم المسائي وهو الذي يستوعب أعدادا أخرى من الراغبين في التعليم الجامعي بمقابل مادي، يتم الانفاق منه على التعليم المجاني الصباحي.

تلك هي المشكلة العويصة بأضلاعها الثلاثة، والحلول المقترحة لها لتطوير الجامعات المصرية، فهل يستطيع أحد أن يقول لي- بموضوعية- ما هو الخطأ فيها، لكي أصححه على الفور، بدون أي تشنج أو انفعال؟

* * *


تنسيخ الجامعات المصرية!!


[
الأخبار، 6/3/2008]


الأصل في الجامعات أن تكون مؤسسة أكاديمية وبحثية متكاملة التخصصات والمناهج، وأن تحدد لنفسها مجموعة أهداف تسعى لتحقيقها من خلال عدد من اللوائح والآليات التي يبدأ وضعها في القسم العلمي، ويقرها مجلس الكلية، ثم يعتمدها في النهاية مجلس الجامعة.. وبهذا الأسلوب البسيط والمحكم يتحقق للجامعة استقلالها الأكاديمي الذي يمكن أن يمتد إلى استقلالها الإداري والمالي، بمعنى أن الجامعة يمكنها أن توفر لنفسها الموارد المالية اللازمة لتسيير أمورها من خلال مصدرين رئيسيين هما: مصروفات الطلبة والدارسين، وعوائد مراكز البحوث التي تقدم خدماتها للمجتمع.

ولا شك أن هذا الوضع هو الذي سارت عليه وما تزال معظم جامعات العالم المتقدمة، في حين أن الدول التي حاولت وضع الجامعات تحت عباءتها المالية، وبالتالي الأكاديمية، قد تخلفت فيها هذه الجامعات كثيرا، وأصبحت تعاني من الجمود والشيخوخة، وهجرها الأساتذة المتميزون إلى جامعات خاصة أو مراكز بحوث مستقلة.

وأكاد أقول إن هذا الوضع هو الذي تعاني منه حاليا وبدون استثناء جامعاتنا المصرية الحكومية، التي أصبحت نسخا مكررة من بعضها بسبب خضوعها المطلق للمجلس الأعلى للجامعات الذي يفرض عليها قوانين موحدة، ولوائح طبق الأصل، كما يحدد لها أعداد الطلبة الملتحقين بها، أو المحولين إليها، ويتحكم في ترقية أعضاء هيئة التدريس بها، وتعيين قياداتها العليا تبعا لمعايير موحدة، إن لم تكن صادرة من شخص واحد هو وزير التعليم العالي!

لقد جعل هذا الوضع «الشمولي» جامعة مثل قناة السويس وهي ساحلية تصبح نسخة طبق الأصل من جامعة القاهرة وهي حضرية، وجامعة مثل جنوب الوادي في الصعيد تتشابه تماما مع جامعة المنصورة أو طنطا وهما في قلب الدلتا! ولو كان الأمر متروكا لكل جامعة لأصبحت أكثر ارتباط ببيئتها المحلية من ناحية، وانفتحت على غيرها من الجامعات المصرية والعالمية من ناحية أخرى. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا «التنسيخ» للجامعات الحكومية المصرية على خريجي الجامعات «عددها حتى الآن 17 جامعة» فأصبحت جميعا نسخا مكررة، لا يتميز خريج جامعة منها عن زملائه من خريجي جامعة أخرى، فإذا أضفنا إلى ذلك ضعف مستوى هؤلاء الخريجين نتيجة كثرة أعداد الطلاب وعدم تفاعلهم مع أساتذتهم بسبب ضيق الأماكن، وتخلف الوسائل التعليمية، وقفنا على أهم الأسباب في تدني مستوى التعليم الجامعي الذي يسعى القائمون عليه إلى تطويره بينما هو عاجز تماما عن الحركة. إن المأساة هنا لن تظهر إلا عندما نفاجأ بتطبيق معايير الجودة العالمية على خريجي الجامعات المصرية، وعندها سوف يجد هؤلاء أنفسهم في خارج الصف أو على أقل تقدير في آخره. إنني حتى الآن لم أخرج عن توصيف حالة التعليم الجامعي الحكومي والإشارة إلى أهم أسبابه، وقد تنبهت الدولة إلى ذلك فسمحت بقيام عدد من الجامعات الخاصة «4 جامعات سنة 1996 وصلت حتى الآن أكثر من عشر» التي كان من الممكن أن تكون جزءا من الحل، لكنها مع الأسف سرعان ما وقعت تحت مظلة وزارة التعليم العالي، وتكون لها مجلس أعلى مهيمن عليها، فكرر نفس الأخطاء التي ارتكبها في حق الجامعات الحكومية، بل إنه راح يطبق عليها اللوائح والمناهج الموجودة بالفعل في تلك الجامعات وهو الأمر الذي سوف يؤدي بها- مع مرور السنوات- إلى أن تصبح هي الأخرى في «حالة التنسيخ» أي تصبح نسخا مكررة من الجامعات الحكومية، بدلا من أن تكون إضافة جديدة وحقيقية لها بكل معنى الكلمة!

ما الحل إذن؟ الحل يتمثل في إلغاء سيطرة المجلس الأعلى للجامعات عليها، وإتاحة الفرصة لكل جامعة لكي تسير أمورها بنفسها، في ظل منافسة متكاملة، لا يبقى فيها سوى الأصلح، وفي كل الأحوال علينا ألا ننسى أن نشأة الجامعة وازدهارها مرتبطان بالمعنى اللغوي لاسمها: université.

* * *



الرياضيات في مصر


[
الأهرام، 2007]


يدرك العلماء والخبراء جميعا أن الرياضيات (وليس الرياضة) هي أساس التقدم العلمي في أي بلد في العالم. وأن البحوث العلمية كلها وبدون استثناء إذا لم تعتمد على الرياضيات، وخاصة الرياضيات الحسابية، لن تحقق أي نتائج ذات قيمة، بل إن علوم الحاسب التطبيقية لا تقوم لها قائمة بدون الاعتماد على علوم الحاسب النظرية (التي تعتمد أساسا على الرياضيات). ومن المسلم به أن علوم الإحصاء الرياضي وتطبيقاته أصبحت ضرورية للغاية لجميع التخصصات بما فيها العلوم الإنسانية، ومنها علوم الأدب واللغة.. وأكاد أقول إنه لا يوجد مصنع أو شركة محترمة وناجحة في العالم إلا وتشتمل على وحدة أبحاث، تعد الرياضيات أحد أركانها، لذلك فإن خريج الرياضيات في كل بلاد العالم المتقدم تؤهله الجامعة للالتحاق بالعمل في أي مؤسسة بالدولة، ولا تنحصر وظيفته – كما هو الحال حتى الآن عندنا – في مجال التدريس فقط!

وقد لوحظ في السنوات الأخيرة قلة أعداد الطلاب المتميزين في مجال الرياضيات، وبالتالي اختفي الكثير منهم من أقسام الرياضيات بكليات العلوم. وطبعا المسألة خاضعة كما نعلم لقانون العرض والطلب. والطالب المصري ومن ورائه أسرته يحسب مدي الجهد الذي سوف يبذله والسنوات التي سوف يقضيها في مثل هذا التخصص الصعب، ثم يقارنه بالعائد منه، فيجد أن النتيجة هزيلة، وأن العملية خاسرة، لذلك فإن الكثيرين من الطلاب المتميزين بالفعل يحجمون عن الالتحاق بأقسام الرياضيات، بينما يتكدس الباقون في الأقسام الأخرى. والملاحظ هنا أن التميز في الرياضيات يتطلب موهبة، حتى أن بلدا مثل فرنسا تبحث عن التلاميذ الموهوبين في مجال الرياضيات في مراحل التعليم الأولي، وتقوم برعايتهم رعاية خاصة لكي تستفيد منهم بعد ذلك على النحو الأمثل.

وقد حدثني أ.د. إسماعيل أمين أستاذ الرياضيات غير المتفرغ بعلوم القاهرة أن الدولة عندنا كانت تشجع الطلاب على الالتحاق بأقسام الرياضيات بواسطة منح مالية تقدمها لهم، ومكافآت مجزية للمتميزين منهم، كما أخبرني أن هناك من علماء الرياضيات المصريين بالخارج عددا لا بأس به، وأن بعضهم يتبوأ مناصب علمية رفيعة بالجامعات ومراكز البحوث، والرجل يطالب، وأنا معه تماما في ذلك، رجال الأعمال عندنا أن يساهموا برعاية الطلاب المتميزين في الرياضيات لاستكمال دراستهم داخل وخارج الوطن من خلال منح مالية تخصص لهم حتى الانتهاء من دراستهم الجامعية.

وفي الختام أرجو أن أكون قد نبهت إلى أحد أسس التقدم في النهضة التي ننشدها لوطننا العزيز.

* * *



التعليم الفني


[
كنت قد نشرت هذا المقال في جريدة الأخبار،

وتفضل الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهجت
بإعادة نشره كما هو في ركنه الخاص
بالأهرام]

كان المأمول أن يخرج التعليم الفني للمجتمع أفضل العناصر المدربة في مختلف التخصصات والمهن والحرف. وأهم ميزة في هذه العناصر أنها متعلمة ومثقفة إلى جانب ما تتميز به من مهارات تقوم على المعرفة الصحيحة والمنهج العلمي السليم.

أبدا لم يكن المقصود في التعليم الفني أن يوصل طلابه إلى الجامعة، وإنما يدفعهم مباشرة إلى ميدان العمل، الذي يحتاج إلى أمثالهم ويتطلب تحقيق طفرة نوعية في مستوى الخدمات.

وينبغي أن نلقي نظرة سريعة على مجال المعمار والإنشاءات لنجد أنه مازال مجالا متروكا للجهود الفردية التي قد تنجح مرة وتتعثر مرات.

ولو دققنا النظر في القطاع الصحي في أي منشأة أو عماره لوجدناه من أقصر القطاعات عمرا وأسرعها إلى الفساد، فلا يكاد يمضي على إنشاء العمارة سنة أو سنتان حتى تظهر على جدرانها من الخارج البقع السرطانية نتيجة نشع المياه وسوء وضع المواسير وعدم الدقة في ضبط التوصيلات!

وبالمقارنة البسيطة بين ما يحدث في هذا القطاع عندنا وبين ما عليه الحال في أوروبا أو حتى في آسيا، يظهر الفرق الواضح بين عمل متقن وعمل ضعيف أو عشوائي. والسبب واضح للغاية، هو أن الإتقان يقف وراء علم وعمل منهجي بينما الآخر مرتبط بالاجتهاد الشخصي والمهارات الفردية وعدم اتباع قواعد محددة أو خطوات متدرجة!

كان المأمول من التعليم الفني أن يسد تلك الفجوة الهائلة في ميدان التنفيذ على أن تقتصر الجامعات على التخصص في ميدان التخطيط. وهنا لابد من مصارحة المجتمع بمفهومه الخاطئ عن قيمة العمل اليدوي الذي مازال ينظر إليه نظرة دونية، في حين يعتبر العمل المكتبي أرقى منه، وذلك على العكس تماما مما هو موجود في بلاد العالم المتقدمة، حيث يحتل العمل اليدوي مكانة محترمة من حيث الراتب والأرباح والنظرة الاجتماعية، والواقع أنه لا توجد هناك أساسا نظرة دونية لأي عمل.. فكل الأعمال محترمة وهي في عمومها وتفصيلاتها أفضل من البطالة، لكننا مازلنا نفضل البطالة أحيانا على العمل اليدوي، ومن أمثلة ذلك أنك لا تجد هنا موظفا بسيطا يغسل سيارته في الشارع بنفسه لأن هذا عيب، بينما يمكنك أن نشاهد في الغرب مدير شركة يقوم بهذا العمل دون أي غضاضة!

وهكذا فإن المجتمع يساعد على خنق التعليم الفني الذي كان من الممكن أن يكون أحد مصادر قوة العمل الرئيسية فيه، كذلك فإن هذا النوع من التعليم لم يطور نفسه بالصورة التي كان ينبغي أن يقوم بها، فليس معنى أنه يعطي دبلوما في الزراعة أو الصناعة ألا يكون مدرسوه مؤهلين تأهيلا جيدا، كذلك فإن هذا التعليم لم يربط نفسه بمواقع العمل والإنتاج، وكان المأمول من رجال الأعمال أن يعتمدوا على خريجيه، وأن يتيحوا لهم فرص العمل والتدريب.

[
تعليق الأستاذ أحمد بهجت:] هذا هو المقال المهم الذي نشر في جريدة الأخبار.. كاتب المقال هو الأستاذ الدكتور حامد طاهر نائب رئيس جامعة القاهرة.

* * *



ما هدف التعليم الابتدائي؟


[
الوفد، 3/9/2008]

لو أننا طرحنا على المسئولين عن التعليم الابتدائي عندنا السؤال البسيط التالي: ما هو بالضبط الهدف من التعليم الابتدائي؟ فإنني أكاد أذهب إلى عدم وجود إجابة، فضلا عن أن تكون مقنعة، والدليل على ذلك أن النتيجة التي يخرج بها التلميذ من التعليم الابتدائي تكاد تكون هزيلة للغاية. ولو أننا (افترضنا) أن هذا التعليم يهدف إلى أن يتزود التلميذ بمهارات القراءة والكتابة والحساب وبعض المعلومات الجغرافية والتاريخية، فإن التلميذ بعد إنهاء المرحلة الابتدائية (ست سنوات حذفت منها سنة، ثم عادت، دون سبب معقول ولا مقبول للحذف ولا للإعادة) يظل متخبطا في قراءة نص، أو كتابة عدة سطور، مع جهل واضح في عمليات الحساب الأربع، وتعثر في رسم خريطة مصر، أو ذكر تاريخ محدد لأحد أحداثها والواقع أننا لا نعرف بالضبط ماذا تقدمه المدرسة الابتدائية للتلاميذ؟ ولا نعرف أيضا كيف يتلقى التلاميذ ما يقدم لهم في المدرسة؟

إن المرحلة العمرية التي يقضيها التلاميذ في الابتدائي من أهم فترات التكوين التي ينبغي استثمارها بصورة تربوية صحيحة. ومما يؤسف له أن فلسفة التعليم عندنا مازالت تقوم على مخاطبة (عقل التلميذ) دون تنمية مهاراته الحسية، وخاصة المهارة اليدوية على فعل الأشياء، والالتحام المباشر بالأشياء الطبيعية أو الصناعية. في هذه الفترة ينبغي التركيز أكثر على (يد التلميذ) وتشجيعه على أن يعمل بها الأشياء التي يرغب فيها: الرسم وتشكيل اللعب ودهان الجدران وأعمال النجارة، وفنون الطهي والحياكة..

إن الفلسفة الحقيقية للتربية تقضي بأن التعليم ينبع من داخل التلميذ بمساعدة عوامل خارجية فقط. وهذه الفلسفة تكاد تكون معدومة في نظامنا التعليمي كله فنحن الذين نتحدث لأبنائنا، ونحن الذين نلقنهم المعلومات ونحاسبهم على ضرورة حفظها دون أن نقيم وزنا لمدى تقبلهم لها أو اهتمامهم بها.

مرة أخرى أعيد السؤال الذي ينبغي ألا يتوقف عن طرحه كل من التلاميذ وأولياء الأمور: ما هو الهدف من التعليم الابتدائي الذي تمتد مرحلته إلى ست سنوات؟!

* * *



خطاب مفتوح إلى علماء التربية


[
الأخبار، 21/10/2008]

السادة العلماء الأفاضل..

تحية طيبة وبعد، فأحسبكم جميعا متفقين معي على أن أبناءنا محتاجون خلال مرحلة التنشئة المنزلية والمدرسية، إلى التزود بالقيم الإنسانية الثلاث وهي (الحق والخير والجمال) أما الحق فيمثله القانون الذي يطبق بالتساوي على الجميع وينصف المظلوم، ويقتص من الظالم، ويصون حقوق الإنسان في المجتمع.

وأما الخير فهو المتمثل في كل الأعمال الطيبة مثل الإحسان والعطف ومساعدة الآخرين، وأما الجمال فهو الإحساس المرهف بكل ما في الطبيعة من تناسق وتناغم وروعة، إلى جانب ما يحاكيه الفنانون منها في أعمالهم الإبداعية.

والسؤال الآن هل تتضمن وسائل التربية المنزلية، ومناهج التعليم في المدارس ما يغرس في نفوس النشء تلك القيم؟ وما الأدوات والسلوكيات التي يمكنهم أن يقوموا بها لترسيخ تلك القيم، وإشاعتها في حياتهم؟ بل أين القدوة التي نفخر بأن تقول لأبنائنا: هؤلاء هم النموذج الإنساني الراقي فحاولوا أن تقلدوه؟!

فإن قلتم إن قيمة الحق تتمثل في القانون، والقانون موجود ومفصل ومشروح، سوف يسألكم هؤلاء الأبناء: لكن لماذا لا يطبق على الجميع بالتساوي؟ ولماذا يستثنى شخص بسبب الجاه أو الثروة أو المنصب؟ وهل يعني ذلك أن القانون وضع ليطبق فقط على العامة دون الخاصة؟ ثم عندما يكبر هؤلاء الأبناء سوف يسألونكم: هل استكمل القانون عندنا كل مقوماته من العدل؟ وإذا كان كذلك فلماذا يختلف مع قوانين البلاد الأجنبية، بل وحتى البلاد المجاورة؟!

أما قيمة الخير فهي عظيمة ورائعة، ولا شك في آثاره الملموسة على التضامن الاجتماعي، وإشاعة روح التراحم بين أفراد المجتمع الواحد، لكن أبناءكم يلاحظون أن فاعلي الخير إنما يقومون بذلك من أجل تحقيق مصالح شخصية لأنفسهم!

ويلاحظ أبناؤنا بوضوح أن بعض السيدات من محترفات الجمعيات الأهلية تقمن بجمع الملابس المستعملة ثم تنظفها وتكويها وتقدمها بعد ذلك لطلبة المدارس والجامعات في حفل يدعى إليه المسئولون وكاميرات التلفزيون لكي يجري تصوير تلك الهبة على مسمع ومرأى من الجميع، فهل يعد هذا في الحقيقة من فعل الخير أم أنه مجرد استعراض لتحقيق الشهرة؟!

فإذا تأملنا قيمة الجمال، وجدنا أنفسنا مضطرين إلى أن نسبقها بالإشارة إلى النظافة، لأن جمال الوردة لا يمكن أن يشع وسط كومة من القمامة، أو بجانب بالوعة مجاري؟! وهنا أناشدكم- أيها السادة الأفاضل علماء التربية- أن تهمسوا في آذان مديري المدارس، التي تتراكم حولها أكوام القمامة، ويتجمع بائعو المأكولات والمشروبات الملوثة، والتي يطن فوقها الذباب والبعوض، لكي يقوموا بإبعاد هذه الأسباب المولدة للقذارة والتي لا تنشر الأمراض والأوبئة لدى التلاميذ فحسب، وإنما تشيع بينهم ثقافة القبح، وتبعدهم تماما عن قيمة الجمال!

وأذكر أن تلميذا صغيرا فاجأني بملاحظة، كنا نعبر عليها كلنا دون تنبه، عندما شاهد مذيعة التلفزيون تهش بيدها ذبابة وهي تقرأ نشرة الأخبار، وكلما أبعدتها عادت الذبابة بإلحاح وحطت على وجهها المثقل بالمكياج، قال لي التلميذ: لماذا لا يبعد أحد في الاستوديو عن المذيعة تلك الذبابة؟ وأصارحكم بأنني لم أستطع الإجابة، لكنني قلت في سري: إن هذه الذبابة تتطلب حزمة من الإجراءات والتمويل من أجل رش المبنى كله بالمبيدات!

تلك هي بعض اللمحات الخاطفة، حاولت أن أضعها في هذا الخطاب المفتوح بين أيدي علماء التربية الفاضل، فإن قرأها غيرهم فلا بأس، والسلام!

* * *



خطاب مفتوح إلى علماء اللغة العربية


[
الأخبار، 19/9/2008]

السادة علماء اللغة العربية الأفاضل

تحية احترام وتقدير وبعد.. أرجو أن تسمحوا لي بالكتابة إليكم نيابة عن ملايين العرب، في داخل الوطن العربي، وخارجه ممن يعيشون في البلاد الأجنبية، لكي أعرض عليكم بعض الرغبات والعقبات والمصاعب التي تواجه كل من يريد أن يجيد الحديث والكتابة باللغة العربية، فضلا عمن يريد أن يتعلمها.. وسأبدأ بالعقبات الأولى: عدم وجود قاموس معاصر يحتوي على ألفاظ اللغة العربية ومعاني الألفاظ واستخداماتها، مصحوبا بالصور والرسوم والخرائط وكل وسائل التوضيح، التي نشاهد أمثالها في القواميس الإنجليزية والفرنسية والألمانية وحتى الصينية! أما القواميس المتوافرة في الأسواق فهي كلها وبدون استثناء تستمد مادتها من القواميس القديمة، التي توفي الكثير من ألفاظها، وأنتم بالطبع خير من يعلم أن اللغة كائن حي، تهرم بعض أعضائها وتموت، بينما تحيا أجزاء أخرى وتزدهر حسب كل عصر ومدى اتساع العلوم والحضارة فيه.

أما العقبة الثانية: وفهي عدم وجود قاموس للأفعال العربية يشتمل على اشتقاقاتها وإسنادها إلى الضمائر، وكلاهما أمر صعب للغاية على المبتدئين في تعلم اللغة، وبخاصة عندما يفتقدون من يتحدث أمامهم ومعهم بصورة صحيحة يمكنهم محاكاتها والقياس عليها.

أما العقبة الثالثة: فهي أيضا عدم وجود قاموس للأدوات في اللغة العربية، يبين الاستخدامات المختلفة لكل أداة عندما توجد في سياق معين أو تأتي بعد فعل ما «مثال: رغب في: تعني إرادة الحصول على الشيء، بينما رغب عن: تعني الإعراض عنه!!».

وتتمثل العقبة الرابعة في عدم وجود كتاب «مبسط» لقواعد اللغة العربية، بحيث يتخلص من القواعد التي لا تنطبق إلا على بعض الأساليب العجيبة والمفردات الشاذة، وكنت ارجو أن توافقوني- حضراتكم- على عدم جعل الأشعار أمثلة على القواعد، فالشعر له لغته الخاصة، ومعاييره المرتبطة بكل شاعر على حده، بل وضروراته التي لا تساير القواعد العامة المعروفة في لغة النثر. ويؤسفني بحق أن أصارح حضراتكم بأن «كل» كتب القواعد النحوية التي ظهرت حتى الآن لا تلبي مطالب المتعلمين، ولا تساير روح العصر، وهي تحتاج إلى شروح وتفسيرات بدلا من أن تتجه مباشرة لتكوين قدرات وملكات تجعل الإنسان يجيد استخدام اللغة من أبسط الطرق.

أناشدكم الإسراع بتدارك الموقف، وتلبية رغبة الملايين التلاميذ الذين يريدون تعلم اللغة العربية بدون مصاعب، وذلك إلى جانب الشعراء والروائيين والحقوقيين والإعلاميين ونواب البرلمان، الذين يتحدثون أمام الأمة، ويصوغون التشريعات والقوانين باللغة العربية.

ولكم فائق الاحترام!

* * *


خطاب مفتوح إلى علماء التاريخ


[
الأخبار، 15/10/2008]

السادة علماء التاريخ الأفضل..

أرجو أن تسمحوا لي بمخاطبتكم هكذا في خطاب علني، لأن عندي بعض الملاحظات التي تهم بالدرجة الأولى أبناءنا في مصر، أولئك الذين يدرسون التاريخ في المدارس الابتدائية، ثم الإعدادية، والثانوية، ثم يذهبون بجملة ما درسوه إلى الجامعة، وهم لا يكادون يتذكرون تاريخ شخصية تاريخية واحدة ممن مرت بهم، ولا يكادون يعرفون خصائص عصر تاريخي واحد بسماته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، والأهم من ذلك كله أنهم يفتقدون التسلسل التاريخي بين أهم الفترات التي مرت بمصر منذ عهد الفراعنة، مرورا بأنواع الاحتلال القديم: الفارسي، والإغريقي، والروماني، ثم الفتح الإسلامي، وتتابع الدول الكبرى والصغرى التي حكمت مصر، مثل الدولة الأموية والعباسية، أو الحكم الطولوني والإخشيدي والفاطمي، ثم الفتح العثماني لمصر، وانتهاؤه بمجيء الحملة الفرنسية ورحيلها، ثم عهد محمد علي وأسرته، وأخيرا عهد ثورة يوليه 1952 التي مازالت تعيش في امتداداتها حتى اليوم.. إن هذا الملخص السريع المتتابع يكاد يكون مفقودا من ذاكرة أبنائنا. لماذا؟ لأنهم يدرسون التاريخ مجزءا في فترات، وليس كمنهج متكامل يبدأ مبسطا ثم يتوالى عرضه بصورة أكثر تفصيلا، حتى نصل إلى محاولة استخلاص العبرة منه.

السادة العلماء الأفاضل..

أن مادة التاريخ من أهم مواد التثقيف السياسي التي يمكننا أن نزود بها أبناءنا في تلك المرحلة الهامة من أعمارهم، وهي بالإضافة إلى أنها تضعهم جميعا، وعلى قدم المساواة، فوق أرض مشتركة، فإنها تفتح عيونهم على أفاق الماضي، وكيف كان أجدادهم يتصرفون في مختلف المواقف التي يتعرضون لها، وبأي الوسائل كانوا يحاولون التغلب على الصعاب، ويتجاوزون أقسى العقبات ولا شك أن التاريخ إذا ما جرى عرضه بأسلوب تربوي صحيح وجذاب كان من أهم عوامل الإسراع بإنضاج عقول أبنائنا، واستثارة خيالهم، وتشجيع الفضول العلمي لديهم من أجل تصحيح المزيد من المعرفة.

السادة علماء التاريخ الأفاضل..

إنني باسم تلاميذ المدارس أناشدكم أن تتكاتفوا جميعا في لجنة علمية لكي تضعوا كتابا عنوانه «تاريخ مصر» يحاكي تاريخ بريطانيا، وتاريخ فرنسا، وتاريخ ألمانيا، وتاريخ روسيا، وتاريخ أمريكا، وتاريخ اليابان.. كتاب موحد ومزين بالخرائط الواضحة والصور الجذابة والرسوم المعبرة لكي يقرأه تلميذ الابتدائي في طبعته المبسطة فيستوعبه، ويقرأه تلميذ الإعدادي في طبعته المتوسطة فيهضمه، ثم يقرأه تلميذ الثانوية في طبعة أكثر تفصيلا فيقف على أحداثه ؟؟.

وأعذروني إذا أكدت لكم- أيها السادة الأفاضل- أن مثل هذا الكتاب غائب حتى الآن من مناهجنا الدراسية، تماما كما أنه غائب عن حياتنا الثقافية، ولكم خالص التحية والتقدير..

* * *


مقرر للتربية الأخلاقية


[
الأخبار، 19/5/2009]

هل مدارسنا الحالية في حاجة لوضع مقرر دراسي في التربية الأخلاقية، أم أن الأمور عال العال، وأبناؤنا يتلقون أصولا للتربية الصحيحة ومبادئها في البيت، وبالتالي فإنهم ليسوا محتاجين إلى أن تقدم لهم المدرسة هذا المقرر؟ والواقع إنني أميل إلى ضرورة وجود مقرر للتربية الأخلاقية في المدارس. إن علماء الاجتماع الذين مازالوا يعولون على دور الأسرة واهمون، فأسرة القرن الحادي والعشرين تغيرت كثيرا عن أسرة القرن العشرين، وبالطبع عن الأسرة في القرن التي قبله! وذلك عندما كنا نقرأ عن العالم فلان أو القائد العسكري فلان كان له أب صارم ومنضبط تماما في مواعيده، أو كانت له أم حكيمة وحنون أحاطته بالرعاية والتشجيع.. إن الأم الآن تدفع ابنها إلى أن ينجح في المدرسة بأي ثمن، حتى لو بالغش! والأب الذي يجد ابنه متخلفا عن مجاراة زملائه وأصدقائه لا يرضى عنه! بالطبع توجد استثناءات ولكنها الاستثناءات التي تثبت القاعدة..

لكن التربية الأخلاقية لتلاميذنا لا ينبغي أن تقتصر على مجرد مقرر دراسي يتم وضعه بين دفتي كتاب، وإنما ينبغي أن يرى التلميذ ويشاهد تطبقاته لدى المعلمين وجميع العاملين في المدرسة، بدءا من البواب والفراش وحتى مدير المدرسة نفسه! في هذا المنهج لابد من التركيز على الفضائل الأساسية التي تكون الركيزة المتينة لأخلاق التلميذ، بحيث تظل معه طوال فترة دراسته، وبعد خروجه لحياة المجتمع. وهذه الفضائل تتمثل في السبعة التالية «الصدق- الأمانة- الانضباط- التسامح- التعاون- مساعدة الضعيف- التوافق مع البيئة) وتبعا لأعمار التلاميذ (في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية) يجري تقديم تلك الفضائل، فتكون في المرحلة الابتدائية والإعدادية منصبة على أشخاص من التاريخ أو المجتمع المعاصر في تصرفاتهم حسب تلك الفضائل، لأن التلميذ في تلك المرحلة «من 6- 15 سنة» يميل أكثر إلى الأمثلة المحسوسة والحكايات الملموسة، في حين يقتنع تلميذ الإعدادي بالشخصيات التاريخية والواقعية، حتى نصل إلى المرحلة الثانوية، وفيها يقدم للتلميذ القيم الإنسانية الثلاث «الحق والخير والجمال».

أما الميزة الأكبر لمقرر التربية الأخلاقية في المدارس فهي تكمن في توحيد مشاعر أبنائنا كلهم مع اختلاف الدين، حول مجموعة الفضائل والقيم المستمدة أساسا من كل الأديان السماوية، وكذلك من رصيد التجربة الإنسانية عبر الزمن، وبذلك نضمن أن يتعامل أبناء الوطن الواحد بأخلاق واحدة يتفق عليها الجميع، وتصبح على المدى الطويل ركيزة لسلوكهم في المجتمع، ومقدمة جيدة لتعاملهم مع المجتمعات الأخرى.

إنني أناشد المسئولين في وزارة التربية والتعليم عندنا أن يوجهوا عنايتهم إلى مقرر التربية الأخلاقية، وأن يجعلوه أحد عناصر العملية التعليمية المصرية، من أجل تكوين جيل راسخ على أرض صلبه، وإذا ألقيت عليه مسئولية عمل يستطيع أن يؤديه بكل صدق وإخلاص وضمير، وهذا ما أصبحنا نفتقده، ونشكو منه، دون أن نفعل شيئا لتداركه!

* * *


القراءة والكتابة


[
روزاليوسف، 2008]

سعدت كثيرا حين قرأت في الصفحة الأولي لإحدى جرائدنا القومية خبرا يقول إن مديرية التربية والتعليم في القاهرة سوف تجري اختبارات في القراءة والكتابة لتلاميذ الصفوف الابتدائية (3، 4، 5، 6) لمعرفة مدي ضعفهم في هاتين المهارتين، ومساعدتهم من خلال حصص إضافية، وذلك بهدف عدم انتقال تلميذ من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية دون إجادته التامة للقراءة والكتابة.

وعلي الفور أغلقت الجريدة، وتنفست الصعداء، وسرحت بذهني إلى حادثة وقعت من قبل في دمياط ونشرت عنها مقالين في عهد الوزارة السابقة، وذلك حين قام الأستاذ عبد الله قلفط بدمياط بعمل امتحان لتلاميذ المرحلة الابتدائية فوجد معظمهم لا يعرفون الكتابة على الإطلاق، فاستأذن السيد المحافظ يومها، وعندما سمح له قام بإعداد دروس خاصة لمحو أمية أولئك التلاميذ المساكين في فترة ما بعد المدرسة. وأذكر أنه حين علمت وزارة التعليم (العتيدة) حينئذ بهذا الموضوع جن جنونها، وحوّلت المدرس المخلص إلى التحقيق، والحمد لله أن التحقيق انتهي بلا عقوبة!

لماذا ندفن رؤوسنا في الرمال، ولا نعترف بالأخطاء، لكي نقوم بإصلاحها. ولا شك أن الإصلاح هنا يقع على المسئولين عن المرحلة الابتدائية في وزارة التربية والتعليم وهي مسئولية كبري، سوف يحاسبهم عليها الله والوطن. لأن أطفالنا في المرحلة الابتدائية يحتاجون إلى اهتمام شديد وعناية بالغة، ومن أول واجباتنا نحوهم هو إخراجهم من حالة الأمية إلى حالة القراءة والكتابة وهذه العملية تتطلب منهجا فعالاً، ومدرسين قادرين على تطبيقه، ومكافآت مجزية لمن يحسن القيام به.

وإنني لأندهش من أن لدينا في هذه المرحلة ست سنوات وهي فترة ليست بالقصيرة لكي يتم فيها تعليم التلميذ القراءة والكتابة، بل وإجادته لهما أيضا. فما الذي يحول دون ذلك؟ ولماذا لا يؤدي المنهج الحالي إلى نتيجة إيجابية؟ إنني أؤكد أن عدم إجادة التلميذ في تلك المرحلة للقراءة والكتابة هو أحد أهم الأسباب التي تجعله يلجأ إلى الدروس الخصوصية، وقد صرح لي بعض أولياء الأمور أنهم لاحظوا على أبنائهم ظاهرة غريبة جدا، وهي أنهم عندما يقرأون لهم من الكتاب فإن الأولاد يفهمون، وعندما يتركونهم للكتاب فإنهم لا يفهمون شيئا. وعندما بحثوا عن السبب اكتشفوا أن أبناءهم في المرحلة الإعدادية غير قادرين على إجادة القراءة والكتابة. وأن الإنسان ليحزن كثيرا عندما يسمع من أساتذة الجامعات عن كمية الأخطاء الإملائية واللغوية التي يرتكبها الطلاب في تلك المرحلة الجامعية التي من المفترض أن تكون لغتهم فيها صحيحة ومعبرة في نفس الوقت عما يفكرون فيه.

إن القراءة والكتابة هي (ألف باء) التعليم، والثقافة، والحياة كلها..

* * *



مأساة الذين تعلموا في الغرب


[
الأخبار، 25/11/2008]

أتوجه بهذا الحديث إلى عشرات الآلاف من المبعوثين المصريين العرب الذين تلقوا تعليمهم الجامعي، أو ما بعد الجامعي في الجامعات الأوروبية، واطلعوا بصورة مباشرة على الحياة الغربية في مختلف جوانبها السياسية والإنسانية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة طبعا إلى النشاط العلمي في الجامعات ومراكز البحوث. ولأنني كنت واحدا من هؤلاء حيث أتاحت لي الظروف استكمال دراستي العليا في جامعة السوربون بفرنسا، حصلت بعدها على دكتوراه الدولة في الفلسفة ومناهج البحث فقد كنت واحدا من أولئك الطلبة العرب الذين انبهروا بمدى التقدم الذي أحرزه الغرب ومظاهر النهضة والتحضر التي تبدو للعيان في أي اتجاه، وعندما رجعت إلى مصر، كنت أشعر بنفس الشعور الذي عبر عنه رفاعة الطهطاوي من ضرورة أن تتقدم بلادي لتلحق بأوربا، وأهمية النهضة في كل المجالات .. إن طبيعة الشعب المصري بالذات لا تقل عن طبيعة أي شعب أوربي متقدم، بل إنه يتفوق عليها جميعا بتاريخه الطويل، وحضاراته القديمة التي مازالت آثارها شاهدة على مدى ما وصل إليه أجداده من تنظيم جيد للحياة، واستغلال رائع للبيئة، وتكريم متميز للإنسان.

قرأت الفلسفة الغربية بحكم تخصصي العلمي في مصادرها الأصلية، واطلعت بحكم هوايتي الأدبية على روائع الآداب والفنون الأوروبية، وبالطبع أعجبت كثيرا بتلك الروح الإنسانية التي تسري في معظم تلك الأعمال سواء كانت فكرية أم أدبية أم فنية.

إن دانتي الإيطالي وشكسبير الإنجليزي وجوته الألماني وهيجو الفرنسي وتولستوي الروسي وأمثالهم لا يخاطبون مواطنيهم فقط وإنما يتحدثون في أعمالهم الرائعة إلى كل إنسان على ظهر الأرض، وفي كل عصر، وتحت مختلف الظروف، لكن في المقابل من ذلك كان السياسيون والعسكريون في الغرب يسعون إلى هدف آخر، وهو التغلب على جيرانهم، والسيطرة أحيانا على العالم كله، أو استعمار بعض مناطقه. ومن المؤكد أن تلك النزعة البغيضة لا تتناسب على الإطلاق مع النزعة الإنسانية لدى المفكرين والأدباء والفنانين، فكيف جمع الغرب في وقت واحد بين هاتين النزعتين؟ وكيف استطاع أن يبدع الروائع الأدبية والفنية، ويقوم في نفس الوقت بأبشع المجازر ضد الإنسانية؟!

وهنا لابد أن أتساءل: لماذا سكت الأدباء والفنانون الغربيون عن تلك النزعة الاستعمارية البغيضة، ولم يقاوموها لدى قادتهم السياسيين والعسكريين، أو على الأقل لم يشيروا إليها ويدينوها.. إننا لا نجد إلا صمتا كاملا أمام المجازر التي ارتكبها الأوروبيون الذين هاجروا إلى أمريكا وأبادوا الهنود الحمر إبادة كاملة، وكذلك نفس الصمت أمام اقتحام إفريقية وخطف الناس منها ثم جعلهم عبيدا لهم هناك، ونفس الصمت أمام احتلال بريطانيا للهند ومصر والسودان، واحتلال إيطاليا لليبيا، واحتلال فرنسا للجزائر والمغرب، واحتلال ألمانيا لمعظم أوروبا!!

إن هاتين النزعتين المتقابلتين تكادان تشبهان تماما وجهي القمر بالنسبة إلينا، أحدهما مضيء لامع والآخر مظلم كئيب، أما نحن المصريين والعرب فقد كنا نوجد فقط في منطقة الضوء، ولا نرى- ونحن هناك- مناطق الظلمة والعتمة والاكتئاب، لكننا عندما رجعنا إلى بلادنا رحنا نتابع علاقة الغرب بنا فلم نجدها تعكس الوجه المضيء وإنما كانت مع الأسف مليئة بالغلظة والقسوة والجفاء فلا عدالة في التعامل ولا معايير موحدة في النظر إلى الأمور، وهكذا بدأت تتسرب إلينا خيبة الأمل، ورحنا نقول لأنفسنا: ما الذي حدث لهذا الغرب الجميل؟ وكيف يبدو في بلادنا قبيحا إلى هذا الحد؟

أما إخوتنا الذين لم يسافروا إلى الغرب، ولم يشاهدوا ما فيه من تقدم ونهضة وجمال فلم يروا منه إلا هذا الوجه القبيح الذي يعاملهم به، ووجدنا أنفسنا أضعف من أن نحكي لهم عن أي شيء جميل مما رأينا هناك. أليست هذه مأساة؟!

* * *


المستشرقون


من هم؟ وماذا فعلوا؟


[
الأخبار، 4/8/2009]

كثير من الأسئلة وردت إلى مستفسرة عن معنى كلمة «مستشرقين»؟ وبعضها يسأل بحسن نية عن ماذا فعلوه؟ وهل يريدون بنا شرا؟ والبعض الآخر كتب لي عن السموم التي بثوها في مؤلفاتهم. ولبيان حقيقة الأمر؟ أقول:

إن كلمة مستشرق orientalist تعني باحثا متخصصا في تاريخ الشرق وعلومه وثقافته عموما، لكنها عندما تطلق عندنا في العربية فإنها تعني خاصة الباحث الذي تخصص في الدراسات العربية والإسلامية، أما مجالات هذا التخصص فتظهر فيما يلي:

أولا: تحقيق المخطوطات العربية بصورة علمية حديثة، ثانيا: ترجمتها إلى اللغة التي ينتمي إليها المستشرق، ثالثا: تأليف الكتب، وكتابة المقالات العلمية في المجالات المتخصصة، رابعا: وضع فهارس تفصيلية بالمخطوطات الموجودة في مكتبات العالم المختلفة، خامسا: وضع القواميس ودوائر المعارف التي تسهل للباحثين مهمتهم.

من الجدير بالملاحظة أن المستشرقين جميعا قد استخدموا في بحوثهم المنهج العلمي الحديث المعمول به في الغرب، والذي قام الباحثون العرب بعد ذلك بنقله عنهم، واستخدامه سواء في تحقيق التراث أو التأليف.

كذلك تميز المستشرقون بالتخصص الدقيق في مجال معين، وأحيانا في دراسة شخصية معينة.

والواقع أن كل البلاد الغربية تقريبا قد خصصت في حركتها العلمية جزءا للاستشراق، وهو أحيانا يتم تدريسه لطلاب الجامعات وأحيانا يقتصر على مراكز بحوث أو هيئات متخصصة كما أن هناك مجلات علمية ذات مكانة محترمة لنشر البحوث والمقالات التي يقوم بها المستشرقون إما في البلد الواحد أو في بلاد متعددة، والمشكلة هنا أنهم لم يهتموا برصد حركة الاستشراق لديهم، أما الذي قام بهذا العمل الجليل عندنا فهو الأستاذ نجيب العقيقي في كتابه «المستشرقون»(ثلاثة أجزاء)، ذكر أسماءهم وأهم أعمالهم في مختلف بلاد العالم. ونصيحتي بالإطلاع عليه لم يريد أن يعرف شيئا عن الموضوع.

وهكذا يتبين مما سبق أن المستشرقين قاموا بجهود جيدة في إخراج تراثنا العربي والإسلامي من حالته المخطوطة إلى المطبوعات الحديثة، كما قاموا بدراسته وتحليله وإلقاء الضوء على الكثير من موضوعاته وأعلامه. لكن كل عمل يحتوي على جوانب سلبية، ومن أبرز السلبيات في عمل المستشرقين: أولا: عدم تمكنهم من اللغة العربية، وهو الأمر الذي أوقع بعضهم أحيانا في بعض الأخطاء، بسبب عدم فهم الكلمة العربية في سياقها العربي المعروف بين أهلها، ثانيا: افتقاد بعضهم إلى نظرة الاحترام والتكريم اللازمين لحياة المسلمين الأوائل، وهو الأمر الذي ترتب عليه وصفهم لهم بصورة لا تليق بمكانتهم الروحية العالمية لدى المسلمين، ثالثا: اعتقاد الكثير منهم أن محمدا r ليس رسولا موحي إليه من الله تعالى، ونظرتهم إليه على أنه إنسان عبقري استطاع أن ينشئ بنفسه هذا الدين وأن ينجح في إقناع الناس به، رابعا: عدم اعتراف بعضهم بأصالة الفكر الإسلامي، واعتباره بالتالي مجرد نسخة مشوهة مما أخذه المسلمون من الفلسفة والفكر الإغريقي، أو الفارسي أو الهندي السابق عليهم، خامسا: وهذه ملاحظتي الخاصة، أنهم لم يعملوا على نشر الجوانب المشرقة للحضارة العربية الإسلامية في مجتمعاتهم، بل إنهم حرصوا على إخفاء ما هو مشرق، ومحاولة نشر ما قد يسيء! وأخيرا فإن الاستشراق ظاهرة علمية لا ينبغي إغفال جهودها ونتائجها.

التعليم والثقافة

[
آخر ساعة، 2007]

التعليم نظام محدد بمقررات معرفية معينة تفرض على التلاميذ، أما الثقافة فإنها معرفة مفتوحة بحرية أمام الجميع. التعليم يغوص في التفاصيل ويهتم بالجزئيات أما الثقافة فإنها تتسم بالعموم، وتحلق فوق الأشياء. التعليم يتطلب أحيانا الاستذكار والحفظ أما الثقافة فإنها تقتصر على الإلمام بالمعارف دون مراجعة متعمقة لها. التعليم يتدرج مع كل مرحلة من مراحل العمر أما الثقافة فإنها تشمل كل المراحل بدون نظام. التعليم يمهد لتخصص الإنسان في مجال معين أما الثقافة فهي معرفة شيء بسيط عن كل المجالات. التعليم يتطلب غالبا معلما يقود الخطي ويرشد المبتدئين أما الثقافة فهي تؤخذ من كل أفراد المجتمع، والمجتمعات الأخرى. التعليم لا يؤثر كثيرا في سلوك الإنسان أما الثقافة فإنها تنعكس عادة على تصرفاته. التعليم تتحكم فيه الدولة أما الثقافة فهو نتاج الإنسانية كلها. التعليم يتطلب عقلاً متقبلاً أما الثقافة فإنها تحتاج إلى روح مرفرفة. التعليم يربطك بزملائك في المدرسة أو الجامعة أما الثقافة فإنها تربطك بكل أفراد المجتمع. التعليم يؤدي إلى أن يكون لك رأيك الخاص أما الثقافة فهي التي تكون الرأي العام للمجتمع كله.

التعليم عالمي والثقافة محلية وقد تكون عالمية. التعليم يعتمد على معلومات الكتب أما الثقافة فعلي معطيات الحياة. التعليم يقوم على المحاكاة أما الثقافة فإنها تعتمد على الملاحظة. التعليم يصقل ملكات العقل أما الثقافة فإنها تفتح له النوافذ. التعليم ضروري للإنسان في مطلع حياته أما الثقافة فهي الأبقى معه طوال العمر. وهناك مثل يابانى يقول إن الثقافة هي ما يبقي للإنسان بعد أن ينسي كل ما تعلمه!

وهكذا يتضح مما سبق أن كلاً من التعليم والثقافة لازمتان من لوازم الحياة، وأن الإنسان بدونهما قد يرتد إلى درجة الحيوان. من هنا كان من الواجب على المجتمعات أن تجيد تعليم أبنائها، وأن تزودهم في نفس الوقت بالثقافة لكي تجعل منهم مواطنين فاعلين وصالحين  يتحملون المسئولية، ويحققون لأنفسهم وللأجيال الآتية من بعدهم ما يليق بهم من تقدم وازدهار. ولا شك أن المجتمع المتعلم – المثقف هو الذي يستطيع أن يواجه مشكلات الواقع وأن يتحسب لتحديات المستقبل، فهو بالتعليم يتمكن من استثمار كل طاقات الأرض التي يعيش عليها، وبالثقافة يستطيع أن يتفاعل مع سائر مجتمعات العالم أخذا وعطاءً، وعيا وتنافسا.

وعن علاقة التعليم بالثقافة، شاع القول المأثور: إن الثقافة تبدأ حين تنتهي المدرسة. وأنا لا أوافق على ذلك. فالثقافة ينبغي أن تبدأ قبل المدرسة، وتتوازي معها، وتستمر بعدها. وهنا مجال عمل كبير، ينبغي أن يرد على السؤال التالي: كيف نوفر الثقافة المناسبة لأفراد المجتمع على كل المستويات وفي مختلف فترات العمر؟

* * *

 

 

 

 

ثانيا : فى التعليم واصلاحه :


- التعليم وسيادة الدولة

-
حول شعار مجانية التعليم ودفن الرؤوس فى الرمال

- الأعمدة الخمسة لجودة التعليم

- العقبات السبع أمام تطوير التعليم

- تطوير الجامعات وأصوله

- تنسيخ الجامعات المصرية !!

- الرياضيات فى مصر

- التعليم الفنى

- ما هدف التعليم الابتدائى ؟

- خطاب مفتوح إلى علماء التربية

- خطاب مفتوح إلى علماء اللغة العربية

- خطاب مفتوح إلى علماء التاريخ

- مقرر للتربية الأخلاقية

- القراءة والكتابة

- مأساة الذين تعلموا فى الغرب

- المستشرقون من هم ؟ وماذا فعلوا ؟

- التعليم والثقافة

التعليم وسيادة الدولة

[
الأخبار، 10/3/2009]

من المقرر في كل بلاد العالم أن التعليم هو أحد أهم الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، وهو في نفس الوقت حق من حقوق الإنسان في العالم المعاصر. ونظرا لأهمية التعليم في بناء وتكوين الأفراد، وإعدادهم ليكونوا مواطنين فاعلين في حركة التنمية، وتقدم وازدهار المجتمع الذي يعيشون فيه- فقد أولت الدول أهمية خاصة للتعليم، بحيث جعلته إلزاميا في المرحلة الأولى «حتى سن الخامسة عشرة تقريبا» ومعنى الإلزام هنا أنه يكون مجانيا، وفي نفس الوقت يوجب على أولياء الأمور إرسال أبنائهم إلى المدارس لمحو أميتهم وتزويدهم بمفاتيح العلوم الأساسية «القراءة والكتابة»، ومبادئ الرياضيات والعلوم والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب تعويدهم النظام والتعاون والسلوك القويم، كما تتضمن الحياة المدرسية في تلك المرحلة محاولة ربط هؤلاء التلاميذ بأوطانهم من خلال الأناشيد الجماعية، وتحية العلم، والأنشطة المختلفة التي تجمع قلوبهم على هدف واحد، وتحثهم على التفوق والانتصار من خلال المسابقات التي يتبارون فيها، ويسعى كل منهم أن يحتل مكانا مرموقا في المقدمة..

وإذا كان التعليم قد بدأ بسيطا في الماضي، إلا أنه بمرور الزمن تطور وتعقد وأصبح عملية مركبة تتطلب توافر الكثير من الإمكانيات المادية والبشرية ذات الكلفة العالية، وهو الأمر الذي أثقل كاهل الحكومات، فاتجهت إلى دعوة أفراد قادرين من المجتمع لمشاركتها في تحمل جزء من هذا العبء.

ومن هنا نشأت المدارس الخاصة، ثم الجامعات الخاصة، التي جعلت من أهم أهدافها بجانب المساهمة في التعليم: تحقيق الربح، وهذا أمر طبيعي، فإن كل من ينشئ مدرسة أو جامعة يستثمر جزءا من رأسماله الذي يسعى دائما إلى تعظيم العائد منه، ولكي تحد الدولة أو الحكومة من استغلال هذا الهدف والمبالغة فيه، وضعت بعض القوانين التي تجعل هذا النوع من التعليم تحت رقابة الدولة، ومن المعلوم أن هذه الرقابة تبدأ دقيقة وصارمة، ثم تتحول بمرور الوقت إلى رقابة هادئة ومستأنسة، بحكم أنها تتعامل مع أصحاب رؤوس أموال، إن لم يكن لهم نفوذهم، فإن لديهم العديد من الوسائل التي لا يعدمون أن يتوصلوا من خلالها إلى تحقيق مأربهم، أو التستر على عيوبهم!

ومع ذلك، وعلى الرغم منه، فقد قام التعليم الخاص لدينا في مصر سواء كان في المدارس أو في الجامعات بدور لا يمكن إنكاره في مساعدة التعليم الحكومي، وكان أهم ما قدمه في هذا الصدد هو استيعابه لعدد من التلاميذ والطلاب الذين كان ينبغي أن يستوعبهم التعليم الحكومي بصعوبة بالغة نظرا لكثرة الأعداد المقبلة عليه، أما نوعية التعليم الخاص، وكفاءة أدائه، ومستواه فهي أمور مازالت موضع نظر، إن لم تكن أحيانا موضع شك، ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد الحصول على شهادة إتمام دراسة معينة، وإنما يقتضي بناء فرد يكون مرتبطا بقضايا مجتمعه، ومنتميا إلى ثوابت وطنه، وهذا الجانب هو ما أشك أنا شخصيا في أن التعليم الخاص يقوم به..

صحيح أن التعليم الحكومي أصبح مثل البقال التقليدي الذي تتكدس عنده السلع بصورة غير جذابة، وأحيانا غير مرتبة، في حين أن التعليم الخاص يشبه السوبر ماركت الذي يبهر بأضوائه ومعروضاته عيون المشترين، ولكن هذا لا يجعل التعليم الخاص أفضل من التعليم الحكومي، فكلاهما يقدم نفس السلعة، بل أن ما يقدمه التعليم الحكومي أفضل بكثير، لأنه لا يخلو- مثل التعليم الخاص- من دعم روح المواطنة، التي لا تقل أهمية أبدا عن أجهزة الكمبيوتر!!

* * *



حول شعار مجانية التعليم


ودفن الرؤوس في الرمال


[
الوفد، 24/2/2008]

مازال شعار مجانية التعليم- الذي أطلقه طه حسين، وتبناه حزب الوفد في الأربعينيات، ثم طبقته ثورة يوليه في الخمسينيات من القرن الماضي- مرفوعا بقوة في الأجواء، يردده المسئولون بكل حسم، ويتمسك به الكتاب بكل حماسة، ويسكر آذان المجتمع بحلاوة وقعه، وجميل رناته! وذلك كله دون أن «يفكر» أحد في مدى تطبيقه داخل مؤسساتنا التعليمية بكل مراحلها ابتداء من دور الحضانة مرورا بالمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم الجامعة.. وانتهاء بالدراسات العليا التي تشمل الماجستير والدكتوراه.

وأنا هنا أريد أن أقف وقفه صراحة مع نفسي أولاً، ثم مع المجتمع ثانيا وأطرح السؤال التالي: هل (فعلا) التعليم مجاني؟

فإذا انتقلنا من بواب عمارتنا إلى جيران المنزل، وجدناهم جميعا يعطون أولادهم دروسا خصوصية، وهم يدفعون فيها الشيء الفلاني.. أما إذا سألنا أحد أولياء الأمور الذي يرسل ابنه أو ابنته إلى إحدى المدارس أو الجامعات الخاصة، وجدنا المبلغ المدفوع في تعليمه يتراوح بين ثلاثين وخمسين ألف جنيه في العام، ومع ذلك فهو راض بهذا النوع من التعليم، لأن الولد أو البنت ينجحون بسهولة كل عام، ولا يحتاجون إلى دروس خصوصية! فإذا هبطنا إلى دور الحضانة وجدناها تتراوح بين مئات الجنيهات وآلافها، ومن العجيب أن آفة الدروس الخصوصية بدأت تنخر في جذع الحضانة، فهناك من يحرص على استئجار المدرسين الخصوصيين لمساعدة أبنائهم في تلك المرحلة المبكرة من التعليم؟!

مسألة التعليم إذن تحتاج إلى فتح صفحتها أمامنا بكل وضوح ومناقشتها بكل صراحة، لأنني وجدت أن مشكلاتها التي كنا نناقشها منذ عشرات السنين مازالت قائمة حتى الآن على الرغم من أننا قدمنا لها عشرات الحلول، ولكنها ظلت في مكانها، والسبب الرئيسي في تصوري هو عدم مواجهة واقع التعليم بالصراحة المطلوبة، مع الخضوع لشعارات براقة لا يتم تنفيذها على أرض الواقع.

إن التعليم- أيها السادة- عملية مكلفة منذ بداية التاريخ وفي كل البلاد التي تقدم فيها، وتقدمت به. ويعني هذا ببساطة أنه يحتاج إلى تمويل كاف لكي يغطي كل متطلباته. وبالطبع سوف أكون سعيدا جدا إذا قامت الدولة به، واستطاعت أن تموله بالكامل، وتجعله «بالفعل» مجانيا، لكن هذا العبء أصبح فوق طاقتها، بل فوق طاقة أي دولة غنية في العالم كله سواء كانت رأسمالية، أو اشتراكية. والذي حدث ويحدث في مصر أننا نرفع الشعار ثم نمارس تطبيقات عشوائية تسمح بالتعليم الممول من طلابه وتلاميذه، ولم يقتصر ذلك فقط على المدارس والجامعات الخاصة التي تم السماح لها بذلك، وإنما بدأ يمتد إلى التعليم المجاني الذي ظهرت فيه أنواع من التعليم المتميز (أي بفلوس كثيرة جدا) جنبا إلى جنب مع التعليم الذي يطلق عليه: مجاني؟!

لقد آن الأوان أن ترفع النعامة رأسها من الرمال، وأن تواجه الواقع وتحسب الحسبة: كم يدفع الناس بالفعل؟ وكيف نقيم تعليما ممولا منهم بنسبة معينة، بشرط أن التلميذ أو الطالب الذي لا يقدر على مواصلة التعليم لابد أن تقدم له منحة دراسية من أي جهة كانت سواء الحكومة أو رجال الأعمال، أو أهل الخير وأصحاب الأوقاف.. وبهذا نفعل مثل ما يفعله العقلاء في كل بلاد العالم حتى تستطيع قاطرة التعليم عندنا أن تتحرك بكفاءة، ويرجع عائدها على المجتمع مرة أخرى.

الأعمدة الخمسة لجودة التعليم

[
روزاليوسف، 2007]

التعليم في كل البلاد المتقدمة يخضع لمعايير الجودة التي تطبق عليه دون مجاملة أو استثناء. والغرض الأساسي من تلك المعايير هو ضمان قيام التعليم بدوره في إعداد الكوادر البشرية المؤهلة والمدربة والقادرة على اقتحام سوق العمل بكفاءة وإيجابية. ومن المعروف أن تلك المعايير تتوزع تطبيقاتها أولاً على (المنشآت) ومدي مناسبتها لأعداد الطلبة، وثانيا على (التجهيزات) ومدي كفايتها لاستخداماتهم، وثالثا على (أعضاء هيئة التدريس) ومتابعة تطورهم المستمر لكي يحسنوا القيام بالعملية التعليمية والبحث العلمي الذي ينعكس بالضرورة عليها، ورابعا في (الإدارة التعليمية) التي توفر الامكانات اللازمة وتزيل أي عقبة قد تعترض تحقيق الأداء الجيد على أكمل وجه ممكن. وأخيرا يأتي دور (التمويل) اللازم لهذه المنظومة التعليمية لكي يمكنها من التشغيل الجيد بطاقاتها الكاملة.

والسؤال الآن: هل تتوافر لدينا في التعليم الجامعي وما قبل الجامعي، وفي التعليم الفني هذه المعايير؟ من المؤكد أن الإجابة يعرفها جيدا أهل التعليم، والقائمون عليه، والمسئولون عنه. وهم وحدهم أقدر الناس على تحديد مستوي تطبيق تلك المعايير. المهم أن تتاح لهم أولاً الفرصة للقيام بعمل تقييم ذاتي للمؤسسات التعليمية التي يعملون فيها، وذلك قبل أن تطبق عليهم (من خارجها) المعايير العالمية للجودة والاعتماد. ولا شك أن التعليم عندنا بكل مراحله في حاجة إلى مظلة تتحقق له تحتها الجودة المطلوبة، والتي تحسن من أدائه، وتطور مناهجه ومقرراته، وتدرب الكوادر البشرية فيه، سواء من أعضاء العملية التعليمية والبحثية أو من الإدارة. لأن الإدارة في مجال التعليم تقوم بدور محوري حيث يتوقف على جزء كبير منها نجاح أو فشل العملية التعليمية والبحث العلمي. فالإدارة هي التي تتابع تنفيذ الخطط، وتوفر لها التمويل اللازم في الوقت والمكان المناسبين، كما أنها المنوطة بحل أي مشكلات تطرأ، أو عقبات تظهر، كذلك فإن الإدارة هي المسئولة عن توفير الجو الملائم والنظام المطرد، والبيئة المناسبة التي يمكن أن تزدهر فيها العملية التعليمية والبحث العلمي المتزامن معها.

إن الكثير منا يتحسر على التعليم (أيام زمان)، والواقع أن التعليم في ذلك الزمان كان يحتوي على عدد كاف من أعضاء هيئة التدريس، وأعداد معقولة من الطلبة في مكان فسيح، وتجهيزات متواضعة لكنها شبه كافية، ثم إدارة منضبطة، وتمويل حكومي مناسب. وحين راح الخلل يصيب هذه الأعمدة الخمسة اهتز البناء التعليمي، وأصبح يخرج حشودا كبيرة دون التركيز على نوعيتهم المتميزة. والأمل الآن في أن تتعافي الأعمدة الخمسة من جديد، إذا كنا بالفعل حريصين على تقدم المجتمع كله، والنهضة الحقيقية لمصرنا الغالية.

* * *


العقبات السبع


أمام تطوير التعليم


[
الأهرام، 2007]

ا

لعقبة الأولي: تتمثل في زيادة أعداد تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات في حين لا تتوافر في مقابل هذه الزيادة الأماكن المناسبة، ولا التجهيزات اللازمة، ولا العدد الكافي من الأساتذة.

العقبة الثانية: ضعف تأهيل المدرسين والأساتذة على النحو الذي يمكنهم من تحقيق التطوير اللازم في العملية التعليمية. وأوضح دليل على ذلك في المدارس هو فشل كليات التربية (ذات النظام التكاملي) في تخريج مدرس مؤهل متمكن في تخصصه. وبالنسبة للجامعات: التراجع المؤسف في أعداد البعثات إلى الجامعات المتقدمة، الأمر الذي ترتب عليه هبوط حاد في مستوي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات.

العقبة الثالثة: جمود المقررات التدريسية، وعدم تحديثها في إطار الحركة المتسارعة في حركة العلوم الحديثة، والتطور غير المسبوق في الطفرة التكنولوجية. وإذا كان من المعقول أن يتم تحديث المقرر الدراسي كل خمس سنوات، فإن هناك مقررات جامعية مضي عليها أكثر من  عشرين عاما دون أن تلحقها يد التحديث!

العقبة الرابعة: لا يمكن للحياة الجامعية أن تكتمل بدون مكتبة شاملة ومتنوعة لكي يرجع إليها الطالب (وكذلك الأستاذ) للاستزادة من المعرفة أو للتثبت من المعلومات، أو لإجراء بحث.. ويمكن القول بأن مثل هذه المكتبة غير متوافرة في معظم إن لم يكن في كل كليات الجامعات.

العقبة الخامسة: مازال يجري تداول (الكتاب الجامعي) باعتباره مرجعا أساسيا وحصريا للطالب، يستمد منه معلوماته، ويمتحن فيما ورد به من معلومات. ولا شك أن هذا الكتاب ليس سوي مذكرات تدون فيها بعض المعلومات الأولية عن العلم الذي يدرسه الطلاب، وكثيرا ما يجري تحريفها بآراء مؤلفه أو مصنفه. وهو في كل الأحوال خال من أي ابتكار أو حتى وجهات نظر قابلة للمناقشة أو فتح آفاق جديدة أمام الطلاب.

العقبة السادسة: ضعف التمويل اللازم لحسن سير العملية التعليمية وتوابعها في ظل مجانية شاملة وغير مرشدة، وهو الأمر الذي أدي إلى تدني مرتبات أعضاء هيئة التدريس، واستهلاك الأجهزة والمعامل دون أي إحلال وتجديد، وتهالك حالة المنشآت التعليمية بحيث أصبح الكثير منها غير صالح للاستعمال. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ميزانية التعليم ليست متاحة في الوقت المناسب أو تبعا للحالة الحرجة، وإنما هي خاضعة لشبكة معقدة من اللوائح المالية والقوانين الإدارية العتيقة التي تحول دون الاستجابة السريعة لأي متطلب في الوقت المناسب.

العقبة السابعة: الدروس الخصوصية التي أصبحت تعد بكل المقاييس جريمة تعليمية لا تكاد توجد في أي بلد في العالم. وهي جريمة يشترك فيها ثلاثة أطراف: المدرس والتلميذ وولي الأمر. لكنها ترجع في بعض أسبابها إلى الصعوبة أو التعجيز في المادة العلمية التي لا يستطيع التلميذ فهمها أو استيعابها إلا بمساعدة مدرس خارجي. ومن العجيب أن نسبة الإنفاق على هذه الدروس الخصوصية قد بلغ حسب إحصائية مركز المعلومات ودعم القرار بمجلس الوزراء: خمسة عشر مليار جنيه في العام!

تلك هي أهم العقبات التي تقف أمام تطوير التعليم، وتحول دون الانطلاق بقاطرته إلى الأفق المنشود. لذلك فإن التوجه مباشرة إلى إزالتها يعتبر الخطوة الأولي التي تسبق تطوير التعليم، وبالتالي تمهد الطريق إلى إنشاء هيئة ضمان الجودة والاعتماد.

* * *


تطوير الجامعات وأصوله


[الوفد، 22/11/2008]

الجامعات المصرية كيانات تعليمية وبحثية ضخمة، مضى على بعضها مائة عام، وتم إنشاء بعضها الآخر منذ عدة أعوام، وهي تستوعب أعدادا كبيرة من الطلبة يصلون إلى أكثر من مليون ونصف المليون، وعشرات الآلاف من هيئة التدريس، وأكثر منهم من الموظفين والعاملين.

ولابد من الاعتراف في البداية بأن هذه الجامعات التي تقوم بدور حيوي في المجتمع ليست ضعيفة أو متدهورة، كما يشاع عادة دون الاعتماد على حقائق وبيانات، ولكنها فقط في حاجة إلى تطوير مستمر، لأن التطوير في مجال التعليم عملية متواصلة، لا أقول إنها ينبغي أن تحدث كل عام أو عدة أعوام، بل في كل محاضرة أو بحث علمي لابد أن تشهد قدرا من التطوير، وإلا توقف العلم فيها عند حد معين، وليس هذا من طبيعة العلم نفسه.

وفي الآونة الأخيرة تولى وزارة التعليم العالي عدة وزراء، حاول كل منهم على قدر جهده وتبعا لثقافته وتصوراته أن يقوم بتطوير الجامعات، ولكن محاولاتهم جميعا باءت بالفشل، لماذا؟ لأنهم حاولوا أن يفرضوا التطوير على الجامعات من خارجها، أي من خارج مجالسها العلمية، ومجالس كلياتها، ثم الأهم من خارج أساتذتها وطلابها الذين يعيشون في داخلها، وهم أدرى بمواطن الضعف والقوة فيها، ولو أنهم اتجهوا ببساطة إلى هؤلاء الأساتذة والطلاب لوجدوا لديهم الكثير من التصورات وأوجه الإصلاح والتطوير التي تنهض بالجامعات المصرية، وتتقدم بها إلى الأمام.

ليست الجامعات المصرية ملعبا يتبارى فيه الوزراء للحصول على المجد الشخصي والشهرة نتيجة تطبيق قانون معين، لا يتفق مع طبيعة العمل الجماعي، بشقيه التعليمي والبحثي، والذي أضيف إليها بالقوة الجانب الخدمي الذي جرى استغلاله بصورة لم تخدم الجامعة ولا المجتمع، ولأنه دخيل على النظام الجامعي فقد فشل هو الآخر، والرأي العام في الجامعات كلها يشهد بذلك.

إن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الجامعات المصرية حاليا هي مشكلة ثلاثية الأضلاع، تتمثل في كثرة أعداد الطلاب، وضعف التكوين العلمي لأعضاء هيئة التدريس، وقلة الإمكانيات المادية. وأستطيع أن أؤكد أن تلك المشكلة ليست مستحيلة الحل، ولا صعبة، بل إنها مجرد عقبة يمكن تجاوزها لكن بشروط، وأهم هذه الشروط هو توافر كل من الرغبة والإرادة لدى الدولة والمجتمع في حلها، لماذا؟ لأن الدولة والمجتمع هما اللذان يمتلكان «كيس النقود» الذي ينفق على هذا الحل، وكما يقول المثل المصري القديم «اطبخي يا جارية.. كلف يا سيدي» أما أن نترك تطوير الجامعات لصندوق النقد الدولي أو لبعض المعونات الأمريكية أو الأوروبية، فإننا ندرك جيدا أن هذه المعونات لا تقدم إلا بشروط، وتلك إحدى المآسي التي تعاني منها حركة التطوير الحالية، التي تحاول تطبيق بعض المفاهيم الأمريكية على الجامعات المصرية!

أما ضعف التكوين العلمي لأعضاء هيئة التدريس، فينبغي التغلب عليه بالإكثار من عدد البعثات إلى الجامعات المتقدمة لكي يستكمل المعيدون فيها دراساتهم العليا، وليس من الضروري أن يذهب الجميع وإنما على الأقل لابد أن نبعث ثلث المعيدين. أما الترقيات العلمية فلابد أن تكون بلجان تشارك فيها الجامعات المتقدمة لكي نضمن تقييما موضوعيا لأعمال الأساتذة. وهنا لابد من أن يحصل الأستاذ الجامعي على ما يحصل عليه نظيره في الجامعات الأخرى من رواتب ومكافآت، بالإضافة إلى تفرغه العلمي لمدة سنة كل ست سنوات كما يحدث مع أساتذة الجامعات في العالم كله.

وأما قلة الإمكانيات المادية، فهي أم الصعاب، لكن حلها ليس عسيرا، فبالإضافة إلى رفع بند الجامعات في موازنة الدولة، ينبغي أن نشجع بقوة رجال الأعمال على التبرعات غير المشروطة للجامعات ومراكز البحث العلمي بها، وهذا يحدث في كل الدول المتقدمة. ويبقى أن أطرح من جديد فكرة التعليم الموازي الذي يمكن أن تطلقوا عليه التعليم المسائي وهو الذي يستوعب أعدادا أخرى من الراغبين في التعليم الجامعي بمقابل مادي، يتم الانفاق منه على التعليم المجاني الصباحي.

تلك هي المشكلة العويصة بأضلاعها الثلاثة، والحلول المقترحة لها لتطوير الجامعات المصرية، فهل يستطيع أحد أن يقول لي- بموضوعية- ما هو الخطأ فيها، لكي أصححه على الفور، بدون أي تشنج أو انفعال؟

* * *


تنسيخ الجامعات المصرية!!


[
الأخبار، 6/3/2008]


الأصل في الجامعات أن تكون مؤسسة أكاديمية وبحثية متكاملة التخصصات والمناهج، وأن تحدد لنفسها مجموعة أهداف تسعى لتحقيقها من خلال عدد من اللوائح والآليات التي يبدأ وضعها في القسم العلمي، ويقرها مجلس الكلية، ثم يعتمدها في النهاية مجلس الجامعة.. وبهذا الأسلوب البسيط والمحكم يتحقق للجامعة استقلالها الأكاديمي الذي يمكن أن يمتد إلى استقلالها الإداري والمالي، بمعنى أن الجامعة يمكنها أن توفر لنفسها الموارد المالية اللازمة لتسيير أمورها من خلال مصدرين رئيسيين هما: مصروفات الطلبة والدارسين، وعوائد مراكز البحوث التي تقدم خدماتها للمجتمع.

ولا شك أن هذا الوضع هو الذي سارت عليه وما تزال معظم جامعات العالم المتقدمة، في حين أن الدول التي حاولت وضع الجامعات تحت عباءتها المالية، وبالتالي الأكاديمية، قد تخلفت فيها هذه الجامعات كثيرا، وأصبحت تعاني من الجمود والشيخوخة، وهجرها الأساتذة المتميزون إلى جامعات خاصة أو مراكز بحوث مستقلة.

وأكاد أقول إن هذا الوضع هو الذي تعاني منه حاليا وبدون استثناء جامعاتنا المصرية الحكومية، التي أصبحت نسخا مكررة من بعضها بسبب خضوعها المطلق للمجلس الأعلى للجامعات الذي يفرض عليها قوانين موحدة، ولوائح طبق الأصل، كما يحدد لها أعداد الطلبة الملتحقين بها، أو المحولين إليها، ويتحكم في ترقية أعضاء هيئة التدريس بها، وتعيين قياداتها العليا تبعا لمعايير موحدة، إن لم تكن صادرة من شخص واحد هو وزير التعليم العالي!

لقد جعل هذا الوضع «الشمولي» جامعة مثل قناة السويس وهي ساحلية تصبح نسخة طبق الأصل من جامعة القاهرة وهي حضرية، وجامعة مثل جنوب الوادي في الصعيد تتشابه تماما مع جامعة المنصورة أو طنطا وهما في قلب الدلتا! ولو كان الأمر متروكا لكل جامعة لأصبحت أكثر ارتباط ببيئتها المحلية من ناحية، وانفتحت على غيرها من الجامعات المصرية والعالمية من ناحية أخرى. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا «التنسيخ» للجامعات الحكومية المصرية على خريجي الجامعات «عددها حتى الآن 17 جامعة» فأصبحت جميعا نسخا مكررة، لا يتميز خريج جامعة منها عن زملائه من خريجي جامعة أخرى، فإذا أضفنا إلى ذلك ضعف مستوى هؤلاء الخريجين نتيجة كثرة أعداد الطلاب وعدم تفاعلهم مع أساتذتهم بسبب ضيق الأماكن، وتخلف الوسائل التعليمية، وقفنا على أهم الأسباب في تدني مستوى التعليم الجامعي الذي يسعى القائمون عليه إلى تطويره بينما هو عاجز تماما عن الحركة. إن المأساة هنا لن تظهر إلا عندما نفاجأ بتطبيق معايير الجودة العالمية على خريجي الجامعات المصرية، وعندها سوف يجد هؤلاء أنفسهم في خارج الصف أو على أقل تقدير في آخره. إنني حتى الآن لم أخرج عن توصيف حالة التعليم الجامعي الحكومي والإشارة إلى أهم أسبابه، وقد تنبهت الدولة إلى ذلك فسمحت بقيام عدد من الجامعات الخاصة «4 جامعات سنة 1996 وصلت حتى الآن أكثر من عشر» التي كان من الممكن أن تكون جزءا من الحل، لكنها مع الأسف سرعان ما وقعت تحت مظلة وزارة التعليم العالي، وتكون لها مجلس أعلى مهيمن عليها، فكرر نفس الأخطاء التي ارتكبها في حق الجامعات الحكومية، بل إنه راح يطبق عليها اللوائح والمناهج الموجودة بالفعل في تلك الجامعات وهو الأمر الذي سوف يؤدي بها- مع مرور السنوات- إلى أن تصبح هي الأخرى في «حالة التنسيخ» أي تصبح نسخا مكررة من الجامعات الحكومية، بدلا من أن تكون إضافة جديدة وحقيقية لها بكل معنى الكلمة!

ما الحل إذن؟ الحل يتمثل في إلغاء سيطرة المجلس الأعلى للجامعات عليها، وإتاحة الفرصة لكل جامعة لكي تسير أمورها بنفسها، في ظل منافسة متكاملة، لا يبقى فيها سوى الأصلح، وفي كل الأحوال علينا ألا ننسى أن نشأة الجامعة وازدهارها مرتبطان بالمعنى اللغوي لاسمها: université.

* * *



الرياضيات في مصر


[
الأهرام، 2007]


يدرك العلماء والخبراء جميعا أن الرياضيات (وليس الرياضة) هي أساس التقدم العلمي في أي بلد في العالم. وأن البحوث العلمية كلها وبدون استثناء إذا لم تعتمد على الرياضيات، وخاصة الرياضيات الحسابية، لن تحقق أي نتائج ذات قيمة، بل إن علوم الحاسب التطبيقية لا تقوم لها قائمة بدون الاعتماد على علوم الحاسب النظرية (التي تعتمد أساسا على الرياضيات). ومن المسلم به أن علوم الإحصاء الرياضي وتطبيقاته أصبحت ضرورية للغاية لجميع التخصصات بما فيها العلوم الإنسانية، ومنها علوم الأدب واللغة.. وأكاد أقول إنه لا يوجد مصنع أو شركة محترمة وناجحة في العالم إلا وتشتمل على وحدة أبحاث، تعد الرياضيات أحد أركانها، لذلك فإن خريج الرياضيات في كل بلاد العالم المتقدم تؤهله الجامعة للالتحاق بالعمل في أي مؤسسة بالدولة، ولا تنحصر وظيفته – كما هو الحال حتى الآن عندنا – في مجال التدريس فقط!

وقد لوحظ في السنوات الأخيرة قلة أعداد الطلاب المتميزين في مجال الرياضيات، وبالتالي اختفي الكثير منهم من أقسام الرياضيات بكليات العلوم. وطبعا المسألة خاضعة كما نعلم لقانون العرض والطلب. والطالب المصري ومن ورائه أسرته يحسب مدي الجهد الذي سوف يبذله والسنوات التي سوف يقضيها في مثل هذا التخصص الصعب، ثم يقارنه بالعائد منه، فيجد أن النتيجة هزيلة، وأن العملية خاسرة، لذلك فإن الكثيرين من الطلاب المتميزين بالفعل يحجمون عن الالتحاق بأقسام الرياضيات، بينما يتكدس الباقون في الأقسام الأخرى. والملاحظ هنا أن التميز في الرياضيات يتطلب موهبة، حتى أن بلدا مثل فرنسا تبحث عن التلاميذ الموهوبين في مجال الرياضيات في مراحل التعليم الأولي، وتقوم برعايتهم رعاية خاصة لكي تستفيد منهم بعد ذلك على النحو الأمثل.

وقد حدثني أ.د. إسماعيل أمين أستاذ الرياضيات غير المتفرغ بعلوم القاهرة أن الدولة عندنا كانت تشجع الطلاب على الالتحاق بأقسام الرياضيات بواسطة منح مالية تقدمها لهم، ومكافآت مجزية للمتميزين منهم، كما أخبرني أن هناك من علماء الرياضيات المصريين بالخارج عددا لا بأس به، وأن بعضهم يتبوأ مناصب علمية رفيعة بالجامعات ومراكز البحوث، والرجل يطالب، وأنا معه تماما في ذلك، رجال الأعمال عندنا أن يساهموا برعاية الطلاب المتميزين في الرياضيات لاستكمال دراستهم داخل وخارج الوطن من خلال منح مالية تخصص لهم حتى الانتهاء من دراستهم الجامعية.

وفي الختام أرجو أن أكون قد نبهت إلى أحد أسس التقدم في النهضة التي ننشدها لوطننا العزيز.

* * *



التعليم الفني


[
كنت قد نشرت هذا المقال في جريدة الأخبار،

وتفضل الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهجت
بإعادة نشره كما هو في ركنه الخاص
بالأهرام]

كان المأمول أن يخرج التعليم الفني للمجتمع أفضل العناصر المدربة في مختلف التخصصات والمهن والحرف. وأهم ميزة في هذه العناصر أنها متعلمة ومثقفة إلى جانب ما تتميز به من مهارات تقوم على المعرفة الصحيحة والمنهج العلمي السليم.

أبدا لم يكن المقصود في التعليم الفني أن يوصل طلابه إلى الجامعة، وإنما يدفعهم مباشرة إلى ميدان العمل، الذي يحتاج إلى أمثالهم ويتطلب تحقيق طفرة نوعية في مستوى الخدمات.

وينبغي أن نلقي نظرة سريعة على مجال المعمار والإنشاءات لنجد أنه مازال مجالا متروكا للجهود الفردية التي قد تنجح مرة وتتعثر مرات.

ولو دققنا النظر في القطاع الصحي في أي منشأة أو عماره لوجدناه من أقصر القطاعات عمرا وأسرعها إلى الفساد، فلا يكاد يمضي على إنشاء العمارة سنة أو سنتان حتى تظهر على جدرانها من الخارج البقع السرطانية نتيجة نشع المياه وسوء وضع المواسير وعدم الدقة في ضبط التوصيلات!

وبالمقارنة البسيطة بين ما يحدث في هذا القطاع عندنا وبين ما عليه الحال في أوروبا أو حتى في آسيا، يظهر الفرق الواضح بين عمل متقن وعمل ضعيف أو عشوائي. والسبب واضح للغاية، هو أن الإتقان يقف وراء علم وعمل منهجي بينما الآخر مرتبط بالاجتهاد الشخصي والمهارات الفردية وعدم اتباع قواعد محددة أو خطوات متدرجة!

كان المأمول من التعليم الفني أن يسد تلك الفجوة الهائلة في ميدان التنفيذ على أن تقتصر الجامعات على التخصص في ميدان التخطيط. وهنا لابد من مصارحة المجتمع بمفهومه الخاطئ عن قيمة العمل اليدوي الذي مازال ينظر إليه نظرة دونية، في حين يعتبر العمل المكتبي أرقى منه، وذلك على العكس تماما مما هو موجود في بلاد العالم المتقدمة، حيث يحتل العمل اليدوي مكانة محترمة من حيث الراتب والأرباح والنظرة الاجتماعية، والواقع أنه لا توجد هناك أساسا نظرة دونية لأي عمل.. فكل الأعمال محترمة وهي في عمومها وتفصيلاتها أفضل من البطالة، لكننا مازلنا نفضل البطالة أحيانا على العمل اليدوي، ومن أمثلة ذلك أنك لا تجد هنا موظفا بسيطا يغسل سيارته في الشارع بنفسه لأن هذا عيب، بينما يمكنك أن نشاهد في الغرب مدير شركة يقوم بهذا العمل دون أي غضاضة!

وهكذا فإن المجتمع يساعد على خنق التعليم الفني الذي كان من الممكن أن يكون أحد مصادر قوة العمل الرئيسية فيه، كذلك فإن هذا النوع من التعليم لم يطور نفسه بالصورة التي كان ينبغي أن يقوم بها، فليس معنى أنه يعطي دبلوما في الزراعة أو الصناعة ألا يكون مدرسوه مؤهلين تأهيلا جيدا، كذلك فإن هذا التعليم لم يربط نفسه بمواقع العمل والإنتاج، وكان المأمول من رجال الأعمال أن يعتمدوا على خريجيه، وأن يتيحوا لهم فرص العمل والتدريب.

[
تعليق الأستاذ أحمد بهجت:] هذا هو المقال المهم الذي نشر في جريدة الأخبار.. كاتب المقال هو الأستاذ الدكتور حامد طاهر نائب رئيس جامعة القاهرة.

* * *



ما هدف التعليم الابتدائي؟


[
الوفد، 3/9/2008]

لو أننا طرحنا على المسئولين عن التعليم الابتدائي عندنا السؤال البسيط التالي: ما هو بالضبط الهدف من التعليم الابتدائي؟ فإنني أكاد أذهب إلى عدم وجود إجابة، فضلا عن أن تكون مقنعة، والدليل على ذلك أن النتيجة التي يخرج بها التلميذ من التعليم الابتدائي تكاد تكون هزيلة للغاية. ولو أننا (افترضنا) أن هذا التعليم يهدف إلى أن يتزود التلميذ بمهارات القراءة والكتابة والحساب وبعض المعلومات الجغرافية والتاريخية، فإن التلميذ بعد إنهاء المرحلة الابتدائية (ست سنوات حذفت منها سنة، ثم عادت، دون سبب معقول ولا مقبول للحذف ولا للإعادة) يظل متخبطا في قراءة نص، أو كتابة عدة سطور، مع جهل واضح في عمليات الحساب الأربع، وتعثر في رسم خريطة مصر، أو ذكر تاريخ محدد لأحد أحداثها والواقع أننا لا نعرف بالضبط ماذا تقدمه المدرسة الابتدائية للتلاميذ؟ ولا نعرف أيضا كيف يتلقى التلاميذ ما يقدم لهم في المدرسة؟

إن المرحلة العمرية التي يقضيها التلاميذ في الابتدائي من أهم فترات التكوين التي ينبغي استثمارها بصورة تربوية صحيحة. ومما يؤسف له أن فلسفة التعليم عندنا مازالت تقوم على مخاطبة (عقل التلميذ) دون تنمية مهاراته الحسية، وخاصة المهارة اليدوية على فعل الأشياء، والالتحام المباشر بالأشياء الطبيعية أو الصناعية. في هذه الفترة ينبغي التركيز أكثر على (يد التلميذ) وتشجيعه على أن يعمل بها الأشياء التي يرغب فيها: الرسم وتشكيل اللعب ودهان الجدران وأعمال النجارة، وفنون الطهي والحياكة..

إن الفلسفة الحقيقية للتربية تقضي بأن التعليم ينبع من داخل التلميذ بمساعدة عوامل خارجية فقط. وهذه الفلسفة تكاد تكون معدومة في نظامنا التعليمي كله فنحن الذين نتحدث لأبنائنا، ونحن الذين نلقنهم المعلومات ونحاسبهم على ضرورة حفظها دون أن نقيم وزنا لمدى تقبلهم لها أو اهتمامهم بها.

مرة أخرى أعيد السؤال الذي ينبغي ألا يتوقف عن طرحه كل من التلاميذ وأولياء الأمور: ما هو الهدف من التعليم الابتدائي الذي تمتد مرحلته إلى ست سنوات؟!

* * *



خطاب مفتوح إلى علماء التربية


[
الأخبار، 21/10/2008]

السادة العلماء الأفاضل..

تحية طيبة وبعد، فأحسبكم جميعا متفقين معي على أن أبناءنا محتاجون خلال مرحلة التنشئة المنزلية والمدرسية، إلى التزود بالقيم الإنسانية الثلاث وهي (الحق والخير والجمال) أما الحق فيمثله القانون الذي يطبق بالتساوي على الجميع وينصف المظلوم، ويقتص من الظالم، ويصون حقوق الإنسان في المجتمع.

وأما الخير فهو المتمثل في كل الأعمال الطيبة مثل الإحسان والعطف ومساعدة الآخرين، وأما الجمال فهو الإحساس المرهف بكل ما في الطبيعة من تناسق وتناغم وروعة، إلى جانب ما يحاكيه الفنانون منها في أعمالهم الإبداعية.

والسؤال الآن هل تتضمن وسائل التربية المنزلية، ومناهج التعليم في المدارس ما يغرس في نفوس النشء تلك القيم؟ وما الأدوات والسلوكيات التي يمكنهم أن يقوموا بها لترسيخ تلك القيم، وإشاعتها في حياتهم؟ بل أين القدوة التي نفخر بأن تقول لأبنائنا: هؤلاء هم النموذج الإنساني الراقي فحاولوا أن تقلدوه؟!

فإن قلتم إن قيمة الحق تتمثل في القانون، والقانون موجود ومفصل ومشروح، سوف يسألكم هؤلاء الأبناء: لكن لماذا لا يطبق على الجميع بالتساوي؟ ولماذا يستثنى شخص بسبب الجاه أو الثروة أو المنصب؟ وهل يعني ذلك أن القانون وضع ليطبق فقط على العامة دون الخاصة؟ ثم عندما يكبر هؤلاء الأبناء سوف يسألونكم: هل استكمل القانون عندنا كل مقوماته من العدل؟ وإذا كان كذلك فلماذا يختلف مع قوانين البلاد الأجنبية، بل وحتى البلاد المجاورة؟!

أما قيمة الخير فهي عظيمة ورائعة، ولا شك في آثاره الملموسة على التضامن الاجتماعي، وإشاعة روح التراحم بين أفراد المجتمع الواحد، لكن أبناءكم يلاحظون أن فاعلي الخير إنما يقومون بذلك من أجل تحقيق مصالح شخصية لأنفسهم!

ويلاحظ أبناؤنا بوضوح أن بعض السيدات من محترفات الجمعيات الأهلية تقمن بجمع الملابس المستعملة ثم تنظفها وتكويها وتقدمها بعد ذلك لطلبة المدارس والجامعات في حفل يدعى إليه المسئولون وكاميرات التلفزيون لكي يجري تصوير تلك الهبة على مسمع ومرأى من الجميع، فهل يعد هذا في الحقيقة من فعل الخير أم أنه مجرد استعراض لتحقيق الشهرة؟!

فإذا تأملنا قيمة الجمال، وجدنا أنفسنا مضطرين إلى أن نسبقها بالإشارة إلى النظافة، لأن جمال الوردة لا يمكن أن يشع وسط كومة من القمامة، أو بجانب بالوعة مجاري؟! وهنا أناشدكم- أيها السادة الأفاضل علماء التربية- أن تهمسوا في آذان مديري المدارس، التي تتراكم حولها أكوام القمامة، ويتجمع بائعو المأكولات والمشروبات الملوثة، والتي يطن فوقها الذباب والبعوض، لكي يقوموا بإبعاد هذه الأسباب المولدة للقذارة والتي لا تنشر الأمراض والأوبئة لدى التلاميذ فحسب، وإنما تشيع بينهم ثقافة القبح، وتبعدهم تماما عن قيمة الجمال!

وأذكر أن تلميذا صغيرا فاجأني بملاحظة، كنا نعبر عليها كلنا دون تنبه، عندما شاهد مذيعة التلفزيون تهش بيدها ذبابة وهي تقرأ نشرة الأخبار، وكلما أبعدتها عادت الذبابة بإلحاح وحطت على وجهها المثقل بالمكياج، قال لي التلميذ: لماذا لا يبعد أحد في الاستوديو عن المذيعة تلك الذبابة؟ وأصارحكم بأنني لم أستطع الإجابة، لكنني قلت في سري: إن هذه الذبابة تتطلب حزمة من الإجراءات والتمويل من أجل رش المبنى كله بالمبيدات!

تلك هي بعض اللمحات الخاطفة، حاولت أن أضعها في هذا الخطاب المفتوح بين أيدي علماء التربية الفاضل، فإن قرأها غيرهم فلا بأس، والسلام!

* * *



خطاب مفتوح إلى علماء اللغة العربية


[
الأخبار، 19/9/2008]

السادة علماء اللغة العربية الأفاضل

تحية احترام وتقدير وبعد.. أرجو أن تسمحوا لي بالكتابة إليكم نيابة عن ملايين العرب، في داخل الوطن العربي، وخارجه ممن يعيشون في البلاد الأجنبية، لكي أعرض عليكم بعض الرغبات والعقبات والمصاعب التي تواجه كل من يريد أن يجيد الحديث والكتابة باللغة العربية، فضلا عمن يريد أن يتعلمها.. وسأبدأ بالعقبات الأولى: عدم وجود قاموس معاصر يحتوي على ألفاظ اللغة العربية ومعاني الألفاظ واستخداماتها، مصحوبا بالصور والرسوم والخرائط وكل وسائل التوضيح، التي نشاهد أمثالها في القواميس الإنجليزية والفرنسية والألمانية وحتى الصينية! أما القواميس المتوافرة في الأسواق فهي كلها وبدون استثناء تستمد مادتها من القواميس القديمة، التي توفي الكثير من ألفاظها، وأنتم بالطبع خير من يعلم أن اللغة كائن حي، تهرم بعض أعضائها وتموت، بينما تحيا أجزاء أخرى وتزدهر حسب كل عصر ومدى اتساع العلوم والحضارة فيه.

أما العقبة الثانية: وفهي عدم وجود قاموس للأفعال العربية يشتمل على اشتقاقاتها وإسنادها إلى الضمائر، وكلاهما أمر صعب للغاية على المبتدئين في تعلم اللغة، وبخاصة عندما يفتقدون من يتحدث أمامهم ومعهم بصورة صحيحة يمكنهم محاكاتها والقياس عليها.

أما العقبة الثالثة: فهي أيضا عدم وجود قاموس للأدوات في اللغة العربية، يبين الاستخدامات المختلفة لكل أداة عندما توجد في سياق معين أو تأتي بعد فعل ما «مثال: رغب في: تعني إرادة الحصول على الشيء، بينما رغب عن: تعني الإعراض عنه!!».

وتتمثل العقبة الرابعة في عدم وجود كتاب «مبسط» لقواعد اللغة العربية، بحيث يتخلص من القواعد التي لا تنطبق إلا على بعض الأساليب العجيبة والمفردات الشاذة، وكنت ارجو أن توافقوني- حضراتكم- على عدم جعل الأشعار أمثلة على القواعد، فالشعر له لغته الخاصة، ومعاييره المرتبطة بكل شاعر على حده، بل وضروراته التي لا تساير القواعد العامة المعروفة في لغة النثر. ويؤسفني بحق أن أصارح حضراتكم بأن «كل» كتب القواعد النحوية التي ظهرت حتى الآن لا تلبي مطالب المتعلمين، ولا تساير روح العصر، وهي تحتاج إلى شروح وتفسيرات بدلا من أن تتجه مباشرة لتكوين قدرات وملكات تجعل الإنسان يجيد استخدام اللغة من أبسط الطرق.

أناشدكم الإسراع بتدارك الموقف، وتلبية رغبة الملايين التلاميذ الذين يريدون تعلم اللغة العربية بدون مصاعب، وذلك إلى جانب الشعراء والروائيين والحقوقيين والإعلاميين ونواب البرلمان، الذين يتحدثون أمام الأمة، ويصوغون التشريعات والقوانين باللغة العربية.

ولكم فائق الاحترام!

* * *


خطاب مفتوح إلى علماء التاريخ


[
الأخبار، 15/10/2008]

السادة علماء التاريخ الأفضل..

أرجو أن تسمحوا لي بمخاطبتكم هكذا في خطاب علني، لأن عندي بعض الملاحظات التي تهم بالدرجة الأولى أبناءنا في مصر، أولئك الذين يدرسون التاريخ في المدارس الابتدائية، ثم الإعدادية، والثانوية، ثم يذهبون بجملة ما درسوه إلى الجامعة، وهم لا يكادون يتذكرون تاريخ شخصية تاريخية واحدة ممن مرت بهم، ولا يكادون يعرفون خصائص عصر تاريخي واحد بسماته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، والأهم من ذلك كله أنهم يفتقدون التسلسل التاريخي بين أهم الفترات التي مرت بمصر منذ عهد الفراعنة، مرورا بأنواع الاحتلال القديم: الفارسي، والإغريقي، والروماني، ثم الفتح الإسلامي، وتتابع الدول الكبرى والصغرى التي حكمت مصر، مثل الدولة الأموية والعباسية، أو الحكم الطولوني والإخشيدي والفاطمي، ثم الفتح العثماني لمصر، وانتهاؤه بمجيء الحملة الفرنسية ورحيلها، ثم عهد محمد علي وأسرته، وأخيرا عهد ثورة يوليه 1952 التي مازالت تعيش في امتداداتها حتى اليوم.. إن هذا الملخص السريع المتتابع يكاد يكون مفقودا من ذاكرة أبنائنا. لماذا؟ لأنهم يدرسون التاريخ مجزءا في فترات، وليس كمنهج متكامل يبدأ مبسطا ثم يتوالى عرضه بصورة أكثر تفصيلا، حتى نصل إلى محاولة استخلاص العبرة منه.

السادة العلماء الأفاضل..

أن مادة التاريخ من أهم مواد التثقيف السياسي التي يمكننا أن نزود بها أبناءنا في تلك المرحلة الهامة من أعمارهم، وهي بالإضافة إلى أنها تضعهم جميعا، وعلى قدم المساواة، فوق أرض مشتركة، فإنها تفتح عيونهم على أفاق الماضي، وكيف كان أجدادهم يتصرفون في مختلف المواقف التي يتعرضون لها، وبأي الوسائل كانوا يحاولون التغلب على الصعاب، ويتجاوزون أقسى العقبات ولا شك أن التاريخ إذا ما جرى عرضه بأسلوب تربوي صحيح وجذاب كان من أهم عوامل الإسراع بإنضاج عقول أبنائنا، واستثارة خيالهم، وتشجيع الفضول العلمي لديهم من أجل تصحيح المزيد من المعرفة.

السادة علماء التاريخ الأفاضل..

إنني باسم تلاميذ المدارس أناشدكم أن تتكاتفوا جميعا في لجنة علمية لكي تضعوا كتابا عنوانه «تاريخ مصر» يحاكي تاريخ بريطانيا، وتاريخ فرنسا، وتاريخ ألمانيا، وتاريخ روسيا، وتاريخ أمريكا، وتاريخ اليابان.. كتاب موحد ومزين بالخرائط الواضحة والصور الجذابة والرسوم المعبرة لكي يقرأه تلميذ الابتدائي في طبعته المبسطة فيستوعبه، ويقرأه تلميذ الإعدادي في طبعته المتوسطة فيهضمه، ثم يقرأه تلميذ الثانوية في طبعة أكثر تفصيلا فيقف على أحداثه ؟؟.

وأعذروني إذا أكدت لكم- أيها السادة الأفاضل- أن مثل هذا الكتاب غائب حتى الآن من مناهجنا الدراسية، تماما كما أنه غائب عن حياتنا الثقافية، ولكم خالص التحية والتقدير..

* * *


مقرر للتربية الأخلاقية


[
الأخبار، 19/5/2009]

هل مدارسنا الحالية في حاجة لوضع مقرر دراسي في التربية الأخلاقية، أم أن الأمور عال العال، وأبناؤنا يتلقون أصولا للتربية الصحيحة ومبادئها في البيت، وبالتالي فإنهم ليسوا محتاجين إلى أن تقدم لهم المدرسة هذا المقرر؟ والواقع إنني أميل إلى ضرورة وجود مقرر للتربية الأخلاقية في المدارس. إن علماء الاجتماع الذين مازالوا يعولون على دور الأسرة واهمون، فأسرة القرن الحادي والعشرين تغيرت كثيرا عن أسرة القرن العشرين، وبالطبع عن الأسرة في القرن التي قبله! وذلك عندما كنا نقرأ عن العالم فلان أو القائد العسكري فلان كان له أب صارم ومنضبط تماما في مواعيده، أو كانت له أم حكيمة وحنون أحاطته بالرعاية والتشجيع.. إن الأم الآن تدفع ابنها إلى أن ينجح في المدرسة بأي ثمن، حتى لو بالغش! والأب الذي يجد ابنه متخلفا عن مجاراة زملائه وأصدقائه لا يرضى عنه! بالطبع توجد استثناءات ولكنها الاستثناءات التي تثبت القاعدة..

لكن التربية الأخلاقية لتلاميذنا لا ينبغي أن تقتصر على مجرد مقرر دراسي يتم وضعه بين دفتي كتاب، وإنما ينبغي أن يرى التلميذ ويشاهد تطبقاته لدى المعلمين وجميع العاملين في المدرسة، بدءا من البواب والفراش وحتى مدير المدرسة نفسه! في هذا المنهج لابد من التركيز على الفضائل الأساسية التي تكون الركيزة المتينة لأخلاق التلميذ، بحيث تظل معه طوال فترة دراسته، وبعد خروجه لحياة المجتمع. وهذه الفضائل تتمثل في السبعة التالية «الصدق- الأمانة- الانضباط- التسامح- التعاون- مساعدة الضعيف- التوافق مع البيئة) وتبعا لأعمار التلاميذ (في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية) يجري تقديم تلك الفضائل، فتكون في المرحلة الابتدائية والإعدادية منصبة على أشخاص من التاريخ أو المجتمع المعاصر في تصرفاتهم حسب تلك الفضائل، لأن التلميذ في تلك المرحلة «من 6- 15 سنة» يميل أكثر إلى الأمثلة المحسوسة والحكايات الملموسة، في حين يقتنع تلميذ الإعدادي بالشخصيات التاريخية والواقعية، حتى نصل إلى المرحلة الثانوية، وفيها يقدم للتلميذ القيم الإنسانية الثلاث «الحق والخير والجمال».

أما الميزة الأكبر لمقرر التربية الأخلاقية في المدارس فهي تكمن في توحيد مشاعر أبنائنا كلهم مع اختلاف الدين، حول مجموعة الفضائل والقيم المستمدة أساسا من كل الأديان السماوية، وكذلك من رصيد التجربة الإنسانية عبر الزمن، وبذلك نضمن أن يتعامل أبناء الوطن الواحد بأخلاق واحدة يتفق عليها الجميع، وتصبح على المدى الطويل ركيزة لسلوكهم في المجتمع، ومقدمة جيدة لتعاملهم مع المجتمعات الأخرى.

إنني أناشد المسئولين في وزارة التربية والتعليم عندنا أن يوجهوا عنايتهم إلى مقرر التربية الأخلاقية، وأن يجعلوه أحد عناصر العملية التعليمية المصرية، من أجل تكوين جيل راسخ على أرض صلبه، وإذا ألقيت عليه مسئولية عمل يستطيع أن يؤديه بكل صدق وإخلاص وضمير، وهذا ما أصبحنا نفتقده، ونشكو منه، دون أن نفعل شيئا لتداركه!

* * *


القراءة والكتابة


[
روزاليوسف، 2008]

سعدت كثيرا حين قرأت في الصفحة الأولي لإحدى جرائدنا القومية خبرا يقول إن مديرية التربية والتعليم في القاهرة سوف تجري اختبارات في القراءة والكتابة لتلاميذ الصفوف الابتدائية (3، 4، 5، 6) لمعرفة مدي ضعفهم في هاتين المهارتين، ومساعدتهم من خلال حصص إضافية، وذلك بهدف عدم انتقال تلميذ من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية دون إجادته التامة للقراءة والكتابة.

وعلي الفور أغلقت الجريدة، وتنفست الصعداء، وسرحت بذهني إلى حادثة وقعت من قبل في دمياط ونشرت عنها مقالين في عهد الوزارة السابقة، وذلك حين قام الأستاذ عبد الله قلفط بدمياط بعمل امتحان لتلاميذ المرحلة الابتدائية فوجد معظمهم لا يعرفون الكتابة على الإطلاق، فاستأذن السيد المحافظ يومها، وعندما سمح له قام بإعداد دروس خاصة لمحو أمية أولئك التلاميذ المساكين في فترة ما بعد المدرسة. وأذكر أنه حين علمت وزارة التعليم (العتيدة) حينئذ بهذا الموضوع جن جنونها، وحوّلت المدرس المخلص إلى التحقيق، والحمد لله أن التحقيق انتهي بلا عقوبة!

لماذا ندفن رؤوسنا في الرمال، ولا نعترف بالأخطاء، لكي نقوم بإصلاحها. ولا شك أن الإصلاح هنا يقع على المسئولين عن المرحلة الابتدائية في وزارة التربية والتعليم وهي مسئولية كبري، سوف يحاسبهم عليها الله والوطن. لأن أطفالنا في المرحلة الابتدائية يحتاجون إلى اهتمام شديد وعناية بالغة، ومن أول واجباتنا نحوهم هو إخراجهم من حالة الأمية إلى حالة القراءة والكتابة وهذه العملية تتطلب منهجا فعالاً، ومدرسين قادرين على تطبيقه، ومكافآت مجزية لمن يحسن القيام به.

وإنني لأندهش من أن لدينا في هذه المرحلة ست سنوات وهي فترة ليست بالقصيرة لكي يتم فيها تعليم التلميذ القراءة والكتابة، بل وإجادته لهما أيضا. فما الذي يحول دون ذلك؟ ولماذا لا يؤدي المنهج الحالي إلى نتيجة إيجابية؟ إنني أؤكد أن عدم إجادة التلميذ في تلك المرحلة للقراءة والكتابة هو أحد أهم الأسباب التي تجعله يلجأ إلى الدروس الخصوصية، وقد صرح لي بعض أولياء الأمور أنهم لاحظوا على أبنائهم ظاهرة غريبة جدا، وهي أنهم عندما يقرأون لهم من الكتاب فإن الأولاد يفهمون، وعندما يتركونهم للكتاب فإنهم لا يفهمون شيئا. وعندما بحثوا عن السبب اكتشفوا أن أبناءهم في المرحلة الإعدادية غير قادرين على إجادة القراءة والكتابة. وأن الإنسان ليحزن كثيرا عندما يسمع من أساتذة الجامعات عن كمية الأخطاء الإملائية واللغوية التي يرتكبها الطلاب في تلك المرحلة الجامعية التي من المفترض أن تكون لغتهم فيها صحيحة ومعبرة في نفس الوقت عما يفكرون فيه.

إن القراءة والكتابة هي (ألف باء) التعليم، والثقافة، والحياة كلها..

* * *



مأساة الذين تعلموا في الغرب


[
الأخبار، 25/11/2008]

أتوجه بهذا الحديث إلى عشرات الآلاف من المبعوثين المصريين العرب الذين تلقوا تعليمهم الجامعي، أو ما بعد الجامعي في الجامعات الأوروبية، واطلعوا بصورة مباشرة على الحياة الغربية في مختلف جوانبها السياسية والإنسانية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة طبعا إلى النشاط العلمي في الجامعات ومراكز البحوث. ولأنني كنت واحدا من هؤلاء حيث أتاحت لي الظروف استكمال دراستي العليا في جامعة السوربون بفرنسا، حصلت بعدها على دكتوراه الدولة في الفلسفة ومناهج البحث فقد كنت واحدا من أولئك الطلبة العرب الذين انبهروا بمدى التقدم الذي أحرزه الغرب ومظاهر النهضة والتحضر التي تبدو للعيان في أي اتجاه، وعندما رجعت إلى مصر، كنت أشعر بنفس الشعور الذي عبر عنه رفاعة الطهطاوي من ضرورة أن تتقدم بلادي لتلحق بأوربا، وأهمية النهضة في كل المجالات .. إن طبيعة الشعب المصري بالذات لا تقل عن طبيعة أي شعب أوربي متقدم، بل إنه يتفوق عليها جميعا بتاريخه الطويل، وحضاراته القديمة التي مازالت آثارها شاهدة على مدى ما وصل إليه أجداده من تنظيم جيد للحياة، واستغلال رائع للبيئة، وتكريم متميز للإنسان.

قرأت الفلسفة الغربية بحكم تخصصي العلمي في مصادرها الأصلية، واطلعت بحكم هوايتي الأدبية على روائع الآداب والفنون الأوروبية، وبالطبع أعجبت كثيرا بتلك الروح الإنسانية التي تسري في معظم تلك الأعمال سواء كانت فكرية أم أدبية أم فنية.

إن دانتي الإيطالي وشكسبير الإنجليزي وجوته الألماني وهيجو الفرنسي وتولستوي الروسي وأمثالهم لا يخاطبون مواطنيهم فقط وإنما يتحدثون في أعمالهم الرائعة إلى كل إنسان على ظهر الأرض، وفي كل عصر، وتحت مختلف الظروف، لكن في المقابل من ذلك كان السياسيون والعسكريون في الغرب يسعون إلى هدف آخر، وهو التغلب على جيرانهم، والسيطرة أحيانا على العالم كله، أو استعمار بعض مناطقه. ومن المؤكد أن تلك النزعة البغيضة لا تتناسب على الإطلاق مع النزعة الإنسانية لدى المفكرين والأدباء والفنانين، فكيف جمع الغرب في وقت واحد بين هاتين النزعتين؟ وكيف استطاع أن يبدع الروائع الأدبية والفنية، ويقوم في نفس الوقت بأبشع المجازر ضد الإنسانية؟!

وهنا لابد أن أتساءل: لماذا سكت الأدباء والفنانون الغربيون عن تلك النزعة الاستعمارية البغيضة، ولم يقاوموها لدى قادتهم السياسيين والعسكريين، أو على الأقل لم يشيروا إليها ويدينوها.. إننا لا نجد إلا صمتا كاملا أمام المجازر التي ارتكبها الأوروبيون الذين هاجروا إلى أمريكا وأبادوا الهنود الحمر إبادة كاملة، وكذلك نفس الصمت أمام اقتحام إفريقية وخطف الناس منها ثم جعلهم عبيدا لهم هناك، ونفس الصمت أمام احتلال بريطانيا للهند ومصر والسودان، واحتلال إيطاليا لليبيا، واحتلال فرنسا للجزائر والمغرب، واحتلال ألمانيا لمعظم أوروبا!!

إن هاتين النزعتين المتقابلتين تكادان تشبهان تماما وجهي القمر بالنسبة إلينا، أحدهما مضيء لامع والآخر مظلم كئيب، أما نحن المصريين والعرب فقد كنا نوجد فقط في منطقة الضوء، ولا نرى- ونحن هناك- مناطق الظلمة والعتمة والاكتئاب، لكننا عندما رجعنا إلى بلادنا رحنا نتابع علاقة الغرب بنا فلم نجدها تعكس الوجه المضيء وإنما كانت مع الأسف مليئة بالغلظة والقسوة والجفاء فلا عدالة في التعامل ولا معايير موحدة في النظر إلى الأمور، وهكذا بدأت تتسرب إلينا خيبة الأمل، ورحنا نقول لأنفسنا: ما الذي حدث لهذا الغرب الجميل؟ وكيف يبدو في بلادنا قبيحا إلى هذا الحد؟

أما إخوتنا الذين لم يسافروا إلى الغرب، ولم يشاهدوا ما فيه من تقدم ونهضة وجمال فلم يروا منه إلا هذا الوجه القبيح الذي يعاملهم به، ووجدنا أنفسنا أضعف من أن نحكي لهم عن أي شيء جميل مما رأينا هناك. أليست هذه مأساة؟!

* * *


المستشرقون


من هم؟ وماذا فعلوا؟


[
الأخبار، 4/8/2009]

كثير من الأسئلة وردت إلى مستفسرة عن معنى كلمة «مستشرقين»؟ وبعضها يسأل بحسن نية عن ماذا فعلوه؟ وهل يريدون بنا شرا؟ والبعض الآخر كتب لي عن السموم التي بثوها في مؤلفاتهم. ولبيان حقيقة الأمر؟ أقول:

إن كلمة مستشرق orientalist تعني باحثا متخصصا في تاريخ الشرق وعلومه وثقافته عموما، لكنها عندما تطلق عندنا في العربية فإنها تعني خاصة الباحث الذي تخصص في الدراسات العربية والإسلامية، أما مجالات هذا التخصص فتظهر فيما يلي:

أولا: تحقيق المخطوطات العربية بصورة علمية حديثة، ثانيا: ترجمتها إلى اللغة التي ينتمي إليها المستشرق، ثالثا: تأليف الكتب، وكتابة المقالات العلمية في المجالات المتخصصة، رابعا: وضع فهارس تفصيلية بالمخطوطات الموجودة في مكتبات العالم المختلفة، خامسا: وضع القواميس ودوائر المعارف التي تسهل للباحثين مهمتهم.

من الجدير بالملاحظة أن المستشرقين جميعا قد استخدموا في بحوثهم المنهج العلمي الحديث المعمول به في الغرب، والذي قام الباحثون العرب بعد ذلك بنقله عنهم، واستخدامه سواء في تحقيق التراث أو التأليف.

كذلك تميز المستشرقون بالتخصص الدقيق في مجال معين، وأحيانا في دراسة شخصية معينة.

والواقع أن كل البلاد الغربية تقريبا قد خصصت في حركتها العلمية جزءا للاستشراق، وهو أحيانا يتم تدريسه لطلاب الجامعات وأحيانا يقتصر على مراكز بحوث أو هيئات متخصصة كما أن هناك مجلات علمية ذات مكانة محترمة لنشر البحوث والمقالات التي يقوم بها المستشرقون إما في البلد الواحد أو في بلاد متعددة، والمشكلة هنا أنهم لم يهتموا برصد حركة الاستشراق لديهم، أما الذي قام بهذا العمل الجليل عندنا فهو الأستاذ نجيب العقيقي في كتابه «المستشرقون»(ثلاثة أجزاء)، ذكر أسماءهم وأهم أعمالهم في مختلف بلاد العالم. ونصيحتي بالإطلاع عليه لم يريد أن يعرف شيئا عن الموضوع.

وهكذا يتبين مما سبق أن المستشرقين قاموا بجهود جيدة في إخراج تراثنا العربي والإسلامي من حالته المخطوطة إلى المطبوعات الحديثة، كما قاموا بدراسته وتحليله وإلقاء الضوء على الكثير من موضوعاته وأعلامه. لكن كل عمل يحتوي على جوانب سلبية، ومن أبرز السلبيات في عمل المستشرقين: أولا: عدم تمكنهم من اللغة العربية، وهو الأمر الذي أوقع بعضهم أحيانا في بعض الأخطاء، بسبب عدم فهم الكلمة العربية في سياقها العربي المعروف بين أهلها، ثانيا: افتقاد بعضهم إلى نظرة الاحترام والتكريم اللازمين لحياة المسلمين الأوائل، وهو الأمر الذي ترتب عليه وصفهم لهم بصورة لا تليق بمكانتهم الروحية العالمية لدى المسلمين، ثالثا: اعتقاد الكثير منهم أن محمدا r ليس رسولا موحي إليه من الله تعالى، ونظرتهم إليه على أنه إنسان عبقري استطاع أن ينشئ بنفسه هذا الدين وأن ينجح في إقناع الناس به، رابعا: عدم اعتراف بعضهم بأصالة الفكر الإسلامي، واعتباره بالتالي مجرد نسخة مشوهة مما أخذه المسلمون من الفلسفة والفكر الإغريقي، أو الفارسي أو الهندي السابق عليهم، خامسا: وهذه ملاحظتي الخاصة، أنهم لم يعملوا على نشر الجوانب المشرقة للحضارة العربية الإسلامية في مجتمعاتهم، بل إنهم حرصوا على إخفاء ما هو مشرق، ومحاولة نشر ما قد يسيء! وأخيرا فإن الاستشراق ظاهرة علمية لا ينبغي إغفال جهودها ونتائجها.

التعليم والثقافة

[
آخر ساعة، 2007]

التعليم نظام محدد بمقررات معرفية معينة تفرض على التلاميذ، أما الثقافة فإنها معرفة مفتوحة بحرية أمام الجميع. التعليم يغوص في التفاصيل ويهتم بالجزئيات أما الثقافة فإنها تتسم بالعموم، وتحلق فوق الأشياء. التعليم يتطلب أحيانا الاستذكار والحفظ أما الثقافة فإنها تقتصر على الإلمام بالمعارف دون مراجعة متعمقة لها. التعليم يتدرج مع كل مرحلة من مراحل العمر أما الثقافة فإنها تشمل كل المراحل بدون نظام. التعليم يمهد لتخصص الإنسان في مجال معين أما الثقافة فهي معرفة شيء بسيط عن كل المجالات. التعليم يتطلب غالبا معلما يقود الخطي ويرشد المبتدئين أما الثقافة فهي تؤخذ من كل أفراد المجتمع، والمجتمعات الأخرى. التعليم لا يؤثر كثيرا في سلوك الإنسان أما الثقافة فإنها تنعكس عادة على تصرفاته. التعليم تتحكم فيه الدولة أما الثقافة فهو نتاج الإنسانية كلها. التعليم يتطلب عقلاً متقبلاً أما الثقافة فإنها تحتاج إلى روح مرفرفة. التعليم يربطك بزملائك في المدرسة أو الجامعة أما الثقافة فإنها تربطك بكل أفراد المجتمع. التعليم يؤدي إلى أن يكون لك رأيك الخاص أما الثقافة فهي التي تكون الرأي العام للمجتمع كله.

التعليم عالمي والثقافة محلية وقد تكون عالمية. التعليم يعتمد على معلومات الكتب أما الثقافة فعلي معطيات الحياة. التعليم يقوم على المحاكاة أما الثقافة فإنها تعتمد على الملاحظة. التعليم يصقل ملكات العقل أما الثقافة فإنها تفتح له النوافذ. التعليم ضروري للإنسان في مطلع حياته أما الثقافة فهي الأبقى معه طوال العمر. وهناك مثل يابانى يقول إن الثقافة هي ما يبقي للإنسان بعد أن ينسي كل ما تعلمه!

وهكذا يتضح مما سبق أن كلاً من التعليم والثقافة لازمتان من لوازم الحياة، وأن الإنسان بدونهما قد يرتد إلى درجة الحيوان. من هنا كان من الواجب على المجتمعات أن تجيد تعليم أبنائها، وأن تزودهم في نفس الوقت بالثقافة لكي تجعل منهم مواطنين فاعلين وصالحين  يتحملون المسئولية، ويحققون لأنفسهم وللأجيال الآتية من بعدهم ما يليق بهم من تقدم وازدهار. ولا شك أن المجتمع المتعلم – المثقف هو الذي يستطيع أن يواجه مشكلات الواقع وأن يتحسب لتحديات المستقبل، فهو بالتعليم يتمكن من استثمار كل طاقات الأرض التي يعيش عليها، وبالثقافة يستطيع أن يتفاعل مع سائر مجتمعات العالم أخذا وعطاءً، وعيا وتنافسا.

وعن علاقة التعليم بالثقافة، شاع القول المأثور: إن الثقافة تبدأ حين تنتهي المدرسة. وأنا لا أوافق على ذلك. فالثقافة ينبغي أن تبدأ قبل المدرسة، وتتوازي معها، وتستمر بعدها. وهنا مجال عمل كبير، ينبغي أن يرد على السؤال التالي: كيف نوفر الثقافة المناسبة لأفراد المجتمع على كل المستويات وفي مختلف فترات العمر؟

* * *

آخر تحديث الجمعة, 29 مايو 2020 16:03