عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
اولا:فى الشان المصرى


اولا:فى الشان المصرى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الجمعة, 31 ديسمبر 2010 17:13






اولا : فى الشأن المصرى :



-
الانتماء وحب الوطن

- ثروة مصر فى جغرافيتها

- مصر التى لم تكتشف

- نحو تنظيم وزارى آخر

- نصائح قديمة للوزراء

- هل لدينا مشروع للنهضة ؟

- ثلاثية الأصالة فى حياتنا

- نظرية السماح بالتقدم

- عندما فكرت فى إنشاء حزب سياسى

- المرأة المصرية والسياسة (التشخيص والحل)

- عائد من الصين

- إعلامنا والحضارة المصرية

- رجال الأعمال والإعلام

- المدن الجديدة والعاصمة

- الإصلاح بواسطة المقارنة

- ثلاثة مصطلحات خادعة

- الفضائيات الموجهة إلينا

- خطاب مفتوح إلى القضاة

- أفكار محمد عبده

- طبيب مصرى من ألف عام (على رضوان)

- المجتمع المصرى ومشكلاته

- وقفة مع جرائم الشرف

- شروط الزواج الناجح

- الشارع المصرى فى مطلع القرن الحادى والعشرين

- حياة الانسان فى المعاش

- ثقافة حقوق الانسان

- الثقافة المصرية بين التأميم والخصخصة

- هيئة الكتاب وخصخصتها

- القراءة وآفاقها

- الشاعر والناظم

- القاهرة وشعراؤها

- روائيان مصريان .. فى الظل

- وصفة أى مشروع ناجح

الانتماء وحب الوطن

[الأخبار، 6/1/2009]


شاعت في الآونة الأخيرة كلمة «الانتماء» وزادت مطالبة الكبار للشباب بضرورة الانتماء، وهم يقصدون بذلك أن يغلبوا مصلحة الوطن العليا على مصالحهم الشخصية وكثيرا ما يحتجون على ذلك بأنهم أي الكبار عاشوا فترة شبابهم وهم أكثر انتماء من هؤلاء الشباب الذين لم يعودوا يشعرون مثلهم بشعور الانتماء. والدليل على ذلك أنهم يتطلعون إلى السفر للعمل بالخارج ويركبون الصعب أحيانا فيسافرون بحرا في مركب قد ينقلب بهم في وسط الموج أو تحتجزه سلطات البلاد الأخرى وتعيد ترحيلهم بصورة مهينة إلى بلادهم! وأبشع الأمثلة على غياب الانتماء في شباب العصر الحاضر أنهم يسافرون إلى العمل بل والزواج في إسرائيل، التي مازالت تحتل جزءا من الأراضي العربية ومازالت حالت الحرب قائمة بينها وبين بعض البلاد العربية!

فما حقيقة الانتماء؟ وما المقصود منه؟ يبدو أن الانتماء يعني الارتباط الشديد بمبدأ أو بمكان أو بمهنة أو بمؤسسة أو بمجموعة من الناس، وهذا يتطلب التمسك بذلك، والإخلاص له وعدم التخلي عنه تحت أي ظرف، إلى جانب التضحية في سبيله بكل ما يملك الإنسان من جهد أو مال أو نفس. والأمثلة على ذلك عديدة. فالانتماء إلى البيت يعني أن يحس الإنسان بالراحة والاطمئنان والسعادة فيه، والتشوق إليه حين يبعد عنه، وفي نفس الوقت عدم قبول الإساءة والاعتداء عليه من الآخرين والإسراع بالدفاع عنه إلى حد الموت في سبيله. وليس البيت سوى نموذج مصغر للوطن الكبير الذي يضم مجموعة من الناس تتشابه في الجنس واللغة والمعتقدات والثقافة والسلوك، ومهما كانت الطبقة أو الفئة التي ينتمي إليها الشخص، فإنه عند نشوب الحرب أو وقوع الأزمات الكبرى بوطنه، يجد نفسه منخرطا مع سائر الطبقات والفئات الأخرى بنفس الإحساس، وتتملكه نفس المشاعر التي تسري فيهم جميعا.

جاء في أحد الأمثال الأمريكية أن الإنسان يرتبط بوطنه، كما يرتبط بأمه، وعندنا أن حب الوطن من الإيمان. وهناك مثل إنجليزي يقول: أيا كانت بلادي مخطئة أو مصيبة فإنها تظل بلادي. أما المثل الفرنسي الطريف فيقول: إن الخبز في الوطن يفضل كثيرا البسكويت في البلاد الأخرى!

لكن إذا كانت كل تجارب الشعوب التي وردت إلينا في أمثالها تؤكد قيمة حب الوطن في نفوس أبنائه، فإن بعضها الآخر يذهب إلى تغليب مصلحة الإنسان الخاصة على حب الوطن أحيانا. ومن ذلك المثل الإغريقي الذي يقول: حيث نكون مرتاحين يكون الوطن! وأيضا كل البلاد تعتبر وطنا للشجاع، وكذلك العالم كله هو وطن الحكيم! والمثل اللاتيني يقول: حيث توجد ممتلكاتنا، فهذا هو الوطن! وفي أمثالنا الشعبية: «فين بلدك يا جحا؟ قال اللي فيها مراتي».

ومع ذلك تظل هذه الأمثال العالمية استثناء من قاعدة حب الوطن، الذي هجرنا مصطلحه الجميل إلى مصطلح الانتماء «لست أدري لماذا؟» إن كلمة الانتماء لا يفهمها الجميع، بينما حب الوطن هو من أقوى روابط الإنسان بالأرض التي ولد فيها، وبالناس الذي عاش بينهم. والواقع يؤكد أنه لا يوجد مكان في العالم أطيب ولا أحب من الوطن بالنسبة لأهله.

والدليل على ذلك ما نشاهده من لهفة أولئك الذين هاجروا إلى البلاد المتقدمة والغنية وأقاموا فيها لفترة طويلة في حياتهم- حين يذكر أمامهم اسم بلادهم أو يرد خبر عنها. صحيح أنهم خرجوا منها لأسباب اقتصادية واجتماعية صعبة، ولكنهم لا يفقدون أبدا هويتهم أو قل إحساسهم بالانتماء للوطن.

* * *


ثروة مصر في جغرافيتها


[
الأخبار، 2007]

من واجب أي إنسان مصري أن يعرف طبيعة بلده، وأن يكون لديه فكرة عامة عن جغرافيتها، التي يمكنها أن تضع يده ببساطة على ثرواتها الطبيعية وإمكانياتها المحتملة. وقد عشت لفترة طويلة أقرأ التاريخ وأهتم به، ولم أكن أعطي للجغرافيا نفس الاهتمام، وأخيرا قلت لنفسي. لماذا لا أنظر قليلاً إلى جغرافية مصر؟ فماذا وجدت؟ الموقع في الشمال الشرقي من قارة إفريقيا، مضافا لها شبه جزيرة سيناء الواقعة في آسيا. والمساحة تبلغ مليون متر مكعب. وهي في عمومها جزء من الصحراء الإفريقية الكبرى، التي يخترقها نهر النيل، فيفصلها إلى قسمين، أحدهما الصحراء الشرقية على يمينه، والصحراء الغربية على شماله. ونسبة مساحة الأولي للثانية 1: 3. الجبال في مصر تكثر في صحرائها الشرقية، وهي مكونة من الصخور النارية والمتحولة، بينما الهضاب المصرية مكونة من الصخور الجيرية. وفوق الجبال العالية على البحر الأحمر تسقط الأمطار الغزيرة فتصنع العديد من الأودية، وهذه الأودية بعضها يصب في اتجاه البحر، وبعضها الآخر في اتجاه وادي النيل. أما الصحراء الغربية الأوسع مساحة فهي مسطحة في عمومها وجافة في مناخها لكنها تحتوي على عدد من الواحات، بالإضافة إلى منخفض القطارة الذي لم يستغل حتى اليوم.

ماذا نستخلص من ذلك؟ أن مصر تحتوي على جبال ووديان ومسطحات رملية ومنخفضات ترقد تحتها مياه جوفية منذ آلاف السنين. وكل عنصر من هذه العناصر قابل للدراسة والتحليل واحتمال اكتشاف مختلف المعادن فيه. ولا شك أن هذا العمل إنما يقع أساسا على كليات العلوم في جامعاتنا، التي تضم أقساما متخصصة في الجيولوجيا، وتستطيع أن تعرف أنواع الصخور التي تمتلئ بالمعادن، وطبيعة الرمال التي يصنع منها الزجاج. والعجيب أن أجدادنا القدماء، قد استطاعوا أن يكتشفوا وسط تلك الصحاري المترامية مناجم الذهب وعروقه، التي صنعوا منها الحلي وزينوا بهن المعابد والقبور. أما نحن فقد أصبحنا في وضع أفضل منهم، فلدينا الآن صور الأقمار الصناعية، ووسائل البحث والتنقيب والمجسات الحديثة، ولذلك فإن مسئوليتنا تجاه الصحراء مسئولية مضاعفة. لأن من غير المعقول أن نترك 94% من أرض مصر بعيدة عن البحث العلمي وإمكانيات الاستثمار، ونظل محصورين حول مجري النيل الممتد من أسوان حتى القاهرة، والذي يتفرع بعد ذلك إلى فرعي دمياط ورشيد مكونا الدلتا المثلثة والتي أصبحت هي الأخرى تعاني من اكتظاظ سكاني رهيب، وزحف اضطراري على الأراضي الزراعية لابتلاعها داخل الكتلة الأسمنتية للبيوت والمصانع ومزارع الدواجن!

أما نيل مصر الرائع، فإنه يمتد عبر الأراضي المصرية حوالي 1536 كيلو مترا، منها 350 كيلو بين وادي حلفا وأسوان و 946 ك.م بين أسوان والقاهرة. أما فرع دمياط فيبلغ عرضه 286 مترا، بينما يصل عرض فرع رشيد إلى 472 مترا وهو أطول من صاحبه بحوالى ستة كيلو مترات، وأعلي من مستواه بحوالى مترين.

لقد قال المؤرخ الإغريقي القديم هيرودوت إن (مصر هبة النيل) وهذا صحيح. لكن النيل أصبح عجوزا، وهو يحتاج من أبناء مصر إلى فكر جديد، بحيث يحسنون استغلال كل قطرة منه، فهي أغلى من البترول. وهذا يعني التوسع في الزراعات الحديثة، والإقلال من غمر الأرض بالماء كما كان أجدادنا يفعلون منذ آلاف السنين!

ألا تتفقون معي الآن في أن قراءة الخريطة الجغرافية لمصر يمكنها أن تفتح أبواب المستقبل السعيد لمصرنا الحبيبة؟!


مصر التي لم تكتشف


[الأخبار، 21/4/2009]

لست عالم جيولوجيا لكي أحدد لكم أماكن المعادن في طبقات الأرض على امتداد الصحراء المصرية، التي تبلغ حوالي 95% من مساحتها الكلية، ولست خبيرا زراعيا لكي أنصح بزراعة هذه المنطقة أو تلك، تبعا لوجود أبار جوفية، أو أمطار محتملة، أو امتدادات ممكنة لنهر النيل، ولكني متأمل في الشأن العام المصري، ومتابع لأحوالنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالطبع يؤسفني جدا بل يحزنني أن يظل الشعب المصري يتزايد عدده، وهو محصور في تلك البقعة الخضراء أو المحيطة بنهر النيل على امتداد الصعيد، والمنفتحة على هيئة مروحة في الدلتا بسبب انقسام النيل إلى فرعي رشيد ودمياط، فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذا النهر الخالد قد أصبح يتكالب على مياهه المحدودة العديد من الدول الإفريقية، أدركنا خطورة ثبات الكمية الواردة إلينا من مياهه، أو حتى الانتقاص منها!

وملاحظتي الأساسية هنا هي أن المصريين عندما يفكرون في التوسع خارج حدود الشريط الأخضر المزروع بمياه النيل، فإنهم يفكرون أيضا في الزراعة: زراعة الصحراء بالآبار الجوفية، وهي بالتأكيد لها عمر افتراضي محدود، أي أنها معرضة للنضوب من ناحية، ولزيادة الأملاح الضارة بالنبات من ناحية أخرى.. المهم أن المصريين لم يفكروا جديا حتى الآن في محاولة اكتشاف الصحراء التي تتكون منها أرضهم أساسا، ومحاولة البحث عما تحتوي عليه من خيرات قد لا تقل أبدا عن خيرات الزراعة.

حدثني أحد علماء الآثار أنه ذهب في بعثة استكشافية بالصحراء الغربية، وبعد أن قطعت سيارتهم القوية والمجهزة جيدا أكثر من ساعتين في عمق الصحراء وجدوا فتحة في تل من الرمل، وعندما اقتربوا منها فوجئوا بأنها مدخل منجم ذهب مهجور، استنفد قدماء المصريين منه كل ما فيه، ولم يتبق سوى بعض الذرات اللامعة.. يقول العالم: إن دهشتي لم تكن في عثورنا على هذا المنجم الصغير وسط صحراء شاسعة، وإنما في محاولة فهم كيف تم الوصول إليه من جانب أجدادنا، بإمكانياتهم البدائية ووسائلهم البسيطة التي كانت متاحة لهم في ذلك الزمن البعيد!

إن الحدود الشمالية والشرقية لمصر تمتد على بحرين كبيرين، يرتادهما العالم كله، وهما الأبيض والأحمر، ولم تستغل حتى الآن تلك المساحة الممتدة من الشواطئ فيما ينبغي أن تستغل من أجله: سواء بصيد السمك وتربيته وتعليبه وتصديره، أو بإنشاء العديد من المواني، إلى جانب تنشيط الحركة السياحية، وتشجيع رياضات الغطس وسباق القوارب.

لم يعد من المعقول أن يصل عدد سكان مصر إلى ثمانين مليونا، وهم مازالوا يتكدسون في نفس المساحة التي كان يعيش فوقها نصف هذا العدد؟! ولم يعد مقبولا أن تظل الزراعة- رغم أهميتها القصوى- هي مصدر الإنتاج الرئيسي، بينما تتوارى أذرعة الاقتصاد الأخرى كالتجارة والصناعة والسياحة؟! وأخيرا فإنني أتجه بدعوتي هنا إلى الجامعات المصرية- حكومية وخاصة- أن تقوم كل واحد منها بتقديم مشروع واحد، يكون قابلا للتنفيذ، من أجل إعادة اكتشاف مصر، والاستفادة الكاملة من خيراتها التي مازالت مطمورة في الصحراء.

* * *


نحو تنظيم وزاري آخر


[
روزاليوسف، 2007]

سبق أن نشرت بعض الأفكار حول إلغاء أو دمج بعض الوزارات وتحويل بعضها إلى مجالس عليا أو هيئات كبري. وقد تحقق القليل من تلك الأفكار، وأهمها تفكيك وزارة الشباب والرياضة إلى مجلسين أحدهما للشباب بمختلف مشكلاته، والثاني للرياضة بكل نواديها وتعثراتها. وهذا أمر جيد لابد أن نحسبه للتشكيل الوزاري الأخير.

أما باقي ما سبق أن اقترحته، وأود مرة ثانية وثالثة أن أقترحه لأنه يصب في صالح العمل التنفيذي الذي تقوم به الحكومة فهو يتمثل فيما يلي :

أولاً: ضم وزارتي الإعلام إلى الثقافة في وزارة واحدة باسم وزارة الثقافة والإعلام. ولا داعي للاحتجاج الظاهري بأن كلاً منهما يستحق وزارة بمفرده مع أن الدافع الحقيقي هو شخصية الوزيرين اللذين يتوليان مسئوليتهما. الثقافة منتج، والإعلام وسيلة لنقل هذا المنتج، ولابد أن يندمج كل منهما بالآخر لتحقيق الفائدة المرجوة.

وفي هذا الصدد، لابد أن تخرج هيئة الآثار من وزارة الثقافة وتنضم للوزارة الأحق بها وهي وزارة السياحة، أو تظل هيئة عليا كما كانت في الماضي.

ثانيا: تخصيص وزارة مستقلة للبحث العلمي وتطبيقاته، وفصلها عن وزارة التعليم العالي التي تتولي مسئولية محددة، ومن الممكن جدا أن تنضم إلى وزارة التربية والتعليم، حتى تصبح هي المسئولة عن التعليم من أول السلم التعليمي إلى آخره، وحتى لا تتوزع اهتماماتها وتحيد عن تحقيق أهدافها.

ثالثا: تحويل اسم وزارة الأوقاف لتصبح وزارة الشئون الدينية وبحيث تضم قطاعا للشئون الدينية المسيحية بناء على قاعدة (عنصري الأمة) التي يتكون منهما أبناء مصر على السواء. والمهم هنا أن تنفصل هيئة الأوقاف تماما عن تلك الوزارة، وتلتحق مباشرة بوزارة الشئون الاجتماعية.

رابعا: هناك ثلاثة وزارات لابد أن تكون لكل منها شخصيتها المستقلة وحدودها الواضحة وهي الزراعة والصناعة والتجارة، مع أهمية إضافة وزارة الري والموارد المائية لوزارة الزراعة التي هي أحق بها، ولست أدري حتى الآن ما هو مبرر فصل الزراعة عن الري الذي هو عصبها الرئيسي؟!

أما التجارة فإن تقسيمها إلى داخلية وخارجية لا داعي له، ويمكن أن يخصص لكل منهما قطاع داخل الوزارة يرأسه وكيل وزارة.

خامسا: أما وزارة السياحة بعد ضم قطاع الآثار إليها فيمكن تسميتها (وزارة السياحة والتراث الحضاري) نظرا للتداخل الواضح بينهما، ولأن السياح الذين يزورون مصر لا يأتون في غالبيتهم إلا بقصد مشاهدة آثارها الحضارية القديمة.

سادسا: إنشاء وزارة جديدة باسم (وزارة الأمن الداخلي) لمتابعة نشاط التطرف والإرهاب، مع تحديد اختصاصات (وزارة الداخلية) بالأعمال التقليدية التي تتمثل في تسجيل المواليد والوفيات، واستخراج الرقم القومي والجوازات، وحراسة المنشآت، والمرور، وتنفيذ أحكام القضاء، وكل ما يتعلق بحل مشكلات المواطن اليومية.

* * *


نصائح قديمة للوزراء


[
الأهرام، 2007]

في شهر ديسمبر سنة 1937، نشر الدكتور حافظ عفيفي باشا كتابا بعنوان (علي هامش السياسة) تحدث فيه عن إصلاح بعض مسائلنا القومية، وأهمها: الصحة العامة، والتعليم، والمسألة المالية والاقتصادية، وقد جاء في مقدمته: إننا نملك كل وسائل الإصلاح وأسبابه. فقد وهبنا الله أرضا هي مضرب الأمثال في خصبها، وجوا معتدلاً لا يتمتع به بلد آخر، وبلادنا غنية بموادها الأولية وخيراتها المختلفة. ونحن أمة مؤتلفة، أصلنا واحد، نتكلم لغة واحدة، وتجيش في قلوبنا عاطفة واحدة هي حب مصر، ونحيا جميعا لأمل واحد هو العمل على رفعتها وإعلاء شأنها. فلم نصب بما أصيبت به بلاد أخري من تعدد الأجناس وكثرة اللغات واختلاف المشارب والغايات. ولا تزال بلادنا بكرا، فباب الاستثمار فيها لا يزال مفتوحا على مصراعيه، وهي تتبوأ مكانا جغرافيا من العالم لا يدانيه في أهميته مكان آخر.

ويري (الدكتور الباشا) أن مبدأ تنازع البقاء مازال يسود العالم، وسيظل كذلك ما بقي الإنسان على ظهر الأرض. ويقول: لا شك عندي أن الأمم الهزيلة المتأخرة في مضمار العلم الحديث مقضي عليها بالموت عاجلاً أم آجلاً، أما المستقبل فهو من نصيب الأمم التي تسبق غيرها في ميدان القوة والعلم والمال. ويري أن أولي خطوات الإصلاح هو الاقتناع بضرورته، ثم التفكير في أشكاله ومناحيه.

ومن أول ما لاحظه الدكتور حافظ عفيفي عدم تمكن الوزراء من التفرغ لأعمالهم على النحو الذي يستطيعون معه تحقيق السياسات الموضوعة لوزاراتهم. وإلا كيف يكون الحال إذا صرف الوزراء صباحهم في مقابلات الراجين والشاكين والمحتجين والملتمسين من النواب والأصدقاء والناخبين، وما بعد الظهر في المجالس النيابية للاشتراك في مداولاتها ومناقشاتها، وليلهم في حضور الولائم وتحضير الخطب والرد على الأسئلة والاستجوابات البرلمانية؟ فمتي يتفرغ الوزراء للعمل الأساسي الذي جاءت الوزارة للقيام به، وهي في النهاية ستسأل عنه؟! لذلك ينبغي أن يعمل الوزراء على إصلاح هذا الوضع، الذي يضيع عليهم الكثير من الوقت، وبالتالي يحرم المجتمع والدولة من مجهوداتهم.

كذلك يحسن ألا يضيع الوزراء أوقاتهم الثمينة في الاشتغال بمسائل الموظفين وتعيينهم وترقيتهم ونقلهم، فإن هذه مسائل يجب أن تترك كلها لغيرهم من رؤساء المصالح، أو للجان التي تشكل من كبار الموظفين بالوزارة لهذا الغرض، وإنما يجب عليهم أن يخصصوا هذا الوقت الهام لصميم مسائل الإصلاح الهامة الملقاة على عاتقهم، والتي يتحملونها أساسا بحكم مسئوليتهم الوزارية.

أما في مجال الصحة العامة في مصر فيري الدكتور حافظ عفيفي باشا أن عمل الحكومة الأساسي يتمثل في تمكين الناس جميعا من الحصول على ماء صالح للشرب، وغذاء صالح للأكل، ومنزل صالح للسكن، في بلد صالح للإقامة.

وفي مجال التعليم، يؤكد أن أول واجبات الحكومة هو نشر التعليم، على أن يكون تعليما صحيحا يهدف إلى ترقية الشعب ونشر الثقافة بين أفراده ورفع مستواه العلمي والخلقي إلى أعلي درجة ممكنة، وأن يبث في الشباب روح الكرامة والاستقلال والاعتماد على النفس والمغامرة والقدرة على تولي أي عمل مع الثقة بالنجاح فيه.

أما في السياسة المالية والاقتصادية فإنه يقرر أن حالة مصر المالية لا ولن تتحسن إلا إذا حرص الوزراء وجميع الموظفين على الأموال العامة بنفس حرصهم على أموالهم الخاصة. فلا إنفاق إلا فيما تعود فائدته على معظم السكان، ولا ضرائب إلا بالقدر الذي يسد حاجة الحكومة للقيام بمشروعات الإصلاح الضرورية. وأخيرا يجب أن توزع الضرائب بالعدل فلا يقع عبؤها إلا على القادرين.

تحية للدكتور الباشا حافظ عفيفي، فقد ترك لنا نصائح غالية لا تقل أهمية عما ترك المصري القديم في بردياته، وهو يشخص أحوال مصر، ويتمني لها التقدم والازدهار!

* * *


هل لدينا مشروع للنهضة؟


[
الوفد، 30/3/2009]

لا يقتصر حديثي هنا على مصر وحدها، وإنما على العالم العربي كله «22 دولة تضم حوالي 300 مليون نسمة». والملاحظ أن الوضع الراهن لكل هذه البلاد يعكس حالة من الضعف والتفكك تتخللها أحيانا بعض محاولات الإصلاح الجزئي والقصير النفس، وبالطبع لن يرضي هذا التشخيص جميع المسئولين، فكلهم يزعمون أن الحال أفضل مما كان عليه، وأن التقدم يسير بخطي ثابتة، إن لم تكن سريعة! لكن الواقع غير ذلك تماما، بدليل ما نشاهده ونتابعه من سوء الإدارة وتدني مستوى الدخل، وتردي الخدمات الأساسية، وانسداد الحياة الحزبية، وضعف المؤسسات النقابية، إلى جانب الصراع الظاهر والمستتر بين البلاد العربية نفسها، ثم بين بعضها وبين العالم الخارجي.. ومما يشير إلى حالة التخبط العربي ما نلاحظه من ادعاء كل بلد عربي أن له مشروعه الخاص للنهضة، بمعنى أن يكون لدينا، لو صح ذلك، اثنان وعشرين مشروعا.. ومن الواضح أن أي واحد منها لم ينجح حتى الآن.. صحيح أن بعض البلاد العربية يمتلك الثروة، وبعضها يحتوي على المواد الطبيعية، وبعضها يزخر بالكفاءات البشرية، ولكنها لم تتفق في يوم من الأيام على إحداث التكامل بين هذه العناصر اللازمة للتقدم، بل على العكس مازال كل منها واقفا في مكانه، وغارقا في مشكلاته!

وسوف أشير هنا إلى فكرة مهمة، لم ينتبه لها مع الأسف كثير من المثقفين العرب، وهي أن عصر النهضة
Renaissance عندما ظهر في أوروبا، وبدأت أفكاره تتناثر لدى بعض المفكرين والعلماء هناك، لم تستثن بلدا أوروبيا عن غيره، فلم تقل فرنسا مثلا إنني لن آخذ بأفكار الإصلاح البريطانية، ولم ترفض ألمانيا ما ظهر من أضواء التنوير في إيطاليا، وإنما أسرعت أوروبا بكل دولها، وهي تشبه المنطقة العربية حاليا، إلى اعتناق الفكر الإصلاحي الجديد، الذي أخرجها من تخلف العصور الوسطي إلى آفاق عصر النهضة، بل إنني أستمر في تطوير الفكرة فأقول: إن المهاجرين الأوروبيين عندما حلوا بأمريكا حملوا معهم أفضل ما توصلت إليه أوروبا من أفكار التقدم والنهضة، ولم يبدأوا من الصفر تماما، وهو الأمر الذي أسرع بنشأة الولايات المتحدة الأمريكية «سنة 1789» التي أصبحت هي الدولة الأولى في العالم!

مشكلتنا في العالم العربي إذن أننا نعمل فرادي ومنفصلين، كما أن كلا منا يتصور أنه من الممكن أن يتقدم وحده، وبدون مساعدة أو تعاون مع جيرانه، وبالطبع ترجع تلك النظرة الضيقة إلى بقايا الثقافة الاستعمارية التي رسخت في المنطقة «أقصد في عقول أبنائها».. إن العرب قد نسوا أن الخريطة الحالية لبلادهم إنما صنعها الاستعمار أثناء وجوده، وقبل رحيله، ولذلك وضع فيها الكثير من الألغام القابلة للانفجار، لكي يضمن تمزيق أوصال هذا الجسد الكبير، لكي لا ينهض مرة أخرى، ويمثل خطرا على مصالحه، أو خطورة على استقراره!

لكن المسألة لا تتعلق بالاستعمار فقط، حتى لا ينفعل المدافعون الجدد ضد نظرية المؤامرة! وإنما تشتمل في الأساس على غياب التصور المناسب لمشروع نهضوي متكامل يستطيع أن يخرج المنطقة العربية من حالتها الراهنة إلى ما تستحقه شعوبها المتطلعة من تقدم وازدهار، خاصة وأننا، حتى عهد قريب، لم نكن نرى أمامنا سوى النموذج الغربي «أوروبا وأمريكا» أما الآن فقد ظهر خلفنا في الشرق نموذج آخر يضم العديد من الدول الغربية التقليدية «مثل اليابان، والصين، وكوريا، وماليزيا..» بل إن المواطن العربي يتساءل في هذه الأيام عن مدى التقدم وحقيقته في كل من إيران وتركيا.. وحتى إسرائيل!

إن كل هذه الدول، بدون استثناء، قد آمنت بفكرة التقدم، ووضعت لنفسها مشروعا محددا للنهضة.. وليس معنى ذلك أن نجحت بالكامل في كل خطواتها، بل إنها تفشل أحيانا، لكنها تصر على النجاح فتحققه، تبعا لقانون التجربة الذي يتضمن احتمال الصواب والخطأ، أما نحن فمازلنا نتحدث ونتكلم ونتناقش، وفي خلال ذلك نتشاجر ونتخاصم ويكيد بعضنا لبعض.. ومن العجيب أن نسرع فتخمد أي فكرة جديدة، ونحتقر أي مبادرة متفردة، مؤثرين الثبات والاستقرار على المغامرة التي تحتوي دائما على سعة الأفق وجرأة المحاولة!!

* * *


ثلاثية الأصالة في حياتنا


[
الأهرام، 2007]

نتحدث كثيرا عن ضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهذا يعني أهمية التمسك بقيم التراث والإلمام بمعارف العصر الحديث. وقد يفهمها البعض على أنها الجمع بين الماضي والحاضر، أو بين القديم والجديد. وأريد هنا أن أتوقف قليلاً لكي أحلل مفهوم الأصالة، والعناصر التي يتألف منها بهدف محدد هو الإفادة من ذلك في طرق التربية ومناهج التعليم التي يتم بها إعداد الأجيال الجديدة في المجتمع.

وقد تأملت كثيرا في عناصر الأصالة فوجدتها ثلاثة هي اللغة، والدين والتاريخ. أما (اللغة) فهي الوعاء الذي يحمل تراث الآباء والأجداد وهي المدخل اللازم لهذا التراث بكل جوانبه العلمية والأدبية والثقافية. ومن المؤكد أنه بدون اللغة لن يستطيع الجيل الحالي أن يقف على صورة واضحة لما كان عليه أسلافه. ولعلنا جميعا نتذكر أن الحضارة المصرية القديمة ظلت صامتة ومغلقة في وجه المصريين أنفسهم، حتى تم حل رموزها على يد العالم الفرنسي شامبليون فعرفنا، وعرف العالم كله حقيقة هذه الحضارة، وكيف صنعها أصحابها، وماذا كانوا يهدفون من إنشائها. وهذا يعني أنه بدون اللغة لن يستطيع أحد فهم أحد آخر، حتى ولو كان من أقرب الناس إليه. وإذا كنا نعترف جميعا بأن اللغة العربية هي وعاء حضارتنا العربية والإسلامية فلا يمكن بالتالي فهم هذه الحضارة، واستمداد عناصر القوة منها بدون معرفة لغتها، بل وإتقانها لكي نقف على دقائقها وأسرارها.

وأما (الدين) فهو الأساس الذي يربط الإنسان بخالق الكون من ناحية، ويهذب علاقاته مع إخوته من ناحية أخري. ولا شك أن الدين يحتوي على طقوس وقيم وسلوكيات. وإذا كانت الأسرة تتولي تعليم الطفل وتدريبه على الطقوس فإن ثقافة المجتمع التي يستمدها من المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام المحترمة هي التي توسع مداركه لفهم قيم الدين واستيعاب تعاليمه السامية. لكن كلاً من الطقوس والقيم لابد أن تترجم في سلوكيات يتعامل بها الإنسان مع الآخرين، سواء من أتباع دينه أو من غيرهم. ومن أهم مزايا التمسك بالدين أنه يقوي الرابطة الروحية بين أفراد المجتمع، ويجمعهم على حزمة من الثوابت التي تعصمهم من الوقوع في الزلل، أو التردي في الانحلال.

وبالنسبة إلى (التاريخ) فإنني أقصد به هنا معناه الواسع الذي يشمل  الأحداث التي وقعت لأسلافنا في الماضي، إلى جانب منظومة العادات والتقاليد والأعراف التي استقرت في حياتهم، وانتقلت بالتالي إلينا، ومازالت تعيش في أعماقنا. ومن المعروف أن تاريخ الأمم هو صفحة أمجادها، ودفتر انكساراتها. وتأمل هذه الصفحة بكل ما فيها يمنحنا المزيد من الخبرة عن كيفية التعامل مع الأحداث الحاضرة بل والمستقبلية أيضا. وهو يمنحنا إلى جانب الثقة في أنفسنا القدرة على المقارنة والتوصل بسرعة إلى النتائج. وإذا أردت التأكد من ذلك حاول أن تتحدث مع شاب يعرف تاريخ بلاده، وبين شاب آخر لا يعرف عنه شيئا، أو يعرف شذرات من هنا وهناك. لا شك أنك سوف تجد الشاب العارف بالتاريخ أكثر ثباتا على الأرض، وأقدر على مواجهة الواقع، والتطلع إلى بناء المستقبل، بينما الآخر لا يكاد ينظر إلا إلى ما تحت قدميه، وهو يشبه الشجرة التي خلعت من أرضها التي نبتت فيها، ووضعت في تربة رخوة لا تكاد تمسك بجذورها.

أعود لما بدأت به، وهو الهدف من تقديم هذا العرض المبسط لعناصر الأصالة، راجيا أن توضع منظومتها في الاعتبار ونحن نقوم بتطوير مناهج التعليم، سواء في المرحلة الجامعية أو ما قبلها، تاركا لغيري أن يحددوا مفهوم المعاصرة، حتى تتكامل الرؤية، وتتضح مسيرة تنشئة الأجيال القادمة، على أساس الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

* * *


نظرية السماح بالتقدم


[
الأهرام، 2007]

لا يوجد في رأيي أفضل من هذا المكان لكي أعرض فيه بين يدي المفكرين والمثقفين نظرية بسيطة تهدف إلى تفسير ظاهرة عدم انطلاق النهضة في مصر والمنطقة العربية المحيطة بها بنفس معدلاتها في بعض البلاد الأخرى، التي تشابهت معها في الظروف، وبدأت معها في نفس الوقت، ويحلو للكثيرين المقارنة بها، والخروج من ذلك بأحكام تجلد الذات وتشيع اليأس. وأبدأ فأعترف بأن الذي أضاء لي جميع عناصر هذه النظرية إنما جاء من متابعتي أحوال بلدين كبيرين حدثت لهما انكساره هائلة أسقطتها تماما على الأرض في منتصف القرن العشرين ثم ما لبثت كل منهما أن نهضت، وتابعت مسيرتها، وتبوأت مكانتها المحترمة على المستوي الدولى، وهما اليابان وألمانيا. الأولي استسلمت بالكامل عقب إسقاط القنبلتين الذرتين عليها، والثانية نتيجة انتصار الحلفاء الساحق على جيوشها في الخارج والداخل. وقد كان من الممكن أن تُترك هاتان الدولتان لحظهما العاثر، أو لمحاولتهما الذاتية في النهوض، وهو الأمر الذي لم يكن من السهل أبدا أن يحدث، لولا أن تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية سيدة الموقف، بعد أن ساهمت جيوشها وإمكانياتها الضخمة في تحرير أوربا المتهالكة. وإذا كان مشروع مارشال الأمريكي هو الذي أنهض أوربا، بما فيها ألمانيا الغربية، من ورطتها، فإن الاستراتيجية الأمريكية أيضا هي التي سمحت لليابان بمعاودة النهوض، بعد أن ألغت نشاطها العسكري تماما وفتحت أمامها أبواب التقدم الاقتصادي فقط. لم تنهض ألمانيا واليابان إذن إلا بإذن أمريكي. والدليل على ذلك أن الشطر الشرقي من ألمانيا والذي كان عند توزيع الغنائم من نصيب الاتحاد السوفيتي قد تدهورت أحواله، و لم يستطع أن يجاري الشطر الغربي على الإطلاق (نفس الحال يمكن ملاحظته في حالة كوريا الجنوبية المسموح لها بالتقدم، والشمالية المحرومة من ذلك).

تلك حقائق تعد من التاريخ الحديث والمعاصر لا يمكن تجاهلها، أو تعدد وجهات النظر حولها. وبالتالي فإنها تصلح أساسا لتفسير (نظرية السماح بالتقدم) حين نقوم بتطبيقها على مصر بالذات، والمنطقة العربية بوجه عام. والذي يمكن أن نستعرضه ببساطة أن ما نسميه بالعالم العربي يأتي من حيث المكان في موقع الجار الأقرب لأوربا. وعندما حاول محمد على توسيع مشروعه النهضوى خارج حدود مصر، وبالذات في اتجاه الشمال الشرقي وجد معارضة شرسة من الدول الأوربية، التي اعتبرت، رغم اختلافاتها الحادة فيما بينها، أنه يمثل تهديدا خطرا عليها، وكانت النتيجة هي التكتل لضربه، وتحجيم مشروعه كما تصرح بذلك بنود معاهدة لندن سنة 1840. والواقع أنه منذ هذا التاريخ، وعين أوربا، الجار الأقرب، على كل مشاريع النهضة في مصر: تقوم بإيقافها، وإذا لم تستطع طبقت عليها ما أصبح يعرف حاليا بالعقوبات الذكية، التي لا تكاد تخرج عما كان يطلق عليه  في الستينيات مصطلح الحصار الاقتصادي. ولعلنا نذكر جميعا موقف الغرب عموما من تمويل مشروع السد العالي وامتناعه عن مساعدة مصر حينئذ، رغم الفوائد التي كانت ستعود منه على المجتمع المصري كله، وقد أثبتت الأعوام صحتها وصدقها.

ومنذ منتصف الخمسينات، وبالتحديد منذ عام 1956 أصبحت الولايات المتحدة هي الوريث الأكبر لكل الدول الأوربية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، بل إنها أصبحت هي المتحدث الرسمي باسم الغرب. وقد تكرر إعلان رؤسائها المتعاقبين، سواء كانوا من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، عن دعمهم الكامل واللامحدود لإسرائيل، كما أعلنوا ضمان تفوقها على جميع الدول العربية من حيث التسليح والتحديث. وكان هذا يعني ببساطة (عدم السماح) بانطلاق مشاريع التحديث المصرية العربية، وفرملتها ما أمكن قبل الانطلاق أو بعده. أما كيف يحدث ذلك؟ هناك العديد من الوسائل الظاهرة والخفية، المعلنة والمسكوت عنها، والتي مازال البعض منا يمسك بواحدة منها هنا، وواحدة هناك. لكنها كلها تصب في اتجاه واحد هو إبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة. وفي أثناء تلك الفترة يمكن للعالم كله أن يتقدم، بينما تبقي مصر ومنطقتها العربية غارقة في مشكلات مستعصية، ودوائر مفرغة، تبعا لتطبيق نظرية عدم السماح بالتقدم، والتي ينفذها الغرب بكل دقة!

* * *


عندما فكرت


في إنشاء حزب سياسي


[ لم ينشر من قبل .. ]

تأملت كثيرا في أحوال أحزابنا السياسية الحاضرة، فوجدتها جميعا- من خلال برامجها- (تكاد تتفق) على مجموعة من المبادئ العظيمة التي يوافق عليها جميع المصريين، مثل النهوض بمصر سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ومثل مكافحة البطالة، وتشجيع الاستثمار، وفتح الفرص (هكذا) أمام الشباب، وبالطبع كلها تجمع على تحقيق الأمن القومي، والأمان للمواطنين، والاستقرار للمجتمع، مع جعل السلام خيارا استراتيجيا، والانفتاح على كل دول العالم، وتقوية أواصر المجتمع المصري بمحيطه العربي، ودائرته الإفريقية، وروابطه الدينية بالعالم الإسلامي، كما إنني وجدت هذه الأحزاب بدون استثناء تؤكد على ضرورة تطبيق حقوق الإنسان، وتشجيع حركات المجتمع المدني، واحترام الحريات، والعمل بالديمقراطية، والحرص على الوحدة الوطنية وأخيرا: الحفاظ على البيئة.

والمهم أنني عندما حاولت أن أتلمس بعض الفروق التي تميز حزبا سياسيا عن آخر لم أجد سوى تفاصيل بسيطة جدا، بل إن هناك من الأحزاب ما يكاد يتفق تماما مع بعض الأحزاب الأخرى- لو قمنا فقط بإعادته ترتيب المواد التي يذكرها في برنامجه! والأدهى من ذلك أن هناك من الأحزاب ما يكاد يشمل ويستوعب كل المبادئ الموجودة في برامج الأحزاب الأخرى، بحيث لو أن واحدا منها قام يدعو لبرنامجه فسوف يقول له هذا الحزب المستوعب: وماذا جئت بجديد؟ أنا لدي كل ما تقول وأكثر منه؟!

ونظرا لأنني- من حيث الواقع- لا أكاد أرى أي تأثير في الشارع المصري لأي من أحزابنا السياسية، فقد (تفتق ذهني) عن فكرة إنشاء حزب سياسي جديد، وقلت لنفسي: لماذا لا أقدم إضافة حقيقية لأحزابنا السياسية غير العاملة على الساحة الواقعية؟ لكنني نصحت من بعض المخلصين بأن أقوم- قبل إنشاء هذا الحزب الجديد- بدراسة برامج ولوائح الأحزاب السياسية الموجودة حاليا، لكي لا يخرج (حزبي الجديد) صورة مكررة منها أو من أحدها.. وبالفعل عكفت على هذا العمل لعدة شهور، تعبت فيها جدا، بسبب عدم توافر برامج الأحزاب في كتب أو مراجع موحدة (وأنا هنا أدعو مكتبة الأسرة أن تقوم بهذا العمل) وقد كلفني البحث عن كل منها منفردة مجهودا كبيرا، وأخيرا تمّ المراد وجمعتها، ورحت أرتبها حسب سنوات صدورها أو الموافقة على إعلانها.. وعندما بدأت برصد جوانب الاتفاق والاختلاف خرجت بالنتيجة التالية: وهي أنه لا يكاد يوجد اختلاف وإنما هناك شبه اتفاق على المبادئ التي سبق أن أشرت إليها، وساعتها تساءلت: لماذا إذن تمت الموافقة على هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية مادامت متشابهة بهذا الشكل؟ وطبعا لا توجد إجابة على هذا السؤال إلا لدى (لجنة شئون الأحزاب التابعة لمجلس الشورى) ونحن نعرف جميعا أن رئيس هذه اللجنة هو السيد رئيس مجلس الشورى، والأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي.

وهنا وقفت حائرا: كيف يقوم أمين أحد الأحزاب السياسية في مصر- على الرغم من أنه أكبر الأحزاب- برئاسة لجنة تتحكم في قيام أو منع الأحزاب السياسية الأخرى؟ لكنني عدت فاستدركت بأنه لكي تقوم تلك اللجنة بعملها على خير وجه لابد أن تتحلى بأكبر قدر من الموضوعية، لأنها تحكم على متنافسين معها في نفس المجال، وربما يكون هذا ممكنا.

ومع ذلك فقد كان البحث الطويل في برامج الأحزاب ولوائحها، ومقارنتها بعضها ببعض، مع مقارنتها بالواقع العملي الذي يهم حياة الناس اليومية- أمرا مرهقا للغاية، جعلني في نهاية الأمر أتخلى عن فكرة إنشاء حزب سياسي جديد، لأن الأحزاب المعترف بها حاليا فيها الكفاية من الناحية النظرية أو اللائحية، أما التطبيق العملي فهو متروك للتاريخ، وتعليقات المواطن المصري التي تتحول مع مرور الزمن إلى حكم وأمثال شعبية!!

* * *


المرأة المصرية والسياسة


(
التشخيص والحل)


[الأهرام، 2008]

تاريخ طويل لا يسهل تجاهله مر على ابتعاد أو إبعاد المرأة المصرية عن السياسة. وعلي الرغم من أن الفراعنة كانوا يحرصون على أن تصحبهم زوجاتهم في جلسات الحكم، كما تظهر ذلك تماثيلهم، فإن القرون التالية أبعدت المرأة المصرية تماما عن الاشتغال بالشئون العامة، وفي مقدمتها السياسة. وكيف تشتغل المرأة المصرية بالسياسة وقد تم حرمانها من حق التعليم فضلاً عن حق العمل الذي كان حكرا على الرجال. ومع أن الإسلام الذي انتشر بين غالبية الشعب المصري لا يمنع تعليم المرأة ولا عملها، بل ويعتبرها شريكا فاعلاً في نظام الأسرة وحركة المجتمع، إلا أن العادات والتقاليد هي التي تغلبت فأبقت المرأة بعيدا عن دائرة الضوء، وإن كانت الأحوال قد أجبرت الرجل المصري على السماح لزوجته وأخته وابنته في الريف بالعمل معه، حتى وصل الأمر إلى أن يصبح مجموع الأعمال التي تقوم بها المرأة الريفية تفوق ما يقوم به الرجل!وحين أنشئت في القاهرة أول مدرسة للبنات كانت حدثا غريبا أثار الكثير من الجدل والتحفظات في مطلع القرن العشرين. كذلك كان الحال حين التحقت خمس بنات للجامعة المصرية في عام 1925. لكن التطور الاجتماعي استمر في الصعود، وكان لزيادة الاحتكاك بالغرب أثره الكبير في فتح العديد من النوافذ والأبواب أمام المرأة المصرية. وجاءت ثورة يوليو 1952 فأعطت المرأة الكثير من حقوقها، وعينتها في منصب وزيرة، وهو الأمر الذي أسكت الخلافات الجدلية حول جدارة المرأة المصرية وكفاءتها التي لا تقل عن الرجل في المقدار ولا في النوع.

وفي زمن العولمة الذي نعيشه حاليا، راحت الضغوط الخارجية تدعو إلى مزيد من مشاركة المرأة في الحياة العامة، وحاولت الدولة الاستجابة فقامت بالتوسع قدر الإمكان في تعيين المرأة المصرية في مختلف المناصب، كما راحت تشجعها على المشاركة السياسية التي تمثل أعلي مستويات العمل العام، لكن لوحظ ضعف إقبال المرأة وعدم نجاحها بالصورة التي تجعلها نموذجا لغيرها. هذا هو الموقف الحالي، أو المأزق الحالي. والواقع أن أحدا لا يريد أن يسأل عن السبب؟ لذلك فإنني أجازف بمحاولة الكشف عنه من وجهة نظري. وهو يتمثل في أن الدولة ركزت في إلقاء الضوء على مجموعة من النساء المصريات اللاتي تتبوأن مناصب وظيفية، وحاولت دفعهن دفعا إلى العمل السياسي، الذي يتطلب مواصفات مختلفة تماما عن المؤهلات الوظيفية التي تحتلها المرأة. ومن خلال ملاحظتي المستمرة لهذا الموضوع أستطيع أن أقول إن كثيرا من السيدات (الموظفات) أو (الجامعيات) اللاتي دفع بهن إلى العمل السياسي قد فشلن، أو على الأقل لم تظهر عليهن علامات النجابة المتوقعة في هذا المجال (وهذا واضح جدا في مجلسي الشعب والشورى). وأخيرا ما الحل؟ في رأيي أن يتاح العمل السياسي لكل فتاة أو امرأة مصرية لديها (موهبة العمل العام) وليس بالضرورة أن تكون موظفة أو جامعية، ولنبدأ من المرأة التي تستطيع أن تعمل جمعية لجاراتها .. حتى المرأة التي تشارك بفاعلية في منظمات حقوق الإنسان.

* * *


عائد من الصين


[
الأهرام، 2007]

مجموعة من الملاحظات تجمعت عندي بعد زيارة للصين استغرقت أكثر من عشرة أيام، قضيت معظمها في العاصمة بكين، وبعضها في المدينة الصناعية والتجارية المزدهرة شنغهاي.

وأولي تلك الملاحظات أن الصين قد وضعت أقدامها بثبات على طريق التقدم، وراحت تخطو فوقه بخطوات طويلة ومسرعة. يظهر ذلك من حالة العمران الواسعة التي راحت تنتشر في معظم أنحاء مدينة بكين سواء على مستوي المنشآت الحكومية أو الصناعية والتجارية أو على مستوي مساكن المواطنين. وكلاهما أقيم بطراز معماري بالغ الروعة والأناقة، ويضم العديد من الأبراج العالية التي تستوعب آلاف الأسر، وتقضي على  أي أزمة إسكان.

والملاحظة الثانية: أن سوق العمل المزدهر يستوعب أعدادا هائلة من الشباب، الذين يبذلون أقصي جهودهم من أجل المزيد من الإنتاج، وتنويع مجالاته، ودقة مصنوعاته. أما سن المعاش للرجال فهو ستون عاما، وللنساء خمس وخمسون. ومن أطرف ما سمعت أن الموظف يمكن أن يتقاعد مبكرا ويترك مكانه لابنه إذا كان متخصصا في مجال عمله.

الملاحظة الثالثة: أن الصين التي يبلغ عدد سكانها مليارا وثلاثمائة مليون نسمة تدفع جميع أبنائها وبناتها إلى العمل، الذي يبدأ في المدن من الساعة الثامنة صباحا ويستمر حتى الخامسة يتوسطه ساعة للغداء في الساعة الثانية عشرة ظهرا. وبعد العمل ينتشر الصينيون في المطاعم ليجلسوا يتحدثون ويتضاحكون وهم يأكلون لمدة ساعة أو أكثر. الأكل عندهم كما يقولون ثقافة، وليس مجرد التهام طعام!

الملاحظة  الرابعة: أن التخطيط الجيد للمشروعات يأخذ وقته ويجري بدون استعجال، وقد حدثني نائب رئيس أكاديمية العلوم الاجتماعية في شنغهاي أنهم قد يستمرون في دراسة مشروع لمدة عشر سنوات قبل أن يبدأ تنفيذه. لكنهم عندما ينفذونه فإنهم ينجزونه بأسرع ما يمكن. أضخم برج لديهم لا يزيد وقت تشييده عن 24 شهرا.

الملاحظة الخامسة: أن نظام التعليم عندهم يحقق الفوائد المرجوة منه، فهو يعد التلاميذ والطلاب للعمل في مختلف مجالات التنمية التي تحتاجها البلاد. والتعليم إلزامي ومجاني حتى الخامسة عشرة أي الإعدادية، وبعده ينقسم إلى تعليم فني بمصروفات أعلى، وتعليم ثانوي بمصروفات أقل. وهذا الأخير يمهد لدخول الجامعات، أما الالتحاق بالكلية المرغوبة فلا يتم إلا بعد اجتياز امتحان مسابقة. ولها كتب يمكن الاستعانة بها على النجاح. وكل الجامعات الحكومية بمصروفات، قد تصل أحيانا إلى ما يعادل ألف وخمسمائة دولار في العام. كذلك الدراسات العليا مكلفة جدا. وكل هذا قد تم إقراره بسهولة وحسم. فالتعليم لكي يكون جيدا لابد له من إمكانيات مادية وبشرية مناسبة. وهذه لا تتوافر إلا من خلال تمويل كاف ومنتظم.

الملاحظة السادسة: أن حضارة الصين القديمة مازالت ماثلة في حياتها الحديثة والمعاصرة. فلم يحدث انقطاع كما حدث لدينا في مصر، حيث انقطعت الأواصر تماما بحضارتنا القديمة. أما الصين فيمكنك أن تجد الهدايا التي يتبادلها الناس ترجع عناصرها وأشكالها لثلاثة آلاف سنة، وأن هذه الأكلة أو تلك كان يتناولها الصينيون قبل ألف عام. والمهم أن هذا التراث القديم يتداخل مع بعض عناصر الحياة الغربية الحديثة التي لا يوجد حولها أي اعتراض من الشعب الصيني.

الملاحظة السابعة: أن مصر والصين معا لم يطورا حتى الآن وسيلة طيران سهلة، ويمكنها أن تختصر المسافة الزمنية إلى أقل مما هو موجود حاليا. فقد اضطررت لكي أصل إلى بكين أن أستقل ثلاثة طائرات تستغرق خمسة عشرة ساعة، وما يوجد في كل مطار من انتظار وطوابير وتفتيش وإجراءات أمنية. يعني الرحلة تستغرق يومين، يخلوان تماما من ليلة كاملة تضيع في فروق التوقيت بين البلدين.

الملاحظة الثامنة: أن سفارة مصر في بكين لا يوجد بها مستشار تعليمي وثقافي، بينما يوجد هذا المنصب في كل من اليمن وليبيا، مع أن العلاقات الثقافية مع الصين تتطلب قنوات كثيرة وفعالة لتدعيمها خاصة وأن الصينيين جميعا يحبون مصر كحضارة قديمة، ويقدرون دورها في المنطقة العربية، وكنافذة مفتوحة على القارة الأفريقية كلها.

الملاحظة التاسعة: أن تجربة الصين في التنمية نموذج جيد يمكن محاكاته في مصر، وخاصة في مجالات العمل، والشباب، والإسكان، وتنمية الريف. وقد آن الأوان في رأيي لنستفيد من التجربة الصينية بعد ذلك الوقت الطويل الذي قضيناه في محاولة الاستفادة من النموذج الأوربي أو الأمريكي، والذي لم ينجح حتى الآن عندنا!

الملاحظة العاشرة: أن الوقت قد حان بالفعل لكي نأخذ معلوماتنا عن الصين من الصين مباشرة، وليس عن طريق وسيط آخر هو الغرب. وهنا يبرز دور وسائل الإعلام التي يمكنها أن تنقل للشعب المصري مظاهر التقدم  والنهضة الحضارية الحديثة التي تشمل الصين كلها([1])، سواء في المدن أو في الريف الذي يضم وحده ثمانمائة مليون نسمة، ومع ذلك استطاع أن يحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب!

* * *


إعلامنا والحضارة المصرية


[
آخر ساعة، 2007]

في مكتبة الإسكندرية، يعرضون مجسما طبق الأصل لحجر رشيد، الذي تمكن العبقري الفرنسي شامبليون من حل رموزه سنة 1822 ونجح بذلك في إدخال العالم كله من باب اللغة إلى قراءة الحضارة المصرية القديمة، بعد أن كانت آثارها مجرد شواهد عملاقة لا نعرف تماما كيف بناها أصحابها؟ ولا فيم كانوا يفكرون؟ ولا بم كانوا يشعرون؟ أو إلى ماذا كانوا يتطلعون؟

وفي حديث علمي ممتع مع العالم الكبير الدكتور محمد صالح، المشرف على الآثار بمتحف مصر المزمع إنشاؤه بمنطقة الهرم، حدثني ببساطة عن كيفية حل شامبليون لرموز حجر رشيد فقال: إن هذا الحجر مكتوب عليه ثلاثة نصوص تتحدث كلها عن موضوع واحد. النص الموجود في الأعلى مكتوب بالهيروغليفية (وهي الكتابة التصويرية التي كانوا ينقشونها على جدران المعابد) والنص الأوسط مكتوب بالديموطيقية (وهي لغة الحياة اليومية، وكانت تكتب بخط سريع ومختصر) أما النص الثالث فهو مكتوب باليونانية (وهي لغة الحكام الإغريق الذين احتلوا مصر منذ عهد الإسكندر الأكبر) وقد بدأ شامبليون عمله ابتداء من هذا النص الأخير، بسبب معرفته باللغة اليونانية. ومن خلال أسماء بعض الملوك والملكات مثل كليوباترة وبطليموس وبيرينقى المكتوبة باليونانية استطاع أن يعثر على مقابلها في النصين الأخيرين ثم راح يرتب الحروف ويقارنها ويضع لنفسه أبجدية استطاع بعدها أن يتعرف على علامات اللغة المصرية القديمة، أو أن يحل شفرتها بالتعبير الحديث. ومنذ تلك اللحظة اتضح أمام العالم كله ذلك الكنز الذي كان مختبئا في أعماق التاريخ، واكتشف الناس أن المصريين لم يرفعوا على أرضهم تلك الأهرامات، ولم يشيدوا تلك المعابد إلا في إطار فلسفة إنسانية وكونية كبري، شملت أخلاقيات العالم الدنيوي، ومصير الإنسان في العالم الآخر. ثم توالي اهتمام العالم كله باكتشافات الآثار المصرية المخبوءة واحدا وراء الآخر، وحينما تعرضت آثار النوبة للخطر بسبب بناء السد العالى، أسرعت كل دول العالم من خلال منظمة اليونسكو لتساهم في نقلها، وإعادة تركيبها مرة أخري. ولا يكاد يخلو منهج للتاريخ في كل مدارس دول العالم من فصل تمهيدي عن الحضارة المصرية القديمة، ومآثر ملوكها الكبار من أمثال تحتمس ورمسيس وخوفو وملكاتها الشهيرات من أمثال حتشبسوت ونفرتيتي وكليوباترة.

وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة تحتل تلك المكانة المتميزة، فإن ذلك يلقي على المصريين المعاصرين مسئولية كبري من أجل الحفاظ عليها، ورعايتها، وإلقاء الضوء الكاشف على قيمتها التاريخية، وقيمها الإنسانية. ومازال يدهشني الإعلام المصري في قلة أو ضعف اهتمامه الكافي بتلك الحضارة، مع أن الوسائل التقنية الحديثة كفيلة بإظهار جوانبها المختلفة بصورة مبهرة. ويكفي التوقف قليلاً عند حجر رشيد الذي تحدثت عنه الآن. هل قام أحد العلماء حتى الآن بعرض حي في التلفزيون لنصوص هذا الحجر وكيفية حل شامبليون الفرنسي لرموزه، والتعرف على صور وحروف اللغة المصرية القديمة. إن هذا العمل في حد ذاته يمكنه أن يضع الشباب وجها لوجه أمام صورة مشرفة من حضارتهم، وهو الأمر الذي يزودهم بالاعتزاز بها، والانتماء إليها. ونفس الشيء يمكن أن يحدث بالنسبة للقناع الذهبي لتوت عنخ آمون، والصور والرسوم الملونة على جدران مقبرة حتشبسوت.. أيها الإعلام المصري، ما أكثر المسئوليات الملقاة على عاتقك!! فهل آن الأوان لكي تنطلق؟ !


رجال الأعمال والإعلام

[
الأخبار، 21/7/2009]

من حق رجال الأعمال أن يكونوا من نجوم المجتمع. والنجومية تستتبع بالضرورة أن يتابع الإعلام أخبارهم، ويرصد نجاحاتهم كما يتوقف أيضا عند انتكاساتهم ومغامراتهم. وفي ظل النظام الرأسمالي الذي ساد معظم بلاد العالم منذ أكثر من مائتي عام استطاع رجال الأعمال الذين هم أساسا أعمدة هذا النظام أن يرسخوا مكانتهم في المجتمع بهدف أن يحصلوا منه على أكبر قدر من المكاسب، لكنهم في الدول الرأسمالية العتيدة ظلوا ملاحقين بطرفين: النقابات التي تطالبهم على نحو متواصل بحقوق العمال، والحكومة التي تتابع أعمالهم، وتدخل عند الضرورة لردع المعتدي منهم والمحتال. وكانت النتيجة أن النظام الرأسمالي راح يطهر نفسه بنفسه ويعالج أمراضه أولا بأول، وهذا هو السبب الذي جعله يستمر طول تلك السنوات بينما أسرع الانهيار إلى منافسه الآخر، النظام الاشتراكي في غضون سبعين سنة فقط!

لكن رجال الأعمال كما نعلم أذكياء جدا، وتوافر المال بين أيديهم جعلهم يوظفون ذكاءهم في الدفاع عن أنفسهم، ولذلك منذ ظهر الإعلام الحديث بوسائله المتعددة أدركوا على الفور أنه من الممكن أن يكون سلاحا يشهر في وجوههم ويحطم بالتالي سمعتهم التي يحصدون بسببها أرباحهم، وكان قرارهم الذكي أن يروضوا بعض وسائل الإعلام، لكي تكون أبواقا تشيد بفضائلهم، وتسكت بالتالي عن عيوبهم ونقائصهم. ومن المقرر أن الإعلاميين فيهم بعض من يمكن شراء ذمته بسهولة، وفيهم أيضا من لا يتنازل عن كشف الحقيقة حتى ولو تم ذلك على جثته.. وأمثال هؤلاء لا تجدي معهم نصيحة مستترة، كما لا ينفع معهم ظرف مغلق على رزمة دولارات، ولذلك اتجه فكر رجال الأعمال في الدول الرأسمالية إلى شراء وأحيانا إنشاء المؤسسات إعلامية بكاملها، ومعنى ذلك أن تعمل المؤسسة الإعلامية كلها بتمويل مباشر من صاحبها، الذي هو في نفس الوقت إما صاحب مؤسسة اقتصادية، أو بنك أو شركة، الخ، وهكذا انفلت رجال الأعمال من خطورة الإعلام الذي كان من الممكن أن يسيء إليهم بتحريض النقابات على الاحتجاج، أو بدفع الحكومة إلى مزيد من التفتيش والتدقيق في الدفاتر! وفي تصوري أن هذا التواطؤ الذي تم بين رجال الأعمال والإعلام لابد أن يؤخذ في الاعتبار عند بحث أسباب الأزمة المالية ثم الاقتصادية التي ضربت العالم كله مؤخرا بدءا من عرين الرأسمالية في أمريكا ثم الدول الأوروبية والآسيوية.

إن ملكية رجال الأعمال للمؤسسات الإعلامية، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، هو المخرج الميكيافيللي للسكوت عن التقصير، والتحايل، والفساد الذي يتم أحيانا في بعض الكيانات الاقتصادية الكبرى والتي تخيفنا عادة بأنها عالية وتتجاوز حدود القارات. وبالطبع لم يقتصر دور الإعلام المتواطئ هنا على السكوت عن الفساد، بل راح يبرره، ويجمله، ويخرجه للمجتمعات بصورة جذابة ومبهرة. استحضر فقط عندما يرجون لسيارة جديدة كيف يحضرون بعض الفتيات الجميلات وشبه العاريات ليجذبوا أنظار الجمهور إليها! ونفس الحال عندما يستعين بالفنانين المحبوبين للترويج لسلعة غذائية مثل حبة البطاطس التي يحولونها إلى شرائح في أكياس ملونة، ثم يبيعونها للناس بأضعاف ثمنها الحقيقي، مع ضررها البالغ على الصحة! طبعا سيقال هنا إن الأمر يتعلق بالإعلانات، ولكن من يستطيع اليوم أن يفصل بين الإعلام والإعلان، وكل منهما يتغذى من الآخر، ويعيش عليه! وفي الختام أتوجه بسؤال خاص لأي صاحب مؤسسة إعلامية يملكها رجال أعمال: هل ضميرك مرتاح تماما- من الناحية المهنية- من العمل دون ضغوط أو على الأقل دون اعتبارات مهنية وامتنان ومجاملة.. لصاحب المؤسسة؟! ثم هل تستطيع أن تنقذه، أو حتى تقترب منه أو تلوح له بأي قدر من الحساب أو المساءلة الاعلامية ؟!

* * *



المدن الجديدة والعاصمة


[
المساء، 2007]

كان تصورا خاطئا للغاية فصل المدن الجديدة التي أقيمت شمال وغرب وجنوب العاصمة، على أمل أن تستقل هذه المدن بنفسها، ولا تصبح عبئا على العاصمة الأم. وبناء على ذلك، لم تمتد إليها خطوط المترو ولا الترام، واقتصر الأمر على سفلتة الطرق المؤدية إليها من أجل استخدام السيارات الخاصة وبعض خطوط النقل العام.

ويرجع خطأ هذا التصور إلى أن المسئولين عنه قد ظنوا أو حسبوا أو قدروا أن كل مدينة من تلك المدن الجديدة سوف يكون فيها مدرسة ومستشفي وبنك ومكتب بريد.. وهذه الخدمات كافية لجعل أهلها يكفون خيرهم شرهم، أو شرهم خيرهم، ولا يصدعون العاصمة الجليلة بمشكلاتهم. وقد نسي هؤلاء المسئولون أن فرص العمل غير متوافرة في تلك المدن إلا لموظفي وعمال الخدمات وحدهم، أما باقي السكان فهم من كبار موظفي الدولة وأصحاب المشروعات والمحلات والبوتيكات الموجودة أساسا في العاصمة، وأن على هؤلاء يوميا الانتقال إلى العاصمة والعودة منها، ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة أمامهم لم تخرج عن السيارات الخاصة أما وسائل النقل العام القليلة والنادرة فلم تكن إلا من نصيب موظفي وعمال الخدمات هناك. وبالطبع انعكس ذلك على تلك المدن الجديدة والتي أصبحت منعزلة وكئيبة نظرا لبعدها عن العاصمة المتلألئة في المساء، وأصبح الطريق إليها يستغرق نصف ساعة في الفضاء الموحش والممتد والذي يخلو من أي حياة.. صحيح أن الهواء في تلك المدن أكثر نقاء من هواء العاصمة، والضجيج هناك أقل بكثير من معدلاته فيها، والحركة في الشوارع تكاد تكون معدومة إلا أن غياب الربط الحقيقي بين هذه المدن المسكينة والمتوحدة وبين العاصمة عن طريق مترو أو ترام سريع جعلها مدنا صحراوية وعندما يحل فيها المساء تكاد تصبح مدنا خاوية على عروشها. لقد كانت ضاحية مصر الجديدة في الماضي هي نموذج المدينة الجديدة المتكاملة، لكن ربطها بالعاصمة عن طريق المترو جعلها تصبح جزءا لا يتجزأ من العاصمة مع احتفاظها بخصوصيتها كضاحية متميزة. وكذلك ضاحية حلوان، التي كان المترو منذ البداية همزة الوصل القوية بينها وبين مركز العاصمة.. أما تلك المدن الجديدة والمسكينة التي أنشئت أخيرا فقد ظلت بعيدة ومنفصلة وهامدة، لأنها فقدت صلتها المباشرة مع العاصمة.. عن طريق المترو.

* * *



الإصلاح بواسطة المقارنة


[
المساء، 2007]

الإنسان العاقل هو الذي ينظم حياته تبعا للظروف التي تحيط به من قرب، دون أن يغفل الظروف التي يمر بها العالم من حوله. وإذا كانت قضايانا الداخلية لها الأولوية في الاهتمام والمواجهة وضرورة إيجاد حلول يومية لها، فإن القضايا العالمية التي قد يحسبها الناس في بلد ما بعيدة عنهم لا تلبث أن تلقي بظلالها عليهم، بل وأن تمتد أصابعها وأظافرها إليهم. وإذا أردنا القيام بمحاولة جريئة لكي نرصد فيها أحوال العالم في تلك اللحظة التي نعيشها اليوم فمن الممكن أن نقول إن العالم الحالي أصبح يدور في فلك اهتمامات ومشاكل قطبه الأوحد، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فالذي يشغل بالها ويؤرق مضجعها أصبح هو نفسه الذي يتصدر أولويات العالم من الاهتمام والأرق. وأهم ما يؤرق أمريكا اليوم هو كيفية نجاحها في الانتصار على الإرهاب الذي بدأت ضده حمله (مقدسة) منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وخاضت في سبيل ذلك حربين إحداهما في أفغانستان والثانية في العراق. ولولا (الملامة) لدخلت حروبا أخري في كل من كوريا الشمالية وإيران وسوريا واشتبكت مع حزب الله في جنوب لبنان. وعلي الرغم من أنني سبق أن نشرت في هذا المكان أن الإرهاب يتطلب (مكافحة) وليس (محاربة)، ولكل منهما أسلوب مختلف، فإن أمريكا مازالت ترسل بجنود ودبابات وطائرات وتطلق صواريخ وتخلف خرائب وضحايا وتتحمل قتلي وجرحي دون أن تحقق واحدا في المائة من النصر المأمول. أما الاتحاد الأوربي بكل دوله ومجتمعاته فإنه يدرك جيدا أن ما تفعله أمريكا يجانب الصواب، لكن المسكين مضطر إلى القبول والمسايرة وعدم الخروج على أصول الاعتراف بالجميل الذي أسدته أمريكا لأوربا كلها أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية حين أنقذتها من غزو هتلر الكاسح لبلادها. وأما على الجانب الشرقي، فإن التنمية هي شعار تلك المجتمعات الناهضة بقوة وكفاءة لتحتل مكانها تحت الشمس. اليابان والصين والهند وباكستان وماليزيا وكوريا.. في ذلك الجانب الآخر من العالم لا يوجد جدل وإنما يوجد عمل. ولا يوجد حقد متراكم وكراهية عمياء وإنما حرص على الإجادة في كل شيء. يبقي بعد ذلك كل من إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية وهذه المناطق الثلاث مازالت تعاني من مشكلاتها المزمنة التي تركها لها الاستعمار الغربي، وكذلك من محاولة النهوض المتعثر لكي تلحق بركب التقدم، ولكن هيهات!فالعالم المتقدم هو الذي يضع قواعد اللعبة حاليا (معاهدة الجات، ومنظمة التجارة العالمية)، كما أنه هو الذي يملي شروطه على كافة البلاد الأخرى في السياسة والاقتصاد وحتى في الدفاع والتسليح، ثم بصفة خاصة في عدم السماح بالدخول معه إلى نوادي التكنولوجيا المتطورة. ولأن العالم لا يمكن أن يعيش على العمل والكآبة وحدهما فقد أوجد مجموعة مسليات أوسعها انتشارا الفن والرياضة وأقلها المؤتمرات ومنظمات المجتمع المدني. ويبقي أمر يدعو إلى التفاؤل، وهو أن قانون التغير أقوي من قانون الثبات، وأن الذي يوجد في القمة اليوم قد يصبح غدا في السفح. لكن هذا لا يعني أن المريض يتوقع الشفاء بدون علاج، والفقير ينتظر السماء لكي تمطره بالذهب والفضة! وإنما لابد من الأخذ بالأسباب، والمثابرة من أجل الحصول على وصفة التقدم، ثم العمل الجاد القائم أساسا على التنمية الذاتية مع مد الجسور مع كل دول العالم للاستفادة مما يمكن أن تقدمه.. حتى ولو كان مجرد نصيحة !



ثلاثة مصطلحات خادعة


[
المساء، 2007]

المصطلح هو اللفظ الذي يطلق على ظاهرة أو معني ويكون موضع اتفاق من المجتمع كله، أو من أصحاب مهنة معينة. وهو لا يكتسب تلك المكانة إلا بعد الاستخدام المستمر، وبعد أن يكون قد تمت صياغته على أساس لغوي دقيق. ومن أهم المصطلحات التي أجمع عليها الناس في كل العصور والأماكن مصطلحا: (غني وفقير). ومعلوم أن خصائص كل واحد منهما معروفة للجميع. فالغني هو الشخص الذي يستغني بماله عن الحاجة لغيره، بينما الفقير على العكس منه، هو الذي لا يملك شيئا، ويكون عادة بحاجة إلى عون الآخرين. وقد شاع في وسائل الإعلام عندنا إطلاق مصطلح (محدود الدخل) على الفقير. وهو مصطلح غير دقيق ولا صادق. لأن محدود الدخل هو الشخص الذي لديه دخل لكنه محدود، في حين أن الفقير يكون أحيانا بلا دخل على الإطلاق. وبذلك فإن الفقير يشمل من لا دخل له، وكذلك محدود الدخل، والابتعاد عن استخدامه يعني إسقاط شريحة من المجتمع، وما يترتب عليه من إهدار حقوقها المشروعة!

أما المصطلح الثاني الذي لا يعبر تماما عن مضمونه فهو إطلاق لفظ (مستشار) على القاضي. ولست أدري من هو العبقري الذي اخترع ذلك، وتبعه بعض الناس في ذلك. لأن كلمة مستشار كلمة عامة يمكن أن تشمل من لديه خبرة في أي أمر من أمور الحياة، سواء كان في السياسة أو الرياضة أو الفن.. أو حتى في السيارات!أما كلمة قاضي فإنها مصطلح خاص بذلك الشخص الذي يمسك في يده بميزان العدل، ويحكم بين الخصمين تبعا للقانون، وتكون أحكامه واجبة النفاذ. لذلك ينبغي العودة بسرعة إلى استخدام هذا المصطلح المحترم جدا، وترك كلمة مستشار للمعني أو للمعاني المرادة منها.

وهناك مصطلح ثالث شاع في الأوساط الجامعية، ولا يكاد يوجد له مع الأسف أي معني وهو (أستاذ غير متفرغ) الذي يطلق على كبار الأساتذة من الذين تجاوزوا سن السبعين. ومن المعروف أن هناك ثلاث فئات من الأساتذة: الأستاذ العامل وهو من يمارس التدريس في الجامعة حتى سن الستين، ثم الأستاذ المتفرغ الذي يبدأ من الستين حتى السبعين ومن حقه أن يقوم بالتدريس لكن لا يحق له تولي أي مناصب إدارية بالجامعة، ثم يأتي بعد ذلك الأستاذ غير المتفرغ وهو صاحب ذلك المصطلح الغامض الذي يعني العكس تماما من مضمونه. فمعني غير متفرغ أنه مشغول. والواقع أن الأستاذ الذي تجاوز السبعين ليس مشغولاً على الإطلاق بل هو نتاج خبرة ينبغي أن يستفاد منه حتى نهاية العمر. فمن هو العبقري الذي صك هذا المصطلح الفارغ من المعني؟

* * *



الفضائيات الموجهة إلينا


[
الوفد، 10/2/2008]

هل تعرف عدد القنوات التي أصبحت ناطقة بالعربية، وموجهة أساسا من دول أجنبية للمواطن العربي؟ إنها حسب علمي حتى الآن أربع قنوات (الحرة الأمريكية، BBC البريطانية، TV الفرنسية، وروسيا اليوم الروسية)، يعني لم يبق إلا الصين من بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، صاحبة حق الفيتو اللعين، هي التي لم تنشئ قناة موجهة بالعربية لنا، وأظن أنها لن تتأخر كثيرا([2])، لكن هذا يعني ببساطة أن الأمر محصور حتى الآن في الدول الأربع الكبرى (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، روسيا) التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية منذ خمسين سنة تقريبا، والتي وزعت بينها مناطق النفوذ في العالم وبعضها مازال يحتل بلادا أخرى، وله مستعمرات حتى الآن مخصص لها وزارات بكاملها، على الرغم مما يقال إننا دخلنا القرن الحادي والعشرين، الذي لم يعد يعترف بالاحتلال ولا بالاستعمار، ولا باستغلال الشعوب الضعيفة، وعلى الرغم من قيام هيئة الأمم المتحدة بمنظماتها المتعددة التي ترفع شعار حقوق الإنسان لجميع الأفراد، وتدعو للمساواة في التعامل بين جميع الدول!!

ما هدف هذه القنوات الفضائية الأجنبية الناطقة بالعربية، وماذا تريد منا أو تريد لنا بالضبط؟

أولاً: عرض الأحداث التي تجري في العالم من منظورها الخاص، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الخبر المصور، أو الصورة الخبرية يمكن توظيفها بحيث توجه المشاهد إلى ما يريد أصحابها. كذلك فإن اقتطاع أجزاء من الخبر، أو تظليل بعض جوانبه، بالإضافة إلى صياغة الخبر المصاحب للصورة، كل ذلك يمكنه أن يحقق غرض القناة، ويبتعد تماما عن درجة المصداقية المتعارف عليها في النقل الخبري المصور.

ثانيا: تقديم برامج ثقافية، ومنوعات جذابة تشد المشاهد العربي من ناحية، وتعمل من ناحية أخرى على تشكيل ثقافته أو التأثير فيها إما بالتدريج وأحيانا عن طريق الصدمة (مثل البرامج التي تناقش أنظمة الحكم العربية، أو التي تتناول بجرأة قضية الجنس، أو البرامج التي تنتقد العادات والتقاليد العربية).

ثالثا: إبعاد المواطن العربي عن تليفزيون بلاده، وبث روح الشك والحساسية من كل ما يعرفه سواء من الأخبار أو التحليلات الإخبارية، وأخذه بعيدا بحيث يسهل تلقينه بعض المقولات التي ترغب القناة الأجنبية في تلقينها له، لكي يرددها لنفسه أو يشيعها لدى الآخرين ممن حوله.

رابعا: اصطفاء بعض الشخصيات العربية المتعاطفة مع توجه البلد الأجنبي صاحب القناة للتعليق على الأحداث بالأسلوب الذي يتمشى مع سياستها، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على تلك الشخصيات لكي يصبحوا بالنسب للمشاهد نجوما أو قادة رأي.. وبذلك يتم تكوين طبقة من المثقفين العرب الذين يمهدون الأرض للنفوذ الأجنبي للدول صاحبة القناة في المجتمعات العربية!

خامسا: تهدئة مشاعر المواطن العربي أمام ما ترتكبه تلك الدول الأجنبية من عسف وطغيان وخرق للقانون الدولي في بعض مناطق العالم، التي لا تستطيع بسبب إمكانيتها الضعيفة إيصال صوتها للآخرين.

سادسا: الإسراع بالتغطية على ما يحدث داخل تلك البلاد الأجنبية المتسلطة نفسها من انتهاكات لحقوق الإنسان مثل (مشكلة الزنوج في أمريكا والمهاجرين العرب في فرنسا والأيرلنديين في بريطانيا، والدول الإسلامية الصغيرة المجاورة لروسيا)!

وهكذا يمكن أن تمتد الأهداف في قائمة طويلة تكشف عن أسباب توجيه البلاد الكبرى قنوات تليفزيونية ناطقة بالعربية، وموجهة مباشرة للمواطن العربي، أما القنوات الفضائية العربية فإن بعضها يدور في فلك هذه أو تلك من القنوات الأجنبية كما تدور الكواكب حول الشمس.. والله يتولانا برحمته!

* * *


خطاب مفتوح إلى القضاة


[
لم ينشر من قبل .. ]

حضرات السادة القضاة

تحية طيبة وبعد.. فإنني أبدأ حديثي إلى حضراتكم بتقديم كل التقدير والاحترام لمنصبكم الرفيع الذي يُعتبر بحق هو صمام الأمان الحقيقي في المجتمع والدولة معا، فأنتم الذين تمسكون بضمائركم ميزان العدل، وتجلسون على منصة الفصل في مختلف القضايا: لتنصروا المظلوم، وتدينوا الظالم، وتعيدوا الحقوق لأصحابها، وتردعوا من تسول له نفسه الإخلال بنظام المجتمع، وسلامة المواطنين وأمنهم.

ولأنني أحد المواطنين الذين يدركون قيمة عملكم، أو حقيقة دوركم، فإنني أشعر أيضا ببعض مشاكلكم التي تعانون منها، وفي مقدمتها كثرة عدد القضايا الموكلة إليكم مع قلة أعدادكم (80 ألف قاض لـ 80 مليون نسمة)، وكذلك ضعف رواتبكم بالنسبة لارتفاع تكاليف الحياة، مع ضرورة أن يكتفي القاضي بدخل معقول يوفر له حياة كريمة ومنفصلة عن عموم الناس! ثم إن لكم مطالب إدارية وفنية تتطلب تعديل القوانين التي تصر الوزارة على عدم تلبيتها لكم، الأمر الذي يضايقكم أو يضايق البعض منكم (نادي القضاة)!

لكنني مع كثير غيري، كنا نأمل أن تربأوا بأنفسكم عن العمل السياسي، ليس لأنكم غير أهل له، وإنما لأن هذا العمل يجري عادة بين متخاصمين ومتنافسين، وبالتالي فإن اشتغال بعضكم به قد يوقعكم في الانحياز لطرف ضد الآخر، وهذا ما يعكر الجو الصافي والمحايد الذي ينبغي أن يعيش ويتنفس فيه القاضي، الذي من واجبه أن يحكم- عند التنازع- بين هؤلاء المتنافسين أو الخصوم السياسيين! وأنا أتحدث هنا من خلال مشاهداتي الطويلة في فرنسا- بلد القانون الذي استفاد منه القانون المصري- فلم أجد القضاة يشتغلون بالسياسة ولا يقتربون منها على الإطلاق!

حضرات السادة القضاة

إن حياة الناس لا تستقيم إلا في ظل قضاء عادل، ويقال إن أجنحة الملائكة ترفرف على القاضي الذي يعدل بين الخصوم، وقد أثار الحكم الذي أصدره أحد القضاة في قضية العبّارة رد فعل، لم يكن مريحا ولا إيجابيا في المجتمع المصري، وعلى الرغم من أنني أدرك جيدا أن هذا الحكم له حيثياته ومبرراته التي التزم بها القاضي، فإن الحديث والهمسات حول العدالة في هذه القضية مازال يثير قطاعا كبيرا من المصريين. وقد كان لكل رد فعله. أما أنا فقد عدت إلى قاموس فرنسي يضم العديد من الأمثال الشعبية لدى مختلف شعوب العالم، وهو مرتب حسب الوظائف، ومنها وظيفة القاضي. فماذا قرأت؟

-
القاضي يمسك في يده ميزانا لا يخطئ هو القانون، لكنه بشر، قد تميل يده بهذا الميزان فيخطئ!

-
القانون الخاطئ الذي يطبق.. لا يقل خطورة عن القانون الجيد الذي لا يطبق!

-
البطء في التقاضي.. لا يقل خطرا عن عدم تحقيق العدالة!

-
ينبغي على القاضي أن تكون له أذنان متساويتان (أي يسمع بهما لكلا الخصمين)!

-
إذا جاءك خصم يشكو شخصا اقتلع عينه، فلا تسرع بالحكم له، قبل أن ترى الشخص الآخر، فقد يكون مقلوع العينين!

-
إذا حققت العدالة بصورة جيدة فإنك تغضب الناس، وإذا حققتها بصورة سيئة فإنك تغضب الله!

-
العدالة لها عين شبه مغمضة.. لكنها ترى!

-
العدالة بدون سلطة عاجزة، والسلطة بدون عدالة جبروت!

-
لا يوجد أبدا شخص قد شنق والمال في جيبه!!

وفي الختام أرجو أن يكون هذا الخطاب المفتوح لحضراتكم تعبيرا عن صادق احترامي وتقديري لكم، وللعمل العظيم الذي تتحملون مسئوليته في المجتمع.

* * *



أفكار محمد عبده


[
آخر ساعة، 2007]

تعتبر مواجهة مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه المفكر من أصدق المعايير التي يمكن أن تقاس بها قوة شخصيته وقيمة أعماله. ومن هنا شاع ذم المفكر الذي لا يهتم بما يجري للناس من حوله بأنه (يعيش في برج عاجي) وفي المقابل من ذلك امتدح الفيلسوف الإغريقي سقراط بأنه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، والمقصود أنه أول فيلسوف اهتم بواقع الإنسان، بعد أن كان فلاسفة الإغريق من قبله مشغولين بالبحث عن أصل الأكوان.

والشيخ محمد عبده (1849- 1905) من هذا الطراز. فهو نموذج للمفكر المصري الأصيل الذي بدأ من المجتمع وانتهي إليه. فقد خرج من ريف مصر، طالب علم يسعى إلى المعرفة، وكل ما يملكه فطرة سليمة وعقل صاف. فمن قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، إلى الجامع الأحمدي بطنطا، وحي الأزهر بالقاهرة، ابتعد محمد عبده منفيا إلى بيروت، ومنها وجد نفسه في باريس، وحينا في لندن. وعلي الرغم مما كان لهذه الأماكن في ذلك الوقت بالذات من تأثير قوي على العقل والنفس معا، فإن محمد عبده ظل مهموما بمشكلات مصر، مشغولاً بالبحث عن حلول مناسبة لها.

وقد كانت عودته إلى مصر بعد النفي سنة 1896 فرصة مناسبة أتاحت له أن يقوم من خلال مناصبه التي تولاها بوضع أفكاره الإصلاحية موضع التنفيذ، ومن ذلك إصلاح التعليم الديني في الأزهر، وإنشاء مدرسة القضاء الشرعي، وإعادة تنظيم الأوقاف الإسلامية، إلا أن الكثير من أفكاره الأخرى قد اغتالها ظلام العصر الذي عاش فيه، دون أن يقضي عليها تماما. ومازالت بعض هذه الأفكار تتمتع – حتى يومنا هذا – بقدر كبير من الحيوية، والقدرة على الصمود والاستمرار.

وجد محمد عبده أن حزمة المشكلات التي كان يعاني منها المجتمع المصري ترجع إلى سببين، يرتبط أحدهما بالآخر عضويا، وهما الجهل وفساد التربية، والواقع أن الوصول إلى أسباب الداء لم يكن أمرا سهلاً. فقد تعددت في عصره اجتهادات المفكرين المعاصرين له، والسابقين عليه، في هذه الموضوع تعددا يثير الحيرة: محمد عبد الوهاب وجد أصل الداء في فساد عقيدة المسلمين، ورآه السنوسي في عدم الإعداد الجيد للدعاة، واعتبره الأفغاني في الاستعمار الغربي، وخضوع المسلمين له، وحدده الكواكبي في الاستبداد الذي يكبل طاقات الأمة. ومن هذه المنطلقات المتنوعة، راح كل واحد من هؤلاء المصلحين يضع خطته المميزة في الإنقاذ.

أما بالنسبة إلى محمد عبده، فقد وضع خطته على ثلاثة أسس، الأساس الأول أن (العلم ضرورة) للمجتمع المصري. ومن المقرر أن العلم الصحيح إنما يقوم على فكر صحيح. ولا يتحقق ذلك إلا في جو ملائم من الحرية. من هنا كان لابد من دراسة قوانين الفكر التي تضبط الاستدلال، وهي المتمثلة في علم المنطق. ثم بعد ذلك تأتي مجموعة العلوم الدينية ومجموعة العلوم العصرية. ولابد من الجمع بينهما حتى يحصل الإنسان على خير الدنيا والآخرة. ويؤكد محمد عبده على أن العلم ينتج القوة والثروة والعدالة. أما الأساس الثاني فيتمثل في (التعليم). وله جانبان، مادة التعليم ومنهج التعليم. وفي هذا المجال ينبغي على عقلاء المجتمع أن يفحصوا جيدا المادة العلمية الجيدة التي تصلح لتنشئة أبنائه، والتي تبعدهم في نفس الوقت عن الخرافات والخضوع للآراء المسبقة. أما منهج التعليم فقد خطت فيه أوربا خطوات كبيرة ومن الممكن الاستفادة من التقدم الذي حققه الغرب. أما الأساس الثالث لفكر محمد عبده فيقوم على ضرورة الجمع أو المزج بين (التعليم والتربية). والمقصود بها الإعداد الخلقي والبدنى والنفسي، والتنشئة الدينية والوطنية للتلاميذ إلى جانب ما يتلقونه من معلومات ومعارف. وفي كل الأحوال ينبغي أن يتجه العلم والتعليم لتخريج المواطن الصالح الذي يمكنه أن يتحمل المسئولية في أي موقع يتولاه، وأن يكون قادرا على المشاركة الحقيقية في تقدم مجتمعه.

وقد توج محمد عبده تلك الأفكار بمنهجه الذي يقوم على أساس التدرج في الإصلاح، مخالفا بذلك أستاذه الأفغاني الذي آمن بالإصلاح على أساس الطفرة بواسطة الثورة.

رحم الله محمد عبده، ووفقنا إلى تحقيق بعض أفكاره، التي مازالت تصلح للقرن الحادي والعشرين.

* * *



طبيب مصري من ألف عام


على رضوان


[ لم ينشر من قبل .. ]

علي بن رضوان.. طبيب وفيلسوف مصري. ولد في الجيزة، لأب فقير كان يعمل فرانا، لكنه أقبل على التعليم، حتى أصبح طبيبا كبيرا، ومؤلفا غزير الإنتاج في الطب والفلسفة. توفى سنة 453 هجرية= 1061 ميلادية. يعني مضى على وفاته ما يقرب من ألف عام. وقد أصدر عنه الدكتور أحمد القاضي كتابا بعنوان «الفيلسوف المصري علي بن رضوان»، والدكتور سليمان قطايا كتابا بعنوان «الطبيب العربي علي بن رضوان»، كما كتب عنه بعض المستشرقين. وكلهم جميعا يعترفون بأنه لم يأخذ نصيبه من الدراسة التي تليق به، كما أنه لم يحظ في تاريخنا الفكري والطبي بالمكانة التي يستحقها!

والواقع أن هذا الطبيب الفيلسوف يقدم نموذجا فريدا للإنسان المصري الذي يخرج من قاع المجتمع، ومن طبقاته الفقيرة جدا، فيبني نفسه بناء جادا، ويبذل أقصى جهده في عمله، حتى يكتب له النجاح، ويحقق لنفسه وللمجتمع أطيب النتائج.

وكالعادة، نُكب هذا العالم المصري المتميز ببعض معاصريه الذين حاولوا التشويش عليه، والتقليل من قدره، ثم ببعض المؤرخين الذين رسموا له صورة سيئة، والغالب أنها ليست صحيحة، فقيل عنه إنه كان قبيح المنظر، رث الهيئة، يجلس على الطرقات ليعمل في الشعوذة والتنجيم، وأن مؤلفاته مخلَّطه، ومنقولة بصورة عشوائية من السابقين!

أما الصورة المقابلة لذلك فتؤكد أن الرجل كان جادا في عمله، غزيرا في مؤلفاته (أكثر من ستين كتابا ورسالة في الطب، وما يقرب من أربعين في الفلسفة) كما كان محبا للخير، ومساعدة الناس، وأنه ظل يتدرج في مهنة الطب حتى أصبح كبير الأطباء في عصره، بل قيل عنه إنه «عالم مصر في أوانه» أي في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر، في منتصف المائة الخامسة من الهجرة.

ومن غريب ما حدث له انه كان قد التقط فتاة يتيمة، ورباها في بيته حتى كبرت، ثم قامت بسرقة أمواله كلها، وهربت!

ويكاد على رضوان ينفرد من بين جميع الأطباء والمفكرين المصريين والعرب بأنه وضع لنفسه (ولغيره طبعا) جدولاً يوميا يسير عليه، وفي مقدمته الرياضة البدنية. يقول إنه على مدى ثلاثين عاما، كان يبدأ يومه بالرياضة، ثم بعد أن يستريح يتناول طعاما صحيا، يحفظ به سلامة جسمه، كما يؤكد لنا أنه ألزم نفسه بالتواضع، وغياث الملهوف، وكشف كربة المكروب، وإسعاف المحتاج.. وأن سعادته كانت تنحصر في شعوره الداخلي بتلك الأفعال الصالحة، والانفعالات الجميلة!

ومن حيث الشكل، كان يهتم بمظهره، وخصوصا بالنظافة، وطيب الرائحة، وكثرة الصمت، وكف اللسان عن معايب الناس.. وهي نفس الصفات التي راح يدعو زملاءه الأطباء إلى ضرورة التنبه لها. فإذا انتهى من عمله، صرف وقته في عبادة الله بأن يتنزه بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتمجيد خالقها الحكيم، وقراءة مؤلفات أعلام الطب السابقين.

ومن أجمل ما يكشفه لنا عن حواره مع نفسه، أنه كان يتابعها بالغداة والعشى، ويتفقد في وقت خلوته ما سلف من يومه من أفعال وانفعالات (فما كان خيرا وجميلا ونافعا سررت به، وما كان شرا أو قبيحا أو ضارا اغتممت به، ووافقت نفسي بعدم العودة إلى مثله)!

وفي كتابه «دفع مضار الأبدان عن أرض مصر» يتحدث علي رضوان عن طبيعة ارض مصر، ونباتها، وهوائها، ثم تأثير هذه العوامل على صحة المصريين وأخلاقهم، وقبول ذلك للشفاء أو الحل.. وأخيرا مدى صلاحية أرض مصر للسكنى بها.

وبمنتهى الوضوح، يربط علي رضوان بين صحة المصريين وأخلاقهم، وبين البيئة التي يعيشون فيها. فإذا كانت الأرض سخيفة (على حد قوله) والهواء والماء رديئين، فإن هذه العوامل تؤثر في أنواع النبات والحيوان التي تأكلها وتتغذى منها، وتتحول إلى أبدانها، فتحدث فيها (سخافة الأجسام، وضعف القوى، وكثرة التغير، وسرعة الوقوع في الأمراض، وقصر الأعمار) لكن طول التعود عليها هو الذي يجعل أبدان المصريين تتأقلم عليها، ولا تظهر بها آثارها المحسوسة على نحو سريع!

أما عن أخلاق المصريين- على عهده- فيصفها بأنه تابعة لمزاج أبدانهم، التي هي سريعة التغير قليلة الصبر والجلد (وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة، وقلة الصبر، والرغبة عن العلم، وسرعة الجزم، والحسد، والنميمة، والكذب، والسعي إلى السلطان، وذم الناس. وبالجملة: الشرور الدنية التي تكون في دناءة النفس). أما أكثر عادات المصريين التي كانت تضايق على رضوان فكانت تتمثل في عدم المحافظة على النيل، وإلقاء القاذورات في مياهه!

وإذا كان من حقنا اليوم أن نغضب، ونحاول الدفاع عما ذكره علي رضوان قبل ما يقرب من ألف عام من عيوب المصريين، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن بعض هذه العيوب، إن لم تكن كلها، مازالت موجودة بيننا حتى اليوم، والمشكلة أننا لا نميل عادة إلى مصارحة أنفسنا بها، بل على العكس، نحاول دائما أن نمدح أنفسنا بأطيب الصفات، ونضفي عليها المزيد من الفضائل. وهذا هو أحد أسباب استمرار ما نعانيه من مفارقة القول للفعل!

لكن من أهم ما تركه لنا علي رضوان في إنتاجه الطبي هي تلك الباقة من الوصايا والنصائح والتعليمات التي ينبغي على كل طبيب، ليس في مصر وحدها، وإنما في العالم كله أن يراعيها، ويأتي في مقدمتها: ضرورة معرفة البلد الذي يعيش فيه المريض من حيث تربته ومزاجه وطعامه والأمراض المتوطنة فيه، والوافدة عليه، وكذلك عادات المريض في أيام صحته ومرضه، إلى جانب الإلمام بطبيعة الأغذية والأدوية التي يتناولها. وهناك في هذا الصدد خمسة وعشرون بندا لمن يريد أن يطلع عليها!

ويحذر علي رضوان الأطباء (من الاشتغال بلذات البهائم، من الأكل والشرب، والنكاح، وجمع المال، والمفاخرة، وحب الصلف، والمركوب والملبوس، وغير ذلك من الأشياء التي يتفاخر بها، وتموه على العوام بمخالطة ذوي اليسار، وتطويل اللحية والشيب، فإن الاشتغال بذلك كله يعوق عن التخرج (التميز) في صناعة الطب)!

وهو يرى أن الطبيب الجاهل ليس أقل عذابا في الآخرة من اللصوص والقتلة، بل إنه أكثر، بسبب ما يحدثه للناس من أضرار!!

أما أطرف ما يرويه علي رضوان عن خداع الأطباء للجماهير في عهده، فهو ذلك الطبيب المشهور بينهم، الذي كان يركب وابنه، ويجعل تحته مخدة في السرج، وبعد أن ينظر في علة المريض، يخرج اسطرلابا (آلة تستخدم في توجيه السفن!) فينظر فيه، فيخدع العوام بذلك، ويقبلون عليه باعتبار أنه طبيب بارع، مع أنه لم يكن يفهم شيئا في صناعة الطب!

تلك صورة مصغرة جدا لعلي بن رضوان، الطبيب والفيلسوف المصري، أهم ما يبرز فيها الإخلاص لمهنة الطب الشريفة، والتأملات الفلسفية حول الإنسان، التي قادته لنقد أخلاق المصريين بصراحة لا نكاد نعثر عليها لدى أحد غيره، وهكذا اجتمع في هذا الطبيب المصري ما يجتمع عادة في كل أطباء العالم الكبار، أقصد معالجة الجسد، وتأمل أحوال النفس. وكلاهما ضروري في النظر إلى الإنسان باعتبار كائنا متكاملاً منهما معا، وليس عناصر متناثرة. وهذا هو السبب في أن معظم أطباء العصر القديم كانوا أيضا فلاسفة!

* * *



المجتمع المصري ومشكلاته


[
لم ينشر من قبل .. ]

الملاحظ على المجتمع المصري في الفترة الأخيرة عدة ظواهر، بعضها إيجابي والكثير منها سلبي، ومن ذلك ارتفاع نسبة التعليم في الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانتشار وسائل الإعلام التي قامت بتكوين رأي عام أكثر حساسية وانفعالاً بالآراء الداخلية، وما يجري في العالم المعاصر، كما تحسنت كثيرا حالة الطرق والاتصالات، لكن الارتفاع المتزايد لعدد السكان أصبح يتطلب المزيد من المواصلات والمساكن، ونتيجة تعدد الجامعات، وكثرة أعداد الخريجين منها لم تستطع سوق العمل استيعابهم جميعا، فزادت معدلات البطالة، وتبعتها بالتالي مشكلات العنوسة، وتفاقم حالات الطلاق، وبرزت مشكلة أطفال الشوارع، والعشوائيات. أما الأمية فلم يتم القضاء عليها تماما، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة في مكافحتها إلا أن نسبتها تتجاوز الـ(40) في المائة، وهذه النسبة تزيد كثيرا في الريف، وخاصة لدى المرأة.

وقبل أن يمر نصف القرن فقط على ثورة يولية 1952، ظهرت طبقة من الأغنياء، الذين أصبح لهم نمط خاص في المعيشة، فهم يركبون أفخم ماركات السيارات العالمية، ويمتلكون الفلل التي لا يدخل إلى محيطها سواهم، وهي تحتوي على حمامات السباحة، ويمارسون أحيانا رياضة الجولف الأرستقراطية، ويقضون الصيف في مدن ساحلية تكاد تكون مقصورة عليهم، بل إن بعضهم يمتلك طائرات خاصة، وقد سمحت لهم الدولة مؤخرا بالعمل السياسي فأصبح منهم وزراء، ونواب مجلس الشعب، فجمعوا إلى قوة المال سلطة الحكم والتشريع.

وعلى الطرف المقابل من تلك الطبقة، يوجد الفقراء جدا، الذين يسكنون المناطق العشوائية، وهي أماكن لا تصلح أساسا للسكن الآدمي، وخالية من خدمات الكهرباء والغاز والتليفونات والماء المكرر والصرف الصحي.

ويقال إن عدد هذه العشوائيات حول العاصمة وحدها يتجاوز الخمسين عشوائية، يقطنها أكثر من عشرة ملايين نسمة، وإذا كان الآباء والأمهات في هذه الطبقة من المصريين الذين يتحلون بالصبر على المصاعب، فإن أبناءهم ينشأون غاضبين ومتمردين، ويميلون عادة إلى الشراسة، والعدوانية!

وبين هاتين الطبقتين، توجد طبقة الموظفين، الذين يبلغ تعدادهم حوالي ستة ملايين موظف، يعول كل منهم أسرة مكونة من خمسة إلى ستة أفراد، وهذه الطبقة كانت في الماضي مستورة الحال، إلا أن توقف زيادة مرتباتها، وارتفاع الأسعار المستمر جعلاها تعيش على الكفاف. ولذلك بدأت تنشر فيهم سلوكيات سيئة، بدءا من عدم أداء الواجب الوظيفي ومرورا بسوء معاملة الجمهور المتعامل معهم.. إلى حد الرشوة والاختلاس والتلاعب بالقوانين!

ويبدو بوضوح أن كلا من الطبقتين الأخيرتين قد أصبحت تشعر بالكثير من المرارة والإحباط، وينتشر بين الشباب فيها: إما الميل إلى التطرف الديني، وإما الانطلاق في طريق الانحلال بدون حدود، وإذا كان التطرف الديني هو البيئة التي تهيئ لظهور الإرهاب، فإن الانحلال هو الذي يولد السرقة بالعنف والاغتصاب.

بعد هذا التصنيف الموضوعي لطبقات المجتمع المصري في الوقت الحاضر، والمشكلات أو الأزمات المرتبطة بتلك الطبقات، فلا شك أن هذه المشكلات تحتاج إلى حلول، والأزمات إلى خطط واستراتيجيات. وهي ليست مستحيلة الحل، وإنما هي فقط صعبة، لأنها ليست وليدة اليوم، بل إنها قد نشأت وتطورت وتراكمت عبر سنوات طويلة، وعصور متعددة، ولذلك ليس من السهل القضاء عليها أو الحد من مخاطرها بين يوم وليلة، أو بقرار فوري، بل إنها قد تتطلب سنوات طويلة، وأجيالاً متعاقبة.

فمثلا: لا يوجد حل لمشكلة التعليم إلا ببناء العديد من المدارس والجامعات، بحيث تستوعب الأعداد الراغبة فيه، والمحتاجة فعلا إليه، بنسب معقولة في الفصول والمدرجات.

ولا يوجد حل الأزمة البطالة إلا بجهد مشترك تتكاتف فيه الدولة مع المجتمع لإنشاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي يمكنها أن تستوعب تلك الأعداد الغفيرة من الشباب. ولا شك أن هذا العمل لابد أن تصحبه تشريعات قانونية وضريبية، وتفاعل أكثر إيجابية من البنوك، وتشجيع حقيقي من شركات الدعاية والإعلان.

ولا يمكن حل مشكلة المواصلات إلا بتخطيط جيد للمدن، ومد الطرق، وتحسين أحوالها باستمرار، مع انضباط المرور فيها.

ولا يمكن حل أزمة الإسكان إلا بالابتعاد تماما عن الأرض الزراعية، المحدودة المساحة، والخروج إلى الظهير الصحراوي بعد مد الخدمات الضرورية إليه.

ولا يمكن حل مشكلة الإنتاج إلا بحسن تقسيم العمل، وتوزيع رأس المال على مجالاته الزراعية والصناعية والتجارية، إلى جانب النقل والسياحة، وكذلك بحزمة من القوانين التي تضبط حركة البنوك والقروض السائبة إلى جانب منع الاحتكار!

تلك فقط بعض أمثلة الإصلاح لمشكلات المجتمع المصري، وهي مشكلات لابد من مواجهتها بكل جدية ودون إبطاء، بسبب مالها من تأثيرات بالغة الضرر على تفاعل تلك المشكلات فيما بينها، وتحولها بالتالي إلى أزمات، ثم على تماسك المجتمع المصري واستقراره، الذي يعد ضمانة ضرورية لاستقرار المنطقة العربية كلها.

* * *



وقفة مع الجرائم الشرف


[
الأخبار، 2009]

وأقصد بها هذا الاعتداء الدموي على النساء والفتيات اللاتي يرتكبن- في نظر أولياء أمورهن سواء كانوا أزواجا أو أقارب- أفعالاً غير أخلاقية، وهذه الأعمال تندرج من جريمة الزنا إلى حد ضبط الفتاة وهي تتكلم مع أحد الشبان أو تبتسم له من النافذة! وبالطبع تلك الجرائم المسماة بجرائم الشرف تنتهي عادة بقتل المرأة أو الفتاة بصورة وحشية، والإلقاء بجثثها أحيانا في مكان خرب أو مجهول، وفي بعض الأحيان تقطيع جئتها إلى أجزاء حتى يتعذر التعرف عليها!! ومن الملاحظ أن بعض هذه الجرائم التي يرتكبها أفراد من ألأسرة يتم التعميم عليها من باقي أفراد الأسرة، بل وأحيانا التعاطف مع مرتكبها من المجتمع!

والسؤال الأول: هل يوجد في شرع سماوي أو قانون من وضع البشر: دعوة إلى فعل ذلك، أي السماح لأحد أفراد الأسرة بإنزال العقاب بهذا الشكل بالمرأة أو الفتاة المذنبة في رأيهم؟ أما جريمة الزنا فهي محرمة في كل الأديان، بل ومجرمة في القانون، ولها في الإسلام عقاب اسمه (الحد) يقع على طرفين، وليس طرفا واحدا، وله شروط وضوابط أهمها أن الدولة هي التي تتولى تنفيذها بعد البت فيها.. وفي كل الأحوال لا يترك العقاب لولي الأمر مهما كانت درجة علاقته أو قرابته من المرأة أو الفتاة. أما الأحداث الأخرى التي تعاقب بها المرأة أو الفتاة فمنها: الشك في سلوكها، ومسألة الشك تظل مجرد احتمال بنسبة 50% لدى ولي الأمر، ومنها: إساءة السمعة، وهي مسألة ترتبط عادة بالبيئة والظروف الاجتماعية للأسرة في الوسط الذي تعيش فيه، وكذلك بالمستوى الثقافي الذي تصل إليه بعض العائلات.. وتلك كلها أمور تختلف من عائلة إلى أخرى، وفي هذه الأحوال، يكون حظ امرأة أو فتاة أكثر من غيرها، فلا تتحقق العدالة في العقاب..

وليس في كل الأحوال، يكون ولي الأمر قادرا على إنزال العقاب بالمرأة أو الفتاة المشكوك في سلوكها، وعندئذ قد ينقلب الحال، فيقع به المكروه. أذكر جيدا حالة رجل طيب جدا، شاهد ابنة أخيه، وكانت عاملة بأحد المصانع، تتحدث مع شاب في ركن من الشارع، فعاد غاضبا جدا، وعندما شاهدها انفجر فيها، لكن أعصابه لم تتحمل الغضب فحدثت له جلطة مخية، لم يشف منها بقية حياته التي استمرت عدة سنوات بعد هذه الحادثة.. ومن العجيب أن الفتاة قد تزوجت من ذلك الشاب، وأنجبت منه طفلين جميلين، وسارت حياتهما كأطيب ما يكون!

إن جرائم الشرف قديمة قدم البشرية، وهي مرتبطة اشد الارتباط بغيرة الرجل على المرأة، لكنها في الواقع لا تعادل غيرة المرأة على الرجل! فمن حقوقه التي اكتسبها مع الزمن أن يعدد علاقاته مع النساء والفتيات دون أن تثار حوله إشاعة الشرف! وقد ينشأ الأخ والأخت في أسرة واحدة، فيباح للولد أن يصحب من يشاء من الفتيات، بل وأن يفخر بذلك أمام أفراد أسرته، دون أن يوجه إليه أي لوم أو تأنيب بل إنه قد يقابل حتى بالرضا والإعجاب، ولكن الأمر لا يتساوى على الإطلاق مع أخته.. فهي دائما ممنوعة من الحديث عن الآخرين، أو حتى الابتسام لهم!

هل الشرف إذن أمر نسبي؟ الجميع لا يعترف بذلك، والجميع أيضا يدينه بشدة، ولا يرضى أبدا للنساء أو الفتيات، بينما يغضي الطرف عما يفعله الرجل. والسؤال الآن: هل المرأة أو الفتاة وحدها هي التي تجرح شرف العائلة، أم يشاركها في ذلك رجل أو شاب آخر؟ وإذا كنا نحاسب المرأة أو الفتاة بتلك القسوة فأين حسابنا مع الرجل؟!


شروط الزواج الناجح


[
الأخبار، 2008]

يسألني الكثير من الشباب المقبلين قريبا على الزواج، والمؤجلين أحيانا له: ما هي شروط الزواج الناجح؟ وهو في رأيي سؤال مشروع، ومن واجب الذي يعرف الإجابة أن يقدمها بكل ترحاب للسائل عنها. لكن هذه الإجابة ينبغي أن تكون صادقة وصريحة، وأن تستمد مقوماتها من تجارب الحياة، ولا تقتصر على تجربة واحدة خاصة، قد تكون سوداوية، أو على العكس مليئة بالأحلام الوردية. أقول هذا في البداية لأن الزواج علاقة جادة، ومشاركة حقيقية بين طرفين، يفترض أن يعيشا معا طوال العمر، وأن يواجها الحياة بكل ما فيها من أيام حلوة، وليال طويلة وصعبة. إن الزواج هو اللقاء الحميم بين الرجل والمرأة، باركه الله تعالى، وأقرته كل مجتمعات الأرض. ولا شك أن الانخراط فيه يعد أهم وأخطر قرار يتخذه الإنسان لنفسه، ومن هنا ينبغي أن يكون حرا تماما في اختياره، وبالتالي مسئولاً بالكامل عنه.

وفيما يلي سبعة شروط، أراها من وجهة نظري، مهمة لإنجاح الزواج، والحفاظ على استمراره، وهي:

أولاً: الإشباع الجنسي، الذي من أجله (يرغب) الرجل والمرأة في الزواج أو التزاوج، وميزته أنه الطريق الذي شرعه الله تعالى وأقرته كل الأديان لإنتاج النسل، واستمرار الجنس البشري، وهنا ملاحظة: ليس من الضروري أن تكون المرأة فائقة الحسن، ولا الرجل كامل الهيئة. ولكن هناك كيمياء جسدية خاصة هي التي تجذب أحدهما للآخر، وتحقق لهما الإشباع الضروري، والذي بدونه لا يمكن أن يجتمعا في أي أمر من أمور الحياة.

ثانيا: التوافق الوجداني، الذي يصل إلى أعلى مراتبه في عاطفة الحب وهو يتضمن الميل النفسي والقلبي من كل طرف للثاني، بحيث يسعد بلقائه، ويشتاق إليه إذا غاب عنه، ويشعر بالرضا إذا كان سعيدا، ويتألم من أي ضرر يحيق به، كما أنه لا يحس بالضيق أو الضجر من أي قول أو تصرف يصدر عنه!

ثالثا: التقارب الثقافي: والمقصود به توافر الأرضية المشتركة التي تجعل الحوار بين الطرفين قابلاً للاستمرار.. هو الذي يجعل أحدهما يتكلم والآخر يصغى، أحدهما يسأل والآخر يجيب. وليس بالضرورة أن يتفقا في وجهات نظرهما حول مسألة معينة، ولكن من الممكن أن يتناقشا حولها، ويحتفظ كل منهما برأيه. ومما هو ملاحظ هنا أن غياب هذا الشرط هو الذي يدفع الزوج أو الزوجة إلى البحث عن شخص آخر، يلقي عليه بهمومه ويصرح له بأفكاره، ويتبادل معه الحديث الذي يمكن أن يجريه مع شريك حياته!

رابعا: عدالة اقتسام العمل: بعد أن يتزوج الرجل والمرأة، يقوم كل منهما بعمل مختلف عن الآخر فالرجل عادة يعمل بالخارج، والمرأة تهتم بشئون البيت، حتى ولو كانت هي أيضا عاملة، ويظهر التفاوت عندما يصل الرجل مثلا من عمله، ثم يدخل حجرة النوم، ويتمدد على السرير في انتظار انتهاء زوجته من إعداد الطعام! بينما تظل المرأة تعمل طول النهار في البيت ولاتتاح لها فرصة الراحة مثله. وهنا ينبغي أن يدرك كل من الطرفين طبعة عمل الآخر، وحجم هذا العمل، والإرهاق المترتب عليه، وأن يتعادلا في توزيع الأعباء، كما يجب أن يتشاركا فيها.

خامسا: مراعاة مشاعر الطرف الثاني: ومما يؤكد نجاح الزواج، دون أن يدري طرفاه، ما يقوم به كل منهما من احترام مشاعر الطرف الثاني، فالزوجة تحب أقاربها، وخاصة أمها، وهنا على الزوج أن يجاملها في ذلك، حتى ولو لم يشعر معها بنفس القدر من الحب!

كذلك فإن الزوجة قد تحب بعض صديقاتها، أو جاراتها، وهذه تحتاج إلى معاملة خاصة من الزوج دون أن يظل يقلل من شأنها، أو يلوم زوجته على حبها لها. ونفس الشيء ينطبق على بعض الهوايات والأشياء والمقتنيات.

سادسا: احترام الخصوصية: لكل من الزوجين قبل الزواج حياته الخاصة، وهي مليئة بالأحداث والأشخاص والذكريات. وهذا العالم حق لكل منهما. فإذا أضر أحد الزوجين على عدم اقتراب الطرف الثاني منه كان له ذلك، وإذا باح له بشيء منه تقبله بصبر وهدوء وحسن تفهم، حتى لا يفجعه في أمر غال وعزيز عليه.

سابعا: القيام ببعض الرحلات: ومما يفيد نجاح الزواج القيام ببعض الرحلات خارج القرية أو المدينة التي يقيم فيها الزوجان. إن لكل رحلة مذاقها الخاص، وهي تقوم بترسيب ذكريات جميلة في نفس كل منهما، كما أنها توحد بينها على نحو خاص، وهذه الذكريات هي التي تطفو – عند وجود خلاف أو نزاع عابر – فتغطي على الغضب، وتسرع بإطفاء شعلته!

تلك هي – في رأيي – شروط (الزواج الناجح)، أما (الزواج السعيد) فهو من نعم الله، التي يختص بها بعض الأزواج دون غيرهم. ونعم الله – كما نعرف – ليس لها شروط ولا حدود!

* * *


الشارع المصري


في مطلع القرن الحادي والعشرين


[الأخبار، 24/2/2009]

الشارع هو الطريق الذي يحق لجميع المواطنين وغيرهم أن يعبروه ذهابا وإيابا. وبكل شارع نهر تجري فيه السيارات ورصيف يتحرك عليه المشاة، والسبب في ارتفاع الرصيف عن مستوى نهر الشارع هو حماية المشاة من خطر السيارات وطيشها الذي قد يتسبب أحيانا في وقوع الحوادث لهم، ومن هنا كان الرصيف حرما آمنا لمن يختار المشي عليه أو يضطر إليه كي لا يصاب بأذى، لذلك فإن أي محاولة للاعتداء على الرصيف- بتقطيعه من أجل السيارات الخاصة، أو بشغله بالبضائع وغيرها، أو بحجزه لأي غرض شخصي- تعتبر اعتداء مباشرا على المشاة، وهنا أرجو أن يجيب عن سؤالي التالي رجال القانون: ما هو الحكم في شخص لم يجد الرصيف أمامه خاليا فاضطر للنزول إلى نهر الشارع فصدمته سيارة: هل يقع الذنب على السيارة وحدها، أم على من وضع عقبة على الرصيف اضطرت هذا الشخص المصاب للنزول إلى نهر الشارع؟!

من أهم خصائص الشارع النموذجي: النظافة، والهدوء وتحقيق السيولة المروية لكل من السيارات والمشاة، وفي المقابل من ذلك هناك ثلاث معوقات توجد في الشارع الرديء، وهي: القذارة، والضجيج، وعرقلة المرور.

أما القذارة فتشمل مجموعة من السلوكيات التي تتعلق بالأفراد، ومنها إلقاء القمامة كيفما اتفق، وطرح أنواع المخلفات عديمة القيمة في الشارع بما في ذلك تصفية زيت السيارات المستعمل، والمياه المتساقطة من أجهزة التكييف على المارة، وبقايا الخضار الذي يباع على الأرصفة، أما الأمور التي تدخل مباشرة في مسئولية المحليات فمنها: طفح المجاري، وترك البالوعات بغطاء مكسور، أو بدون غطاء، وعدم رصف الشارع بعد حفره نتيجة مد أسلاك الكهرباء والتليفونات، أو مواسير مياه الشرب والصرف الصحي وكذلك ترك أكشاك الكهرباء بدون صيانة، أو إحكام غلقها، وظهور بعض الأسلاك الصاعقة منها، يضاف إلى ذلك عدم تشغيل الجراجات فيما خصصت له الأمر الذي يجعل السيارات تركن صفين وأحيانا ثلاثة!! وكذلك عدم تشديد العقوبة على أصحاب المحلات الذين يحجزون الأرصفة لعرض بضائعهم، وأحيانا لعرض السيارات للبيع أو للإيجار، وكذلك أصحاب الورش التي تمتد خارج حدودها!

وأما الضجيج فيبدأ من ارتفاع أصوات المواطنين بدون داع، وزعيق منادي السيارات، ويمتد إلى نداء الشبان الأراذل على يعضهم بالكلاكسات، ورفع المحلات لصوت الاستريو، كما يشمل الباعة الجائلين الذين أصبحوا يستخدمون الميكروفونات التي تعمل بالبطارية السائلة، وخاصة بائع الروبابيكيا، بالأحرى مشتريها لأنه لا يبيع شيئا!! وأسوأ منه موزع أنابيب البوتاجاز الذي لم تجد له الشركة وسيلة حضارية أخري سوى أن يقرع بالمفك على الأنابيب!

وبالنسبة إلى عرقلة المرور التي تشمل السيارات والمشاه معا، فإن الأسباب متعددة، ولكنها قابلة للحل إذا توافرت الإرادة، ومنها تحويل معظم الجراجات إلى سوبر ماركات ومخازن مما يضطر أصحاب السيارات إلى ركنها في الشارع صفين وثلاثة!

سوف تقول لي: ما الحل؟ وهو بسيط جدا. لكنه يقع على طرفين: الحكومة التي تسن القوانين وتطبقها على الجميع بدون استثناء، والناس الذين يقتنعون بها، ويجدون أنها في صالحهم.


حياة الإنسان في المعاش


[
الأخبار، 31/3/2009]

عندما يخرج الموظف أو العامل على المعاش، سواء من الحكومة أو من القطاع العام أو الخاص، يبدأ على الفور مشوار الإجراءات من أجل الحصول على مكافأة نهاية الخدمة، وهي أحيانا مبلغ لا بأس به، وكذلك إجراءات تثبيت المعاش الشهري الذي ينبغي أن يعدل إنفاقه على أساسه، وبالطبع يحدث هبوط واضح في مستوى معيشته نتيجة هبوط الدخل، فلم تعد هناك مكافأة ولا حوافز.. فقط ذلك المبلغ المحدد الذي يزيد كل عام بصورة طفيفة.

وبمجرد الانتهاء من إجراءات الحصول على المكافأة وتثبيت المعاش الشهري، تكاد تنتهي علاقة الموظف بالمكان الذي كان يعمل فيه، والذي قضى طوال عمره السابق، حوالي خمسة وثلاثين عاما، في التردد عليه، والعيش فيه باعتباره بيته الثاني، ومع مرور الوقت يتناقص عند الزملاء الذين يتصلون به إلى أن يتلاشوا تماما، وهنا تبدأ فترة وجوده بالبيت تطول، ويشعر ببعض مظاهر الضيق من زوجته وأولاده الذين كان يخلو لهم البيت طوال فترة عمله في الصباح.. عندئذ لا يجد مفرا من الخروج. إلى أين؟ إلى أقرب مقهى حيث بعض الجيران، الذين كان يستثقل رؤيتهم فضلا عن الجلوس معهم! لكن المقهى لا يوفر المكان الملائم دائما، فدخان الشيشة، وارتفاع صوت التليفزيون، والجيل الجديد الذي يتعامل بعنف من حوله.. كل ذلك يدفعه إلى الهروب من المقهى، والمشي على غير هدي في الشوارع، لكن ركبتيه لا تتحملان كثرة المشي، فيضطر للجلوس على أقرب سور من فترة لأخرى، وفي النهاية لا يجد مفرا سوى العودة إلى البيت الذي يرجع إليه منكسرا مع بعض الحكايات عن مشاهداته في الخارج. ومن الواضح أنه لا يجد لها رد فعل أو تشجيعيا!

يعود صاحب المعاش إلى نفسه أخيرا، فيجلس وحيدا، وقد يغمض عينه ليتذكر بعض ما مر به أثناء فترة عمله: الأشخاص والمواقف والمقالب والصراعات، وفجأة يذكر المسجد، فيسرع لزيارته، وهناك يصلي الفرض، وبعض النوافل، ويقرأ في المصحف فيحس ببعض الراحة النفسية، ويجد أن كثيرا من الآيات تحذر من سراب الدنيا الفانية، وتحض على ضرورة الاستعداد للدار الآخرة، لكنه مع إغلاق المسجد، يعود إلى بيته فيشارك أهله مشكلاتهم ويجد نفسه غارقا في هموم الدنيا من جديد.. وقد يفاجأ بأن زوجته تحدثه عن الانخراط في عمل آخر.. كيف؟ وأين؟: تجلس في معرض موبيليا، والمرتب معقول، لكنه أحسن من القعدة!! وتقع عليه الكلمات كالكرابيج، فهو الموظف المسئول عن الإدارة والحسابات والذي كان يأتمر بأمره خريجو الجامعات- يتحول إلى بائع في محل موبيليا! ومن الغريب أن الوظيفة لا تنتظر، فما أسرع أن يلتحق بها شخص آخر، فيحمد الله على ذلك، لكن مجرد عرضها عليه يتركه محطما من الداخل!

إن مشكلة أصحاب المعاشات أننا لم نلتفت إلى طاقاتهم التي مازالت قادرة على العطاء، وليس بالضرورة أن يعملوا في وظائف ثابتة بمرتبات محددة، وإنما هناك أعمال مفيدة للغاية يمكنهم القيام بها، وعلى رأسها دروس التقوية للتلاميذ بأجور رمزية، بدلاً من استغلال محترفي الدروس الخصوصية الذين أصبحوا يجمعون خمسة عشر مليار جنيه من جيب الأسرة المصرية. كذلك هناك العديد من الأعمال الإشرافية التي يمكن أن يساعدوا فيها المحليات وإدارات الأحياء والقرى.. وبهذا الشكل نستطيع الاستفادة من تلك الطاقة المعطلة في المجتمع.

ثقافة حقوق الإنسان

[
الأهرام، 2008]

يظن الكثيرون أن حقوق الإنسان إذا ما تم تدريسها في المدارس والجامعات استقرت في المجتمع، والواقع أن حقوق الإنسان ثقافة وليست دراسة. والفارق بينهما واضح. فالدراسة مقرر يتم تلقينه للتلاميذ والطلاب ويجري امتحانهم فيه ثم طرحه من عقولهم، بينما الثقافة وعي عام يتوزع على كل أفراد المجتمع، ويسري في سلوكهم.

وليست حقوق الإنسان لغزا أو فزورة صعبة يراد حلها، وإنما هي مجموعة من البنود تبلغ ثلاثين بندا تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أ صدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر سنة 1948 ويشتمل على ديباجة في صفحة واحدة، ومجموعة البنود الثلاثين في حوالي خمس صفحات. يعني المسألة كلها محصورة في ست صفحات فقط، يمكن طبعها، وتوزيعها على المواطنين في أماكن عملهم، أو على محطات القطارات والباص والمترو، كما يمكن بالطبع بثها في وسائل الإعلام من فترة لأخرى حتى يطلع عليها كل من يهمه الأمر. والواقع أنها موجهة لكل إنسان على ظهر الأرض، وفي أي دولة، وتحت أي نظام سياسي، لأنها تتعلق مباشرة بحقوقه الأساسية التي يجب أن يكفلها له القانون. وهنا نقطة هامة، وهي أن قوانين مختلف الدول ينبغي أن تتمشي تماما مع تلك الحقوق، ولا تتعارض معها، بل تكون تفصيلاً لها، وتطبيقا لمبادئها العامة.

ومن الرائع أنك عندما تقرأ بنود حقوق الإنسان سوف تجدها متمشية تماما مع مبادئ الأديان في بلادنا، بل إنها تتوافق تماما مع أعرافنا وتقاليدنا التي استقرت في أعماق الشعب المصري منذ آلاف السنين.

نص المادة الأولي: يولد جميع الناس أحرارا متساويين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء. وتنص (المادة الثالثة) على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه. و(المادة الرابعة) على أنه لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما. أما (المادة الخامسة) فتمنع عدم تعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحط بالكرامة (وعلي هذا الأساس تمت إدانة أعمال التعذيب والحط من الكرامة التي وقعت من الجيش الأمريكي في سجن أبوغريب بالعراق). وتنص (المادة السابعة) أن كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، وتمنع (المادة التاسعة) القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفيا.  وتؤكد المادة (11) أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. أما المادة (13) فتتيح لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، كما يحق له أن يغادر بلاده، وأن يعود إليها كما يشاء.

وتنص المادة (16) على أن للرجل والمرأة متي بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. كما لا يبرم عقد الزواج إلا برضا الطرفين الراغبين في الزواج رضا كاملاً لا إكراه فيه. وتؤكد المادة (19) حق كل إنسان في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة دون تقيد بالحدود الجغرافية. أما المادة (21) فتتيح لكل فرد حق الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا..

تلك هي بعض البنود الثلاثين لحقوق الإنسان، والتي لو اطلع عليها أي إنسان لوجدها جميلة ورائعة وتستحق بالفعل أن تصبح جزءا لا يتجزأ من ثقافته، وبالتالي من سلوكه، والخلاصة أن المسألة بسيطة ولا تتطلب تلك الضجة الإعلامية التي تثار من أجلها لكي يجعلوها مقررا دراسيا يتجرعه تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات بالكثير من الضجر والملل!

* * *



الثقافة المصرية


بين التأميم والخصخصة


[الوفد، 11/4/2009]

لا أكاد انظر في أرجاء مصر إلا وجدت كل المؤسسات الثقافية التي كنت وأمثالي نحلم بوجودها قائمة بالفعل، فهناك المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الذي يهتم بكل أنواع الإبداع الأدبي والفني، وهناك إدارة للترجمة من اللغات الأجنبية، وهناك الهيئة العامة للكتاب التي تنشر الكتب القديمة والحديثة، وهناك مجمع اللغة العربية الذي يختص بتطوير اللغة العربية ويضع المعاجم والقواميس، وهناك المجمع العلمي المصري الذي أنشأه نابليون في مطلع القرن التاسع عشر، ويضم نخبة من علمائنا الكبار جدا، وهناك دار الأوبرا التي تعرض أرقى فنون العالم في الموسيقى والأوبريت، وقد أضافت لها الندوات الثقافية! وهناك الهيئة المختصة بالثقافة الجماهيرية التي تحاول تشجيع الأدب في مختلف الأقاليم، وهناك اتحاد الكتاب الذي يضم كل محترفي الكتابة وهواتها على السواء، وهناك في وزارة الثقافة إدارة للتفرغ، تقدم لمن لديه مشروع أدبي أو فني راتبا شهريا لمدة عامين أو أكثر حتى ينجزه، وهناك في أكاديمية البحث العلمي إدارة مختصة بالبراءات العلمية، يسجل فيها المبدعون اختراعاتهم لكي تحفظ حقوقهم فيها، وهناك بعد ذلك كله، هيئة للتنسيق الحضاري تتابع جماليات المعمار، وتكافح كل مظاهر القبح!.

فإذا تأملت معي بعد ذلك كله مجموع النتائج أو حصيلة الثمار التي تخرجها كل هذه المؤسسات الحكومية وجدتها ضعيفة جدا، بل هزيلة! والدليل على ذلك هو ما تعانيه الحياة الثقافية والأدبية والفنية في مصر من ضمور وتراجع بعد أن كانت متعافية ومزدهرة وتنشر أشعتها على العالم العربي كله.

وحين نتساءل عن السبب في ذلك فمن الممكن أن نضع أيدينا معا على عدة أسباب الأول: أن تبعية تلك المؤسسات الثقافية للدولة جعلها تعمل بنظام المصالح الحكومية التي يحكمها الروتين، وتتحكم فيها الإجراءات البطيئة والمعقدة، والثاني: أن الميزانية المخصصة لتلك المؤسسات لا تتناسب أبدا مع حجم وطبيعة النشاط الذي تتابعه، والثالث: أن القائمين على إدارة تلك المؤسسات موظفون يتسمون بضعف الخيال، وضيق الأفق، وعدم الإطلاع على ما يجري في دول العالم المتقدم، والرابع: أن الفترة التي نعيشها قد تكون خالية من كبار المبدعين الحقيقيين، أو الشباب الواعدين، ولذلك فإن هذه المؤسسات تشبه ماكينات الطحين التي لا يوجد فيها حبوب، ولذلك فإنها تصدر صوتا عاليا بدون فائدة، وقديما قال العرب (أسمع جعجعة ولا أرى طحنا!)، أما السبب الخامس: في رأيي فهو «وجود» هذه المؤسسات نفسها، بمعنى أنها تقف عائقا ضد المبادرات الفردية التي قد تكون أكثر فعالية، وأقوى أثرا، ويكفي أن أشير هنا إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أنشأها في النصف الأول من القرن العشرين جماعة من كبار العلماء والمفكرين منهم: أحمد أمين وطه حسين وزكي نجيب محمود وغيرهم واستطاعت بمجهودها الخاص أن تنشر عددا من روائع الأدب والفكر، كذلك أشير إلى مجلة الرسالة التي أنشأها وتابعها أحمد حسن الزيات، وكانت بمثابة جامعة أدبية وثقافية لكل أبناء العالم العربي، ولم تستطيع أن تصل إلى مستواها أي مجلة عربية أنشأتها دولة عربية حتى اليوم!

وهكذا.. فإن الثقافة المصرية بين التأميم والخصخصة تستحق نقاشا مجتمعيا واسعا لكي نصل فيه إلى نتيجة يمكنها أن تحررها من معوقاتها، وتدفع بها إلى آفاق واسعة من التقدم والازدهار.

* * *



هيئة الكتاب وخصخصتها


[
المساء، 2007]

كان الغرض من إنشاء هيئة الكتاب هو أن تشرف الدولة أيام محاولة تطبيق النظام الاشتراكي على حركة التأليف والترجمة وتحقيق التراث، ومن خلال هذا الإشراف تتحكم فيما ينشر وما لا ينشر. ولهذا السبب دعمت الدولة هيئة الكتاب دعما ماليا كبيرا لكي تتغلب على الناشرين المتواجدين في سوق الكتاب وتقضي عليهم، فأصبحت كتبها أرخص بكثير مما يباع لدي هؤلاء الناشرين. وكان المأمول أن تجتذب هيئة الكتاب المفكرين والباحثين المصريين لكي ينشروا إنتاجهم فيها، وهذا ما حدث بالفعل، لكنها ما لبثت أن أصيبت بأمراض فتاكة، من أهمها تكالب عدد من المفكرين والباحثين على الهيئة، واقتصارها على نشر إنتاجهم وحدهم دون غيرهم، وهو الأمر الذي أصاب الغرض من إنشائها في مقتل. فانصرف عنها معظم الكتاب والباحثين، بينما فتحت لهم دور النشر الخاصة في عهد الانفتاح الاقتصادي أحضانها، وزادت من مكافآتهم، وحسنت من شكل مؤلفاتهم، بل روجت على نحو واسع أسماءهم، وهكذا انتهي الحال إلى رجحان كفة الناشرين الخاصين على روتين هيئة الكتاب العقيم. والواقع أن بقاء واستمرار هيئة الكتاب وسط ناشرين محترفين يعد مناقضا لحركة السوق الحر. ولا يكاد يوجد لها مثيل في أي دولة متقدمة، أذكر على سبيل التندر أن هيئة الكتاب كانت تقوم أحيانا بنشر كتاب من كتب التراث يبلغ 20 جزءا، فماذا كان يحدث؟ يقوم أحد الناشرين، ولا داعي لذكر اسمه، بالاستيلاء على أحد هذه الأجزاء، وإخفائه في مخازنه، وعندما يحاول القراء المساكين الحصول على هذا الجزء كان يبيعه لهم بثمن مغالي فيه جدا، ربما يصل إلى ثمن المجموعة كلها. والسؤال الذي كنا نطرحه على أنفسنا: كيف استطاع هذا الناشر الماكر الحصول على ذلك الجزء من السلسلة؟ ومن الذي ساعده من داخل الهيئة نفسها على ذلك؟ وكيف لا تتخذ ضده الإجراءات القانونية اللازمة؟ وبالطبع لم تكن توجد إجابة، وكان الأمر يسير في اتجاه التدهور، حتى سمعنا أخيرا أن مخزون الهيئة من مطبوعاتها يبلغ ستة ملايين نسخة (تصوروا!! ) يعني الهيئة الموقرة طبعت على نفقة الدولة ومن حر ميزانيتها كتبا بتلك المبالغ الطائلة، ولم تستطع بيعها أو تصريفها فركدت في المخازن بهذا العدد الرهيب؟ من يحاسب من؟ هذا هو السؤال. وكيف تخرج هيئة الكتاب من أزمتها؟ لا توجد خطة.

وهكذا فإنني أنصح مخلصا أن تتم خصخصة هيئة الكتاب، وأن تترك للناشرين المحترفين الذين يعرفون جيدا صناعة الكتاب، وكيفية تسويقه وطرق بيعه في الداخل وتصديره للخارج. وإذا عدنا للغرض الأول من إنشاء هيئة الكتاب نجد أنه قد فقد مبرراته، خاصة وأننا نعيش اليوم عصر حرية التفكير والتعبير. والله الموفق.

* * *


القراءة وآفاقها


[
الأخبار، 3/2/2009]

القراءة هي الوسيلة الأساسية في التعليم، وهي أحد روافد تحصيل الثقافة، كما أنها قد تكون إحدى وسائل التسلية، وهكذا يمكن الحديث عن ثلاثة أنواع من القراءة بحسب أهدافها: قراءة التعليم وقراءة الثقافة وقراءة التسلية. ومن المعروف أن القراءة لا تبدأ إلا بعد محو الأمية أو فك الخط كما يقال.. عندئذ ينفتح أمام الإنسان عالم فسيح لا حدود له يمكن أن يتجول فيه بنفسه بعد أن كان يسمع عنه من الآخرين، كما يلتقي فيه بعقول ذكية وقلوب نابضة بالحيوية، لا يكاد يوجد مثلها فيمن حوله، وأولئك هم العباقرة الذين يزدان بهم تاريخ الفكر والعلم والأدب والفنون..

ليس في القراءة أبدا ما يؤذي، بل إنها تحتوي على كل ما يفيد. فالقراءة لا تزيد فقط من معلومات الإنسان وتأكيد معرفته، وإنما هي أيضا توسع آفاقه، وهو مقيم في مكانه، وبذلك فإنها توفر علينا عناء الرحلة التي قد تستغرق عمره وتستنفد ماله دون أن يحصل منها على ما يحصله من خلال القراءة، كما أنها تتيح له أن يرى أمما وشعوبا مختلفة تفكر وتتصرف بأساليب متنوعة وتحزن وتفرح بأسبابها الخاصة، وهذا كله يدفعه إلى أن يعيد النظر في ذاته، والتفكير في حياة مجتمعه، كما يفتح أمامه مجالات المقارنة، التي تساعده على تصحيح الأخطاء وتعديل المسار، وليس بالضرورة أن يكون ما يجده لدى الآخرين أفضل مما لديه بل لعله يكون أسوأ، وهذا يجعله يزداد تمسكا بجذوره ويقوي انتماءه لوطنه.

وتتميز القراءة عن الرحلة في أنها تساعد على تكوين الحس النقدي لدى الإنسان وتعمل على تطويره. الإنسان في الرحلة يظل دائما غريبا وهو عابر سبيل يرى الناس والأشياء من الخارج. صحيح أنها رؤية مباشرة ومهمة جدا لكنها سريعة وخاطفة، لا تتيح له الوقت الكافي للتأمل والتدبر وإعادة التفكير قبل إصدار الحكم، أما الإنسان الذي يقرأ فيمكنه أن يغلق الكتاب ويفكر فيما قرأ، بل ويعيد التفكير مرتين وثلاثا: هل أصاب المؤلف أم أخطأ؟ وهل وصف الواقع أم بالغ؟ وهل لديه أفكار أم أنه مجرد ثرثار؟!

القراءة تزيد من ثقة الإنسان في نفسه، وتجعله أقدر على مواجهة الواقع دون خشية أو تردد، والسبب أنها تزوده بالمعلومات وتؤكد المعرفة في عقله، ومن هنا يصبح أهلا للمواجهة، ومحصنا في نفس الوقت من ألوان الخداع التي يتعرض لها الإنسان العادي.

ثم نأتي إلى مسألة الاختيار في القراءة وهي مسألة مهمة للغاية وينبغي على كل جيل أن يقوم بها لنفسه، ثم لكي يبصر بها الجيل اللاحق له. كثيرا ما دعوت إلى ضرورة إجراء استفتاء بين المفكرين والعلماء والأدباء لكي يختاروا للشباب أهم وأفضل مائة كتاب أو خمسمائة، أو ألف.. لأننا يجب ألا نغفل عن حقيقة مهمة، وهي أنه ليس كل ما يكتب يستحق القراءة، فهناك من المؤلفين من كتب أشياء تافهة، أو لا معقولة!

وفي وقتنا الحاضر ظهرت وسائل الإعلام المرئية فجذبت عيون الشباب وشغلتهم عن القراءة: وتلك ملاحظة تصدق على كل شباب العالم تقريبا، لكن شبكة الانترنت أسرعت فتداركت الموقف وذلك من خلال إتاحة المعلومات بدون حدود لكل من يرغب فيها على وجه الأرض، بل إنها استوعبت المكتبات العالمية وما تحتويه من الكتب فضمته إلى صفحاتها الالكترونية. لابأس. المهم أن يتجول فيها الشباب، وأن يلتقطوا منها ما يستحسنون، بشرط ألا يغيب عنهم المفيد والنافع من المعلومات المعروضة. وهنا أعود فأذكرهم بالمثل الفرنسي الجميل: «قل لي ماذا تقرأ.. أقل لك من أنت»؟

* * *


الشاعر والناظم


[
الوفد، 14/12/2008]


يتشابه الشعر والنظم في أن كلا منهما كلام موزون، وقد يكون مقفى أو حرا.. لكن الشعر يتميز عن النظم بأنه يمتلئ بروح حية تسري فيه، وأطياف ملونة تدور حوله، وكهرباء تنساب منه فتؤثر في روح المتلقي، وتتركه في حال من الانفعال الممتزج بالنشوة، وأحيانا بالغضب. أما النظم الذي يشبه الشعر من حيث شكله وبناؤه تماما، فإنه يصك سمع المتلقي وقد يؤثر في أذنه لكنه لا يتجاوز ذلك إلى صميم قلبه وروحه.

الشاعر فنان بطبعه، والناظم «صنايعي» لا يجيد سوى التقليد والتصليح وإخراج القصيدة على نحو ما يفعل الشاعر من حيث الظاهر، ومع ذلك فإنه لا يتمكن أبدا من أن ينفخ فيها الروح، أو يجعلها ذات وقع وتأثير يتجاوز حدودها إلى قلوب الآخرين. ومشكلة الناظم أنه يتجاهل أهم خصائص الشعر وهو الإلهام الذي لا يهبط إلا على أصحاب الموهبة، وأنا أقول إن الموهبة منحة من الله تعالى للشعراء والأدباء والفنانين، ويقول نقاد الغرب إنها منحة من الطبيعة، لأنهم لا يؤمنون بالله.

وهناك من الناظمين يحاول استدعاء الموهبة بأي شكل وأحيانا بأي وسيلة، فتراه يطيل شعره، أو يمسك عصا، أو يهمل ملابسه، أو يضع حول رقبته كوفية ملونة، وإذا جلس في ندوة راح يحدق في السقف، وقد يبتسم بدون داع، أو يتمتم بكلمات لا تخرج من شفتيه.. ومع ذلك فإنه عادة ما يجيد فن إلقاء قصيدته، محاولاً جعلها تبدو أنها من الشعر، وهي في واقع الأمر من فصيلة النظم. ولكي أضع في يدك معيارا تميز به بين الشعر والنظم فإنني أدعوك لقراءة القصيدة «الشعرية أو المنظومة» بعيدا عن إلقاء صاحبها، وعندئذ سوف تحس بأن «القصيدة الشعرية» هي التي تشدك إليها بخيوط من المشاعر والأحاسيس، في حين أن «القصيدة المنظومة» تظل باردة وهامدة وجامدة على الورق.. صحيح أنك قد تجد فيها تنسيقا عقليا، أو محسنات بلاغية، أو تلاعبا بالألفاظ وجودة في صفها وسبكها والمقابلة بينها، ولكنك سوف تفتقد فيها «الروح» التي أشرنا إليها، فهي مثل التمثال الجامد، الخالي من أي إيحاء.

الشاعر يكتب قصيدته بعفوية بالغة، فتخرج من بين يديه كائنا جميلاً يبكي ويضحك، وربما طار وزقزق.. ولذلك فهي أشبه بالمولود الذي لا يخرج إلى الحياة إلا بعد أن يكون قد اكتملت أعضاؤه، وأصبح قادرا على تنفس الهواء خارج بطن أمه.. وليس معنى هذا أن الشاعر لا يعاني، بل إنه مثل تلك الأم التي لا تلد إلا بعد أن تمر بفترة طويلة من الحمل الثقيل الذي يرهقها وأحيانا يوجعها. وقد يتصور البعض أن الشاعر الموهوب لا يقرأ ولا يغوص في بطون الكتب، على العكس إنه قارئ نهم للتراث الشعري المكتوب بلغته، وكذلك بلغات الأمم الأخرى.

إن الشاعر الموهوب يدرك بالفطرة أنه حلقة في سلسلة التراث الشعري العالمي، وأن هذه الحلقة متصلة بما قبلها، كما أنها ممهدة لما يأتي بعدها، ولذلك فإنه يكون دائما إضافة وليس تكرارا، صوتا متميزا وليس ضجيجا أجوف.

وهناك فارق آخر أساسي بين الشاعر والناظم يتمثل في أن الشاعر صاحب رسالة يقوم بتبليغها للناس في عصره، وربما تجاوزهم إلى العصور اللاحقة. وهذه الرسالة قد تكون وجدانية، أو وطنية، أو إنسانية، أما الناظم فإنه يظل أسير الشكل الشعري الذي يرهق نفسه في إقامته وتجويده، في حين أنه يخلو من أي هدف حقيقي أو رسالة يمكن تبليغها للناس. والخطورة هنا أن يعلو صوت الناظم على صوت الشاعر، وفي هذه الحالة قد ينشغل الناس بدعايته، وأساليب عرضه البلهوانية فيتجمعون حوله، بينما يهملون الشاعر الحقيقي ولا يلتفتون إليه إلا بعد فوات الأوان. ومن الغريب أن الناظمين يعرفون أنفسهم جيدا، كما يعرفون الشاعر الحقيقي، فيعملون بكل الوسائل على إخماد صوته، والتعتيم عليه بضجيجهم العالى، إلى أن يأتي يوم يتنبه فيه المجتمع إليه، ويكتشف أنه قد أضاع وقته في الإصغاء إلى هؤلاء الأدعياء بدون طائل!

ويبقى أن النقاد الحقيقيين، وليس المزيفين أيضا، هم الذين يأخذون بأيدي المجتمع لتمييز الشاعر الموهوب من الناظم المحاكي، وبيان قيمة الصوت الحقيقي من أصوات الطبول الجوفاء!

* * *



القاهرة وشعراؤها


[
آخر ساعة، 2007]

في سنة 1950 ألقي طه حسين في مدينة نيس وكان وزيرا للمعارف محاضرة بالفرنسية بعنوان (مصر وفرنسا) وقد ظلت هذه المحاضرة مجهولة حتى عثرت عليها وترجمتها إلى العربية، وكان من أهم ما فيها مقارنته الذكية بين عاصمتي الدولتين: القاهرة عاصمة مصر وباريس عاصمة فرنسا، وأن كلاً منهما تعتبر في منطقتها مركزا للحضارة ومنارة للمعرفة. في باريس توجد جامعة السوربون التي يأتي إليها طلاب العلم من أوربا كلها، وفي القاهرة يوجد الأزهر الشريف وجامعة القاهرة اللذين يفد إليهما طلاب العلم من إفريقية وآسيا. ولعل هذه المحاضرة هي التي جعلتني أطمح دائما ألا تقل القاهرة في شيء عن نظيرتها باريس. لكنني لاحظت أمرا خاصا فيما يتعلق بكثرة الشعراء الذين كتبوا قصائدهم في باريس، وقلة الشعراء الذين كتبوا عن القاهرة. وتساءلت عن السبب فوجدت أن نطق كلمة باريس أسهل من نطق كلمة القاهرة. الأولي تحتوي على مقطعين صوتيين، والثانية على أربعة مقاطع. وهذا هو الذي جعل ورود كلمة باريس في الشعر وبالتالي في الأغاني أكثر شيوعا من ورود كلمة القاهرة، ويكفي أن تلاحظ كيف يطلق المصريون جميعا وخاصة من أهالي الأقاليم على القاهرة اسم مصر، فيقولون: أنا نازل مصر، وأنا رجعت من مصر، وهم يقصدون بالطبع عاصمتها القاهرة. ولأنني من مواليد هذه المدينة ومن عشاقها في نفس الوقت، فقد حاولت أن أسجل حبي لها في ديوان شعر، سميته (عاشق القاهرة) تضمن قصائد بعناوين (حي الحسين – الدرب الأحمر – شارع نوال) وهي الأحياء التي عشت فيها، ومازلت مرتبطا من الناحية الوجدانية بها.

ومن بين المقطوعات التي ذكرتها فيها بالاسم:

أحبك يا قاهرة

أحب شوارعك الواسعة

أحب ميادينك الفاخرة

مقاهيك، نسوتك الفاتنات يضيقن خطواتهن وتفهق منهن أحلي العطور

أحبك لكن رأسي يدور..

في القاهرة يوجد أجمل ما في المدن الأوربية، كما يوجد فيها أيضا مشكلاتها. لكنها تظل بالنسبة إلى المدينة المعشوقة، التي لا أكاد أغيب عنها ليلة أو ليلتين حتى أجد قلبي ينتفض بقوة نحوها. والعجيب أنني عندما أتركها أصبح مثل السمكة التي تخرج من الماء، ولا تستطيع التنفس إلا إذا عادت إليه!

في فرنسا يوجد ممثل أصيل اسمه جان لوي ترينيون ومن الواضح أنه لم يحصل على نفس الشهرة التي حصل عليها نظيره الفرنسي الأقل موهبة منه لكن اسمه أكثر سهولة، وهو ألان ديلون. وهذا هو حظ القاهرة في الشعر بالنسبة إلى حظ باريس. وحتى صديقي الفنان سمير الاسكندراني عندما حاول أن يغني للقاهرة، فضل أن يستخدم اسمها الإفرنجي (كايرو) نظرا لانسجامه مع الموسيقي واللحن. والسؤال الآن: متي ينجح الشعراء عشاق القاهرة أن يدخلوها في قصائدهم باسمها العربي الأصيل؟ ([3])

روائيان مصريان.. في الظل

[
الأخبار، 14/7/2009]

أما الأول فهو الدكتور علي أبو المكارم، الذي أصدر حتى الآن تسع روايات بالتمام والكمال، ولم يكتب عنه أي ناقد مصري كلمة واحدة، لماذا؟ لأن الرجل متواضع، وبعيد عن الشللية، ويفضل العزلة على الضجيج، لكن دور النقاد في الأصل هو البحث والتنقيب المستمر عن أي عمل أدبي يتم إصداره، بغض النظر عن سلوك صاحبه الشخصي، وحركته الاجتماعية. والواقع أن هذا الروائي المتمرس على حق، كيف له أن ينخرط في ضجيج حياة ثقافية لا يتحرك فيها سوى الأدعياء الذين أصبحوا يكتبون عن أنفسهم الأخبار ويسربونها إلى الصحافة لتنشرها عنهم، وأحيانا يقولون إن أعمالهم تنتشر في الغرب، وأؤكد لكم أن الأوساط الأدبية في الخارج- وقد عشت فترة طويلة هناك- لا تعرف عنهم شيئا، وحتى إذا كانت أعمالهم مترجمة بفعل فاعل من طرقهم فإنها لم تحصل على أي تقدير، ولم يشر إليها ناقد محترم في الغرب، ومن المؤسف أن الكثير منهم يحصل على الجوائز المحلية، ونحن نعلم جيدا كيف يتم الحصول على هذه الجوائز من خلال التربيطات والوسايط وتبادل المصالح. إن روايات علي أبو المكارم هي «الموت عشقا- العاشق ينتظر- أشجان العاشق- الساعة الأخيرة- سفر الغربة- زهرة البنفسج- أحلام الكرى- على الهامش، وأخيرا سماء بغير نجوم»، والمدهش في هذه الروايات إنك لا تبدأ قراءة الصفحات الأولى منها حتى تجد نفسك منخرطا تماما في عالمها، متفاعلا مع أحداثها، ومتحاورا مع شخصياتها، وأخيرا محلقا في الأجواء التي أراد الكاتب أن يضعك فيها.

وأما الروائي المصري الآخر فهو الدكتور حسن البنداري الذي صدر له حتى الآن روايات «سلوى الروح- العائد بالحب- صخب الهمس- فوق الأحزان» إلى جانب أربع مجموعات قصصية هي «الجرح- الكلام- أمواج الفردوس- يوم» وهي جميعها من الأعمال الأدبية المتميزة من حيث التكنيك الفني، وترابط الأحداث، ولغة السرد، وبعضها مؤهل تماما لكي يتحول إلى أفلام سينمائية. إن حسن البنداري يكتب منذ الستينيات، وقد شارك كمجند في حرب أكتوبر، وهو يعرف جيدا مشاعر جنودنا الذين عاشوا على الجبهة ست سنوات يحرقهم الشوق إلى عبور القناة وتحرير سيناء حتى تحقق على أيديهم النصر الرائع في أكتوبر 1973، لكن حسن البنداري مثل زميله علي أبو المكارم من هواة العزلة والابتعاد عن الأضواء، وهو يكتب أعماله بطريقة النمنمة التي يتميز بها صناع التحف العربية الدقيقة في خان الخليلي.

إن كلا من علي أبو المكارم وحسن البنداري يعتبر من نفس العجينة الروائية المصرية التي تشكل منها عمالقة الرواية المصرية: نجيب محفوظ، ويحيى حقي، ويوسف إدريس: ومن الملاحظ على هذين الروائيين أنهما ينشران أعمالهما الكبيرة والغزيرة على نفقتها الخاصة، ويوزعان النسخ هدايا للأصدقاء ومحبي الأدب الحقيقيين، ومن حقهما علينا أن نسلط نقطة ضوء عليهما لكي يتنبه لهما الإعلاميون، ويعكف على دراستهما الباحثون، ويحكم عليهما النقاد المصريون الذين يعيشون معهم في نفس الوطن، بدلا من أن يكتب عنهما غيرهم، أولا يكتب أحد عنهما إلا بعد الموت، وقد قيل قديما: إن الأديب في الشرق يموت حيا، ويحيا ميتا. لكنني أتمنى لكل منهما طول العمر، ودوام العطاء الروائي المتميز، ولعل في هذه الإشارة السريعة تتنبها لمن يهمه الأمر..

وصْفة أي مشروع ناجح

[
الوفد، 28/1/2009]

إن تجارب النهضة والإصلاح التي عاشتها مصر منذ حوالي مائتي عام قد نقلتها بدون شك من مجتمع تقليدي بطئ الحركة والإيقاع في كل المجالات تقريبا، إلى مجتمع متحرك ومتعدد الأنشطة وبالتالي أشد تركيبا وتعقيدا مما كان عليه خلال القرن الثامن عشر وما قبله بعدة قرون. لا ينكر أحد أن المجتمع المصري لا يختلف كثيرا، إن لم يكن يجاري، بعض الدول الأخرى، التي يبدو فيها بوضوح أن حركة التقدم أسرع، ومعدلات التنمية أعلى نسبة.

ومع ذلك أو على الرغم منه يعلن كثير من المثقفين عن عدم رضاهم من الإيقاع البطيء للتقدم والتهاون أحيانا بالأسباب الحقيقية للنهضة الشاملة وهم يقارنون، ومعهم كل الحق، بين المجتمع المصري والمجتمعات الآسيوية، أو في أمريكا اللاتينية التي كانت أقل تخلفا وأشد فقرا من المجتمع المصري لكنها وصلت إلى مستواه بل إنها تجاوزته بمراحل، وفي مثل هذه الحالة، لابد للعقلاء أن يفكروا في الوضع، وأن يستعرضوا الإيجابيات والسلبيات بهدف تعظيم الأولي، وتقليص الثانية.

ومن أبرز ما يقلق المجتمع المصري أن نسبة البطالة فيه عالية جدا، وأن حالة العنوسة بين الشباب والفتيات متفاقمة، وأن ظاهرة الطلاق تكاد أرقامها تخيف، بل تصدم (أكثر من 90 ألف حالة طلاق في العام الواحد) وأن الأطفال في سن التعليم يتسربون منه بأعداد كبيرة، كما أن تشغيلهم أو أعمالهم في الشوارع واضحان للعيان، وبالطبع هناك أزمات في الإسكان والمرور والصحة والتعليم.. تلك هي أم العناصر التي تتكون منها الصورة المظلمة، لكن الصورة المشرقة تتمثل في شيء واحد يمكن أن يتغلب على كل هذه العناصر، وهو أن نسبة الشباب تبلغ 40% من عدد السكان، وأن هذا الشباب لحسن الحظ قابل للتعليم والتدريب قادر على القيام بالعمل، صبور على تحمل مشكلاته، ويمكنه بالفعل أن يتجاوز ما يعترضه من عقبات.

هنا تبرز الحاجة الماسة إلى حسن إدارة هذا الكم الهائل من الشباب، والذي هو في حد ذاته ثروة بشرية لا يستهان بها، وتكاد تفتقدها معظم البلاد الغربية المتقدمة جدا، وعندما أقول حسن الإدارة فإنني أتجه ببصري مباشرة إلى الدولة والحكومة وأصحاب المشروعات الاستثمارية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة.. فكيف يقوم كل من هؤلاء بواجبه، ويتحمل مسئوليته، ويتجه لتنفيذ عمل كبير ينهض به المجتمع كله، وليس قطاعا واحدا من قطاعاته!

ولكي نبدأ من البداية الصحيحة التي ينصحنا بها المنهج العلمي لابد أولاً: من تحديد الأهداف، والهدف هنا عبارة عن النقطة التي يريد المجتمع المصري أن يصل إليها خلال فترة زمنية محددة، ولابد عند تحديده أن يراعي فيه البساطة، والاعتماد على الواقع، والقابلية للتنفيذ.

ثانيا: وضع الخطة التي يمكنها أن تحقق هذا الهدف، إما على مرحلة واحدة أو على عدة مراحل، مع الالتزام الدقيق بتنفيذ كل منها في موعده.

ثالثا: توفير الإمكانيات المادية، والقوى البشرية اللازمة للتنفيذ، مع الأخذ في الاعتبار أهمية استشارة المتخصصين من مصر أو من الخارج.

رابعا: وضع نظام دقيق للمتابعة يقوم بتقييم كفاءة العمل، والقائمين عليه، ويكافئ أو يعاقب كلا بما يستحق.

خامسا: تطبيق أنظمة الصيانة على كل ما يتم إنجازه، مع تشجيع شركات استثمارية للقيام بهذا العمل، ومساءلتها على حسن أدائها من عدمه.

إنني هنا لم أقدم جديدا، وإنما عرضت الأسلوب الصحيح لبداية أي مشروع ناجح واستمرار نجاحه، وهذا الأسلوب عالمي، وليس محليا، وإذا بحثتم عن أي مشروع ناجح في العالم سوف تجدونه مطبقا بحذافيره.

* * *


([1])
قبل مرور عامين على نشر هذا المقال، قامت الصين من جانبها بإطلاق قناة فضائية باللغة العربية، لكي تطلع أبناءها على حضارتها وثقافاتها ومظاهر التقدم فيها.

([2])
سمعت مؤخرًا أن الصين أطلقت هذه الأيام (أغسطس 2009) قناة ناطقة بالعربية، وموجهة أساسًا إلى العالم العربي!

([3])
قمت بكتابة نشيد (القاهرة) ولحنه الفنان د. طارق سمير، وأهدينا إلى (إذاعة القاهرة الكبرى) .. وهي تبثه في المناسبات.

 






اولا : فى الشأن المصرى :



-
الانتماء وحب الوطن

- ثروة مصر فى جغرافيتها

- مصر التى لم تكتشف

- نحو تنظيم وزارى آخر

- نصائح قديمة للوزراء

- هل لدينا مشروع للنهضة ؟

- ثلاثية الأصالة فى حياتنا

- نظرية السماح بالتقدم

- عندما فكرت فى إنشاء حزب سياسى

- المرأة المصرية والسياسة (التشخيص والحل)

- عائد من الصين

- إعلامنا والحضارة المصرية

- رجال الأعمال والإعلام

- المدن الجديدة والعاصمة

- الإصلاح بواسطة المقارنة

- ثلاثة مصطلحات خادعة

- الفضائيات الموجهة إلينا

- خطاب مفتوح إلى القضاة

- أفكار محمد عبده

- طبيب مصرى من ألف عام (على رضوان)

- المجتمع المصرى ومشكلاته

- وقفة مع جرائم الشرف

- شروط الزواج الناجح

- الشارع المصرى فى مطلع القرن الحادى والعشرين

- حياة الانسان فى المعاش

- ثقافة حقوق الانسان

- الثقافة المصرية بين التأميم والخصخصة

- هيئة الكتاب وخصخصتها

- القراءة وآفاقها

- الشاعر والناظم

- القاهرة وشعراؤها

- روائيان مصريان .. فى الظل

- وصفة أى مشروع ناجح

الانتماء وحب الوطن

[الأخبار، 6/1/2009]


شاعت في الآونة الأخيرة كلمة «الانتماء» وزادت مطالبة الكبار للشباب بضرورة الانتماء، وهم يقصدون بذلك أن يغلبوا مصلحة الوطن العليا على مصالحهم الشخصية وكثيرا ما يحتجون على ذلك بأنهم أي الكبار عاشوا فترة شبابهم وهم أكثر انتماء من هؤلاء الشباب الذين لم يعودوا يشعرون مثلهم بشعور الانتماء. والدليل على ذلك أنهم يتطلعون إلى السفر للعمل بالخارج ويركبون الصعب أحيانا فيسافرون بحرا في مركب قد ينقلب بهم في وسط الموج أو تحتجزه سلطات البلاد الأخرى وتعيد ترحيلهم بصورة مهينة إلى بلادهم! وأبشع الأمثلة على غياب الانتماء في شباب العصر الحاضر أنهم يسافرون إلى العمل بل والزواج في إسرائيل، التي مازالت تحتل جزءا من الأراضي العربية ومازالت حالت الحرب قائمة بينها وبين بعض البلاد العربية!

فما حقيقة الانتماء؟ وما المقصود منه؟ يبدو أن الانتماء يعني الارتباط الشديد بمبدأ أو بمكان أو بمهنة أو بمؤسسة أو بمجموعة من الناس، وهذا يتطلب التمسك بذلك، والإخلاص له وعدم التخلي عنه تحت أي ظرف، إلى جانب التضحية في سبيله بكل ما يملك الإنسان من جهد أو مال أو نفس. والأمثلة على ذلك عديدة. فالانتماء إلى البيت يعني أن يحس الإنسان بالراحة والاطمئنان والسعادة فيه، والتشوق إليه حين يبعد عنه، وفي نفس الوقت عدم قبول الإساءة والاعتداء عليه من الآخرين والإسراع بالدفاع عنه إلى حد الموت في سبيله. وليس البيت سوى نموذج مصغر للوطن الكبير الذي يضم مجموعة من الناس تتشابه في الجنس واللغة والمعتقدات والثقافة والسلوك، ومهما كانت الطبقة أو الفئة التي ينتمي إليها الشخص، فإنه عند نشوب الحرب أو وقوع الأزمات الكبرى بوطنه، يجد نفسه منخرطا مع سائر الطبقات والفئات الأخرى بنفس الإحساس، وتتملكه نفس المشاعر التي تسري فيهم جميعا.

جاء في أحد الأمثال الأمريكية أن الإنسان يرتبط بوطنه، كما يرتبط بأمه، وعندنا أن حب الوطن من الإيمان. وهناك مثل إنجليزي يقول: أيا كانت بلادي مخطئة أو مصيبة فإنها تظل بلادي. أما المثل الفرنسي الطريف فيقول: إن الخبز في الوطن يفضل كثيرا البسكويت في البلاد الأخرى!

لكن إذا كانت كل تجارب الشعوب التي وردت إلينا في أمثالها تؤكد قيمة حب الوطن في نفوس أبنائه، فإن بعضها الآخر يذهب إلى تغليب مصلحة الإنسان الخاصة على حب الوطن أحيانا. ومن ذلك المثل الإغريقي الذي يقول: حيث نكون مرتاحين يكون الوطن! وأيضا كل البلاد تعتبر وطنا للشجاع، وكذلك العالم كله هو وطن الحكيم! والمثل اللاتيني يقول: حيث توجد ممتلكاتنا، فهذا هو الوطن! وفي أمثالنا الشعبية: «فين بلدك يا جحا؟ قال اللي فيها مراتي».

ومع ذلك تظل هذه الأمثال العالمية استثناء من قاعدة حب الوطن، الذي هجرنا مصطلحه الجميل إلى مصطلح الانتماء «لست أدري لماذا؟» إن كلمة الانتماء لا يفهمها الجميع، بينما حب الوطن هو من أقوى روابط الإنسان بالأرض التي ولد فيها، وبالناس الذي عاش بينهم. والواقع يؤكد أنه لا يوجد مكان في العالم أطيب ولا أحب من الوطن بالنسبة لأهله.

والدليل على ذلك ما نشاهده من لهفة أولئك الذين هاجروا إلى البلاد المتقدمة والغنية وأقاموا فيها لفترة طويلة في حياتهم- حين يذكر أمامهم اسم بلادهم أو يرد خبر عنها. صحيح أنهم خرجوا منها لأسباب اقتصادية واجتماعية صعبة، ولكنهم لا يفقدون أبدا هويتهم أو قل إحساسهم بالانتماء للوطن.

* * *


ثروة مصر في جغرافيتها


[
الأخبار، 2007]

من واجب أي إنسان مصري أن يعرف طبيعة بلده، وأن يكون لديه فكرة عامة عن جغرافيتها، التي يمكنها أن تضع يده ببساطة على ثرواتها الطبيعية وإمكانياتها المحتملة. وقد عشت لفترة طويلة أقرأ التاريخ وأهتم به، ولم أكن أعطي للجغرافيا نفس الاهتمام، وأخيرا قلت لنفسي. لماذا لا أنظر قليلاً إلى جغرافية مصر؟ فماذا وجدت؟ الموقع في الشمال الشرقي من قارة إفريقيا، مضافا لها شبه جزيرة سيناء الواقعة في آسيا. والمساحة تبلغ مليون متر مكعب. وهي في عمومها جزء من الصحراء الإفريقية الكبرى، التي يخترقها نهر النيل، فيفصلها إلى قسمين، أحدهما الصحراء الشرقية على يمينه، والصحراء الغربية على شماله. ونسبة مساحة الأولي للثانية 1: 3. الجبال في مصر تكثر في صحرائها الشرقية، وهي مكونة من الصخور النارية والمتحولة، بينما الهضاب المصرية مكونة من الصخور الجيرية. وفوق الجبال العالية على البحر الأحمر تسقط الأمطار الغزيرة فتصنع العديد من الأودية، وهذه الأودية بعضها يصب في اتجاه البحر، وبعضها الآخر في اتجاه وادي النيل. أما الصحراء الغربية الأوسع مساحة فهي مسطحة في عمومها وجافة في مناخها لكنها تحتوي على عدد من الواحات، بالإضافة إلى منخفض القطارة الذي لم يستغل حتى اليوم.

ماذا نستخلص من ذلك؟ أن مصر تحتوي على جبال ووديان ومسطحات رملية ومنخفضات ترقد تحتها مياه جوفية منذ آلاف السنين. وكل عنصر من هذه العناصر قابل للدراسة والتحليل واحتمال اكتشاف مختلف المعادن فيه. ولا شك أن هذا العمل إنما يقع أساسا على كليات العلوم في جامعاتنا، التي تضم أقساما متخصصة في الجيولوجيا، وتستطيع أن تعرف أنواع الصخور التي تمتلئ بالمعادن، وطبيعة الرمال التي يصنع منها الزجاج. والعجيب أن أجدادنا القدماء، قد استطاعوا أن يكتشفوا وسط تلك الصحاري المترامية مناجم الذهب وعروقه، التي صنعوا منها الحلي وزينوا بهن المعابد والقبور. أما نحن فقد أصبحنا في وضع أفضل منهم، فلدينا الآن صور الأقمار الصناعية، ووسائل البحث والتنقيب والمجسات الحديثة، ولذلك فإن مسئوليتنا تجاه الصحراء مسئولية مضاعفة. لأن من غير المعقول أن نترك 94% من أرض مصر بعيدة عن البحث العلمي وإمكانيات الاستثمار، ونظل محصورين حول مجري النيل الممتد من أسوان حتى القاهرة، والذي يتفرع بعد ذلك إلى فرعي دمياط ورشيد مكونا الدلتا المثلثة والتي أصبحت هي الأخرى تعاني من اكتظاظ سكاني رهيب، وزحف اضطراري على الأراضي الزراعية لابتلاعها داخل الكتلة الأسمنتية للبيوت والمصانع ومزارع الدواجن!

أما نيل مصر الرائع، فإنه يمتد عبر الأراضي المصرية حوالي 1536 كيلو مترا، منها 350 كيلو بين وادي حلفا وأسوان و 946 ك.م بين أسوان والقاهرة. أما فرع دمياط فيبلغ عرضه 286 مترا، بينما يصل عرض فرع رشيد إلى 472 مترا وهو أطول من صاحبه بحوالى ستة كيلو مترات، وأعلي من مستواه بحوالى مترين.

لقد قال المؤرخ الإغريقي القديم هيرودوت إن (مصر هبة النيل) وهذا صحيح. لكن النيل أصبح عجوزا، وهو يحتاج من أبناء مصر إلى فكر جديد، بحيث يحسنون استغلال كل قطرة منه، فهي أغلى من البترول. وهذا يعني التوسع في الزراعات الحديثة، والإقلال من غمر الأرض بالماء كما كان أجدادنا يفعلون منذ آلاف السنين!

ألا تتفقون معي الآن في أن قراءة الخريطة الجغرافية لمصر يمكنها أن تفتح أبواب المستقبل السعيد لمصرنا الحبيبة؟!


مصر التي لم تكتشف


[الأخبار، 21/4/2009]

لست عالم جيولوجيا لكي أحدد لكم أماكن المعادن في طبقات الأرض على امتداد الصحراء المصرية، التي تبلغ حوالي 95% من مساحتها الكلية، ولست خبيرا زراعيا لكي أنصح بزراعة هذه المنطقة أو تلك، تبعا لوجود أبار جوفية، أو أمطار محتملة، أو امتدادات ممكنة لنهر النيل، ولكني متأمل في الشأن العام المصري، ومتابع لأحوالنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالطبع يؤسفني جدا بل يحزنني أن يظل الشعب المصري يتزايد عدده، وهو محصور في تلك البقعة الخضراء أو المحيطة بنهر النيل على امتداد الصعيد، والمنفتحة على هيئة مروحة في الدلتا بسبب انقسام النيل إلى فرعي رشيد ودمياط، فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذا النهر الخالد قد أصبح يتكالب على مياهه المحدودة العديد من الدول الإفريقية، أدركنا خطورة ثبات الكمية الواردة إلينا من مياهه، أو حتى الانتقاص منها!

وملاحظتي الأساسية هنا هي أن المصريين عندما يفكرون في التوسع خارج حدود الشريط الأخضر المزروع بمياه النيل، فإنهم يفكرون أيضا في الزراعة: زراعة الصحراء بالآبار الجوفية، وهي بالتأكيد لها عمر افتراضي محدود، أي أنها معرضة للنضوب من ناحية، ولزيادة الأملاح الضارة بالنبات من ناحية أخرى.. المهم أن المصريين لم يفكروا جديا حتى الآن في محاولة اكتشاف الصحراء التي تتكون منها أرضهم أساسا، ومحاولة البحث عما تحتوي عليه من خيرات قد لا تقل أبدا عن خيرات الزراعة.

حدثني أحد علماء الآثار أنه ذهب في بعثة استكشافية بالصحراء الغربية، وبعد أن قطعت سيارتهم القوية والمجهزة جيدا أكثر من ساعتين في عمق الصحراء وجدوا فتحة في تل من الرمل، وعندما اقتربوا منها فوجئوا بأنها مدخل منجم ذهب مهجور، استنفد قدماء المصريين منه كل ما فيه، ولم يتبق سوى بعض الذرات اللامعة.. يقول العالم: إن دهشتي لم تكن في عثورنا على هذا المنجم الصغير وسط صحراء شاسعة، وإنما في محاولة فهم كيف تم الوصول إليه من جانب أجدادنا، بإمكانياتهم البدائية ووسائلهم البسيطة التي كانت متاحة لهم في ذلك الزمن البعيد!

إن الحدود الشمالية والشرقية لمصر تمتد على بحرين كبيرين، يرتادهما العالم كله، وهما الأبيض والأحمر، ولم تستغل حتى الآن تلك المساحة الممتدة من الشواطئ فيما ينبغي أن تستغل من أجله: سواء بصيد السمك وتربيته وتعليبه وتصديره، أو بإنشاء العديد من المواني، إلى جانب تنشيط الحركة السياحية، وتشجيع رياضات الغطس وسباق القوارب.

لم يعد من المعقول أن يصل عدد سكان مصر إلى ثمانين مليونا، وهم مازالوا يتكدسون في نفس المساحة التي كان يعيش فوقها نصف هذا العدد؟! ولم يعد مقبولا أن تظل الزراعة- رغم أهميتها القصوى- هي مصدر الإنتاج الرئيسي، بينما تتوارى أذرعة الاقتصاد الأخرى كالتجارة والصناعة والسياحة؟! وأخيرا فإنني أتجه بدعوتي هنا إلى الجامعات المصرية- حكومية وخاصة- أن تقوم كل واحد منها بتقديم مشروع واحد، يكون قابلا للتنفيذ، من أجل إعادة اكتشاف مصر، والاستفادة الكاملة من خيراتها التي مازالت مطمورة في الصحراء.

* * *


نحو تنظيم وزاري آخر


[
روزاليوسف، 2007]

سبق أن نشرت بعض الأفكار حول إلغاء أو دمج بعض الوزارات وتحويل بعضها إلى مجالس عليا أو هيئات كبري. وقد تحقق القليل من تلك الأفكار، وأهمها تفكيك وزارة الشباب والرياضة إلى مجلسين أحدهما للشباب بمختلف مشكلاته، والثاني للرياضة بكل نواديها وتعثراتها. وهذا أمر جيد لابد أن نحسبه للتشكيل الوزاري الأخير.

أما باقي ما سبق أن اقترحته، وأود مرة ثانية وثالثة أن أقترحه لأنه يصب في صالح العمل التنفيذي الذي تقوم به الحكومة فهو يتمثل فيما يلي :

أولاً: ضم وزارتي الإعلام إلى الثقافة في وزارة واحدة باسم وزارة الثقافة والإعلام. ولا داعي للاحتجاج الظاهري بأن كلاً منهما يستحق وزارة بمفرده مع أن الدافع الحقيقي هو شخصية الوزيرين اللذين يتوليان مسئوليتهما. الثقافة منتج، والإعلام وسيلة لنقل هذا المنتج، ولابد أن يندمج كل منهما بالآخر لتحقيق الفائدة المرجوة.

وفي هذا الصدد، لابد أن تخرج هيئة الآثار من وزارة الثقافة وتنضم للوزارة الأحق بها وهي وزارة السياحة، أو تظل هيئة عليا كما كانت في الماضي.

ثانيا: تخصيص وزارة مستقلة للبحث العلمي وتطبيقاته، وفصلها عن وزارة التعليم العالي التي تتولي مسئولية محددة، ومن الممكن جدا أن تنضم إلى وزارة التربية والتعليم، حتى تصبح هي المسئولة عن التعليم من أول السلم التعليمي إلى آخره، وحتى لا تتوزع اهتماماتها وتحيد عن تحقيق أهدافها.

ثالثا: تحويل اسم وزارة الأوقاف لتصبح وزارة الشئون الدينية وبحيث تضم قطاعا للشئون الدينية المسيحية بناء على قاعدة (عنصري الأمة) التي يتكون منهما أبناء مصر على السواء. والمهم هنا أن تنفصل هيئة الأوقاف تماما عن تلك الوزارة، وتلتحق مباشرة بوزارة الشئون الاجتماعية.

رابعا: هناك ثلاثة وزارات لابد أن تكون لكل منها شخصيتها المستقلة وحدودها الواضحة وهي الزراعة والصناعة والتجارة، مع أهمية إضافة وزارة الري والموارد المائية لوزارة الزراعة التي هي أحق بها، ولست أدري حتى الآن ما هو مبرر فصل الزراعة عن الري الذي هو عصبها الرئيسي؟!

أما التجارة فإن تقسيمها إلى داخلية وخارجية لا داعي له، ويمكن أن يخصص لكل منهما قطاع داخل الوزارة يرأسه وكيل وزارة.

خامسا: أما وزارة السياحة بعد ضم قطاع الآثار إليها فيمكن تسميتها (وزارة السياحة والتراث الحضاري) نظرا للتداخل الواضح بينهما، ولأن السياح الذين يزورون مصر لا يأتون في غالبيتهم إلا بقصد مشاهدة آثارها الحضارية القديمة.

سادسا: إنشاء وزارة جديدة باسم (وزارة الأمن الداخلي) لمتابعة نشاط التطرف والإرهاب، مع تحديد اختصاصات (وزارة الداخلية) بالأعمال التقليدية التي تتمثل في تسجيل المواليد والوفيات، واستخراج الرقم القومي والجوازات، وحراسة المنشآت، والمرور، وتنفيذ أحكام القضاء، وكل ما يتعلق بحل مشكلات المواطن اليومية.

* * *


نصائح قديمة للوزراء


[
الأهرام، 2007]

في شهر ديسمبر سنة 1937، نشر الدكتور حافظ عفيفي باشا كتابا بعنوان (علي هامش السياسة) تحدث فيه عن إصلاح بعض مسائلنا القومية، وأهمها: الصحة العامة، والتعليم، والمسألة المالية والاقتصادية، وقد جاء في مقدمته: إننا نملك كل وسائل الإصلاح وأسبابه. فقد وهبنا الله أرضا هي مضرب الأمثال في خصبها، وجوا معتدلاً لا يتمتع به بلد آخر، وبلادنا غنية بموادها الأولية وخيراتها المختلفة. ونحن أمة مؤتلفة، أصلنا واحد، نتكلم لغة واحدة، وتجيش في قلوبنا عاطفة واحدة هي حب مصر، ونحيا جميعا لأمل واحد هو العمل على رفعتها وإعلاء شأنها. فلم نصب بما أصيبت به بلاد أخري من تعدد الأجناس وكثرة اللغات واختلاف المشارب والغايات. ولا تزال بلادنا بكرا، فباب الاستثمار فيها لا يزال مفتوحا على مصراعيه، وهي تتبوأ مكانا جغرافيا من العالم لا يدانيه في أهميته مكان آخر.

ويري (الدكتور الباشا) أن مبدأ تنازع البقاء مازال يسود العالم، وسيظل كذلك ما بقي الإنسان على ظهر الأرض. ويقول: لا شك عندي أن الأمم الهزيلة المتأخرة في مضمار العلم الحديث مقضي عليها بالموت عاجلاً أم آجلاً، أما المستقبل فهو من نصيب الأمم التي تسبق غيرها في ميدان القوة والعلم والمال. ويري أن أولي خطوات الإصلاح هو الاقتناع بضرورته، ثم التفكير في أشكاله ومناحيه.

ومن أول ما لاحظه الدكتور حافظ عفيفي عدم تمكن الوزراء من التفرغ لأعمالهم على النحو الذي يستطيعون معه تحقيق السياسات الموضوعة لوزاراتهم. وإلا كيف يكون الحال إذا صرف الوزراء صباحهم في مقابلات الراجين والشاكين والمحتجين والملتمسين من النواب والأصدقاء والناخبين، وما بعد الظهر في المجالس النيابية للاشتراك في مداولاتها ومناقشاتها، وليلهم في حضور الولائم وتحضير الخطب والرد على الأسئلة والاستجوابات البرلمانية؟ فمتي يتفرغ الوزراء للعمل الأساسي الذي جاءت الوزارة للقيام به، وهي في النهاية ستسأل عنه؟! لذلك ينبغي أن يعمل الوزراء على إصلاح هذا الوضع، الذي يضيع عليهم الكثير من الوقت، وبالتالي يحرم المجتمع والدولة من مجهوداتهم.

كذلك يحسن ألا يضيع الوزراء أوقاتهم الثمينة في الاشتغال بمسائل الموظفين وتعيينهم وترقيتهم ونقلهم، فإن هذه مسائل يجب أن تترك كلها لغيرهم من رؤساء المصالح، أو للجان التي تشكل من كبار الموظفين بالوزارة لهذا الغرض، وإنما يجب عليهم أن يخصصوا هذا الوقت الهام لصميم مسائل الإصلاح الهامة الملقاة على عاتقهم، والتي يتحملونها أساسا بحكم مسئوليتهم الوزارية.

أما في مجال الصحة العامة في مصر فيري الدكتور حافظ عفيفي باشا أن عمل الحكومة الأساسي يتمثل في تمكين الناس جميعا من الحصول على ماء صالح للشرب، وغذاء صالح للأكل، ومنزل صالح للسكن، في بلد صالح للإقامة.

وفي مجال التعليم، يؤكد أن أول واجبات الحكومة هو نشر التعليم، على أن يكون تعليما صحيحا يهدف إلى ترقية الشعب ونشر الثقافة بين أفراده ورفع مستواه العلمي والخلقي إلى أعلي درجة ممكنة، وأن يبث في الشباب روح الكرامة والاستقلال والاعتماد على النفس والمغامرة والقدرة على تولي أي عمل مع الثقة بالنجاح فيه.

أما في السياسة المالية والاقتصادية فإنه يقرر أن حالة مصر المالية لا ولن تتحسن إلا إذا حرص الوزراء وجميع الموظفين على الأموال العامة بنفس حرصهم على أموالهم الخاصة. فلا إنفاق إلا فيما تعود فائدته على معظم السكان، ولا ضرائب إلا بالقدر الذي يسد حاجة الحكومة للقيام بمشروعات الإصلاح الضرورية. وأخيرا يجب أن توزع الضرائب بالعدل فلا يقع عبؤها إلا على القادرين.

تحية للدكتور الباشا حافظ عفيفي، فقد ترك لنا نصائح غالية لا تقل أهمية عما ترك المصري القديم في بردياته، وهو يشخص أحوال مصر، ويتمني لها التقدم والازدهار!

* * *


هل لدينا مشروع للنهضة؟


[
الوفد، 30/3/2009]

لا يقتصر حديثي هنا على مصر وحدها، وإنما على العالم العربي كله «22 دولة تضم حوالي 300 مليون نسمة». والملاحظ أن الوضع الراهن لكل هذه البلاد يعكس حالة من الضعف والتفكك تتخللها أحيانا بعض محاولات الإصلاح الجزئي والقصير النفس، وبالطبع لن يرضي هذا التشخيص جميع المسئولين، فكلهم يزعمون أن الحال أفضل مما كان عليه، وأن التقدم يسير بخطي ثابتة، إن لم تكن سريعة! لكن الواقع غير ذلك تماما، بدليل ما نشاهده ونتابعه من سوء الإدارة وتدني مستوى الدخل، وتردي الخدمات الأساسية، وانسداد الحياة الحزبية، وضعف المؤسسات النقابية، إلى جانب الصراع الظاهر والمستتر بين البلاد العربية نفسها، ثم بين بعضها وبين العالم الخارجي.. ومما يشير إلى حالة التخبط العربي ما نلاحظه من ادعاء كل بلد عربي أن له مشروعه الخاص للنهضة، بمعنى أن يكون لدينا، لو صح ذلك، اثنان وعشرين مشروعا.. ومن الواضح أن أي واحد منها لم ينجح حتى الآن.. صحيح أن بعض البلاد العربية يمتلك الثروة، وبعضها يحتوي على المواد الطبيعية، وبعضها يزخر بالكفاءات البشرية، ولكنها لم تتفق في يوم من الأيام على إحداث التكامل بين هذه العناصر اللازمة للتقدم، بل على العكس مازال كل منها واقفا في مكانه، وغارقا في مشكلاته!

وسوف أشير هنا إلى فكرة مهمة، لم ينتبه لها مع الأسف كثير من المثقفين العرب، وهي أن عصر النهضة
Renaissance عندما ظهر في أوروبا، وبدأت أفكاره تتناثر لدى بعض المفكرين والعلماء هناك، لم تستثن بلدا أوروبيا عن غيره، فلم تقل فرنسا مثلا إنني لن آخذ بأفكار الإصلاح البريطانية، ولم ترفض ألمانيا ما ظهر من أضواء التنوير في إيطاليا، وإنما أسرعت أوروبا بكل دولها، وهي تشبه المنطقة العربية حاليا، إلى اعتناق الفكر الإصلاحي الجديد، الذي أخرجها من تخلف العصور الوسطي إلى آفاق عصر النهضة، بل إنني أستمر في تطوير الفكرة فأقول: إن المهاجرين الأوروبيين عندما حلوا بأمريكا حملوا معهم أفضل ما توصلت إليه أوروبا من أفكار التقدم والنهضة، ولم يبدأوا من الصفر تماما، وهو الأمر الذي أسرع بنشأة الولايات المتحدة الأمريكية «سنة 1789» التي أصبحت هي الدولة الأولى في العالم!

مشكلتنا في العالم العربي إذن أننا نعمل فرادي ومنفصلين، كما أن كلا منا يتصور أنه من الممكن أن يتقدم وحده، وبدون مساعدة أو تعاون مع جيرانه، وبالطبع ترجع تلك النظرة الضيقة إلى بقايا الثقافة الاستعمارية التي رسخت في المنطقة «أقصد في عقول أبنائها».. إن العرب قد نسوا أن الخريطة الحالية لبلادهم إنما صنعها الاستعمار أثناء وجوده، وقبل رحيله، ولذلك وضع فيها الكثير من الألغام القابلة للانفجار، لكي يضمن تمزيق أوصال هذا الجسد الكبير، لكي لا ينهض مرة أخرى، ويمثل خطرا على مصالحه، أو خطورة على استقراره!

لكن المسألة لا تتعلق بالاستعمار فقط، حتى لا ينفعل المدافعون الجدد ضد نظرية المؤامرة! وإنما تشتمل في الأساس على غياب التصور المناسب لمشروع نهضوي متكامل يستطيع أن يخرج المنطقة العربية من حالتها الراهنة إلى ما تستحقه شعوبها المتطلعة من تقدم وازدهار، خاصة وأننا، حتى عهد قريب، لم نكن نرى أمامنا سوى النموذج الغربي «أوروبا وأمريكا» أما الآن فقد ظهر خلفنا في الشرق نموذج آخر يضم العديد من الدول الغربية التقليدية «مثل اليابان، والصين، وكوريا، وماليزيا..» بل إن المواطن العربي يتساءل في هذه الأيام عن مدى التقدم وحقيقته في كل من إيران وتركيا.. وحتى إسرائيل!

إن كل هذه الدول، بدون استثناء، قد آمنت بفكرة التقدم، ووضعت لنفسها مشروعا محددا للنهضة.. وليس معنى ذلك أن نجحت بالكامل في كل خطواتها، بل إنها تفشل أحيانا، لكنها تصر على النجاح فتحققه، تبعا لقانون التجربة الذي يتضمن احتمال الصواب والخطأ، أما نحن فمازلنا نتحدث ونتكلم ونتناقش، وفي خلال ذلك نتشاجر ونتخاصم ويكيد بعضنا لبعض.. ومن العجيب أن نسرع فتخمد أي فكرة جديدة، ونحتقر أي مبادرة متفردة، مؤثرين الثبات والاستقرار على المغامرة التي تحتوي دائما على سعة الأفق وجرأة المحاولة!!

* * *


ثلاثية الأصالة في حياتنا


[
الأهرام، 2007]

نتحدث كثيرا عن ضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهذا يعني أهمية التمسك بقيم التراث والإلمام بمعارف العصر الحديث. وقد يفهمها البعض على أنها الجمع بين الماضي والحاضر، أو بين القديم والجديد. وأريد هنا أن أتوقف قليلاً لكي أحلل مفهوم الأصالة، والعناصر التي يتألف منها بهدف محدد هو الإفادة من ذلك في طرق التربية ومناهج التعليم التي يتم بها إعداد الأجيال الجديدة في المجتمع.

وقد تأملت كثيرا في عناصر الأصالة فوجدتها ثلاثة هي اللغة، والدين والتاريخ. أما (اللغة) فهي الوعاء الذي يحمل تراث الآباء والأجداد وهي المدخل اللازم لهذا التراث بكل جوانبه العلمية والأدبية والثقافية. ومن المؤكد أنه بدون اللغة لن يستطيع الجيل الحالي أن يقف على صورة واضحة لما كان عليه أسلافه. ولعلنا جميعا نتذكر أن الحضارة المصرية القديمة ظلت صامتة ومغلقة في وجه المصريين أنفسهم، حتى تم حل رموزها على يد العالم الفرنسي شامبليون فعرفنا، وعرف العالم كله حقيقة هذه الحضارة، وكيف صنعها أصحابها، وماذا كانوا يهدفون من إنشائها. وهذا يعني أنه بدون اللغة لن يستطيع أحد فهم أحد آخر، حتى ولو كان من أقرب الناس إليه. وإذا كنا نعترف جميعا بأن اللغة العربية هي وعاء حضارتنا العربية والإسلامية فلا يمكن بالتالي فهم هذه الحضارة، واستمداد عناصر القوة منها بدون معرفة لغتها، بل وإتقانها لكي نقف على دقائقها وأسرارها.

وأما (الدين) فهو الأساس الذي يربط الإنسان بخالق الكون من ناحية، ويهذب علاقاته مع إخوته من ناحية أخري. ولا شك أن الدين يحتوي على طقوس وقيم وسلوكيات. وإذا كانت الأسرة تتولي تعليم الطفل وتدريبه على الطقوس فإن ثقافة المجتمع التي يستمدها من المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام المحترمة هي التي توسع مداركه لفهم قيم الدين واستيعاب تعاليمه السامية. لكن كلاً من الطقوس والقيم لابد أن تترجم في سلوكيات يتعامل بها الإنسان مع الآخرين، سواء من أتباع دينه أو من غيرهم. ومن أهم مزايا التمسك بالدين أنه يقوي الرابطة الروحية بين أفراد المجتمع، ويجمعهم على حزمة من الثوابت التي تعصمهم من الوقوع في الزلل، أو التردي في الانحلال.

وبالنسبة إلى (التاريخ) فإنني أقصد به هنا معناه الواسع الذي يشمل  الأحداث التي وقعت لأسلافنا في الماضي، إلى جانب منظومة العادات والتقاليد والأعراف التي استقرت في حياتهم، وانتقلت بالتالي إلينا، ومازالت تعيش في أعماقنا. ومن المعروف أن تاريخ الأمم هو صفحة أمجادها، ودفتر انكساراتها. وتأمل هذه الصفحة بكل ما فيها يمنحنا المزيد من الخبرة عن كيفية التعامل مع الأحداث الحاضرة بل والمستقبلية أيضا. وهو يمنحنا إلى جانب الثقة في أنفسنا القدرة على المقارنة والتوصل بسرعة إلى النتائج. وإذا أردت التأكد من ذلك حاول أن تتحدث مع شاب يعرف تاريخ بلاده، وبين شاب آخر لا يعرف عنه شيئا، أو يعرف شذرات من هنا وهناك. لا شك أنك سوف تجد الشاب العارف بالتاريخ أكثر ثباتا على الأرض، وأقدر على مواجهة الواقع، والتطلع إلى بناء المستقبل، بينما الآخر لا يكاد ينظر إلا إلى ما تحت قدميه، وهو يشبه الشجرة التي خلعت من أرضها التي نبتت فيها، ووضعت في تربة رخوة لا تكاد تمسك بجذورها.

أعود لما بدأت به، وهو الهدف من تقديم هذا العرض المبسط لعناصر الأصالة، راجيا أن توضع منظومتها في الاعتبار ونحن نقوم بتطوير مناهج التعليم، سواء في المرحلة الجامعية أو ما قبلها، تاركا لغيري أن يحددوا مفهوم المعاصرة، حتى تتكامل الرؤية، وتتضح مسيرة تنشئة الأجيال القادمة، على أساس الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

* * *


نظرية السماح بالتقدم


[
الأهرام، 2007]

لا يوجد في رأيي أفضل من هذا المكان لكي أعرض فيه بين يدي المفكرين والمثقفين نظرية بسيطة تهدف إلى تفسير ظاهرة عدم انطلاق النهضة في مصر والمنطقة العربية المحيطة بها بنفس معدلاتها في بعض البلاد الأخرى، التي تشابهت معها في الظروف، وبدأت معها في نفس الوقت، ويحلو للكثيرين المقارنة بها، والخروج من ذلك بأحكام تجلد الذات وتشيع اليأس. وأبدأ فأعترف بأن الذي أضاء لي جميع عناصر هذه النظرية إنما جاء من متابعتي أحوال بلدين كبيرين حدثت لهما انكساره هائلة أسقطتها تماما على الأرض في منتصف القرن العشرين ثم ما لبثت كل منهما أن نهضت، وتابعت مسيرتها، وتبوأت مكانتها المحترمة على المستوي الدولى، وهما اليابان وألمانيا. الأولي استسلمت بالكامل عقب إسقاط القنبلتين الذرتين عليها، والثانية نتيجة انتصار الحلفاء الساحق على جيوشها في الخارج والداخل. وقد كان من الممكن أن تُترك هاتان الدولتان لحظهما العاثر، أو لمحاولتهما الذاتية في النهوض، وهو الأمر الذي لم يكن من السهل أبدا أن يحدث، لولا أن تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية سيدة الموقف، بعد أن ساهمت جيوشها وإمكانياتها الضخمة في تحرير أوربا المتهالكة. وإذا كان مشروع مارشال الأمريكي هو الذي أنهض أوربا، بما فيها ألمانيا الغربية، من ورطتها، فإن الاستراتيجية الأمريكية أيضا هي التي سمحت لليابان بمعاودة النهوض، بعد أن ألغت نشاطها العسكري تماما وفتحت أمامها أبواب التقدم الاقتصادي فقط. لم تنهض ألمانيا واليابان إذن إلا بإذن أمريكي. والدليل على ذلك أن الشطر الشرقي من ألمانيا والذي كان عند توزيع الغنائم من نصيب الاتحاد السوفيتي قد تدهورت أحواله، و لم يستطع أن يجاري الشطر الغربي على الإطلاق (نفس الحال يمكن ملاحظته في حالة كوريا الجنوبية المسموح لها بالتقدم، والشمالية المحرومة من ذلك).

تلك حقائق تعد من التاريخ الحديث والمعاصر لا يمكن تجاهلها، أو تعدد وجهات النظر حولها. وبالتالي فإنها تصلح أساسا لتفسير (نظرية السماح بالتقدم) حين نقوم بتطبيقها على مصر بالذات، والمنطقة العربية بوجه عام. والذي يمكن أن نستعرضه ببساطة أن ما نسميه بالعالم العربي يأتي من حيث المكان في موقع الجار الأقرب لأوربا. وعندما حاول محمد على توسيع مشروعه النهضوى خارج حدود مصر، وبالذات في اتجاه الشمال الشرقي وجد معارضة شرسة من الدول الأوربية، التي اعتبرت، رغم اختلافاتها الحادة فيما بينها، أنه يمثل تهديدا خطرا عليها، وكانت النتيجة هي التكتل لضربه، وتحجيم مشروعه كما تصرح بذلك بنود معاهدة لندن سنة 1840. والواقع أنه منذ هذا التاريخ، وعين أوربا، الجار الأقرب، على كل مشاريع النهضة في مصر: تقوم بإيقافها، وإذا لم تستطع طبقت عليها ما أصبح يعرف حاليا بالعقوبات الذكية، التي لا تكاد تخرج عما كان يطلق عليه  في الستينيات مصطلح الحصار الاقتصادي. ولعلنا نذكر جميعا موقف الغرب عموما من تمويل مشروع السد العالي وامتناعه عن مساعدة مصر حينئذ، رغم الفوائد التي كانت ستعود منه على المجتمع المصري كله، وقد أثبتت الأعوام صحتها وصدقها.

ومنذ منتصف الخمسينات، وبالتحديد منذ عام 1956 أصبحت الولايات المتحدة هي الوريث الأكبر لكل الدول الأوربية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، بل إنها أصبحت هي المتحدث الرسمي باسم الغرب. وقد تكرر إعلان رؤسائها المتعاقبين، سواء كانوا من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، عن دعمهم الكامل واللامحدود لإسرائيل، كما أعلنوا ضمان تفوقها على جميع الدول العربية من حيث التسليح والتحديث. وكان هذا يعني ببساطة (عدم السماح) بانطلاق مشاريع التحديث المصرية العربية، وفرملتها ما أمكن قبل الانطلاق أو بعده. أما كيف يحدث ذلك؟ هناك العديد من الوسائل الظاهرة والخفية، المعلنة والمسكوت عنها، والتي مازال البعض منا يمسك بواحدة منها هنا، وواحدة هناك. لكنها كلها تصب في اتجاه واحد هو إبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة. وفي أثناء تلك الفترة يمكن للعالم كله أن يتقدم، بينما تبقي مصر ومنطقتها العربية غارقة في مشكلات مستعصية، ودوائر مفرغة، تبعا لتطبيق نظرية عدم السماح بالتقدم، والتي ينفذها الغرب بكل دقة!

* * *


عندما فكرت


في إنشاء حزب سياسي


[ لم ينشر من قبل .. ]

تأملت كثيرا في أحوال أحزابنا السياسية الحاضرة، فوجدتها جميعا- من خلال برامجها- (تكاد تتفق) على مجموعة من المبادئ العظيمة التي يوافق عليها جميع المصريين، مثل النهوض بمصر سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ومثل مكافحة البطالة، وتشجيع الاستثمار، وفتح الفرص (هكذا) أمام الشباب، وبالطبع كلها تجمع على تحقيق الأمن القومي، والأمان للمواطنين، والاستقرار للمجتمع، مع جعل السلام خيارا استراتيجيا، والانفتاح على كل دول العالم، وتقوية أواصر المجتمع المصري بمحيطه العربي، ودائرته الإفريقية، وروابطه الدينية بالعالم الإسلامي، كما إنني وجدت هذه الأحزاب بدون استثناء تؤكد على ضرورة تطبيق حقوق الإنسان، وتشجيع حركات المجتمع المدني، واحترام الحريات، والعمل بالديمقراطية، والحرص على الوحدة الوطنية وأخيرا: الحفاظ على البيئة.

والمهم أنني عندما حاولت أن أتلمس بعض الفروق التي تميز حزبا سياسيا عن آخر لم أجد سوى تفاصيل بسيطة جدا، بل إن هناك من الأحزاب ما يكاد يتفق تماما مع بعض الأحزاب الأخرى- لو قمنا فقط بإعادته ترتيب المواد التي يذكرها في برنامجه! والأدهى من ذلك أن هناك من الأحزاب ما يكاد يشمل ويستوعب كل المبادئ الموجودة في برامج الأحزاب الأخرى، بحيث لو أن واحدا منها قام يدعو لبرنامجه فسوف يقول له هذا الحزب المستوعب: وماذا جئت بجديد؟ أنا لدي كل ما تقول وأكثر منه؟!

ونظرا لأنني- من حيث الواقع- لا أكاد أرى أي تأثير في الشارع المصري لأي من أحزابنا السياسية، فقد (تفتق ذهني) عن فكرة إنشاء حزب سياسي جديد، وقلت لنفسي: لماذا لا أقدم إضافة حقيقية لأحزابنا السياسية غير العاملة على الساحة الواقعية؟ لكنني نصحت من بعض المخلصين بأن أقوم- قبل إنشاء هذا الحزب الجديد- بدراسة برامج ولوائح الأحزاب السياسية الموجودة حاليا، لكي لا يخرج (حزبي الجديد) صورة مكررة منها أو من أحدها.. وبالفعل عكفت على هذا العمل لعدة شهور، تعبت فيها جدا، بسبب عدم توافر برامج الأحزاب في كتب أو مراجع موحدة (وأنا هنا أدعو مكتبة الأسرة أن تقوم بهذا العمل) وقد كلفني البحث عن كل منها منفردة مجهودا كبيرا، وأخيرا تمّ المراد وجمعتها، ورحت أرتبها حسب سنوات صدورها أو الموافقة على إعلانها.. وعندما بدأت برصد جوانب الاتفاق والاختلاف خرجت بالنتيجة التالية: وهي أنه لا يكاد يوجد اختلاف وإنما هناك شبه اتفاق على المبادئ التي سبق أن أشرت إليها، وساعتها تساءلت: لماذا إذن تمت الموافقة على هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية مادامت متشابهة بهذا الشكل؟ وطبعا لا توجد إجابة على هذا السؤال إلا لدى (لجنة شئون الأحزاب التابعة لمجلس الشورى) ونحن نعرف جميعا أن رئيس هذه اللجنة هو السيد رئيس مجلس الشورى، والأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي.

وهنا وقفت حائرا: كيف يقوم أمين أحد الأحزاب السياسية في مصر- على الرغم من أنه أكبر الأحزاب- برئاسة لجنة تتحكم في قيام أو منع الأحزاب السياسية الأخرى؟ لكنني عدت فاستدركت بأنه لكي تقوم تلك اللجنة بعملها على خير وجه لابد أن تتحلى بأكبر قدر من الموضوعية، لأنها تحكم على متنافسين معها في نفس المجال، وربما يكون هذا ممكنا.

ومع ذلك فقد كان البحث الطويل في برامج الأحزاب ولوائحها، ومقارنتها بعضها ببعض، مع مقارنتها بالواقع العملي الذي يهم حياة الناس اليومية- أمرا مرهقا للغاية، جعلني في نهاية الأمر أتخلى عن فكرة إنشاء حزب سياسي جديد، لأن الأحزاب المعترف بها حاليا فيها الكفاية من الناحية النظرية أو اللائحية، أما التطبيق العملي فهو متروك للتاريخ، وتعليقات المواطن المصري التي تتحول مع مرور الزمن إلى حكم وأمثال شعبية!!

* * *


المرأة المصرية والسياسة


(
التشخيص والحل)


[الأهرام، 2008]

تاريخ طويل لا يسهل تجاهله مر على ابتعاد أو إبعاد المرأة المصرية عن السياسة. وعلي الرغم من أن الفراعنة كانوا يحرصون على أن تصحبهم زوجاتهم في جلسات الحكم، كما تظهر ذلك تماثيلهم، فإن القرون التالية أبعدت المرأة المصرية تماما عن الاشتغال بالشئون العامة، وفي مقدمتها السياسة. وكيف تشتغل المرأة المصرية بالسياسة وقد تم حرمانها من حق التعليم فضلاً عن حق العمل الذي كان حكرا على الرجال. ومع أن الإسلام الذي انتشر بين غالبية الشعب المصري لا يمنع تعليم المرأة ولا عملها، بل ويعتبرها شريكا فاعلاً في نظام الأسرة وحركة المجتمع، إلا أن العادات والتقاليد هي التي تغلبت فأبقت المرأة بعيدا عن دائرة الضوء، وإن كانت الأحوال قد أجبرت الرجل المصري على السماح لزوجته وأخته وابنته في الريف بالعمل معه، حتى وصل الأمر إلى أن يصبح مجموع الأعمال التي تقوم بها المرأة الريفية تفوق ما يقوم به الرجل!وحين أنشئت في القاهرة أول مدرسة للبنات كانت حدثا غريبا أثار الكثير من الجدل والتحفظات في مطلع القرن العشرين. كذلك كان الحال حين التحقت خمس بنات للجامعة المصرية في عام 1925. لكن التطور الاجتماعي استمر في الصعود، وكان لزيادة الاحتكاك بالغرب أثره الكبير في فتح العديد من النوافذ والأبواب أمام المرأة المصرية. وجاءت ثورة يوليو 1952 فأعطت المرأة الكثير من حقوقها، وعينتها في منصب وزيرة، وهو الأمر الذي أسكت الخلافات الجدلية حول جدارة المرأة المصرية وكفاءتها التي لا تقل عن الرجل في المقدار ولا في النوع.

وفي زمن العولمة الذي نعيشه حاليا، راحت الضغوط الخارجية تدعو إلى مزيد من مشاركة المرأة في الحياة العامة، وحاولت الدولة الاستجابة فقامت بالتوسع قدر الإمكان في تعيين المرأة المصرية في مختلف المناصب، كما راحت تشجعها على المشاركة السياسية التي تمثل أعلي مستويات العمل العام، لكن لوحظ ضعف إقبال المرأة وعدم نجاحها بالصورة التي تجعلها نموذجا لغيرها. هذا هو الموقف الحالي، أو المأزق الحالي. والواقع أن أحدا لا يريد أن يسأل عن السبب؟ لذلك فإنني أجازف بمحاولة الكشف عنه من وجهة نظري. وهو يتمثل في أن الدولة ركزت في إلقاء الضوء على مجموعة من النساء المصريات اللاتي تتبوأن مناصب وظيفية، وحاولت دفعهن دفعا إلى العمل السياسي، الذي يتطلب مواصفات مختلفة تماما عن المؤهلات الوظيفية التي تحتلها المرأة. ومن خلال ملاحظتي المستمرة لهذا الموضوع أستطيع أن أقول إن كثيرا من السيدات (الموظفات) أو (الجامعيات) اللاتي دفع بهن إلى العمل السياسي قد فشلن، أو على الأقل لم تظهر عليهن علامات النجابة المتوقعة في هذا المجال (وهذا واضح جدا في مجلسي الشعب والشورى). وأخيرا ما الحل؟ في رأيي أن يتاح العمل السياسي لكل فتاة أو امرأة مصرية لديها (موهبة العمل العام) وليس بالضرورة أن تكون موظفة أو جامعية، ولنبدأ من المرأة التي تستطيع أن تعمل جمعية لجاراتها .. حتى المرأة التي تشارك بفاعلية في منظمات حقوق الإنسان.

* * *


عائد من الصين


[
الأهرام، 2007]

مجموعة من الملاحظات تجمعت عندي بعد زيارة للصين استغرقت أكثر من عشرة أيام، قضيت معظمها في العاصمة بكين، وبعضها في المدينة الصناعية والتجارية المزدهرة شنغهاي.

وأولي تلك الملاحظات أن الصين قد وضعت أقدامها بثبات على طريق التقدم، وراحت تخطو فوقه بخطوات طويلة ومسرعة. يظهر ذلك من حالة العمران الواسعة التي راحت تنتشر في معظم أنحاء مدينة بكين سواء على مستوي المنشآت الحكومية أو الصناعية والتجارية أو على مستوي مساكن المواطنين. وكلاهما أقيم بطراز معماري بالغ الروعة والأناقة، ويضم العديد من الأبراج العالية التي تستوعب آلاف الأسر، وتقضي على  أي أزمة إسكان.

والملاحظة الثانية: أن سوق العمل المزدهر يستوعب أعدادا هائلة من الشباب، الذين يبذلون أقصي جهودهم من أجل المزيد من الإنتاج، وتنويع مجالاته، ودقة مصنوعاته. أما سن المعاش للرجال فهو ستون عاما، وللنساء خمس وخمسون. ومن أطرف ما سمعت أن الموظف يمكن أن يتقاعد مبكرا ويترك مكانه لابنه إذا كان متخصصا في مجال عمله.

الملاحظة الثالثة: أن الصين التي يبلغ عدد سكانها مليارا وثلاثمائة مليون نسمة تدفع جميع أبنائها وبناتها إلى العمل، الذي يبدأ في المدن من الساعة الثامنة صباحا ويستمر حتى الخامسة يتوسطه ساعة للغداء في الساعة الثانية عشرة ظهرا. وبعد العمل ينتشر الصينيون في المطاعم ليجلسوا يتحدثون ويتضاحكون وهم يأكلون لمدة ساعة أو أكثر. الأكل عندهم كما يقولون ثقافة، وليس مجرد التهام طعام!

الملاحظة  الرابعة: أن التخطيط الجيد للمشروعات يأخذ وقته ويجري بدون استعجال، وقد حدثني نائب رئيس أكاديمية العلوم الاجتماعية في شنغهاي أنهم قد يستمرون في دراسة مشروع لمدة عشر سنوات قبل أن يبدأ تنفيذه. لكنهم عندما ينفذونه فإنهم ينجزونه بأسرع ما يمكن. أضخم برج لديهم لا يزيد وقت تشييده عن 24 شهرا.

الملاحظة الخامسة: أن نظام التعليم عندهم يحقق الفوائد المرجوة منه، فهو يعد التلاميذ والطلاب للعمل في مختلف مجالات التنمية التي تحتاجها البلاد. والتعليم إلزامي ومجاني حتى الخامسة عشرة أي الإعدادية، وبعده ينقسم إلى تعليم فني بمصروفات أعلى، وتعليم ثانوي بمصروفات أقل. وهذا الأخير يمهد لدخول الجامعات، أما الالتحاق بالكلية المرغوبة فلا يتم إلا بعد اجتياز امتحان مسابقة. ولها كتب يمكن الاستعانة بها على النجاح. وكل الجامعات الحكومية بمصروفات، قد تصل أحيانا إلى ما يعادل ألف وخمسمائة دولار في العام. كذلك الدراسات العليا مكلفة جدا. وكل هذا قد تم إقراره بسهولة وحسم. فالتعليم لكي يكون جيدا لابد له من إمكانيات مادية وبشرية مناسبة. وهذه لا تتوافر إلا من خلال تمويل كاف ومنتظم.

الملاحظة السادسة: أن حضارة الصين القديمة مازالت ماثلة في حياتها الحديثة والمعاصرة. فلم يحدث انقطاع كما حدث لدينا في مصر، حيث انقطعت الأواصر تماما بحضارتنا القديمة. أما الصين فيمكنك أن تجد الهدايا التي يتبادلها الناس ترجع عناصرها وأشكالها لثلاثة آلاف سنة، وأن هذه الأكلة أو تلك كان يتناولها الصينيون قبل ألف عام. والمهم أن هذا التراث القديم يتداخل مع بعض عناصر الحياة الغربية الحديثة التي لا يوجد حولها أي اعتراض من الشعب الصيني.

الملاحظة السابعة: أن مصر والصين معا لم يطورا حتى الآن وسيلة طيران سهلة، ويمكنها أن تختصر المسافة الزمنية إلى أقل مما هو موجود حاليا. فقد اضطررت لكي أصل إلى بكين أن أستقل ثلاثة طائرات تستغرق خمسة عشرة ساعة، وما يوجد في كل مطار من انتظار وطوابير وتفتيش وإجراءات أمنية. يعني الرحلة تستغرق يومين، يخلوان تماما من ليلة كاملة تضيع في فروق التوقيت بين البلدين.

الملاحظة الثامنة: أن سفارة مصر في بكين لا يوجد بها مستشار تعليمي وثقافي، بينما يوجد هذا المنصب في كل من اليمن وليبيا، مع أن العلاقات الثقافية مع الصين تتطلب قنوات كثيرة وفعالة لتدعيمها خاصة وأن الصينيين جميعا يحبون مصر كحضارة قديمة، ويقدرون دورها في المنطقة العربية، وكنافذة مفتوحة على القارة الأفريقية كلها.

الملاحظة التاسعة: أن تجربة الصين في التنمية نموذج جيد يمكن محاكاته في مصر، وخاصة في مجالات العمل، والشباب، والإسكان، وتنمية الريف. وقد آن الأوان في رأيي لنستفيد من التجربة الصينية بعد ذلك الوقت الطويل الذي قضيناه في محاولة الاستفادة من النموذج الأوربي أو الأمريكي، والذي لم ينجح حتى الآن عندنا!

الملاحظة العاشرة: أن الوقت قد حان بالفعل لكي نأخذ معلوماتنا عن الصين من الصين مباشرة، وليس عن طريق وسيط آخر هو الغرب. وهنا يبرز دور وسائل الإعلام التي يمكنها أن تنقل للشعب المصري مظاهر التقدم  والنهضة الحضارية الحديثة التي تشمل الصين كلها([1])، سواء في المدن أو في الريف الذي يضم وحده ثمانمائة مليون نسمة، ومع ذلك استطاع أن يحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب!

* * *


إعلامنا والحضارة المصرية


[
آخر ساعة، 2007]

في مكتبة الإسكندرية، يعرضون مجسما طبق الأصل لحجر رشيد، الذي تمكن العبقري الفرنسي شامبليون من حل رموزه سنة 1822 ونجح بذلك في إدخال العالم كله من باب اللغة إلى قراءة الحضارة المصرية القديمة، بعد أن كانت آثارها مجرد شواهد عملاقة لا نعرف تماما كيف بناها أصحابها؟ ولا فيم كانوا يفكرون؟ ولا بم كانوا يشعرون؟ أو إلى ماذا كانوا يتطلعون؟

وفي حديث علمي ممتع مع العالم الكبير الدكتور محمد صالح، المشرف على الآثار بمتحف مصر المزمع إنشاؤه بمنطقة الهرم، حدثني ببساطة عن كيفية حل شامبليون لرموز حجر رشيد فقال: إن هذا الحجر مكتوب عليه ثلاثة نصوص تتحدث كلها عن موضوع واحد. النص الموجود في الأعلى مكتوب بالهيروغليفية (وهي الكتابة التصويرية التي كانوا ينقشونها على جدران المعابد) والنص الأوسط مكتوب بالديموطيقية (وهي لغة الحياة اليومية، وكانت تكتب بخط سريع ومختصر) أما النص الثالث فهو مكتوب باليونانية (وهي لغة الحكام الإغريق الذين احتلوا مصر منذ عهد الإسكندر الأكبر) وقد بدأ شامبليون عمله ابتداء من هذا النص الأخير، بسبب معرفته باللغة اليونانية. ومن خلال أسماء بعض الملوك والملكات مثل كليوباترة وبطليموس وبيرينقى المكتوبة باليونانية استطاع أن يعثر على مقابلها في النصين الأخيرين ثم راح يرتب الحروف ويقارنها ويضع لنفسه أبجدية استطاع بعدها أن يتعرف على علامات اللغة المصرية القديمة، أو أن يحل شفرتها بالتعبير الحديث. ومنذ تلك اللحظة اتضح أمام العالم كله ذلك الكنز الذي كان مختبئا في أعماق التاريخ، واكتشف الناس أن المصريين لم يرفعوا على أرضهم تلك الأهرامات، ولم يشيدوا تلك المعابد إلا في إطار فلسفة إنسانية وكونية كبري، شملت أخلاقيات العالم الدنيوي، ومصير الإنسان في العالم الآخر. ثم توالي اهتمام العالم كله باكتشافات الآثار المصرية المخبوءة واحدا وراء الآخر، وحينما تعرضت آثار النوبة للخطر بسبب بناء السد العالى، أسرعت كل دول العالم من خلال منظمة اليونسكو لتساهم في نقلها، وإعادة تركيبها مرة أخري. ولا يكاد يخلو منهج للتاريخ في كل مدارس دول العالم من فصل تمهيدي عن الحضارة المصرية القديمة، ومآثر ملوكها الكبار من أمثال تحتمس ورمسيس وخوفو وملكاتها الشهيرات من أمثال حتشبسوت ونفرتيتي وكليوباترة.

وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة تحتل تلك المكانة المتميزة، فإن ذلك يلقي على المصريين المعاصرين مسئولية كبري من أجل الحفاظ عليها، ورعايتها، وإلقاء الضوء الكاشف على قيمتها التاريخية، وقيمها الإنسانية. ومازال يدهشني الإعلام المصري في قلة أو ضعف اهتمامه الكافي بتلك الحضارة، مع أن الوسائل التقنية الحديثة كفيلة بإظهار جوانبها المختلفة بصورة مبهرة. ويكفي التوقف قليلاً عند حجر رشيد الذي تحدثت عنه الآن. هل قام أحد العلماء حتى الآن بعرض حي في التلفزيون لنصوص هذا الحجر وكيفية حل شامبليون الفرنسي لرموزه، والتعرف على صور وحروف اللغة المصرية القديمة. إن هذا العمل في حد ذاته يمكنه أن يضع الشباب وجها لوجه أمام صورة مشرفة من حضارتهم، وهو الأمر الذي يزودهم بالاعتزاز بها، والانتماء إليها. ونفس الشيء يمكن أن يحدث بالنسبة للقناع الذهبي لتوت عنخ آمون، والصور والرسوم الملونة على جدران مقبرة حتشبسوت.. أيها الإعلام المصري، ما أكثر المسئوليات الملقاة على عاتقك!! فهل آن الأوان لكي تنطلق؟ !


رجال الأعمال والإعلام

[
الأخبار، 21/7/2009]

من حق رجال الأعمال أن يكونوا من نجوم المجتمع. والنجومية تستتبع بالضرورة أن يتابع الإعلام أخبارهم، ويرصد نجاحاتهم كما يتوقف أيضا عند انتكاساتهم ومغامراتهم. وفي ظل النظام الرأسمالي الذي ساد معظم بلاد العالم منذ أكثر من مائتي عام استطاع رجال الأعمال الذين هم أساسا أعمدة هذا النظام أن يرسخوا مكانتهم في المجتمع بهدف أن يحصلوا منه على أكبر قدر من المكاسب، لكنهم في الدول الرأسمالية العتيدة ظلوا ملاحقين بطرفين: النقابات التي تطالبهم على نحو متواصل بحقوق العمال، والحكومة التي تتابع أعمالهم، وتدخل عند الضرورة لردع المعتدي منهم والمحتال. وكانت النتيجة أن النظام الرأسمالي راح يطهر نفسه بنفسه ويعالج أمراضه أولا بأول، وهذا هو السبب الذي جعله يستمر طول تلك السنوات بينما أسرع الانهيار إلى منافسه الآخر، النظام الاشتراكي في غضون سبعين سنة فقط!

لكن رجال الأعمال كما نعلم أذكياء جدا، وتوافر المال بين أيديهم جعلهم يوظفون ذكاءهم في الدفاع عن أنفسهم، ولذلك منذ ظهر الإعلام الحديث بوسائله المتعددة أدركوا على الفور أنه من الممكن أن يكون سلاحا يشهر في وجوههم ويحطم بالتالي سمعتهم التي يحصدون بسببها أرباحهم، وكان قرارهم الذكي أن يروضوا بعض وسائل الإعلام، لكي تكون أبواقا تشيد بفضائلهم، وتسكت بالتالي عن عيوبهم ونقائصهم. ومن المقرر أن الإعلاميين فيهم بعض من يمكن شراء ذمته بسهولة، وفيهم أيضا من لا يتنازل عن كشف الحقيقة حتى ولو تم ذلك على جثته.. وأمثال هؤلاء لا تجدي معهم نصيحة مستترة، كما لا ينفع معهم ظرف مغلق على رزمة دولارات، ولذلك اتجه فكر رجال الأعمال في الدول الرأسمالية إلى شراء وأحيانا إنشاء المؤسسات إعلامية بكاملها، ومعنى ذلك أن تعمل المؤسسة الإعلامية كلها بتمويل مباشر من صاحبها، الذي هو في نفس الوقت إما صاحب مؤسسة اقتصادية، أو بنك أو شركة، الخ، وهكذا انفلت رجال الأعمال من خطورة الإعلام الذي كان من الممكن أن يسيء إليهم بتحريض النقابات على الاحتجاج، أو بدفع الحكومة إلى مزيد من التفتيش والتدقيق في الدفاتر! وفي تصوري أن هذا التواطؤ الذي تم بين رجال الأعمال والإعلام لابد أن يؤخذ في الاعتبار عند بحث أسباب الأزمة المالية ثم الاقتصادية التي ضربت العالم كله مؤخرا بدءا من عرين الرأسمالية في أمريكا ثم الدول الأوروبية والآسيوية.

إن ملكية رجال الأعمال للمؤسسات الإعلامية، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، هو المخرج الميكيافيللي للسكوت عن التقصير، والتحايل، والفساد الذي يتم أحيانا في بعض الكيانات الاقتصادية الكبرى والتي تخيفنا عادة بأنها عالية وتتجاوز حدود القارات. وبالطبع لم يقتصر دور الإعلام المتواطئ هنا على السكوت عن الفساد، بل راح يبرره، ويجمله، ويخرجه للمجتمعات بصورة جذابة ومبهرة. استحضر فقط عندما يرجون لسيارة جديدة كيف يحضرون بعض الفتيات الجميلات وشبه العاريات ليجذبوا أنظار الجمهور إليها! ونفس الحال عندما يستعين بالفنانين المحبوبين للترويج لسلعة غذائية مثل حبة البطاطس التي يحولونها إلى شرائح في أكياس ملونة، ثم يبيعونها للناس بأضعاف ثمنها الحقيقي، مع ضررها البالغ على الصحة! طبعا سيقال هنا إن الأمر يتعلق بالإعلانات، ولكن من يستطيع اليوم أن يفصل بين الإعلام والإعلان، وكل منهما يتغذى من الآخر، ويعيش عليه! وفي الختام أتوجه بسؤال خاص لأي صاحب مؤسسة إعلامية يملكها رجال أعمال: هل ضميرك مرتاح تماما- من الناحية المهنية- من العمل دون ضغوط أو على الأقل دون اعتبارات مهنية وامتنان ومجاملة.. لصاحب المؤسسة؟! ثم هل تستطيع أن تنقذه، أو حتى تقترب منه أو تلوح له بأي قدر من الحساب أو المساءلة الاعلامية ؟!

* * *



المدن الجديدة والعاصمة


[
المساء، 2007]

كان تصورا خاطئا للغاية فصل المدن الجديدة التي أقيمت شمال وغرب وجنوب العاصمة، على أمل أن تستقل هذه المدن بنفسها، ولا تصبح عبئا على العاصمة الأم. وبناء على ذلك، لم تمتد إليها خطوط المترو ولا الترام، واقتصر الأمر على سفلتة الطرق المؤدية إليها من أجل استخدام السيارات الخاصة وبعض خطوط النقل العام.

ويرجع خطأ هذا التصور إلى أن المسئولين عنه قد ظنوا أو حسبوا أو قدروا أن كل مدينة من تلك المدن الجديدة سوف يكون فيها مدرسة ومستشفي وبنك ومكتب بريد.. وهذه الخدمات كافية لجعل أهلها يكفون خيرهم شرهم، أو شرهم خيرهم، ولا يصدعون العاصمة الجليلة بمشكلاتهم. وقد نسي هؤلاء المسئولون أن فرص العمل غير متوافرة في تلك المدن إلا لموظفي وعمال الخدمات وحدهم، أما باقي السكان فهم من كبار موظفي الدولة وأصحاب المشروعات والمحلات والبوتيكات الموجودة أساسا في العاصمة، وأن على هؤلاء يوميا الانتقال إلى العاصمة والعودة منها، ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة أمامهم لم تخرج عن السيارات الخاصة أما وسائل النقل العام القليلة والنادرة فلم تكن إلا من نصيب موظفي وعمال الخدمات هناك. وبالطبع انعكس ذلك على تلك المدن الجديدة والتي أصبحت منعزلة وكئيبة نظرا لبعدها عن العاصمة المتلألئة في المساء، وأصبح الطريق إليها يستغرق نصف ساعة في الفضاء الموحش والممتد والذي يخلو من أي حياة.. صحيح أن الهواء في تلك المدن أكثر نقاء من هواء العاصمة، والضجيج هناك أقل بكثير من معدلاته فيها، والحركة في الشوارع تكاد تكون معدومة إلا أن غياب الربط الحقيقي بين هذه المدن المسكينة والمتوحدة وبين العاصمة عن طريق مترو أو ترام سريع جعلها مدنا صحراوية وعندما يحل فيها المساء تكاد تصبح مدنا خاوية على عروشها. لقد كانت ضاحية مصر الجديدة في الماضي هي نموذج المدينة الجديدة المتكاملة، لكن ربطها بالعاصمة عن طريق المترو جعلها تصبح جزءا لا يتجزأ من العاصمة مع احتفاظها بخصوصيتها كضاحية متميزة. وكذلك ضاحية حلوان، التي كان المترو منذ البداية همزة الوصل القوية بينها وبين مركز العاصمة.. أما تلك المدن الجديدة والمسكينة التي أنشئت أخيرا فقد ظلت بعيدة ومنفصلة وهامدة، لأنها فقدت صلتها المباشرة مع العاصمة.. عن طريق المترو.

* * *



الإصلاح بواسطة المقارنة


[
المساء، 2007]

الإنسان العاقل هو الذي ينظم حياته تبعا للظروف التي تحيط به من قرب، دون أن يغفل الظروف التي يمر بها العالم من حوله. وإذا كانت قضايانا الداخلية لها الأولوية في الاهتمام والمواجهة وضرورة إيجاد حلول يومية لها، فإن القضايا العالمية التي قد يحسبها الناس في بلد ما بعيدة عنهم لا تلبث أن تلقي بظلالها عليهم، بل وأن تمتد أصابعها وأظافرها إليهم. وإذا أردنا القيام بمحاولة جريئة لكي نرصد فيها أحوال العالم في تلك اللحظة التي نعيشها اليوم فمن الممكن أن نقول إن العالم الحالي أصبح يدور في فلك اهتمامات ومشاكل قطبه الأوحد، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فالذي يشغل بالها ويؤرق مضجعها أصبح هو نفسه الذي يتصدر أولويات العالم من الاهتمام والأرق. وأهم ما يؤرق أمريكا اليوم هو كيفية نجاحها في الانتصار على الإرهاب الذي بدأت ضده حمله (مقدسة) منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وخاضت في سبيل ذلك حربين إحداهما في أفغانستان والثانية في العراق. ولولا (الملامة) لدخلت حروبا أخري في كل من كوريا الشمالية وإيران وسوريا واشتبكت مع حزب الله في جنوب لبنان. وعلي الرغم من أنني سبق أن نشرت في هذا المكان أن الإرهاب يتطلب (مكافحة) وليس (محاربة)، ولكل منهما أسلوب مختلف، فإن أمريكا مازالت ترسل بجنود ودبابات وطائرات وتطلق صواريخ وتخلف خرائب وضحايا وتتحمل قتلي وجرحي دون أن تحقق واحدا في المائة من النصر المأمول. أما الاتحاد الأوربي بكل دوله ومجتمعاته فإنه يدرك جيدا أن ما تفعله أمريكا يجانب الصواب، لكن المسكين مضطر إلى القبول والمسايرة وعدم الخروج على أصول الاعتراف بالجميل الذي أسدته أمريكا لأوربا كلها أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية حين أنقذتها من غزو هتلر الكاسح لبلادها. وأما على الجانب الشرقي، فإن التنمية هي شعار تلك المجتمعات الناهضة بقوة وكفاءة لتحتل مكانها تحت الشمس. اليابان والصين والهند وباكستان وماليزيا وكوريا.. في ذلك الجانب الآخر من العالم لا يوجد جدل وإنما يوجد عمل. ولا يوجد حقد متراكم وكراهية عمياء وإنما حرص على الإجادة في كل شيء. يبقي بعد ذلك كل من إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية وهذه المناطق الثلاث مازالت تعاني من مشكلاتها المزمنة التي تركها لها الاستعمار الغربي، وكذلك من محاولة النهوض المتعثر لكي تلحق بركب التقدم، ولكن هيهات!فالعالم المتقدم هو الذي يضع قواعد اللعبة حاليا (معاهدة الجات، ومنظمة التجارة العالمية)، كما أنه هو الذي يملي شروطه على كافة البلاد الأخرى في السياسة والاقتصاد وحتى في الدفاع والتسليح، ثم بصفة خاصة في عدم السماح بالدخول معه إلى نوادي التكنولوجيا المتطورة. ولأن العالم لا يمكن أن يعيش على العمل والكآبة وحدهما فقد أوجد مجموعة مسليات أوسعها انتشارا الفن والرياضة وأقلها المؤتمرات ومنظمات المجتمع المدني. ويبقي أمر يدعو إلى التفاؤل، وهو أن قانون التغير أقوي من قانون الثبات، وأن الذي يوجد في القمة اليوم قد يصبح غدا في السفح. لكن هذا لا يعني أن المريض يتوقع الشفاء بدون علاج، والفقير ينتظر السماء لكي تمطره بالذهب والفضة! وإنما لابد من الأخذ بالأسباب، والمثابرة من أجل الحصول على وصفة التقدم، ثم العمل الجاد القائم أساسا على التنمية الذاتية مع مد الجسور مع كل دول العالم للاستفادة مما يمكن أن تقدمه.. حتى ولو كان مجرد نصيحة !



ثلاثة مصطلحات خادعة


[
المساء، 2007]

المصطلح هو اللفظ الذي يطلق على ظاهرة أو معني ويكون موضع اتفاق من المجتمع كله، أو من أصحاب مهنة معينة. وهو لا يكتسب تلك المكانة إلا بعد الاستخدام المستمر، وبعد أن يكون قد تمت صياغته على أساس لغوي دقيق. ومن أهم المصطلحات التي أجمع عليها الناس في كل العصور والأماكن مصطلحا: (غني وفقير). ومعلوم أن خصائص كل واحد منهما معروفة للجميع. فالغني هو الشخص الذي يستغني بماله عن الحاجة لغيره، بينما الفقير على العكس منه، هو الذي لا يملك شيئا، ويكون عادة بحاجة إلى عون الآخرين. وقد شاع في وسائل الإعلام عندنا إطلاق مصطلح (محدود الدخل) على الفقير. وهو مصطلح غير دقيق ولا صادق. لأن محدود الدخل هو الشخص الذي لديه دخل لكنه محدود، في حين أن الفقير يكون أحيانا بلا دخل على الإطلاق. وبذلك فإن الفقير يشمل من لا دخل له، وكذلك محدود الدخل، والابتعاد عن استخدامه يعني إسقاط شريحة من المجتمع، وما يترتب عليه من إهدار حقوقها المشروعة!

أما المصطلح الثاني الذي لا يعبر تماما عن مضمونه فهو إطلاق لفظ (مستشار) على القاضي. ولست أدري من هو العبقري الذي اخترع ذلك، وتبعه بعض الناس في ذلك. لأن كلمة مستشار كلمة عامة يمكن أن تشمل من لديه خبرة في أي أمر من أمور الحياة، سواء كان في السياسة أو الرياضة أو الفن.. أو حتى في السيارات!أما كلمة قاضي فإنها مصطلح خاص بذلك الشخص الذي يمسك في يده بميزان العدل، ويحكم بين الخصمين تبعا للقانون، وتكون أحكامه واجبة النفاذ. لذلك ينبغي العودة بسرعة إلى استخدام هذا المصطلح المحترم جدا، وترك كلمة مستشار للمعني أو للمعاني المرادة منها.

وهناك مصطلح ثالث شاع في الأوساط الجامعية، ولا يكاد يوجد له مع الأسف أي معني وهو (أستاذ غير متفرغ) الذي يطلق على كبار الأساتذة من الذين تجاوزوا سن السبعين. ومن المعروف أن هناك ثلاث فئات من الأساتذة: الأستاذ العامل وهو من يمارس التدريس في الجامعة حتى سن الستين، ثم الأستاذ المتفرغ الذي يبدأ من الستين حتى السبعين ومن حقه أن يقوم بالتدريس لكن لا يحق له تولي أي مناصب إدارية بالجامعة، ثم يأتي بعد ذلك الأستاذ غير المتفرغ وهو صاحب ذلك المصطلح الغامض الذي يعني العكس تماما من مضمونه. فمعني غير متفرغ أنه مشغول. والواقع أن الأستاذ الذي تجاوز السبعين ليس مشغولاً على الإطلاق بل هو نتاج خبرة ينبغي أن يستفاد منه حتى نهاية العمر. فمن هو العبقري الذي صك هذا المصطلح الفارغ من المعني؟

* * *



الفضائيات الموجهة إلينا


[
الوفد، 10/2/2008]

هل تعرف عدد القنوات التي أصبحت ناطقة بالعربية، وموجهة أساسا من دول أجنبية للمواطن العربي؟ إنها حسب علمي حتى الآن أربع قنوات (الحرة الأمريكية، BBC البريطانية، TV الفرنسية، وروسيا اليوم الروسية)، يعني لم يبق إلا الصين من بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، صاحبة حق الفيتو اللعين، هي التي لم تنشئ قناة موجهة بالعربية لنا، وأظن أنها لن تتأخر كثيرا([2])، لكن هذا يعني ببساطة أن الأمر محصور حتى الآن في الدول الأربع الكبرى (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، روسيا) التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية منذ خمسين سنة تقريبا، والتي وزعت بينها مناطق النفوذ في العالم وبعضها مازال يحتل بلادا أخرى، وله مستعمرات حتى الآن مخصص لها وزارات بكاملها، على الرغم مما يقال إننا دخلنا القرن الحادي والعشرين، الذي لم يعد يعترف بالاحتلال ولا بالاستعمار، ولا باستغلال الشعوب الضعيفة، وعلى الرغم من قيام هيئة الأمم المتحدة بمنظماتها المتعددة التي ترفع شعار حقوق الإنسان لجميع الأفراد، وتدعو للمساواة في التعامل بين جميع الدول!!

ما هدف هذه القنوات الفضائية الأجنبية الناطقة بالعربية، وماذا تريد منا أو تريد لنا بالضبط؟

أولاً: عرض الأحداث التي تجري في العالم من منظورها الخاص، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الخبر المصور، أو الصورة الخبرية يمكن توظيفها بحيث توجه المشاهد إلى ما يريد أصحابها. كذلك فإن اقتطاع أجزاء من الخبر، أو تظليل بعض جوانبه، بالإضافة إلى صياغة الخبر المصاحب للصورة، كل ذلك يمكنه أن يحقق غرض القناة، ويبتعد تماما عن درجة المصداقية المتعارف عليها في النقل الخبري المصور.

ثانيا: تقديم برامج ثقافية، ومنوعات جذابة تشد المشاهد العربي من ناحية، وتعمل من ناحية أخرى على تشكيل ثقافته أو التأثير فيها إما بالتدريج وأحيانا عن طريق الصدمة (مثل البرامج التي تناقش أنظمة الحكم العربية، أو التي تتناول بجرأة قضية الجنس، أو البرامج التي تنتقد العادات والتقاليد العربية).

ثالثا: إبعاد المواطن العربي عن تليفزيون بلاده، وبث روح الشك والحساسية من كل ما يعرفه سواء من الأخبار أو التحليلات الإخبارية، وأخذه بعيدا بحيث يسهل تلقينه بعض المقولات التي ترغب القناة الأجنبية في تلقينها له، لكي يرددها لنفسه أو يشيعها لدى الآخرين ممن حوله.

رابعا: اصطفاء بعض الشخصيات العربية المتعاطفة مع توجه البلد الأجنبي صاحب القناة للتعليق على الأحداث بالأسلوب الذي يتمشى مع سياستها، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على تلك الشخصيات لكي يصبحوا بالنسب للمشاهد نجوما أو قادة رأي.. وبذلك يتم تكوين طبقة من المثقفين العرب الذين يمهدون الأرض للنفوذ الأجنبي للدول صاحبة القناة في المجتمعات العربية!

خامسا: تهدئة مشاعر المواطن العربي أمام ما ترتكبه تلك الدول الأجنبية من عسف وطغيان وخرق للقانون الدولي في بعض مناطق العالم، التي لا تستطيع بسبب إمكانيتها الضعيفة إيصال صوتها للآخرين.

سادسا: الإسراع بالتغطية على ما يحدث داخل تلك البلاد الأجنبية المتسلطة نفسها من انتهاكات لحقوق الإنسان مثل (مشكلة الزنوج في أمريكا والمهاجرين العرب في فرنسا والأيرلنديين في بريطانيا، والدول الإسلامية الصغيرة المجاورة لروسيا)!

وهكذا يمكن أن تمتد الأهداف في قائمة طويلة تكشف عن أسباب توجيه البلاد الكبرى قنوات تليفزيونية ناطقة بالعربية، وموجهة مباشرة للمواطن العربي، أما القنوات الفضائية العربية فإن بعضها يدور في فلك هذه أو تلك من القنوات الأجنبية كما تدور الكواكب حول الشمس.. والله يتولانا برحمته!

* * *


خطاب مفتوح إلى القضاة


[
لم ينشر من قبل .. ]

حضرات السادة القضاة

تحية طيبة وبعد.. فإنني أبدأ حديثي إلى حضراتكم بتقديم كل التقدير والاحترام لمنصبكم الرفيع الذي يُعتبر بحق هو صمام الأمان الحقيقي في المجتمع والدولة معا، فأنتم الذين تمسكون بضمائركم ميزان العدل، وتجلسون على منصة الفصل في مختلف القضايا: لتنصروا المظلوم، وتدينوا الظالم، وتعيدوا الحقوق لأصحابها، وتردعوا من تسول له نفسه الإخلال بنظام المجتمع، وسلامة المواطنين وأمنهم.

ولأنني أحد المواطنين الذين يدركون قيمة عملكم، أو حقيقة دوركم، فإنني أشعر أيضا ببعض مشاكلكم التي تعانون منها، وفي مقدمتها كثرة عدد القضايا الموكلة إليكم مع قلة أعدادكم (80 ألف قاض لـ 80 مليون نسمة)، وكذلك ضعف رواتبكم بالنسبة لارتفاع تكاليف الحياة، مع ضرورة أن يكتفي القاضي بدخل معقول يوفر له حياة كريمة ومنفصلة عن عموم الناس! ثم إن لكم مطالب إدارية وفنية تتطلب تعديل القوانين التي تصر الوزارة على عدم تلبيتها لكم، الأمر الذي يضايقكم أو يضايق البعض منكم (نادي القضاة)!

لكنني مع كثير غيري، كنا نأمل أن تربأوا بأنفسكم عن العمل السياسي، ليس لأنكم غير أهل له، وإنما لأن هذا العمل يجري عادة بين متخاصمين ومتنافسين، وبالتالي فإن اشتغال بعضكم به قد يوقعكم في الانحياز لطرف ضد الآخر، وهذا ما يعكر الجو الصافي والمحايد الذي ينبغي أن يعيش ويتنفس فيه القاضي، الذي من واجبه أن يحكم- عند التنازع- بين هؤلاء المتنافسين أو الخصوم السياسيين! وأنا أتحدث هنا من خلال مشاهداتي الطويلة في فرنسا- بلد القانون الذي استفاد منه القانون المصري- فلم أجد القضاة يشتغلون بالسياسة ولا يقتربون منها على الإطلاق!

حضرات السادة القضاة

إن حياة الناس لا تستقيم إلا في ظل قضاء عادل، ويقال إن أجنحة الملائكة ترفرف على القاضي الذي يعدل بين الخصوم، وقد أثار الحكم الذي أصدره أحد القضاة في قضية العبّارة رد فعل، لم يكن مريحا ولا إيجابيا في المجتمع المصري، وعلى الرغم من أنني أدرك جيدا أن هذا الحكم له حيثياته ومبرراته التي التزم بها القاضي، فإن الحديث والهمسات حول العدالة في هذه القضية مازال يثير قطاعا كبيرا من المصريين. وقد كان لكل رد فعله. أما أنا فقد عدت إلى قاموس فرنسي يضم العديد من الأمثال الشعبية لدى مختلف شعوب العالم، وهو مرتب حسب الوظائف، ومنها وظيفة القاضي. فماذا قرأت؟

-
القاضي يمسك في يده ميزانا لا يخطئ هو القانون، لكنه بشر، قد تميل يده بهذا الميزان فيخطئ!

-
القانون الخاطئ الذي يطبق.. لا يقل خطورة عن القانون الجيد الذي لا يطبق!

-
البطء في التقاضي.. لا يقل خطرا عن عدم تحقيق العدالة!

-
ينبغي على القاضي أن تكون له أذنان متساويتان (أي يسمع بهما لكلا الخصمين)!

-
إذا جاءك خصم يشكو شخصا اقتلع عينه، فلا تسرع بالحكم له، قبل أن ترى الشخص الآخر، فقد يكون مقلوع العينين!

-
إذا حققت العدالة بصورة جيدة فإنك تغضب الناس، وإذا حققتها بصورة سيئة فإنك تغضب الله!

-
العدالة لها عين شبه مغمضة.. لكنها ترى!

-
العدالة بدون سلطة عاجزة، والسلطة بدون عدالة جبروت!

-
لا يوجد أبدا شخص قد شنق والمال في جيبه!!

وفي الختام أرجو أن يكون هذا الخطاب المفتوح لحضراتكم تعبيرا عن صادق احترامي وتقديري لكم، وللعمل العظيم الذي تتحملون مسئوليته في المجتمع.

* * *



أفكار محمد عبده


[
آخر ساعة، 2007]

تعتبر مواجهة مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه المفكر من أصدق المعايير التي يمكن أن تقاس بها قوة شخصيته وقيمة أعماله. ومن هنا شاع ذم المفكر الذي لا يهتم بما يجري للناس من حوله بأنه (يعيش في برج عاجي) وفي المقابل من ذلك امتدح الفيلسوف الإغريقي سقراط بأنه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، والمقصود أنه أول فيلسوف اهتم بواقع الإنسان، بعد أن كان فلاسفة الإغريق من قبله مشغولين بالبحث عن أصل الأكوان.

والشيخ محمد عبده (1849- 1905) من هذا الطراز. فهو نموذج للمفكر المصري الأصيل الذي بدأ من المجتمع وانتهي إليه. فقد خرج من ريف مصر، طالب علم يسعى إلى المعرفة، وكل ما يملكه فطرة سليمة وعقل صاف. فمن قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، إلى الجامع الأحمدي بطنطا، وحي الأزهر بالقاهرة، ابتعد محمد عبده منفيا إلى بيروت، ومنها وجد نفسه في باريس، وحينا في لندن. وعلي الرغم مما كان لهذه الأماكن في ذلك الوقت بالذات من تأثير قوي على العقل والنفس معا، فإن محمد عبده ظل مهموما بمشكلات مصر، مشغولاً بالبحث عن حلول مناسبة لها.

وقد كانت عودته إلى مصر بعد النفي سنة 1896 فرصة مناسبة أتاحت له أن يقوم من خلال مناصبه التي تولاها بوضع أفكاره الإصلاحية موضع التنفيذ، ومن ذلك إصلاح التعليم الديني في الأزهر، وإنشاء مدرسة القضاء الشرعي، وإعادة تنظيم الأوقاف الإسلامية، إلا أن الكثير من أفكاره الأخرى قد اغتالها ظلام العصر الذي عاش فيه، دون أن يقضي عليها تماما. ومازالت بعض هذه الأفكار تتمتع – حتى يومنا هذا – بقدر كبير من الحيوية، والقدرة على الصمود والاستمرار.

وجد محمد عبده أن حزمة المشكلات التي كان يعاني منها المجتمع المصري ترجع إلى سببين، يرتبط أحدهما بالآخر عضويا، وهما الجهل وفساد التربية، والواقع أن الوصول إلى أسباب الداء لم يكن أمرا سهلاً. فقد تعددت في عصره اجتهادات المفكرين المعاصرين له، والسابقين عليه، في هذه الموضوع تعددا يثير الحيرة: محمد عبد الوهاب وجد أصل الداء في فساد عقيدة المسلمين، ورآه السنوسي في عدم الإعداد الجيد للدعاة، واعتبره الأفغاني في الاستعمار الغربي، وخضوع المسلمين له، وحدده الكواكبي في الاستبداد الذي يكبل طاقات الأمة. ومن هذه المنطلقات المتنوعة، راح كل واحد من هؤلاء المصلحين يضع خطته المميزة في الإنقاذ.

أما بالنسبة إلى محمد عبده، فقد وضع خطته على ثلاثة أسس، الأساس الأول أن (العلم ضرورة) للمجتمع المصري. ومن المقرر أن العلم الصحيح إنما يقوم على فكر صحيح. ولا يتحقق ذلك إلا في جو ملائم من الحرية. من هنا كان لابد من دراسة قوانين الفكر التي تضبط الاستدلال، وهي المتمثلة في علم المنطق. ثم بعد ذلك تأتي مجموعة العلوم الدينية ومجموعة العلوم العصرية. ولابد من الجمع بينهما حتى يحصل الإنسان على خير الدنيا والآخرة. ويؤكد محمد عبده على أن العلم ينتج القوة والثروة والعدالة. أما الأساس الثاني فيتمثل في (التعليم). وله جانبان، مادة التعليم ومنهج التعليم. وفي هذا المجال ينبغي على عقلاء المجتمع أن يفحصوا جيدا المادة العلمية الجيدة التي تصلح لتنشئة أبنائه، والتي تبعدهم في نفس الوقت عن الخرافات والخضوع للآراء المسبقة. أما منهج التعليم فقد خطت فيه أوربا خطوات كبيرة ومن الممكن الاستفادة من التقدم الذي حققه الغرب. أما الأساس الثالث لفكر محمد عبده فيقوم على ضرورة الجمع أو المزج بين (التعليم والتربية). والمقصود بها الإعداد الخلقي والبدنى والنفسي، والتنشئة الدينية والوطنية للتلاميذ إلى جانب ما يتلقونه من معلومات ومعارف. وفي كل الأحوال ينبغي أن يتجه العلم والتعليم لتخريج المواطن الصالح الذي يمكنه أن يتحمل المسئولية في أي موقع يتولاه، وأن يكون قادرا على المشاركة الحقيقية في تقدم مجتمعه.

وقد توج محمد عبده تلك الأفكار بمنهجه الذي يقوم على أساس التدرج في الإصلاح، مخالفا بذلك أستاذه الأفغاني الذي آمن بالإصلاح على أساس الطفرة بواسطة الثورة.

رحم الله محمد عبده، ووفقنا إلى تحقيق بعض أفكاره، التي مازالت تصلح للقرن الحادي والعشرين.

* * *



طبيب مصري من ألف عام


على رضوان


[ لم ينشر من قبل .. ]

علي بن رضوان.. طبيب وفيلسوف مصري. ولد في الجيزة، لأب فقير كان يعمل فرانا، لكنه أقبل على التعليم، حتى أصبح طبيبا كبيرا، ومؤلفا غزير الإنتاج في الطب والفلسفة. توفى سنة 453 هجرية= 1061 ميلادية. يعني مضى على وفاته ما يقرب من ألف عام. وقد أصدر عنه الدكتور أحمد القاضي كتابا بعنوان «الفيلسوف المصري علي بن رضوان»، والدكتور سليمان قطايا كتابا بعنوان «الطبيب العربي علي بن رضوان»، كما كتب عنه بعض المستشرقين. وكلهم جميعا يعترفون بأنه لم يأخذ نصيبه من الدراسة التي تليق به، كما أنه لم يحظ في تاريخنا الفكري والطبي بالمكانة التي يستحقها!

والواقع أن هذا الطبيب الفيلسوف يقدم نموذجا فريدا للإنسان المصري الذي يخرج من قاع المجتمع، ومن طبقاته الفقيرة جدا، فيبني نفسه بناء جادا، ويبذل أقصى جهده في عمله، حتى يكتب له النجاح، ويحقق لنفسه وللمجتمع أطيب النتائج.

وكالعادة، نُكب هذا العالم المصري المتميز ببعض معاصريه الذين حاولوا التشويش عليه، والتقليل من قدره، ثم ببعض المؤرخين الذين رسموا له صورة سيئة، والغالب أنها ليست صحيحة، فقيل عنه إنه كان قبيح المنظر، رث الهيئة، يجلس على الطرقات ليعمل في الشعوذة والتنجيم، وأن مؤلفاته مخلَّطه، ومنقولة بصورة عشوائية من السابقين!

أما الصورة المقابلة لذلك فتؤكد أن الرجل كان جادا في عمله، غزيرا في مؤلفاته (أكثر من ستين كتابا ورسالة في الطب، وما يقرب من أربعين في الفلسفة) كما كان محبا للخير، ومساعدة الناس، وأنه ظل يتدرج في مهنة الطب حتى أصبح كبير الأطباء في عصره، بل قيل عنه إنه «عالم مصر في أوانه» أي في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر، في منتصف المائة الخامسة من الهجرة.

ومن غريب ما حدث له انه كان قد التقط فتاة يتيمة، ورباها في بيته حتى كبرت، ثم قامت بسرقة أمواله كلها، وهربت!

ويكاد على رضوان ينفرد من بين جميع الأطباء والمفكرين المصريين والعرب بأنه وضع لنفسه (ولغيره طبعا) جدولاً يوميا يسير عليه، وفي مقدمته الرياضة البدنية. يقول إنه على مدى ثلاثين عاما، كان يبدأ يومه بالرياضة، ثم بعد أن يستريح يتناول طعاما صحيا، يحفظ به سلامة جسمه، كما يؤكد لنا أنه ألزم نفسه بالتواضع، وغياث الملهوف، وكشف كربة المكروب، وإسعاف المحتاج.. وأن سعادته كانت تنحصر في شعوره الداخلي بتلك الأفعال الصالحة، والانفعالات الجميلة!

ومن حيث الشكل، كان يهتم بمظهره، وخصوصا بالنظافة، وطيب الرائحة، وكثرة الصمت، وكف اللسان عن معايب الناس.. وهي نفس الصفات التي راح يدعو زملاءه الأطباء إلى ضرورة التنبه لها. فإذا انتهى من عمله، صرف وقته في عبادة الله بأن يتنزه بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتمجيد خالقها الحكيم، وقراءة مؤلفات أعلام الطب السابقين.

ومن أجمل ما يكشفه لنا عن حواره مع نفسه، أنه كان يتابعها بالغداة والعشى، ويتفقد في وقت خلوته ما سلف من يومه من أفعال وانفعالات (فما كان خيرا وجميلا ونافعا سررت به، وما كان شرا أو قبيحا أو ضارا اغتممت به، ووافقت نفسي بعدم العودة إلى مثله)!

وفي كتابه «دفع مضار الأبدان عن أرض مصر» يتحدث علي رضوان عن طبيعة ارض مصر، ونباتها، وهوائها، ثم تأثير هذه العوامل على صحة المصريين وأخلاقهم، وقبول ذلك للشفاء أو الحل.. وأخيرا مدى صلاحية أرض مصر للسكنى بها.

وبمنتهى الوضوح، يربط علي رضوان بين صحة المصريين وأخلاقهم، وبين البيئة التي يعيشون فيها. فإذا كانت الأرض سخيفة (على حد قوله) والهواء والماء رديئين، فإن هذه العوامل تؤثر في أنواع النبات والحيوان التي تأكلها وتتغذى منها، وتتحول إلى أبدانها، فتحدث فيها (سخافة الأجسام، وضعف القوى، وكثرة التغير، وسرعة الوقوع في الأمراض، وقصر الأعمار) لكن طول التعود عليها هو الذي يجعل أبدان المصريين تتأقلم عليها، ولا تظهر بها آثارها المحسوسة على نحو سريع!

أما عن أخلاق المصريين- على عهده- فيصفها بأنه تابعة لمزاج أبدانهم، التي هي سريعة التغير قليلة الصبر والجلد (وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة، وقلة الصبر، والرغبة عن العلم، وسرعة الجزم، والحسد، والنميمة، والكذب، والسعي إلى السلطان، وذم الناس. وبالجملة: الشرور الدنية التي تكون في دناءة النفس). أما أكثر عادات المصريين التي كانت تضايق على رضوان فكانت تتمثل في عدم المحافظة على النيل، وإلقاء القاذورات في مياهه!

وإذا كان من حقنا اليوم أن نغضب، ونحاول الدفاع عما ذكره علي رضوان قبل ما يقرب من ألف عام من عيوب المصريين، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن بعض هذه العيوب، إن لم تكن كلها، مازالت موجودة بيننا حتى اليوم، والمشكلة أننا لا نميل عادة إلى مصارحة أنفسنا بها، بل على العكس، نحاول دائما أن نمدح أنفسنا بأطيب الصفات، ونضفي عليها المزيد من الفضائل. وهذا هو أحد أسباب استمرار ما نعانيه من مفارقة القول للفعل!

لكن من أهم ما تركه لنا علي رضوان في إنتاجه الطبي هي تلك الباقة من الوصايا والنصائح والتعليمات التي ينبغي على كل طبيب، ليس في مصر وحدها، وإنما في العالم كله أن يراعيها، ويأتي في مقدمتها: ضرورة معرفة البلد الذي يعيش فيه المريض من حيث تربته ومزاجه وطعامه والأمراض المتوطنة فيه، والوافدة عليه، وكذلك عادات المريض في أيام صحته ومرضه، إلى جانب الإلمام بطبيعة الأغذية والأدوية التي يتناولها. وهناك في هذا الصدد خمسة وعشرون بندا لمن يريد أن يطلع عليها!

ويحذر علي رضوان الأطباء (من الاشتغال بلذات البهائم، من الأكل والشرب، والنكاح، وجمع المال، والمفاخرة، وحب الصلف، والمركوب والملبوس، وغير ذلك من الأشياء التي يتفاخر بها، وتموه على العوام بمخالطة ذوي اليسار، وتطويل اللحية والشيب، فإن الاشتغال بذلك كله يعوق عن التخرج (التميز) في صناعة الطب)!

وهو يرى أن الطبيب الجاهل ليس أقل عذابا في الآخرة من اللصوص والقتلة، بل إنه أكثر، بسبب ما يحدثه للناس من أضرار!!

أما أطرف ما يرويه علي رضوان عن خداع الأطباء للجماهير في عهده، فهو ذلك الطبيب المشهور بينهم، الذي كان يركب وابنه، ويجعل تحته مخدة في السرج، وبعد أن ينظر في علة المريض، يخرج اسطرلابا (آلة تستخدم في توجيه السفن!) فينظر فيه، فيخدع العوام بذلك، ويقبلون عليه باعتبار أنه طبيب بارع، مع أنه لم يكن يفهم شيئا في صناعة الطب!

تلك صورة مصغرة جدا لعلي بن رضوان، الطبيب والفيلسوف المصري، أهم ما يبرز فيها الإخلاص لمهنة الطب الشريفة، والتأملات الفلسفية حول الإنسان، التي قادته لنقد أخلاق المصريين بصراحة لا نكاد نعثر عليها لدى أحد غيره، وهكذا اجتمع في هذا الطبيب المصري ما يجتمع عادة في كل أطباء العالم الكبار، أقصد معالجة الجسد، وتأمل أحوال النفس. وكلاهما ضروري في النظر إلى الإنسان باعتبار كائنا متكاملاً منهما معا، وليس عناصر متناثرة. وهذا هو السبب في أن معظم أطباء العصر القديم كانوا أيضا فلاسفة!

* * *



المجتمع المصري ومشكلاته


[
لم ينشر من قبل .. ]

الملاحظ على المجتمع المصري في الفترة الأخيرة عدة ظواهر، بعضها إيجابي والكثير منها سلبي، ومن ذلك ارتفاع نسبة التعليم في الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانتشار وسائل الإعلام التي قامت بتكوين رأي عام أكثر حساسية وانفعالاً بالآراء الداخلية، وما يجري في العالم المعاصر، كما تحسنت كثيرا حالة الطرق والاتصالات، لكن الارتفاع المتزايد لعدد السكان أصبح يتطلب المزيد من المواصلات والمساكن، ونتيجة تعدد الجامعات، وكثرة أعداد الخريجين منها لم تستطع سوق العمل استيعابهم جميعا، فزادت معدلات البطالة، وتبعتها بالتالي مشكلات العنوسة، وتفاقم حالات الطلاق، وبرزت مشكلة أطفال الشوارع، والعشوائيات. أما الأمية فلم يتم القضاء عليها تماما، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة في مكافحتها إلا أن نسبتها تتجاوز الـ(40) في المائة، وهذه النسبة تزيد كثيرا في الريف، وخاصة لدى المرأة.

وقبل أن يمر نصف القرن فقط على ثورة يولية 1952، ظهرت طبقة من الأغنياء، الذين أصبح لهم نمط خاص في المعيشة، فهم يركبون أفخم ماركات السيارات العالمية، ويمتلكون الفلل التي لا يدخل إلى محيطها سواهم، وهي تحتوي على حمامات السباحة، ويمارسون أحيانا رياضة الجولف الأرستقراطية، ويقضون الصيف في مدن ساحلية تكاد تكون مقصورة عليهم، بل إن بعضهم يمتلك طائرات خاصة، وقد سمحت لهم الدولة مؤخرا بالعمل السياسي فأصبح منهم وزراء، ونواب مجلس الشعب، فجمعوا إلى قوة المال سلطة الحكم والتشريع.

وعلى الطرف المقابل من تلك الطبقة، يوجد الفقراء جدا، الذين يسكنون المناطق العشوائية، وهي أماكن لا تصلح أساسا للسكن الآدمي، وخالية من خدمات الكهرباء والغاز والتليفونات والماء المكرر والصرف الصحي.

ويقال إن عدد هذه العشوائيات حول العاصمة وحدها يتجاوز الخمسين عشوائية، يقطنها أكثر من عشرة ملايين نسمة، وإذا كان الآباء والأمهات في هذه الطبقة من المصريين الذين يتحلون بالصبر على المصاعب، فإن أبناءهم ينشأون غاضبين ومتمردين، ويميلون عادة إلى الشراسة، والعدوانية!

وبين هاتين الطبقتين، توجد طبقة الموظفين، الذين يبلغ تعدادهم حوالي ستة ملايين موظف، يعول كل منهم أسرة مكونة من خمسة إلى ستة أفراد، وهذه الطبقة كانت في الماضي مستورة الحال، إلا أن توقف زيادة مرتباتها، وارتفاع الأسعار المستمر جعلاها تعيش على الكفاف. ولذلك بدأت تنشر فيهم سلوكيات سيئة، بدءا من عدم أداء الواجب الوظيفي ومرورا بسوء معاملة الجمهور المتعامل معهم.. إلى حد الرشوة والاختلاس والتلاعب بالقوانين!

ويبدو بوضوح أن كلا من الطبقتين الأخيرتين قد أصبحت تشعر بالكثير من المرارة والإحباط، وينتشر بين الشباب فيها: إما الميل إلى التطرف الديني، وإما الانطلاق في طريق الانحلال بدون حدود، وإذا كان التطرف الديني هو البيئة التي تهيئ لظهور الإرهاب، فإن الانحلال هو الذي يولد السرقة بالعنف والاغتصاب.

بعد هذا التصنيف الموضوعي لطبقات المجتمع المصري في الوقت الحاضر، والمشكلات أو الأزمات المرتبطة بتلك الطبقات، فلا شك أن هذه المشكلات تحتاج إلى حلول، والأزمات إلى خطط واستراتيجيات. وهي ليست مستحيلة الحل، وإنما هي فقط صعبة، لأنها ليست وليدة اليوم، بل إنها قد نشأت وتطورت وتراكمت عبر سنوات طويلة، وعصور متعددة، ولذلك ليس من السهل القضاء عليها أو الحد من مخاطرها بين يوم وليلة، أو بقرار فوري، بل إنها قد تتطلب سنوات طويلة، وأجيالاً متعاقبة.

فمثلا: لا يوجد حل لمشكلة التعليم إلا ببناء العديد من المدارس والجامعات، بحيث تستوعب الأعداد الراغبة فيه، والمحتاجة فعلا إليه، بنسب معقولة في الفصول والمدرجات.

ولا يوجد حل الأزمة البطالة إلا بجهد مشترك تتكاتف فيه الدولة مع المجتمع لإنشاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي يمكنها أن تستوعب تلك الأعداد الغفيرة من الشباب. ولا شك أن هذا العمل لابد أن تصحبه تشريعات قانونية وضريبية، وتفاعل أكثر إيجابية من البنوك، وتشجيع حقيقي من شركات الدعاية والإعلان.

ولا يمكن حل مشكلة المواصلات إلا بتخطيط جيد للمدن، ومد الطرق، وتحسين أحوالها باستمرار، مع انضباط المرور فيها.

ولا يمكن حل أزمة الإسكان إلا بالابتعاد تماما عن الأرض الزراعية، المحدودة المساحة، والخروج إلى الظهير الصحراوي بعد مد الخدمات الضرورية إليه.

ولا يمكن حل مشكلة الإنتاج إلا بحسن تقسيم العمل، وتوزيع رأس المال على مجالاته الزراعية والصناعية والتجارية، إلى جانب النقل والسياحة، وكذلك بحزمة من القوانين التي تضبط حركة البنوك والقروض السائبة إلى جانب منع الاحتكار!

تلك فقط بعض أمثلة الإصلاح لمشكلات المجتمع المصري، وهي مشكلات لابد من مواجهتها بكل جدية ودون إبطاء، بسبب مالها من تأثيرات بالغة الضرر على تفاعل تلك المشكلات فيما بينها، وتحولها بالتالي إلى أزمات، ثم على تماسك المجتمع المصري واستقراره، الذي يعد ضمانة ضرورية لاستقرار المنطقة العربية كلها.

* * *



وقفة مع الجرائم الشرف


[
الأخبار، 2009]

وأقصد بها هذا الاعتداء الدموي على النساء والفتيات اللاتي يرتكبن- في نظر أولياء أمورهن سواء كانوا أزواجا أو أقارب- أفعالاً غير أخلاقية، وهذه الأعمال تندرج من جريمة الزنا إلى حد ضبط الفتاة وهي تتكلم مع أحد الشبان أو تبتسم له من النافذة! وبالطبع تلك الجرائم المسماة بجرائم الشرف تنتهي عادة بقتل المرأة أو الفتاة بصورة وحشية، والإلقاء بجثثها أحيانا في مكان خرب أو مجهول، وفي بعض الأحيان تقطيع جئتها إلى أجزاء حتى يتعذر التعرف عليها!! ومن الملاحظ أن بعض هذه الجرائم التي يرتكبها أفراد من ألأسرة يتم التعميم عليها من باقي أفراد الأسرة، بل وأحيانا التعاطف مع مرتكبها من المجتمع!

والسؤال الأول: هل يوجد في شرع سماوي أو قانون من وضع البشر: دعوة إلى فعل ذلك، أي السماح لأحد أفراد الأسرة بإنزال العقاب بهذا الشكل بالمرأة أو الفتاة المذنبة في رأيهم؟ أما جريمة الزنا فهي محرمة في كل الأديان، بل ومجرمة في القانون، ولها في الإسلام عقاب اسمه (الحد) يقع على طرفين، وليس طرفا واحدا، وله شروط وضوابط أهمها أن الدولة هي التي تتولى تنفيذها بعد البت فيها.. وفي كل الأحوال لا يترك العقاب لولي الأمر مهما كانت درجة علاقته أو قرابته من المرأة أو الفتاة. أما الأحداث الأخرى التي تعاقب بها المرأة أو الفتاة فمنها: الشك في سلوكها، ومسألة الشك تظل مجرد احتمال بنسبة 50% لدى ولي الأمر، ومنها: إساءة السمعة، وهي مسألة ترتبط عادة بالبيئة والظروف الاجتماعية للأسرة في الوسط الذي تعيش فيه، وكذلك بالمستوى الثقافي الذي تصل إليه بعض العائلات.. وتلك كلها أمور تختلف من عائلة إلى أخرى، وفي هذه الأحوال، يكون حظ امرأة أو فتاة أكثر من غيرها، فلا تتحقق العدالة في العقاب..

وليس في كل الأحوال، يكون ولي الأمر قادرا على إنزال العقاب بالمرأة أو الفتاة المشكوك في سلوكها، وعندئذ قد ينقلب الحال، فيقع به المكروه. أذكر جيدا حالة رجل طيب جدا، شاهد ابنة أخيه، وكانت عاملة بأحد المصانع، تتحدث مع شاب في ركن من الشارع، فعاد غاضبا جدا، وعندما شاهدها انفجر فيها، لكن أعصابه لم تتحمل الغضب فحدثت له جلطة مخية، لم يشف منها بقية حياته التي استمرت عدة سنوات بعد هذه الحادثة.. ومن العجيب أن الفتاة قد تزوجت من ذلك الشاب، وأنجبت منه طفلين جميلين، وسارت حياتهما كأطيب ما يكون!

إن جرائم الشرف قديمة قدم البشرية، وهي مرتبطة اشد الارتباط بغيرة الرجل على المرأة، لكنها في الواقع لا تعادل غيرة المرأة على الرجل! فمن حقوقه التي اكتسبها مع الزمن أن يعدد علاقاته مع النساء والفتيات دون أن تثار حوله إشاعة الشرف! وقد ينشأ الأخ والأخت في أسرة واحدة، فيباح للولد أن يصحب من يشاء من الفتيات، بل وأن يفخر بذلك أمام أفراد أسرته، دون أن يوجه إليه أي لوم أو تأنيب بل إنه قد يقابل حتى بالرضا والإعجاب، ولكن الأمر لا يتساوى على الإطلاق مع أخته.. فهي دائما ممنوعة من الحديث عن الآخرين، أو حتى الابتسام لهم!

هل الشرف إذن أمر نسبي؟ الجميع لا يعترف بذلك، والجميع أيضا يدينه بشدة، ولا يرضى أبدا للنساء أو الفتيات، بينما يغضي الطرف عما يفعله الرجل. والسؤال الآن: هل المرأة أو الفتاة وحدها هي التي تجرح شرف العائلة، أم يشاركها في ذلك رجل أو شاب آخر؟ وإذا كنا نحاسب المرأة أو الفتاة بتلك القسوة فأين حسابنا مع الرجل؟!


شروط الزواج الناجح


[
الأخبار، 2008]

يسألني الكثير من الشباب المقبلين قريبا على الزواج، والمؤجلين أحيانا له: ما هي شروط الزواج الناجح؟ وهو في رأيي سؤال مشروع، ومن واجب الذي يعرف الإجابة أن يقدمها بكل ترحاب للسائل عنها. لكن هذه الإجابة ينبغي أن تكون صادقة وصريحة، وأن تستمد مقوماتها من تجارب الحياة، ولا تقتصر على تجربة واحدة خاصة، قد تكون سوداوية، أو على العكس مليئة بالأحلام الوردية. أقول هذا في البداية لأن الزواج علاقة جادة، ومشاركة حقيقية بين طرفين، يفترض أن يعيشا معا طوال العمر، وأن يواجها الحياة بكل ما فيها من أيام حلوة، وليال طويلة وصعبة. إن الزواج هو اللقاء الحميم بين الرجل والمرأة، باركه الله تعالى، وأقرته كل مجتمعات الأرض. ولا شك أن الانخراط فيه يعد أهم وأخطر قرار يتخذه الإنسان لنفسه، ومن هنا ينبغي أن يكون حرا تماما في اختياره، وبالتالي مسئولاً بالكامل عنه.

وفيما يلي سبعة شروط، أراها من وجهة نظري، مهمة لإنجاح الزواج، والحفاظ على استمراره، وهي:

أولاً: الإشباع الجنسي، الذي من أجله (يرغب) الرجل والمرأة في الزواج أو التزاوج، وميزته أنه الطريق الذي شرعه الله تعالى وأقرته كل الأديان لإنتاج النسل، واستمرار الجنس البشري، وهنا ملاحظة: ليس من الضروري أن تكون المرأة فائقة الحسن، ولا الرجل كامل الهيئة. ولكن هناك كيمياء جسدية خاصة هي التي تجذب أحدهما للآخر، وتحقق لهما الإشباع الضروري، والذي بدونه لا يمكن أن يجتمعا في أي أمر من أمور الحياة.

ثانيا: التوافق الوجداني، الذي يصل إلى أعلى مراتبه في عاطفة الحب وهو يتضمن الميل النفسي والقلبي من كل طرف للثاني، بحيث يسعد بلقائه، ويشتاق إليه إذا غاب عنه، ويشعر بالرضا إذا كان سعيدا، ويتألم من أي ضرر يحيق به، كما أنه لا يحس بالضيق أو الضجر من أي قول أو تصرف يصدر عنه!

ثالثا: التقارب الثقافي: والمقصود به توافر الأرضية المشتركة التي تجعل الحوار بين الطرفين قابلاً للاستمرار.. هو الذي يجعل أحدهما يتكلم والآخر يصغى، أحدهما يسأل والآخر يجيب. وليس بالضرورة أن يتفقا في وجهات نظرهما حول مسألة معينة، ولكن من الممكن أن يتناقشا حولها، ويحتفظ كل منهما برأيه. ومما هو ملاحظ هنا أن غياب هذا الشرط هو الذي يدفع الزوج أو الزوجة إلى البحث عن شخص آخر، يلقي عليه بهمومه ويصرح له بأفكاره، ويتبادل معه الحديث الذي يمكن أن يجريه مع شريك حياته!

رابعا: عدالة اقتسام العمل: بعد أن يتزوج الرجل والمرأة، يقوم كل منهما بعمل مختلف عن الآخر فالرجل عادة يعمل بالخارج، والمرأة تهتم بشئون البيت، حتى ولو كانت هي أيضا عاملة، ويظهر التفاوت عندما يصل الرجل مثلا من عمله، ثم يدخل حجرة النوم، ويتمدد على السرير في انتظار انتهاء زوجته من إعداد الطعام! بينما تظل المرأة تعمل طول النهار في البيت ولاتتاح لها فرصة الراحة مثله. وهنا ينبغي أن يدرك كل من الطرفين طبعة عمل الآخر، وحجم هذا العمل، والإرهاق المترتب عليه، وأن يتعادلا في توزيع الأعباء، كما يجب أن يتشاركا فيها.

خامسا: مراعاة مشاعر الطرف الثاني: ومما يؤكد نجاح الزواج، دون أن يدري طرفاه، ما يقوم به كل منهما من احترام مشاعر الطرف الثاني، فالزوجة تحب أقاربها، وخاصة أمها، وهنا على الزوج أن يجاملها في ذلك، حتى ولو لم يشعر معها بنفس القدر من الحب!

كذلك فإن الزوجة قد تحب بعض صديقاتها، أو جاراتها، وهذه تحتاج إلى معاملة خاصة من الزوج دون أن يظل يقلل من شأنها، أو يلوم زوجته على حبها لها. ونفس الشيء ينطبق على بعض الهوايات والأشياء والمقتنيات.

سادسا: احترام الخصوصية: لكل من الزوجين قبل الزواج حياته الخاصة، وهي مليئة بالأحداث والأشخاص والذكريات. وهذا العالم حق لكل منهما. فإذا أضر أحد الزوجين على عدم اقتراب الطرف الثاني منه كان له ذلك، وإذا باح له بشيء منه تقبله بصبر وهدوء وحسن تفهم، حتى لا يفجعه في أمر غال وعزيز عليه.

سابعا: القيام ببعض الرحلات: ومما يفيد نجاح الزواج القيام ببعض الرحلات خارج القرية أو المدينة التي يقيم فيها الزوجان. إن لكل رحلة مذاقها الخاص، وهي تقوم بترسيب ذكريات جميلة في نفس كل منهما، كما أنها توحد بينها على نحو خاص، وهذه الذكريات هي التي تطفو – عند وجود خلاف أو نزاع عابر – فتغطي على الغضب، وتسرع بإطفاء شعلته!

تلك هي – في رأيي – شروط (الزواج الناجح)، أما (الزواج السعيد) فهو من نعم الله، التي يختص بها بعض الأزواج دون غيرهم. ونعم الله – كما نعرف – ليس لها شروط ولا حدود!

* * *


الشارع المصري


في مطلع القرن الحادي والعشرين


[الأخبار، 24/2/2009]

الشارع هو الطريق الذي يحق لجميع المواطنين وغيرهم أن يعبروه ذهابا وإيابا. وبكل شارع نهر تجري فيه السيارات ورصيف يتحرك عليه المشاة، والسبب في ارتفاع الرصيف عن مستوى نهر الشارع هو حماية المشاة من خطر السيارات وطيشها الذي قد يتسبب أحيانا في وقوع الحوادث لهم، ومن هنا كان الرصيف حرما آمنا لمن يختار المشي عليه أو يضطر إليه كي لا يصاب بأذى، لذلك فإن أي محاولة للاعتداء على الرصيف- بتقطيعه من أجل السيارات الخاصة، أو بشغله بالبضائع وغيرها، أو بحجزه لأي غرض شخصي- تعتبر اعتداء مباشرا على المشاة، وهنا أرجو أن يجيب عن سؤالي التالي رجال القانون: ما هو الحكم في شخص لم يجد الرصيف أمامه خاليا فاضطر للنزول إلى نهر الشارع فصدمته سيارة: هل يقع الذنب على السيارة وحدها، أم على من وضع عقبة على الرصيف اضطرت هذا الشخص المصاب للنزول إلى نهر الشارع؟!

من أهم خصائص الشارع النموذجي: النظافة، والهدوء وتحقيق السيولة المروية لكل من السيارات والمشاة، وفي المقابل من ذلك هناك ثلاث معوقات توجد في الشارع الرديء، وهي: القذارة، والضجيج، وعرقلة المرور.

أما القذارة فتشمل مجموعة من السلوكيات التي تتعلق بالأفراد، ومنها إلقاء القمامة كيفما اتفق، وطرح أنواع المخلفات عديمة القيمة في الشارع بما في ذلك تصفية زيت السيارات المستعمل، والمياه المتساقطة من أجهزة التكييف على المارة، وبقايا الخضار الذي يباع على الأرصفة، أما الأمور التي تدخل مباشرة في مسئولية المحليات فمنها: طفح المجاري، وترك البالوعات بغطاء مكسور، أو بدون غطاء، وعدم رصف الشارع بعد حفره نتيجة مد أسلاك الكهرباء والتليفونات، أو مواسير مياه الشرب والصرف الصحي وكذلك ترك أكشاك الكهرباء بدون صيانة، أو إحكام غلقها، وظهور بعض الأسلاك الصاعقة منها، يضاف إلى ذلك عدم تشغيل الجراجات فيما خصصت له الأمر الذي يجعل السيارات تركن صفين وأحيانا ثلاثة!! وكذلك عدم تشديد العقوبة على أصحاب المحلات الذين يحجزون الأرصفة لعرض بضائعهم، وأحيانا لعرض السيارات للبيع أو للإيجار، وكذلك أصحاب الورش التي تمتد خارج حدودها!

وأما الضجيج فيبدأ من ارتفاع أصوات المواطنين بدون داع، وزعيق منادي السيارات، ويمتد إلى نداء الشبان الأراذل على يعضهم بالكلاكسات، ورفع المحلات لصوت الاستريو، كما يشمل الباعة الجائلين الذين أصبحوا يستخدمون الميكروفونات التي تعمل بالبطارية السائلة، وخاصة بائع الروبابيكيا، بالأحرى مشتريها لأنه لا يبيع شيئا!! وأسوأ منه موزع أنابيب البوتاجاز الذي لم تجد له الشركة وسيلة حضارية أخري سوى أن يقرع بالمفك على الأنابيب!

وبالنسبة إلى عرقلة المرور التي تشمل السيارات والمشاه معا، فإن الأسباب متعددة، ولكنها قابلة للحل إذا توافرت الإرادة، ومنها تحويل معظم الجراجات إلى سوبر ماركات ومخازن مما يضطر أصحاب السيارات إلى ركنها في الشارع صفين وثلاثة!

سوف تقول لي: ما الحل؟ وهو بسيط جدا. لكنه يقع على طرفين: الحكومة التي تسن القوانين وتطبقها على الجميع بدون استثناء، والناس الذين يقتنعون بها، ويجدون أنها في صالحهم.


حياة الإنسان في المعاش


[
الأخبار، 31/3/2009]

عندما يخرج الموظف أو العامل على المعاش، سواء من الحكومة أو من القطاع العام أو الخاص، يبدأ على الفور مشوار الإجراءات من أجل الحصول على مكافأة نهاية الخدمة، وهي أحيانا مبلغ لا بأس به، وكذلك إجراءات تثبيت المعاش الشهري الذي ينبغي أن يعدل إنفاقه على أساسه، وبالطبع يحدث هبوط واضح في مستوى معيشته نتيجة هبوط الدخل، فلم تعد هناك مكافأة ولا حوافز.. فقط ذلك المبلغ المحدد الذي يزيد كل عام بصورة طفيفة.

وبمجرد الانتهاء من إجراءات الحصول على المكافأة وتثبيت المعاش الشهري، تكاد تنتهي علاقة الموظف بالمكان الذي كان يعمل فيه، والذي قضى طوال عمره السابق، حوالي خمسة وثلاثين عاما، في التردد عليه، والعيش فيه باعتباره بيته الثاني، ومع مرور الوقت يتناقص عند الزملاء الذين يتصلون به إلى أن يتلاشوا تماما، وهنا تبدأ فترة وجوده بالبيت تطول، ويشعر ببعض مظاهر الضيق من زوجته وأولاده الذين كان يخلو لهم البيت طوال فترة عمله في الصباح.. عندئذ لا يجد مفرا من الخروج. إلى أين؟ إلى أقرب مقهى حيث بعض الجيران، الذين كان يستثقل رؤيتهم فضلا عن الجلوس معهم! لكن المقهى لا يوفر المكان الملائم دائما، فدخان الشيشة، وارتفاع صوت التليفزيون، والجيل الجديد الذي يتعامل بعنف من حوله.. كل ذلك يدفعه إلى الهروب من المقهى، والمشي على غير هدي في الشوارع، لكن ركبتيه لا تتحملان كثرة المشي، فيضطر للجلوس على أقرب سور من فترة لأخرى، وفي النهاية لا يجد مفرا سوى العودة إلى البيت الذي يرجع إليه منكسرا مع بعض الحكايات عن مشاهداته في الخارج. ومن الواضح أنه لا يجد لها رد فعل أو تشجيعيا!

يعود صاحب المعاش إلى نفسه أخيرا، فيجلس وحيدا، وقد يغمض عينه ليتذكر بعض ما مر به أثناء فترة عمله: الأشخاص والمواقف والمقالب والصراعات، وفجأة يذكر المسجد، فيسرع لزيارته، وهناك يصلي الفرض، وبعض النوافل، ويقرأ في المصحف فيحس ببعض الراحة النفسية، ويجد أن كثيرا من الآيات تحذر من سراب الدنيا الفانية، وتحض على ضرورة الاستعداد للدار الآخرة، لكنه مع إغلاق المسجد، يعود إلى بيته فيشارك أهله مشكلاتهم ويجد نفسه غارقا في هموم الدنيا من جديد.. وقد يفاجأ بأن زوجته تحدثه عن الانخراط في عمل آخر.. كيف؟ وأين؟: تجلس في معرض موبيليا، والمرتب معقول، لكنه أحسن من القعدة!! وتقع عليه الكلمات كالكرابيج، فهو الموظف المسئول عن الإدارة والحسابات والذي كان يأتمر بأمره خريجو الجامعات- يتحول إلى بائع في محل موبيليا! ومن الغريب أن الوظيفة لا تنتظر، فما أسرع أن يلتحق بها شخص آخر، فيحمد الله على ذلك، لكن مجرد عرضها عليه يتركه محطما من الداخل!

إن مشكلة أصحاب المعاشات أننا لم نلتفت إلى طاقاتهم التي مازالت قادرة على العطاء، وليس بالضرورة أن يعملوا في وظائف ثابتة بمرتبات محددة، وإنما هناك أعمال مفيدة للغاية يمكنهم القيام بها، وعلى رأسها دروس التقوية للتلاميذ بأجور رمزية، بدلاً من استغلال محترفي الدروس الخصوصية الذين أصبحوا يجمعون خمسة عشر مليار جنيه من جيب الأسرة المصرية. كذلك هناك العديد من الأعمال الإشرافية التي يمكن أن يساعدوا فيها المحليات وإدارات الأحياء والقرى.. وبهذا الشكل نستطيع الاستفادة من تلك الطاقة المعطلة في المجتمع.

ثقافة حقوق الإنسان

[
الأهرام، 2008]

يظن الكثيرون أن حقوق الإنسان إذا ما تم تدريسها في المدارس والجامعات استقرت في المجتمع، والواقع أن حقوق الإنسان ثقافة وليست دراسة. والفارق بينهما واضح. فالدراسة مقرر يتم تلقينه للتلاميذ والطلاب ويجري امتحانهم فيه ثم طرحه من عقولهم، بينما الثقافة وعي عام يتوزع على كل أفراد المجتمع، ويسري في سلوكهم.

وليست حقوق الإنسان لغزا أو فزورة صعبة يراد حلها، وإنما هي مجموعة من البنود تبلغ ثلاثين بندا تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أ صدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر سنة 1948 ويشتمل على ديباجة في صفحة واحدة، ومجموعة البنود الثلاثين في حوالي خمس صفحات. يعني المسألة كلها محصورة في ست صفحات فقط، يمكن طبعها، وتوزيعها على المواطنين في أماكن عملهم، أو على محطات القطارات والباص والمترو، كما يمكن بالطبع بثها في وسائل الإعلام من فترة لأخرى حتى يطلع عليها كل من يهمه الأمر. والواقع أنها موجهة لكل إنسان على ظهر الأرض، وفي أي دولة، وتحت أي نظام سياسي، لأنها تتعلق مباشرة بحقوقه الأساسية التي يجب أن يكفلها له القانون. وهنا نقطة هامة، وهي أن قوانين مختلف الدول ينبغي أن تتمشي تماما مع تلك الحقوق، ولا تتعارض معها، بل تكون تفصيلاً لها، وتطبيقا لمبادئها العامة.

ومن الرائع أنك عندما تقرأ بنود حقوق الإنسان سوف تجدها متمشية تماما مع مبادئ الأديان في بلادنا، بل إنها تتوافق تماما مع أعرافنا وتقاليدنا التي استقرت في أعماق الشعب المصري منذ آلاف السنين.

نص المادة الأولي: يولد جميع الناس أحرارا متساويين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء. وتنص (المادة الثالثة) على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه. و(المادة الرابعة) على أنه لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما. أما (المادة الخامسة) فتمنع عدم تعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحط بالكرامة (وعلي هذا الأساس تمت إدانة أعمال التعذيب والحط من الكرامة التي وقعت من الجيش الأمريكي في سجن أبوغريب بالعراق). وتنص (المادة السابعة) أن كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، وتمنع (المادة التاسعة) القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفيا.  وتؤكد المادة (11) أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. أما المادة (13) فتتيح لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، كما يحق له أن يغادر بلاده، وأن يعود إليها كما يشاء.

وتنص المادة (16) على أن للرجل والمرأة متي بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. كما لا يبرم عقد الزواج إلا برضا الطرفين الراغبين في الزواج رضا كاملاً لا إكراه فيه. وتؤكد المادة (19) حق كل إنسان في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة دون تقيد بالحدود الجغرافية. أما المادة (21) فتتيح لكل فرد حق الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا..

تلك هي بعض البنود الثلاثين لحقوق الإنسان، والتي لو اطلع عليها أي إنسان لوجدها جميلة ورائعة وتستحق بالفعل أن تصبح جزءا لا يتجزأ من ثقافته، وبالتالي من سلوكه، والخلاصة أن المسألة بسيطة ولا تتطلب تلك الضجة الإعلامية التي تثار من أجلها لكي يجعلوها مقررا دراسيا يتجرعه تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات بالكثير من الضجر والملل!

* * *



الثقافة المصرية


بين التأميم والخصخصة


[الوفد، 11/4/2009]

لا أكاد انظر في أرجاء مصر إلا وجدت كل المؤسسات الثقافية التي كنت وأمثالي نحلم بوجودها قائمة بالفعل، فهناك المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الذي يهتم بكل أنواع الإبداع الأدبي والفني، وهناك إدارة للترجمة من اللغات الأجنبية، وهناك الهيئة العامة للكتاب التي تنشر الكتب القديمة والحديثة، وهناك مجمع اللغة العربية الذي يختص بتطوير اللغة العربية ويضع المعاجم والقواميس، وهناك المجمع العلمي المصري الذي أنشأه نابليون في مطلع القرن التاسع عشر، ويضم نخبة من علمائنا الكبار جدا، وهناك دار الأوبرا التي تعرض أرقى فنون العالم في الموسيقى والأوبريت، وقد أضافت لها الندوات الثقافية! وهناك الهيئة المختصة بالثقافة الجماهيرية التي تحاول تشجيع الأدب في مختلف الأقاليم، وهناك اتحاد الكتاب الذي يضم كل محترفي الكتابة وهواتها على السواء، وهناك في وزارة الثقافة إدارة للتفرغ، تقدم لمن لديه مشروع أدبي أو فني راتبا شهريا لمدة عامين أو أكثر حتى ينجزه، وهناك في أكاديمية البحث العلمي إدارة مختصة بالبراءات العلمية، يسجل فيها المبدعون اختراعاتهم لكي تحفظ حقوقهم فيها، وهناك بعد ذلك كله، هيئة للتنسيق الحضاري تتابع جماليات المعمار، وتكافح كل مظاهر القبح!.

فإذا تأملت معي بعد ذلك كله مجموع النتائج أو حصيلة الثمار التي تخرجها كل هذه المؤسسات الحكومية وجدتها ضعيفة جدا، بل هزيلة! والدليل على ذلك هو ما تعانيه الحياة الثقافية والأدبية والفنية في مصر من ضمور وتراجع بعد أن كانت متعافية ومزدهرة وتنشر أشعتها على العالم العربي كله.

وحين نتساءل عن السبب في ذلك فمن الممكن أن نضع أيدينا معا على عدة أسباب الأول: أن تبعية تلك المؤسسات الثقافية للدولة جعلها تعمل بنظام المصالح الحكومية التي يحكمها الروتين، وتتحكم فيها الإجراءات البطيئة والمعقدة، والثاني: أن الميزانية المخصصة لتلك المؤسسات لا تتناسب أبدا مع حجم وطبيعة النشاط الذي تتابعه، والثالث: أن القائمين على إدارة تلك المؤسسات موظفون يتسمون بضعف الخيال، وضيق الأفق، وعدم الإطلاع على ما يجري في دول العالم المتقدم، والرابع: أن الفترة التي نعيشها قد تكون خالية من كبار المبدعين الحقيقيين، أو الشباب الواعدين، ولذلك فإن هذه المؤسسات تشبه ماكينات الطحين التي لا يوجد فيها حبوب، ولذلك فإنها تصدر صوتا عاليا بدون فائدة، وقديما قال العرب (أسمع جعجعة ولا أرى طحنا!)، أما السبب الخامس: في رأيي فهو «وجود» هذه المؤسسات نفسها، بمعنى أنها تقف عائقا ضد المبادرات الفردية التي قد تكون أكثر فعالية، وأقوى أثرا، ويكفي أن أشير هنا إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أنشأها في النصف الأول من القرن العشرين جماعة من كبار العلماء والمفكرين منهم: أحمد أمين وطه حسين وزكي نجيب محمود وغيرهم واستطاعت بمجهودها الخاص أن تنشر عددا من روائع الأدب والفكر، كذلك أشير إلى مجلة الرسالة التي أنشأها وتابعها أحمد حسن الزيات، وكانت بمثابة جامعة أدبية وثقافية لكل أبناء العالم العربي، ولم تستطيع أن تصل إلى مستواها أي مجلة عربية أنشأتها دولة عربية حتى اليوم!

وهكذا.. فإن الثقافة المصرية بين التأميم والخصخصة تستحق نقاشا مجتمعيا واسعا لكي نصل فيه إلى نتيجة يمكنها أن تحررها من معوقاتها، وتدفع بها إلى آفاق واسعة من التقدم والازدهار.

* * *



هيئة الكتاب وخصخصتها


[
المساء، 2007]

كان الغرض من إنشاء هيئة الكتاب هو أن تشرف الدولة أيام محاولة تطبيق النظام الاشتراكي على حركة التأليف والترجمة وتحقيق التراث، ومن خلال هذا الإشراف تتحكم فيما ينشر وما لا ينشر. ولهذا السبب دعمت الدولة هيئة الكتاب دعما ماليا كبيرا لكي تتغلب على الناشرين المتواجدين في سوق الكتاب وتقضي عليهم، فأصبحت كتبها أرخص بكثير مما يباع لدي هؤلاء الناشرين. وكان المأمول أن تجتذب هيئة الكتاب المفكرين والباحثين المصريين لكي ينشروا إنتاجهم فيها، وهذا ما حدث بالفعل، لكنها ما لبثت أن أصيبت بأمراض فتاكة، من أهمها تكالب عدد من المفكرين والباحثين على الهيئة، واقتصارها على نشر إنتاجهم وحدهم دون غيرهم، وهو الأمر الذي أصاب الغرض من إنشائها في مقتل. فانصرف عنها معظم الكتاب والباحثين، بينما فتحت لهم دور النشر الخاصة في عهد الانفتاح الاقتصادي أحضانها، وزادت من مكافآتهم، وحسنت من شكل مؤلفاتهم، بل روجت على نحو واسع أسماءهم، وهكذا انتهي الحال إلى رجحان كفة الناشرين الخاصين على روتين هيئة الكتاب العقيم. والواقع أن بقاء واستمرار هيئة الكتاب وسط ناشرين محترفين يعد مناقضا لحركة السوق الحر. ولا يكاد يوجد لها مثيل في أي دولة متقدمة، أذكر على سبيل التندر أن هيئة الكتاب كانت تقوم أحيانا بنشر كتاب من كتب التراث يبلغ 20 جزءا، فماذا كان يحدث؟ يقوم أحد الناشرين، ولا داعي لذكر اسمه، بالاستيلاء على أحد هذه الأجزاء، وإخفائه في مخازنه، وعندما يحاول القراء المساكين الحصول على هذا الجزء كان يبيعه لهم بثمن مغالي فيه جدا، ربما يصل إلى ثمن المجموعة كلها. والسؤال الذي كنا نطرحه على أنفسنا: كيف استطاع هذا الناشر الماكر الحصول على ذلك الجزء من السلسلة؟ ومن الذي ساعده من داخل الهيئة نفسها على ذلك؟ وكيف لا تتخذ ضده الإجراءات القانونية اللازمة؟ وبالطبع لم تكن توجد إجابة، وكان الأمر يسير في اتجاه التدهور، حتى سمعنا أخيرا أن مخزون الهيئة من مطبوعاتها يبلغ ستة ملايين نسخة (تصوروا!! ) يعني الهيئة الموقرة طبعت على نفقة الدولة ومن حر ميزانيتها كتبا بتلك المبالغ الطائلة، ولم تستطع بيعها أو تصريفها فركدت في المخازن بهذا العدد الرهيب؟ من يحاسب من؟ هذا هو السؤال. وكيف تخرج هيئة الكتاب من أزمتها؟ لا توجد خطة.

وهكذا فإنني أنصح مخلصا أن تتم خصخصة هيئة الكتاب، وأن تترك للناشرين المحترفين الذين يعرفون جيدا صناعة الكتاب، وكيفية تسويقه وطرق بيعه في الداخل وتصديره للخارج. وإذا عدنا للغرض الأول من إنشاء هيئة الكتاب نجد أنه قد فقد مبرراته، خاصة وأننا نعيش اليوم عصر حرية التفكير والتعبير. والله الموفق.

* * *


القراءة وآفاقها


[
الأخبار، 3/2/2009]

القراءة هي الوسيلة الأساسية في التعليم، وهي أحد روافد تحصيل الثقافة، كما أنها قد تكون إحدى وسائل التسلية، وهكذا يمكن الحديث عن ثلاثة أنواع من القراءة بحسب أهدافها: قراءة التعليم وقراءة الثقافة وقراءة التسلية. ومن المعروف أن القراءة لا تبدأ إلا بعد محو الأمية أو فك الخط كما يقال.. عندئذ ينفتح أمام الإنسان عالم فسيح لا حدود له يمكن أن يتجول فيه بنفسه بعد أن كان يسمع عنه من الآخرين، كما يلتقي فيه بعقول ذكية وقلوب نابضة بالحيوية، لا يكاد يوجد مثلها فيمن حوله، وأولئك هم العباقرة الذين يزدان بهم تاريخ الفكر والعلم والأدب والفنون..

ليس في القراءة أبدا ما يؤذي، بل إنها تحتوي على كل ما يفيد. فالقراءة لا تزيد فقط من معلومات الإنسان وتأكيد معرفته، وإنما هي أيضا توسع آفاقه، وهو مقيم في مكانه، وبذلك فإنها توفر علينا عناء الرحلة التي قد تستغرق عمره وتستنفد ماله دون أن يحصل منها على ما يحصله من خلال القراءة، كما أنها تتيح له أن يرى أمما وشعوبا مختلفة تفكر وتتصرف بأساليب متنوعة وتحزن وتفرح بأسبابها الخاصة، وهذا كله يدفعه إلى أن يعيد النظر في ذاته، والتفكير في حياة مجتمعه، كما يفتح أمامه مجالات المقارنة، التي تساعده على تصحيح الأخطاء وتعديل المسار، وليس بالضرورة أن يكون ما يجده لدى الآخرين أفضل مما لديه بل لعله يكون أسوأ، وهذا يجعله يزداد تمسكا بجذوره ويقوي انتماءه لوطنه.

وتتميز القراءة عن الرحلة في أنها تساعد على تكوين الحس النقدي لدى الإنسان وتعمل على تطويره. الإنسان في الرحلة يظل دائما غريبا وهو عابر سبيل يرى الناس والأشياء من الخارج. صحيح أنها رؤية مباشرة ومهمة جدا لكنها سريعة وخاطفة، لا تتيح له الوقت الكافي للتأمل والتدبر وإعادة التفكير قبل إصدار الحكم، أما الإنسان الذي يقرأ فيمكنه أن يغلق الكتاب ويفكر فيما قرأ، بل ويعيد التفكير مرتين وثلاثا: هل أصاب المؤلف أم أخطأ؟ وهل وصف الواقع أم بالغ؟ وهل لديه أفكار أم أنه مجرد ثرثار؟!

القراءة تزيد من ثقة الإنسان في نفسه، وتجعله أقدر على مواجهة الواقع دون خشية أو تردد، والسبب أنها تزوده بالمعلومات وتؤكد المعرفة في عقله، ومن هنا يصبح أهلا للمواجهة، ومحصنا في نفس الوقت من ألوان الخداع التي يتعرض لها الإنسان العادي.

ثم نأتي إلى مسألة الاختيار في القراءة وهي مسألة مهمة للغاية وينبغي على كل جيل أن يقوم بها لنفسه، ثم لكي يبصر بها الجيل اللاحق له. كثيرا ما دعوت إلى ضرورة إجراء استفتاء بين المفكرين والعلماء والأدباء لكي يختاروا للشباب أهم وأفضل مائة كتاب أو خمسمائة، أو ألف.. لأننا يجب ألا نغفل عن حقيقة مهمة، وهي أنه ليس كل ما يكتب يستحق القراءة، فهناك من المؤلفين من كتب أشياء تافهة، أو لا معقولة!

وفي وقتنا الحاضر ظهرت وسائل الإعلام المرئية فجذبت عيون الشباب وشغلتهم عن القراءة: وتلك ملاحظة تصدق على كل شباب العالم تقريبا، لكن شبكة الانترنت أسرعت فتداركت الموقف وذلك من خلال إتاحة المعلومات بدون حدود لكل من يرغب فيها على وجه الأرض، بل إنها استوعبت المكتبات العالمية وما تحتويه من الكتب فضمته إلى صفحاتها الالكترونية. لابأس. المهم أن يتجول فيها الشباب، وأن يلتقطوا منها ما يستحسنون، بشرط ألا يغيب عنهم المفيد والنافع من المعلومات المعروضة. وهنا أعود فأذكرهم بالمثل الفرنسي الجميل: «قل لي ماذا تقرأ.. أقل لك من أنت»؟

* * *


الشاعر والناظم


[
الوفد، 14/12/2008]


يتشابه الشعر والنظم في أن كلا منهما كلام موزون، وقد يكون مقفى أو حرا.. لكن الشعر يتميز عن النظم بأنه يمتلئ بروح حية تسري فيه، وأطياف ملونة تدور حوله، وكهرباء تنساب منه فتؤثر في روح المتلقي، وتتركه في حال من الانفعال الممتزج بالنشوة، وأحيانا بالغضب. أما النظم الذي يشبه الشعر من حيث شكله وبناؤه تماما، فإنه يصك سمع المتلقي وقد يؤثر في أذنه لكنه لا يتجاوز ذلك إلى صميم قلبه وروحه.

الشاعر فنان بطبعه، والناظم «صنايعي» لا يجيد سوى التقليد والتصليح وإخراج القصيدة على نحو ما يفعل الشاعر من حيث الظاهر، ومع ذلك فإنه لا يتمكن أبدا من أن ينفخ فيها الروح، أو يجعلها ذات وقع وتأثير يتجاوز حدودها إلى قلوب الآخرين. ومشكلة الناظم أنه يتجاهل أهم خصائص الشعر وهو الإلهام الذي لا يهبط إلا على أصحاب الموهبة، وأنا أقول إن الموهبة منحة من الله تعالى للشعراء والأدباء والفنانين، ويقول نقاد الغرب إنها منحة من الطبيعة، لأنهم لا يؤمنون بالله.

وهناك من الناظمين يحاول استدعاء الموهبة بأي شكل وأحيانا بأي وسيلة، فتراه يطيل شعره، أو يمسك عصا، أو يهمل ملابسه، أو يضع حول رقبته كوفية ملونة، وإذا جلس في ندوة راح يحدق في السقف، وقد يبتسم بدون داع، أو يتمتم بكلمات لا تخرج من شفتيه.. ومع ذلك فإنه عادة ما يجيد فن إلقاء قصيدته، محاولاً جعلها تبدو أنها من الشعر، وهي في واقع الأمر من فصيلة النظم. ولكي أضع في يدك معيارا تميز به بين الشعر والنظم فإنني أدعوك لقراءة القصيدة «الشعرية أو المنظومة» بعيدا عن إلقاء صاحبها، وعندئذ سوف تحس بأن «القصيدة الشعرية» هي التي تشدك إليها بخيوط من المشاعر والأحاسيس، في حين أن «القصيدة المنظومة» تظل باردة وهامدة وجامدة على الورق.. صحيح أنك قد تجد فيها تنسيقا عقليا، أو محسنات بلاغية، أو تلاعبا بالألفاظ وجودة في صفها وسبكها والمقابلة بينها، ولكنك سوف تفتقد فيها «الروح» التي أشرنا إليها، فهي مثل التمثال الجامد، الخالي من أي إيحاء.

الشاعر يكتب قصيدته بعفوية بالغة، فتخرج من بين يديه كائنا جميلاً يبكي ويضحك، وربما طار وزقزق.. ولذلك فهي أشبه بالمولود الذي لا يخرج إلى الحياة إلا بعد أن يكون قد اكتملت أعضاؤه، وأصبح قادرا على تنفس الهواء خارج بطن أمه.. وليس معنى هذا أن الشاعر لا يعاني، بل إنه مثل تلك الأم التي لا تلد إلا بعد أن تمر بفترة طويلة من الحمل الثقيل الذي يرهقها وأحيانا يوجعها. وقد يتصور البعض أن الشاعر الموهوب لا يقرأ ولا يغوص في بطون الكتب، على العكس إنه قارئ نهم للتراث الشعري المكتوب بلغته، وكذلك بلغات الأمم الأخرى.

إن الشاعر الموهوب يدرك بالفطرة أنه حلقة في سلسلة التراث الشعري العالمي، وأن هذه الحلقة متصلة بما قبلها، كما أنها ممهدة لما يأتي بعدها، ولذلك فإنه يكون دائما إضافة وليس تكرارا، صوتا متميزا وليس ضجيجا أجوف.

وهناك فارق آخر أساسي بين الشاعر والناظم يتمثل في أن الشاعر صاحب رسالة يقوم بتبليغها للناس في عصره، وربما تجاوزهم إلى العصور اللاحقة. وهذه الرسالة قد تكون وجدانية، أو وطنية، أو إنسانية، أما الناظم فإنه يظل أسير الشكل الشعري الذي يرهق نفسه في إقامته وتجويده، في حين أنه يخلو من أي هدف حقيقي أو رسالة يمكن تبليغها للناس. والخطورة هنا أن يعلو صوت الناظم على صوت الشاعر، وفي هذه الحالة قد ينشغل الناس بدعايته، وأساليب عرضه البلهوانية فيتجمعون حوله، بينما يهملون الشاعر الحقيقي ولا يلتفتون إليه إلا بعد فوات الأوان. ومن الغريب أن الناظمين يعرفون أنفسهم جيدا، كما يعرفون الشاعر الحقيقي، فيعملون بكل الوسائل على إخماد صوته، والتعتيم عليه بضجيجهم العالى، إلى أن يأتي يوم يتنبه فيه المجتمع إليه، ويكتشف أنه قد أضاع وقته في الإصغاء إلى هؤلاء الأدعياء بدون طائل!

ويبقى أن النقاد الحقيقيين، وليس المزيفين أيضا، هم الذين يأخذون بأيدي المجتمع لتمييز الشاعر الموهوب من الناظم المحاكي، وبيان قيمة الصوت الحقيقي من أصوات الطبول الجوفاء!

* * *



القاهرة وشعراؤها


[
آخر ساعة، 2007]

في سنة 1950 ألقي طه حسين في مدينة نيس وكان وزيرا للمعارف محاضرة بالفرنسية بعنوان (مصر وفرنسا) وقد ظلت هذه المحاضرة مجهولة حتى عثرت عليها وترجمتها إلى العربية، وكان من أهم ما فيها مقارنته الذكية بين عاصمتي الدولتين: القاهرة عاصمة مصر وباريس عاصمة فرنسا، وأن كلاً منهما تعتبر في منطقتها مركزا للحضارة ومنارة للمعرفة. في باريس توجد جامعة السوربون التي يأتي إليها طلاب العلم من أوربا كلها، وفي القاهرة يوجد الأزهر الشريف وجامعة القاهرة اللذين يفد إليهما طلاب العلم من إفريقية وآسيا. ولعل هذه المحاضرة هي التي جعلتني أطمح دائما ألا تقل القاهرة في شيء عن نظيرتها باريس. لكنني لاحظت أمرا خاصا فيما يتعلق بكثرة الشعراء الذين كتبوا قصائدهم في باريس، وقلة الشعراء الذين كتبوا عن القاهرة. وتساءلت عن السبب فوجدت أن نطق كلمة باريس أسهل من نطق كلمة القاهرة. الأولي تحتوي على مقطعين صوتيين، والثانية على أربعة مقاطع. وهذا هو الذي جعل ورود كلمة باريس في الشعر وبالتالي في الأغاني أكثر شيوعا من ورود كلمة القاهرة، ويكفي أن تلاحظ كيف يطلق المصريون جميعا وخاصة من أهالي الأقاليم على القاهرة اسم مصر، فيقولون: أنا نازل مصر، وأنا رجعت من مصر، وهم يقصدون بالطبع عاصمتها القاهرة. ولأنني من مواليد هذه المدينة ومن عشاقها في نفس الوقت، فقد حاولت أن أسجل حبي لها في ديوان شعر، سميته (عاشق القاهرة) تضمن قصائد بعناوين (حي الحسين – الدرب الأحمر – شارع نوال) وهي الأحياء التي عشت فيها، ومازلت مرتبطا من الناحية الوجدانية بها.

ومن بين المقطوعات التي ذكرتها فيها بالاسم:

أحبك يا قاهرة

أحب شوارعك الواسعة

أحب ميادينك الفاخرة

مقاهيك، نسوتك الفاتنات يضيقن خطواتهن وتفهق منهن أحلي العطور

أحبك لكن رأسي يدور..

في القاهرة يوجد أجمل ما في المدن الأوربية، كما يوجد فيها أيضا مشكلاتها. لكنها تظل بالنسبة إلى المدينة المعشوقة، التي لا أكاد أغيب عنها ليلة أو ليلتين حتى أجد قلبي ينتفض بقوة نحوها. والعجيب أنني عندما أتركها أصبح مثل السمكة التي تخرج من الماء، ولا تستطيع التنفس إلا إذا عادت إليه!

في فرنسا يوجد ممثل أصيل اسمه جان لوي ترينيون ومن الواضح أنه لم يحصل على نفس الشهرة التي حصل عليها نظيره الفرنسي الأقل موهبة منه لكن اسمه أكثر سهولة، وهو ألان ديلون. وهذا هو حظ القاهرة في الشعر بالنسبة إلى حظ باريس. وحتى صديقي الفنان سمير الاسكندراني عندما حاول أن يغني للقاهرة، فضل أن يستخدم اسمها الإفرنجي (كايرو) نظرا لانسجامه مع الموسيقي واللحن. والسؤال الآن: متي ينجح الشعراء عشاق القاهرة أن يدخلوها في قصائدهم باسمها العربي الأصيل؟ ([3])

روائيان مصريان.. في الظل

[
الأخبار، 14/7/2009]

أما الأول فهو الدكتور علي أبو المكارم، الذي أصدر حتى الآن تسع روايات بالتمام والكمال، ولم يكتب عنه أي ناقد مصري كلمة واحدة، لماذا؟ لأن الرجل متواضع، وبعيد عن الشللية، ويفضل العزلة على الضجيج، لكن دور النقاد في الأصل هو البحث والتنقيب المستمر عن أي عمل أدبي يتم إصداره، بغض النظر عن سلوك صاحبه الشخصي، وحركته الاجتماعية. والواقع أن هذا الروائي المتمرس على حق، كيف له أن ينخرط في ضجيج حياة ثقافية لا يتحرك فيها سوى الأدعياء الذين أصبحوا يكتبون عن أنفسهم الأخبار ويسربونها إلى الصحافة لتنشرها عنهم، وأحيانا يقولون إن أعمالهم تنتشر في الغرب، وأؤكد لكم أن الأوساط الأدبية في الخارج- وقد عشت فترة طويلة هناك- لا تعرف عنهم شيئا، وحتى إذا كانت أعمالهم مترجمة بفعل فاعل من طرقهم فإنها لم تحصل على أي تقدير، ولم يشر إليها ناقد محترم في الغرب، ومن المؤسف أن الكثير منهم يحصل على الجوائز المحلية، ونحن نعلم جيدا كيف يتم الحصول على هذه الجوائز من خلال التربيطات والوسايط وتبادل المصالح. إن روايات علي أبو المكارم هي «الموت عشقا- العاشق ينتظر- أشجان العاشق- الساعة الأخيرة- سفر الغربة- زهرة البنفسج- أحلام الكرى- على الهامش، وأخيرا سماء بغير نجوم»، والمدهش في هذه الروايات إنك لا تبدأ قراءة الصفحات الأولى منها حتى تجد نفسك منخرطا تماما في عالمها، متفاعلا مع أحداثها، ومتحاورا مع شخصياتها، وأخيرا محلقا في الأجواء التي أراد الكاتب أن يضعك فيها.

وأما الروائي المصري الآخر فهو الدكتور حسن البنداري الذي صدر له حتى الآن روايات «سلوى الروح- العائد بالحب- صخب الهمس- فوق الأحزان» إلى جانب أربع مجموعات قصصية هي «الجرح- الكلام- أمواج الفردوس- يوم» وهي جميعها من الأعمال الأدبية المتميزة من حيث التكنيك الفني، وترابط الأحداث، ولغة السرد، وبعضها مؤهل تماما لكي يتحول إلى أفلام سينمائية. إن حسن البنداري يكتب منذ الستينيات، وقد شارك كمجند في حرب أكتوبر، وهو يعرف جيدا مشاعر جنودنا الذين عاشوا على الجبهة ست سنوات يحرقهم الشوق إلى عبور القناة وتحرير سيناء حتى تحقق على أيديهم النصر الرائع في أكتوبر 1973، لكن حسن البنداري مثل زميله علي أبو المكارم من هواة العزلة والابتعاد عن الأضواء، وهو يكتب أعماله بطريقة النمنمة التي يتميز بها صناع التحف العربية الدقيقة في خان الخليلي.

إن كلا من علي أبو المكارم وحسن البنداري يعتبر من نفس العجينة الروائية المصرية التي تشكل منها عمالقة الرواية المصرية: نجيب محفوظ، ويحيى حقي، ويوسف إدريس: ومن الملاحظ على هذين الروائيين أنهما ينشران أعمالهما الكبيرة والغزيرة على نفقتها الخاصة، ويوزعان النسخ هدايا للأصدقاء ومحبي الأدب الحقيقيين، ومن حقهما علينا أن نسلط نقطة ضوء عليهما لكي يتنبه لهما الإعلاميون، ويعكف على دراستهما الباحثون، ويحكم عليهما النقاد المصريون الذين يعيشون معهم في نفس الوطن، بدلا من أن يكتب عنهما غيرهم، أولا يكتب أحد عنهما إلا بعد الموت، وقد قيل قديما: إن الأديب في الشرق يموت حيا، ويحيا ميتا. لكنني أتمنى لكل منهما طول العمر، ودوام العطاء الروائي المتميز، ولعل في هذه الإشارة السريعة تتنبها لمن يهمه الأمر..

وصْفة أي مشروع ناجح

[
الوفد، 28/1/2009]

إن تجارب النهضة والإصلاح التي عاشتها مصر منذ حوالي مائتي عام قد نقلتها بدون شك من مجتمع تقليدي بطئ الحركة والإيقاع في كل المجالات تقريبا، إلى مجتمع متحرك ومتعدد الأنشطة وبالتالي أشد تركيبا وتعقيدا مما كان عليه خلال القرن الثامن عشر وما قبله بعدة قرون. لا ينكر أحد أن المجتمع المصري لا يختلف كثيرا، إن لم يكن يجاري، بعض الدول الأخرى، التي يبدو فيها بوضوح أن حركة التقدم أسرع، ومعدلات التنمية أعلى نسبة.

ومع ذلك أو على الرغم منه يعلن كثير من المثقفين عن عدم رضاهم من الإيقاع البطيء للتقدم والتهاون أحيانا بالأسباب الحقيقية للنهضة الشاملة وهم يقارنون، ومعهم كل الحق، بين المجتمع المصري والمجتمعات الآسيوية، أو في أمريكا اللاتينية التي كانت أقل تخلفا وأشد فقرا من المجتمع المصري لكنها وصلت إلى مستواه بل إنها تجاوزته بمراحل، وفي مثل هذه الحالة، لابد للعقلاء أن يفكروا في الوضع، وأن يستعرضوا الإيجابيات والسلبيات بهدف تعظيم الأولي، وتقليص الثانية.

ومن أبرز ما يقلق المجتمع المصري أن نسبة البطالة فيه عالية جدا، وأن حالة العنوسة بين الشباب والفتيات متفاقمة، وأن ظاهرة الطلاق تكاد أرقامها تخيف، بل تصدم (أكثر من 90 ألف حالة طلاق في العام الواحد) وأن الأطفال في سن التعليم يتسربون منه بأعداد كبيرة، كما أن تشغيلهم أو أعمالهم في الشوارع واضحان للعيان، وبالطبع هناك أزمات في الإسكان والمرور والصحة والتعليم.. تلك هي أم العناصر التي تتكون منها الصورة المظلمة، لكن الصورة المشرقة تتمثل في شيء واحد يمكن أن يتغلب على كل هذه العناصر، وهو أن نسبة الشباب تبلغ 40% من عدد السكان، وأن هذا الشباب لحسن الحظ قابل للتعليم والتدريب قادر على القيام بالعمل، صبور على تحمل مشكلاته، ويمكنه بالفعل أن يتجاوز ما يعترضه من عقبات.

هنا تبرز الحاجة الماسة إلى حسن إدارة هذا الكم الهائل من الشباب، والذي هو في حد ذاته ثروة بشرية لا يستهان بها، وتكاد تفتقدها معظم البلاد الغربية المتقدمة جدا، وعندما أقول حسن الإدارة فإنني أتجه ببصري مباشرة إلى الدولة والحكومة وأصحاب المشروعات الاستثمارية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة.. فكيف يقوم كل من هؤلاء بواجبه، ويتحمل مسئوليته، ويتجه لتنفيذ عمل كبير ينهض به المجتمع كله، وليس قطاعا واحدا من قطاعاته!

ولكي نبدأ من البداية الصحيحة التي ينصحنا بها المنهج العلمي لابد أولاً: من تحديد الأهداف، والهدف هنا عبارة عن النقطة التي يريد المجتمع المصري أن يصل إليها خلال فترة زمنية محددة، ولابد عند تحديده أن يراعي فيه البساطة، والاعتماد على الواقع، والقابلية للتنفيذ.

ثانيا: وضع الخطة التي يمكنها أن تحقق هذا الهدف، إما على مرحلة واحدة أو على عدة مراحل، مع الالتزام الدقيق بتنفيذ كل منها في موعده.

ثالثا: توفير الإمكانيات المادية، والقوى البشرية اللازمة للتنفيذ، مع الأخذ في الاعتبار أهمية استشارة المتخصصين من مصر أو من الخارج.

رابعا: وضع نظام دقيق للمتابعة يقوم بتقييم كفاءة العمل، والقائمين عليه، ويكافئ أو يعاقب كلا بما يستحق.

خامسا: تطبيق أنظمة الصيانة على كل ما يتم إنجازه، مع تشجيع شركات استثمارية للقيام بهذا العمل، ومساءلتها على حسن أدائها من عدمه.

إنني هنا لم أقدم جديدا، وإنما عرضت الأسلوب الصحيح لبداية أي مشروع ناجح واستمرار نجاحه، وهذا الأسلوب عالمي، وليس محليا، وإذا بحثتم عن أي مشروع ناجح في العالم سوف تجدونه مطبقا بحذافيره.

* * *


([1])
قبل مرور عامين على نشر هذا المقال، قامت الصين من جانبها بإطلاق قناة فضائية باللغة العربية، لكي تطلع أبناءها على حضارتها وثقافاتها ومظاهر التقدم فيها.

([2])
سمعت مؤخرًا أن الصين أطلقت هذه الأيام (أغسطس 2009) قناة ناطقة بالعربية، وموجهة أساسًا إلى العالم العربي!

([3])
قمت بكتابة نشيد (القاهرة) ولحنه الفنان د. طارق سمير، وأهدينا إلى (إذاعة القاهرة الكبرى) .. وهي تبثه في المناسبات.

آخر تحديث الجمعة, 29 مايو 2020 16:01