عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
الافكار الرئيسية فى التصوف الاسلامى


الافكار الرئيسية فى التصوف الاسلامى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الاثنين, 05 يوليو 2010 16:54


الأفكار الرئيسية
فى التصوف الإسلامى

أ. د. حامد طاهر (*)


لم يمض على ظهور الإسلام أكثر من قرنين ، حتى كانت الحركة العلمية والثقافية قد اتسعت دائرتها ، وتعددت مجالاتها ، وبرز فيها أعلام فى ميادن التفسير، والسنة النبوية ، والفقه ، وأصوله ، وعلم الكلام ، والتصوف ، إلى جانب علوم اللغة والأدب . وبالنسبة إلى الصوفية المسلمين ، فقد استطاعوا أن يكونوا لأنفسهم دائرة خاصة بهم ، وبدأوا يستخلصون من تجاربهم الفردية القواعد والمبادئ والآداب التى تميز طريقتهم ، بل إنهم استخدموا فى إطار الخطاب الدينى (الوعظى والفقهى والكلامى) لغة خاصة بهم ، ومصطلحات ذات دلالات محددة ، تعارفوا عليها فيما بينهم ، ثم راحوا يتحدثون بها إلى الناس فى  المجتمعات الإسلامية .


وقد ظل الصوفية المسلمون يمارسون طريقتهم القائمة على الإيغال فى العبادة (= التعبد) ، والزهد فى الدنيا ، طيلة قرنين من الزمان . وهى كما يلاحظ طريقة عملية ، تعتمد أساسًا على التجربة الفردية لكل من ينخرط فيها ، ويكرس نفسه لها . ومهما قيل عن تأثر التصوف الإسلامى فى هذه المرحلة الأولى ببعض التيارات الأجنبية من الثقافات والأديان التى عرفها المسلمون حينئذ (وأهمها المسيحية والبوذية) إلا أن المصدر الإسلامى (المتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية ، وسيرة السلف الصالح) كان هو النبع الذى استمد منه الصوفية المسلمون معظم مبادئهم ، وأساليب حياتهم الخاصة فى التعبد والزهد(1) .


وابتداءً من القرن الثالث الهجرى ، بدأ التصوف الإسلامى يخرج من الاقتصار على الجانب العملى فى ممارسة التجربة الروحية إلى كونه "علما" من "العلوم الحادثة فى الملّة" – على حد تعبير ابن خلدون(2) . حينئذ أخذ الصوفية فى وضع المؤلفات الخاصة بهم ، والتى راحت تتطور منهجيًا حتى ساعدت بجدارتها الذاتية من ناحية ، وشعبيتها التى حظيت بها من ناحية أخرى، على تثبت مكانة التصوف داخل المجتمعات الإسلامية ، وإضافته إلى منظومة العلوم الدينية كالفقه وأصول الفقه وعلم الكلام والتفسير والحديث .


لكن الموقف المعارض من الفقهاء بصفة خاصة للصوفية دفعهم إلى بسط الحديث عن أصول طريقتهم ، والمصادر الإسلامية التى اعتمدوا عليها ، وبخاصة القرآن الكريم والسنة النبوية ، بل إنهم راحوا يتحولون من موقف الدفاع عن التصوف إلى مهاجمة الفقهاء الذين أطلقوا عليهم مصطلح "علماء الرسوم" أى الشكليات التى لا تنفذ إلى جوهر الدين ، وروحه .. وهكذا كان لهجوم الفقهاء على الصوفية رد فعل لدى هؤلاء ظهرت أشكاله فى مؤلفاتهم المتعددة والمتنوعة ، وهو الأمر الذى دفع "علم التصوف" إلى مزيد من النضج والاكتمال .


لقد نشأت داخل طائفة الصوفية فرق متعددة ، اتبعت كل منها  شيخًا بعينه ، التزمت بمنهجه ، واقتدت بسلوكه ، ثم احتفلت بعد ذلك بمولده(3) .. لكننا فى هذا البحث لن نتناول هذه الفرق ، وطرائق شيوخها المتعددين ، وإنما سوف نقتصر على أبرز الأفكار الرئيسية التى ظهرت فى مجال التصوف الإسلامى ، مشيرين إلى ارتباطها الوثيق بالشيوخ الذين جاءوا بها ، وبسطوها، ودافعوا عنها ، حتى أصبحت مقترنة دائمًا بأسمائهم . وقد حصرنا هذه الأفكار العشرة فيما يأتى :



1-
فكرة التعبد
2-
فكرة الزهد
3-
مجاهدة النفس
4-
فكرة المعرفة
5-
فكرة الولاية

6- فكرة الملامة
7-
فكرة الحلول
8-
فكرة الفناء
9-
فكرة الإشراق
10-
وحدة الوجود
وفيما يلى بيان مركز عن كل واحدة من هذه الأفكار .


1-
فكرة التعبد :


يكاد يجمع مؤرخو التصوف الإسلامى على أن البداية الحقيقية للتعبد أو الإيغال فى العبادة إنما يرجع إلى جماعة أهل الصُّفّة ، الذين اتخذوا من مسجد المدينة فى حياة الرسول r سكنا لهم ، وكانوا فى غالبيتهم من فقراء المهاجرين، وكبار السن الذين لا يقوون على العمل والتجارة ، ولذلك كانوا يقضون نهارهم ، ومعظم ليلهم فى الإكثار من الصلاة ، ومداومة الصوم ، وكان من آدابهم أنهم لا يطلبون من أحد شيئًا ، أى لا يتسولون ، بل كانوا يقبلون ما يفيض به عليهم الرسول r وأغنياء المسلمين فى المدينة من الهدايا والصدقات(4) .


ومما تجدر ملاحظته هنا أن الرسول r لم يأمرهم بهذه الإقامة التعبدية فى المسجد ، وكذلك لم ينههم عنها . وهذا يعنى إقرارهم عليها. وإذا أردنا أن نتعرف على منهج الإسلام الوسطى والمعتدل بين العبادة والعمل ، كان علينا أن نستحضر حكاية الثلاثة نفر الذين جاءوا إلى أحد بيوت رسول الله r لكى يطلعوا على طريقته فى العبادة ، وراح كل منهم يفتخر بما يفعله ، والرسول r يسمعهم من خلف الباب . قال أحدهم : أنا أقوم الليل كله . وقال الثانى : وأنا أصوم العام كله . وقال الثالث : وأنا لا أتزوج النساء .. فخرج عليهم r قائلا : أما أنا فإننى أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء .. وأنا خير منكم .


وهكذا فإن دلالة الحديث واضحة فى أن يزاوج المسلم بين ممارسة شئون حياته الدنيوية ، والتنعم بطيباتها التى أحلها الله تعالى له ، وبين عبادته المعتدلة دون غلو أو رهبنة . لكن الحديث يدلنا أيضا على أن بعض المسلمين الأوائل قد فهموا الإسلام على أنه اقتصار فقط على التعبد ، وانسحاب كامل من الحياة .


ولعلنا من جانبنا قد نلتمس لأمثال هؤلاء بعض العذر . فالإنسان عندما يتقدم به العمر ، ويكون قد أمضى معظم حياته فى إشباع شهواته من الدنيا ، يتغلب عليه الشعور بالملل ، والإحساس بالضعف والإنهاك . وحينئذ لا يكون أمامه سوى الإقبال على العبادة والاستعداد لما بعد الموت .


لكن الصفحة الأخرى ، التى كانت فى الغالب أمام هؤلاء المتعبدين المسلمين ، هى تلك الصفحة التى تتناول سيرة الرسول r قبل البعثة ، وتحنثه فى غار حراء (الليالى ذوات العدد) معتزلاً بيته وقومه ، ومنكبا على التأمل والتفكر والتدبر فى ملكوت السماوات والأرض(5) ومما لا شك فيه أن الصوفية المسلمين قد وجدوا فى هذا (التحنث) سبيلا موصلاً إلى القرب من الله تعالى ، وإذا كان قد أثمر لدى الرسول r ظهور مبعوث العناية الإلهية (جبريل) له ، ونزول الوحى عليه ، فإن هذا المنهج فى العزلة والتوحد والتأمل قد أعطى للصوفية المسلمين (المتعبدين) مبررًا لاتباعه ، آملين أن يصلوا إلى مستوى عال من الرضا الإلهى ، والتعرض لبعض النفحات التى لا تضاهيها أو حتى تقترب منها كل مباهج الدنيا الزائلة .


2-
فكرة الزهد :


الزهد هو الدعامة الثانية – بعد التعبد – التى قام عليها التصوف الإسلامى خلال فترة نشأته . وقد أفاض شيوخ الصوفية فى تعريف الزهد ، وتحديد أصوله ، وبيان طرائقه ومستوياته ، حتى بلغت الأقوال فيه كما يشير الغزالى (ت 505) حول مائة تعريف . أما القشيرى (ت 465) السابق على الغزالى ، فيؤكد أن السلف قد اختلفوا فى تحديد ماهية الزهد لكنه يرجع ذلك إلى رؤية كل منهم حسب تجربته وذوقه(6) ولا شك أن تلك المادة الغزيرة عن الزهد قد أتاحت للغزالى أن يخصص له فى كتابه (الإحياء) حوالى خمس وعشرين صفحة (من القطع الكبير) مستعرضا تعريفاته ، ومصادره من القرآن والسنة ، وسيرة الصحابة والتابعين ، وكذلك ما روى عن الأنبياء السابقين ، والسلف الصالح من المسلمين(7) .


ويرى الغزالى أن معظم تعريفات الزهد ترجع إلى أصل واحد هو : "انصراف الرغبة عن الشىء إلى ما هو خير منه" وهو يشمل مستويين :


أ-العدول عن الدنيا إلى الآخرة .
ب-العدول عن كل ما سوى الله إلى الله تعالى – وهو الأعلى(8) .
ويفرق الغزالى بين الزهد الكامل ، والزهد الناقص ، وكذلك الزهد الحقيقى وغير الحقيقى . يقول : "وعلامة الزهد : الإخراج . فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط ، ولست زاهدًا  مطلقا . وإن لم يكن مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصور منك الزهد ، لأن ما لا يقدر عليه .. لا يقدر على تركه" .


وللزهد من حيث قوته وضعفه ثلاث درجات :


الأولى وهى الأدنى : أن يزهد فى الدنيا ، وهو يشتهيها ، وقلبه مائل إليها ، ونفسه ملتفتة لها ، لكنه يجاهدها ويكفّها .


والثانية ، وهى المتوسطة : أن يترك الدنيا طوعًا لا ستحقاره إياها ، بالإضافة إلى ما طمع فيه ، كمن يترك درهما من أجل درهمين ، وإن كان يحتاج لانتظار قليل .


والثالثة ، وهى الأعلى : أن يزهد طوعا ، ويزهد فى زهده ، فلا يرى زهده ، إذْ لا يرى أنه ترك شيئا ، إذ عرف أن الدنيا لا شىء .. وهذا هو الكمال فى الزهد . وسببه كمال المعرفة(9) .


أما من حيث المرغوب فيه ، فإن الزهد ينقسم عند الغزالى أيضا إلى ثلاث درجات :


الدرجة الأولى : أن يكون المرغوب فيه : النجاة من النار ، وسائر آلام ما بعد الموت ، وهذا ما يطلق عليه : زهد الخائفين .


الدرجة الثانية : أن يرغب فى ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة فى الجنة ، وهو ما يطلق عليه : زهد الراجين .


الدرجة الأعلى : ألا يكون له رغبة إلا فى الله ، وفى لقائه . فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ولا إلى اللذات ، وإنما يجعل الله تعالى مقصوده الوحيد .. لأن من طلب غير الله فقد عبده . وكل مطلوب معبود . وكل طالب عبد . وطلب غير الله من الشرك الخفى . وهذا هو : زهد المحبين ، وهم العارفون . لأنه لا يحب الله تعالى إلا مَنْ عرفه(10) .


وأخيرًا ينقسم الزهد من حيث المرغوب عنه (أى المتروك) إلى ثلاث درجات :


الأولى وهى الأعلى : الزهد فى كل ما سوى الله تعالى .
الثانية : كل صفة للنفس فيها متعة .
الثالثة : المال والجاه وأسبابهما(1) ، إذ إليهما ترجع حظوظ النفس .
وهكذا نلاحظ أن الغزالى قد جعل من فكرة الزهد نظريه متكاملة ، تتنوع إلى مجالات ، وتندرج فى مراتب ، وتتحول من مجرد دعامة عملية فى التجربة الصوفية إلى مذهب نظرى يتصل بمعرفة الله تعالى ، ويقوم على إدراك حقيقة متطلبات النفس البشرية ، وما تقدمه لها الحياة الدنيا من مظاهر عابرة ، ومغريات خداعة !


3-
مجاهدة النفس :


تعد فكرة مجاهدة النفس هى حجر الزاوية فى التصوف الإسلامى كله . وهى لا تقتصر فقط على المرحلة الأولى من الطريق الصوفى ، بل إنها تظل حاضرة فى كل مراحل التجربة الصوفية ، لأنها لا تعنى فقط فطام النفس عن الخضوع للشهوات ، وحرمانها من الملذات الدنيوية وخاصة فى بداية الصوفى، وإنما تشمل أيضا محاربة كل الأحاسيس التى ترتبط بأداء الواجبات والشعور بالرضا عن الذات فى نهاية الطريق الصوفى – هذا إذا صح أن كانت له نهايات !


اعتمد الصوفية المسلمون فى تصنيف أنواع النفوس الإنسانية على ثلاث آيات وردت فى القرآن الكريم ، تتعلق إحداها بالنفس الأمارة ، والثانية بالنفس اللوامة ، والثالثة بالنفس المطمئنة . ويعرف الكاشانى (ت 735هـ) كل واحدة من هذه النفوس على النحو التالى :


النفس الأمارة : هى التى تميل إلى الطبيعة البدنية ، وتأمر باللذات والشهوات الحسية ، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية . فهى مأوى الشر ، ومنبع الأخلاق الذميمة والأفعال السيئة . قال الله تعالى ) إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ(  [سورة يوسف : آية 53]  .


النفس اللوامة : هى التى تنورت بنور القلب تنورا قدر ما تنبهت به من سنة الغفلة ، فتيقظت وبدأت بإصلاح حالها ، مترددة بين جهتى الربوبية والخلقية . فكلما صدرت منها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية وسنخها تداركها نور التنبيه الإلهى ، فأخذت تلوم نفسها وتتوب عنها مستغفرة ، راجعة إلى باب الغفار الرحيم . ولهذا نوّه الله بذكرها بالإقسام بها فى قوله تعالى : )  وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( [سورة القيامة : آية 2] .


النفس المطمئنة : هى التى تم نورها بنور القلب ، حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة ، وتخلقت بالأخلاق الحميدة ، وتوجهت إلى جهة القلب بالكلية ، متابعة له فى الترقى إلى جانب عالم القدس ، متنزهة عن جانب الرجس ، مواظبة على الطاعات ، مساكنة إلى حضرة رفيع الدرجات ، حتى خاطها ربها بقوله ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً. فادخلى فى عبادى . وادخلى جنتى ( [سورة الفجر : آيات 27 – 30](12) .


وعلى الرغم من هذا التصنيف المتدرج لأنواع النفوس الثلاث ، أو بالأحرى حالاتها المختلفة ، فإن الصوفية المسلمين قد ركزوا اهتمامهم بصفة خاصة على النفس الأمارة ، التى اعتبروها موطن الشر ، وهى مثل السكران الذى لا يفيق من سكره ، حتى أن أحدهم قال : أعدى اعدائك : نفسُك التى بين جنبيك . ويقول الحارث المحاسبى : "فاحذرها ، وفتشها ، وخاصمها ، كما يخاصم الخصم الظلوم الخائن الموارب البليغ فى حجته المزخرف القول الباطل بشدة بيانه (13) ويرى الحكيم الترمذى ، الذى وضع كتابين رائعين فى ترويض النفس وتأديبها(14) أن يكون أدبها بمنع الحلال عنها حتى لا تطمع فى الحرام .!


وقد ذهب كثير من الصوفية فى مقاومة النفس ومعاداتها إلى أقصى مدى . يعبر عن هذا الموقف أبو بكر الطمستانى بقوله : ما الحياة إلا فى الموت: أى ما حياة القلب إلا فى إماتة النفس(15) .


ومع ذلك ، فقد اتخذ بعض الصوفية موقفا أكثر اعتدالاً من النفس ، يقوم على الاعتراف بحقيقتها ، وقدرتها على تحمل العقاب الذى يفرض عليها من الصوفى ، ويخلص هذا الموقف إلى أن موت النفس نهائيا لا يتم ، وإنما يمكن القول بأنها تبقى فقط مقهورة الهوى ، مسجونة الرغبات(16) .


والخلاصة أن دراسة النفس لدى الصوفية تعد مجالاً من أخصب مجالات الدراسة فى التراث الإسلامى ، لأنها تحظى بمادة وفيرة ، تفحص وترصد بدقة بالغة كل الرغبات والنوازع والأحاسيس المرتبطة أو النابعة من النفس ، والتى تتحكم فى تصرفات الإنسان وسلوكه ، إلى جانب الأدوية المقترحة لأمراضها ، وكيفية تغلب الإنسان عليها(17) .



4-
فكرة المعرفة :


دخلت فكرة المعرفة إلى التصوف الإسلامى فى بداية القرن الثالث الهجرى ، وكان التصوف قبل ذلك ذا طابع عملى ، يقتصر على التعبد والزهد ومجاهدة النفس ، وما يتطلبه كل ذلك من أذكار وأوراد والتزام بنمط خاص من السلوك فى المجتمع . أما أبرز من تحدث عن هذه الفكرة ، وصرح بأهميتها فى درجات الطريق الصوفى فهو ذو النون المصرى (ت 245) الذى اعتبر أن العبادة لابد أن يسبقها ويصحبها وينتج عنها : معرفة الله تعالى .


عندما سئل ذو النون : من هو الصوفى ؟ أجاب بأنه مَنْ إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق ، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق . ومعنى ذلك أنه الذى يجمع بين عمق الحكمة وصدق السلوك .


وهو الذى يقول : إذا صح اليقين فى القلب صح الخوف منه (تعالى) – فجعل عمل القلب تابعًا لليقين . ولا يقين إلا بمعرفة .


وهو يصرح عن اتجاهه قائلا : مفتاح العبادة الفكرة .. ويؤكد أن العارف كل يوم أخشع ، لأنه كل ساعة أقرب . ويلاحظ أنه يطلق على الصوفى لقب العارف : إن العارف لا يلزمه (تعالى) فى حال واحدة ، إنما يلزم ربه فى الحالات كلها(18) .


من هنا استحق ذو النون المصرى ، القادم إلى بغداد من صعيد مصر ، أن يكون رائد اتجاه المعرفة فى التصوف الإسلامى . صحيح أن هناك من سبقه ببعض العبارات المتفرقة فى هذا المجال ، لكنه كان أول من ظهر لديه بوضوح وإصرار هذا الاتجاه الذى جعل المعرفة جزءا لا يتجزأ من بنية التصوف الإسلامى(19)  .


إن فكرة المعرفة لم تقتصر فقط على كونها من أهم أهداف الصوفى فى طريقه الروحى ، وإنما توسع الصوفية فى مصدرها ، ووسائلها الموصلة إليها، وطبيعتها ، والعوائق التى تقف فى طريقها ، ثم المجالات الرحبة التى تتيحها لمن يصل إليها ، أو يقع فى قلبها .


وبالنسبة إلى مصدر المعرفة ووسيلتها ، فقد حسم الصوفية الأمر بأن أرجعوا مصدرها إلى الله تعالى ، نبع النور الذى يتجلى به على بعض عباده ، لكن بشرط أن يهئ هؤلاء أنفسهم لاستقباله . ولا يتم هذا الاستقبال عن طريق الجسد (الحواس) أو النفس . فالأول مظلم ، والثانية كدرة . وإنما عن طريق القلب الذى يتضمن هو الآخر عدة مستويات : السر ، وسر السر ، وسر سر السر .. أما العقل قد تركه الصوفية للفلاسفة والمتكلمين الذين وثقوا به ، واعتمدوا على براهينه ، مع أنه يصيب ويخطئ ، لأنه يأخذ معرفته عن طريق الحواس التى لا يوثق بأحكامها ، كما أنه يظل معرضا للأغراض والأهواء .. أما القلب فهو المرآة التى حينما تصفو من كدر الشهوات والتعلق بالدنيا تنعكس عليه أنوار المعرفة من الله تعالى مباشرة ، ولذلك لا يحتاج الصوفى إلى أن يبذل جهدًا فى اكتسابها عن طريق الأدلة ، أو الكتب ، أو الناس . يقول أحدهم مخاطبًا المحدثين والفقهاء : أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحى الذى لا يموت!


أما معوقات المعرفة فيرجعها الصوفية إلى تكرار الوقوع فى شهوات الجسد ، ومواصلة تعلق النفس بشئون الدنيا . وبالتالى ينبغى على الصوفى أن يبذل جهدًا كبيرًا لمحاولة التخلص من كل هذه العلائق البدنية والنفسية ، وهو ما أطلقوا عليه مصطلح (التخلية) أو (التصفية) لكى يصبح قلب الصوفى مهيئًا لاستقبال المعرفة الإلهية ، لكن المسألة لا تخضع هنا لقانون السبب والنتيجة ، فإن كل جهد يبذله الصوفى يتوقف – دائما – على مشيئة الله تعالى وإرادته : فهو الذى يعطى ويمنع ، وهو أيضا الذى إذا أعطى لم يكن لعطائه حدوده ، ولا لفضله نهاية ..


وأخيرًا ، متى يصبح الصوفى عارفا ؟ إذا تخلق بالأخلاق الإلهية ، وتنور قلبه باليقين ، وأصبح يرى نفسه ، وكل شيء من حوله بنور الله . أليس هو تعالى القائل : "صرت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به" يقول البسطامى : عرفت الله بالله ، وعرفت ما دون الله بنور الله .


وهكذا نلاحظ أن فكرة المعرفة عند الصوفية قد تحولت خلال تطورها، وبلورة مفاهيمها ، وتحديد مجالاتها على أيدى كبار الصوفية المسلمين إلى    ما يستحق أن يطلق عليه مصطلح نظرية متكاملة ، وليس فقط مجرد فكرة بسيطة.


5-
فكرة الولاية :


أشهر من تحدث عن هذه الفكرة ، وبسط القول فيها ، بل وهوجم أيضا من أجلها هو الحكيم الترمذى (توفى فى أواخر القرن الثالث) .


لكن نشأة الفكرة ترجع كالعادة فى معظم أفكار التصوف الإسلامى إلى فكرة بسيطة ، ومستمدة من القرآن الكريم : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (سورة يونس آية62) ويقول القشيرى (ت 465هـ) : الولى له معنيان :


أحدهما : من يتولى الله سبحانه أمره ورعايته . يقول الله تعالى : (وهو يتولى الصالحين) (سورة الأعراف آية96) فلا يكله إلى نفسه لحظه .


الثانى : من يتولى عبادة الله تعالى وطاعته . فعبادته تجرى على التوالى من غير أن يتخللها عصيان .
ثم يعلق على المعنيين السابقين قائلا : وكلا الوصفين واجب ، حتى يكون الولى وليا ، يجب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاستيفاء ودوام حفظ الله تعالى إياه فى السراء والضراء(20)  .


لكن الصوفية لم يقتصروا على هذا المعنى البسيط للولى ، فراحوا يضيفون إليه معانى أخرى منها : قبوله للإلهام الإلهى ، وجريان الكرامات على يديه ، وتدرجه فى المراتب حتى يصل إلى مرتبة القطب .


فإذا رجعنا إلى رائد فكرة الولاية فى التصوف الإسلامى ، وهو الحكيم الترمذى ، وجدناه يفرق بين نوعين من الولاية :


أ- ولاية الصدق التى يمكن أن ينالها الصوفى بجهده ومداومة عمله ، ويسمى فى هذه الحالة : ولى حق الله .


ب- ولاية المنّة التى تأتى هبة من الله تعالى ، عن طريق الاصطفاء ،    ويسمى : ولى الله .


ويقرر الحكيم الترمذى أن ولاية الصدق تعم جميع المؤمنين ، الذين عملوا صالحا ، وصدقوا المرسلين ، فى حين أن ولاية المنّة قاصرة فقط على أحباب الله وأصفيائه ، الذين اجتباهم الحق لنفسه ، وهداهم به إليه(21)  .


أما بالنسبة إلى العلاقة بين الولاية والنبوة ، وهى المسألة التى هوجم الصوفية كثيرا بسببها ، فإن أحدًا من الصوفية الذين قالوا بالولاية لا يصرح أبدًا بتفضيل الولاية على النبوة ، بل إننا نجد هنا رأيين :


الأول : يجعل أعلى مستوى فى الولاية يأتى قبل أدنى مستويات النبوة . وبالتالى فالأفضلية مطلقة للنبى على الولى .


والثانى : يذهب إلى أن دائرة الأولاء تشمل الأنبياء . وعلى هذا الأساس فإن كل نبى ولى ، وليس كل ولى نبيا .


لكن الدعوى التى هوجم الصوفية من أجلها فهى التى تتعلق بالكتاب الذى ألفه الحكيم الترمذى بعنوان (خاتم الأولياء) ، وفيه يذهب إلى أنه كما يوجد للأنبياء خاتم ، وهو هنا بمعنى المركز أو صاحب المقام الأسمى ، فإن للأولياء أيضا خاتما . وهذا الخاتم لا يتوقف وجوده على شخص معين فى عصر محدد، وإنما هو عبارة عن مجموعة خصائص يمكن أن تتوافر فى أفراد معينين فى أزمنة متعاقبة ، أى أن هذه الولاية مستمرة إلى يوم القيامة بينما النبوة قد انقطعت بوفاة الرسول محمد r (22) .


وعلى الرغم من هجوم فقهاء المسلمين عموما على فكرة الولاية الصوفية ، خوفًا من أن تتوازى أو نتقاطع مع النبوة ، فإن هذه الفكرة قد صمدت واستمر الاقتناع بها على المستوى الشعبى ، وهذا أحد الأسباب فيما نشاهده حتى اليوم من إقامة الموالد والاحتفال بها لكبار شيوخ الصوفية – الأولياء ، وما أقيم على قبورهم من أضرحة تزورها العامة ، ويتوسلون عندها لقضاء حوائجهم .


6-
فكرة الملامة :


بدأت الملامة عند الصوفية على مستوى نفسى وشخصى خالص ، لكنها انتقلت بعد ذلك إلى المجال العلمى لتصبح شعارًا لجماعة مخصوصة من الصوفية عرفوا باسم الملامتية ، أو أهل الفتوة .


وترجع الفكرة فى أساسها إلى الآية القرآنية التى تصف النفس بأنها لوّامة }وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ{ [سورة القيامة : 2] والمقصود بها النفس التى تتردد بين الوقوع المتكرر فى المعصية والإحساس المتكرر أيضا بالذنب ، فهى تلوم ذاتها أو يلومها صاحبها باستمرار ، ولهذا استخدمت صيغة المبالغة : لوّامة ، أى كثيرة اللوم لذاتها على ما صدر منها .


وفى أدبيات التصوف المبكر ، سوف نجد من يحاسب نفسه فى المساء على ما ارتكبه طوال اليوم من أفعال ، ثم على ما تفوّه به من أقوال ،    وأخيرا – وهذا مهم – على كل ما جال بخاطره من نوايا ورغبات شريرة ! وهكذا فإن لوم النفس يبدأ من محاسبتها ، التى اشتهر بها الحارث المحاسبى        (ت 243هـ)(23) وتحدث عنها كثيرًا الحكيم الترمذى (ت 285هـ) (24) كما نجد لدى ابن عربى (ت 638هـ) كتابًا كاملاً فى محاسبة النفس بعنوان (روح القدس فى مناصحة النفس)(25) .


أما مؤرخو التصوف المسلمون فقد أرجعوا نشأة طائفة الملامتية إلى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى ، وبالتحديد فى منطقة خراسان(26)  ، حيث ظهر فيها صوفية كبار من أمثال حمدون القصار (ت 270هـ) ، وأبى حفص النيسابورى (ت 267هـ) تبعهما عدد كبير من شباب الصوفية ، الذين التزموا ببعض التعاليم ، وطبقوا فى حياتهم اليومية بعض الأساليب الخاصة بهم، والتى حدّدها لهم شيوخهم(27)  .


سئل حمدون القصار عن طريق الملامة ، فقال : ترك التزين للخلق بكل حال ، وترك طلب رضاهم فى نوع من الأخلاق والأفعال ، وألا يأخذك فيما عليك لله لومة لائم(28) .


وهكذا نشأت طائفة الملامتية ، معتمدة على مبدأين :


الأول : لوم النفس على كل ما يعتمل فيها من رغبات ونزعات وإعجاب بالذات نتيجة القيام بحق العبادة ، وحسن معاملة الخلْق .


والثانى : استحقاق أو استجلاب لوم الناس على سلوك أتباعها ، الذى كان يخرج أحياناوعن طريق القصد – عن العرف ، أو لا يلتزم تماما بالمظاهر الدينية السائدة فى المجتمع(29)  .


لقد أراد الملامتية أن تكون عبادتهم وكل أفعالهم الخيّرة خالصة لله تعالى ، متجهة فقط إليه ، لا يهمهم على الإطلاق أن يطلع الناس عليها ، لكى يكافئوهم أو يثنوا بها عليهم ، بل إنهم كانوا يعملون بكل جهد لإخفائها عن الناس ، وهذا ما تطلب منهم أن يقوموا – أحيانا – ببعض الأفعال الشائنة لكى يجلبوا على أنفسهم سخط الناس ، واحتقارهم ، مع أنهم فى أعماقهم ملتزمون غاية الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه .


إننا هنا أمام موقف نادر وعجيب ، لأنه إذا كان كل إنسان فى العالم يهمه بل ويسعده أن يحظى برضا الناس ، وإعجابهم بسلوكه الطيب ، ويحصل منهم نتيجة ذلك على التكريم والشهرة ، فإن هذه الطائفة من الصوفية قد وجدت فى هذا كله خداعًا للنفس ، ورياءً للناس ، وانكبابا على مظاهر الحياة الدنيا التى لا تساوى شيئا يذكر فى ميزان العمل الصالح ، المقصود به وجه الله تعالى .


وعلى الرغم من النقد الذى وجه إلى طائفة الملامتية من الفقهاء وبعض الصوفية أنفسهم ، فقد استمر شيوخ الملامتية وأتباعها يقومون بدورهم الذى اختاروه لأنفسهم ، ويزداد اتصالهم بالطبقات الفقيرة والمهمشة فى المجتمع ، يساعدون العجزة والأرامل واليتامى والمساكين ، ويسعون فى قضاء مصالح المحتاجين ، ولعل هذا ما جعلهم يستحقون أن يُطلق عليهم لقب "الفتيان"(30)  .


ومن المؤكد أن دراسة هذا الجانب من حياة الصوفية المسلمين أن تكشف لنا بزوغ اتجاه عملى وإيجابى لدى الصوفية المسلمين ، فضل أصحابه أن يهجروا تعاليم التوحد والعزلة والانفراد بالنفس ، لكى يشاركوا المجتمع فى همومه العميقة ، ويمدوا يد العون للفئات المحرومة فيه .


7-
فكرة الفناء :


عندما دخل الصوفية المسلمون فى مراحل متقدمة من تجاربهم الروحية، تجاوزت مرحلتى التعبد والزهد ، إلى استبطان الخواطر والأحاسيس، والغوص فى أعماق الذات من أجل تطهيرها وتهيئتها لاستقبال التجليات الإلهية، بدأوا يتحدثون عن (الحب الإلهى) الذى قد يتشابه مع (الحب الإنسانى) من حيث التعلق بالمحبوب والانشغال به ، ومحاولة الاقتراب منه ، لكنه يختلف عنه فى أن المحبوب هنا هو الله تعالى ، الذى لا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به  الأفكار .. فى الحب الإنسانى : المحب والمحبوب كلاهما مخلوق ، أما فى الحب الإلهى فإن المحب إنسان ، والمحبوب هو الله الخالق . وهذا يعنى أن التواصل الذى هو غاية الحب الإنسانى لا يمكن أن يتحقق بالمعنى الحسّى المتعارف عليه فى الحب الإلهى ، وإنما سوف نجد الصوفى – العاشق مأخوذا بعواطفه فى انتظار أن تفيض عليه أنوار المحبوب ، أو التجليات التى عندما تومض فى صدره ، ولا يمكن للغة البشرية مهما كان اتساعها وتنوعها أن تعبر بدقة عنها .


من هنا راح الصوفية الذين هاموا بحب الله تعالى يتفوهون ببعض العبارات التى اعتبرها علماء الإسلام وبعض شيوخ الصوفية أنفسهم : (شطحات) أى خروجا عن المألوف والمتعارف عليه فى لغة الدين المنضبطة . وفى (اصطلاحات الصوفية) لابن عربى أن الشطح "عبارة عن كلمة عليها رائحة دعوى ورعونة ، وهى نادرة أن توجد من المحققين" ومع ذلك فإنها وردت إلينا من صوفية كبار كالبسطامى ، والحلاج ، والنفرى ، وابن الفارض، وجلال الدين الرومى ، وأحيانا من ابن عربى نفسه ، وتلميذه المتحمس عبد الكريم الجيلى(31) .


إن الفناء يعنى ببساطة أن يدخل الصوفى فى حالة محو صفاته البشرية، وغيابه تماما عن رؤية العالم بما فيه نفسه . وقد يقال إنها حالة عدمية ، قريبة جدًا من حالة النرفانا البوذية أو الهندوسية ، لكن صوفية المسلمين أسرعوا بضمها إلى حالة أخرى ، هى (حالة البقاء) أى عودة الصوفى من ذاك الفناء إلى الإحساس بذاته ، والوعى بنفسه ، ورؤية العالم من جديد ، وهكذا يبدو الفناء مثل رحلة خاطفة فى المجهول تتبعها عودة إلى المعلوم : غياب فى ملكوت الروح ثم عودة إلى عالم الحس .


والفناء كما يأتى نتيجة قصد محدد وإعداد سابق من الصوفى ، فإنه قد يكون أيضا مفاجئا وصادما. يقول ابن عربى فى تعريف (البواده) : ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة ، إما موجب فرح ، أو موجب ترح" و(الهجوم) بأنه : "ما يرد على القلب بقوة الوقت بغير تصنع منك" ، ويعرف (الاصطلام) بأنه "نوع ولَه يرد على القلب فيسكن تحت سلطانه" ، و (الواقعة) : "ما يرد على القلب من ذلك العالم .. بأى طريق من خطاب أو مثال" و (الصعق) بأنه : "الفناء عند التجلى الإلهى" ، وأخيرا (الحقيقة) بأنها : "سلب آثار أوصافك عنده بأوصافه ، بأنه الفاعل بك فيك منك.. لا أنت) (32) .


إن مجموع النصوص الواردة فى الفناء تكون مادة غزيرة يمكنها أن تجعل منها نظرية متكاملة ، بشرط أن يدخل فيها ما ورد عن الصوفية فى مجالى الحب الإلهى ، والشطحات الصوفية . أما اعتبار أكثر الدارسين للتصوف الإسلامى الحب الإلهى كنظرية صوفية ، فهذا غير دقيق ، لأن الحب الصوفى ليس سوى تيار سرى فى شرايين نظريات أخرى بدءا من الحلول ، ومرورا بالإشراق حتى وصل إلى وحدة الوجود .



8-
فكرة الحلول :


ارتبطت هذه الفكرة حصريا بالحلاج ، الذى تم إعدامه سنة (309هـ) بحكم من الفقهاء ، وتصديق من السلطة ، وصمت شبه كامل من صوفية عصره . وقد تمثلت جريمته التى أصرّ على عدم نكرانها فى أنه أعلن فى إحدى حالاته الجذبية قائلا : "أنا الحق" وأيضا : "ما فى الجبة غير الله! " ومعنى هذا ببساطة أن الله تعالى قد حل فيه ، وهو ما يصطدم مباشرة بأحد مبادئ العقيدة الإسلامية التى تفرق على نحو حاسم بين الله تعالى ، خالق كل شيء ، والإنسان المخلوق .


فمن أين جاءت هذه الفكرة للحلاج ؟ يقول المستشرق الإنجليزى ينكلسون : "كان من الطبيعى أن تصدم فكرة "الرجل الإلهى" God man الشعور العام صدمة عنيفة فى مختلف بقاع العالم الإسلامى ، اللهم إلا فى غربى آسيا وأوسطها ، حيث كان رعايا أكاسرة فارس يرون فيهم آلهة ، وحيث استقرت مذاهب :


التجسيد Incarnation
والتشبيه Authroporphism
والتناسخ Metiimpsychosis (33)


لكن المستشرق الفرنسى ماسينيون ، الذى درس الحلاج ومذهبه دراسة عميقة ، يجعل قوله بالحلول قريبا جدًا من المذهب المسيحى ، الذى يقول بتجسد الله فى عيسى ، خاصة وأن الحلاج يقول (شعرا) :

سبحان من أظهر ناسوته
سرسنا لاهوته الثاقب

ثم بدا لخلقه ظاهرا
فى صورة الآكل والشارب(34)

لكننا – ودون دفاع عن الحلاج – لا ينبغى أن نهمل التراث الإسلامى نفسه ، وبخاصة الحديث القدسى الذى جاء فيه : "ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته صرت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ، ويده التى يبطش بها ، ورجله الذى يمشى عليها"(35) ومع ذلك فإن فهم المسلمين عموما لهذا الحديث القدسى لم يتجاوز مستوى الرضا الإلهى عن الإنسان الذى يلتزم بالشعائر الدينية المفروضة عليه ، ثم مكافأته على نحو أوسع لمن يزيد عليها بالإكثار من النوافل غير المفروضة . فكما يقدم سوف يستقبل ، وعطاء الله أكبر : أليست الحسنة بعشر أمثالها ؟! وعمل الخير كسنبلة القمح التى تحتوى على سبع سنابل فى كل منها مائة حبة . والله يضاعف لمن يشاء(36) ؟!


لكن الحلاج دفع بأمثال هذه الأقوال إلى أبعد مدى ، معتمدًا على تيار الحب الإلهى ، الذى بدأ عند رابعة العدوية (ت 185هـ) مقصورًا على حب الإنسان لله لذاته ، أى دون رغبة فى ثوابه ، ولا خوف من عقابه – أصبح هذا الحب لدى الحلاج علاقة امتزاج ، بل وتوحد ، كما يظهر فى قوله (شعرا) :

أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتنى أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا(37)

إن شناعة القول بالحلول من ناحية ، وقسوة العقوبة التى نزلت بصاحبه من ناحية أخرى – أوقفتا القول به على نحو صريح ، وإن راح فلاسفة الصوفية فيما بعد يشيرون إلى الحلاج – عَرَضا أو ببعض التصريح الوقور – محاوليه تلمس العذر له ، ومبررين دعواه بأنها جاءت نتيجة "حالة وجد زائدة عن الحد" ، أو كما نقول فى التعبير الحالى "زلة لسان"

 


9-
فكرة الإشراق :


ترتبط هذه الفكرة ، بل وتكاد تنحصر فى السهروردى (المقتول سنة 587هـ) ، والذى لم يعمر أكثر من 38 عاما ، ألف خلالها حوالى خمسين كتابا ورسالة ، بعضها بالعربية والأخرى بالفارسية ، ظهر فيها تقريبا كل ما كان يحيط بها من مذاهب وتيارات دينية ، وقد استطاع هذا الفيلسوف الصوفى أن يصوغ أفكاره التى يمكن ربطها بعناصر أفلاطونية ، وأفلوطينية ، وفارسية وزرادشتية ، ومانوية ، وغنوصية .. مع ملاحظة أنه وقف من منطق أرسطو موقفا نقديا على خلاف معظم فلاسفة المسلمين السابقين عليه والمعاصرين له الذين أبدوا إعجابهم الشديد والكامل به ، وبسببه اعتبروه : المعلم الأول .


وتعنى كلمة "الإشراق" حالة الكشف الصوفى الناتج عن فيض الأنوار ، من النور الأقدس ، والذى يظل يتنزل على قلوب عباده المتجردين ، فينطبع فيها حسب درجة صفائها . لكن بلوغ هذا النور المشرق لا يصل إليه الصوفى إلا بالتخلص من كل علائق الجسد ، والحياة المادية ، والتجرد الكامل للحياة الروحية الخالصة . وهنا يتميز السهروردى عن باقى صوفية المسلمين باشتراط معرفة الصوفى بالفلسفة العقلية . وهو يقسم الفلاسفة الصوفيين ، أو الحكماء ، إلى ثلاثة أنواع :


-
حكيم إلهى ، متوغل فى التأله ، عديم البحث .
-
حكيم بحاث ، عدم التأله .
-
حكيم إلهى ، متوغل فى التأله والبحث .
وبالطبع يضع السهروردى نفسه فى هذا النوع الثالث ، الذى يجمع بين التصوف والفلسفة (38) .


ويرى د . إبراهيم مدكور أن الفلسفة عند السهروردى أقرب إلى الوسيلة منها إلى الغاية ، وإن تكن وسيلة ضرورية ولازمة . ذلك لأنه متصوف قبل أن يكون فيلسوفا ، وقد انتهى من فلسفته إلى (حكمة الإشراق) التى تعنى : حكمة الفيض والنور ، حكمة الكشف والتجلى ، وتتميز بأمور ثلاثة متصلة ومتكاملة ، وإن غاب بعضها عن البال أحيانا ، وهى أنها :


أولا : تعتبر النور مصدر الوجود والمعرفة ، فهو أصل كل شىء ، ولا كشف ولا وصول بدونه .


ثانيا : تؤاخى بين الروحانيين جميعا ، شرقيين كانوا أو غربيين . ومن هذه الناحية يعد السهروردى فى مقدمة المفكرين المسلمين الذين لفتوا النظر إلى العناية بالفكر الشرقى القديم .


ثالثا : تقوم حكمة الإشراق على محاولة الاتصال بعالم النور ، وذلك هو الخلاص والسعادة التى ليست وراءها سعادة !


ويخلص د . مدكور إلى أن "المذهب الإشراقى على هذا النحو : إنتاج سهروردى خالص ، تأثر فيه صاحبه بمؤثرات مختلفة ، وأخذ عن فلاسفة وصوفية سابقين ، ولكنه فى صورته الكاملة من صنعه وحده" (39).

 


10-
وحدة الوجود


كما ارتبطت فى تاريخ التصوف الإسلامى فكرة الولاية بالحكيم الترمذى ، وفكرة الحلول بالحلاج ، وفكرة الإشراق بالسهروردى .. فإن فكرة وحدة الوجود ترتبط على نحو حصرى بابن عربى (ت 638 هـ) الذى بثها فى كل مؤلفاته ، سواء كانت مؤلفات ضخمة كالفتوحات المكية أو رسائل صغيرة لا تزيد عن عدة صفحات (40) .


وتقوم فكرة وحدة الوجود فى أساسها على أن الوجود (المقابل للعدم) حقيقة واحدة . وأنه لا يتعدد أو يتنوع إلا من حيث الاعتبارات . فالوجود الحق لله تعالى . وهو وجود ذاتى لا يشاركه فيه أحد . أما وجود الكئنات الأخرى فهو عارض ومتعدد بحسب ما يتراءى لنا . ولا يستطيع غير الصوفى – العارف أن يرى حقيقة الوحدة الوجودية فى الله والمخلوقات . وابن عربى يميز دائماً وبصورة حاسمة بين وجود الله الخالق ، ووجود الكائنات المخلوقة ، والمفتقرة إليه تعالى فى وجودها ، فهو الذى أفاض عليها هذا الوجود ، ومازال يحفظه عليها من خلال خلقه المتجدد لها ، وتجلياته بأسمائه الحسنى على كل مظاهرها وأشكالها (41) .



ماذا يعنى ذلك ؟ أن العارف يرى فى جميع الكائنات مجرد صور وتجليات للأسماء الإلهية ، وهى تتفاوت فيها بينها فى المكانة والشرف حسب ما تقبله من تلك التجليات . وما ورد فى الشرع من تفصيل لأسماء الله الحسنى، فهى صفات تظهر فى هذا العالم وتلازمه من لحظة نشأته حتى منتهاه . وإذا كان الحيوان والنبات ينعمان بالحياة ، فإن الجماد أيضا حى . والعارف فقط هو الذى يمكنه أن يرى فيه تلك الحياة التى لا يكاد يلحظها سائر الناس ، الذين هم فى غفلة وحجاب عن حقيقة تلك الوحدة الوجودية (42) .


أما بالنسبة إلى الإنسان فهو – عند ابن عربى – أشرف أنواع الكائنات. والله تعالى هو الذى منحه هذا التشريف : منذ خلقه على صورته ، وجعله خليفته ، وأسجد له ملائكته ، وأتاح له فرصة التخلق بالأخلاق الإلهية ، التى تتراوح فى عمومها بين صفتى الجلال والجمال . إن التكريم الإلهى للإنسان لا حدود له ، وبالتالى فإن الآفاق التى يمكن أن يبلغها هذا المخلوق ، المحبوب من الله تعالى ، أوسع وأعلى من أية آفاق أخرى متاحة لأى مخلوق أخر .. فهو الذى يشرف بعبادته لله ، ويرتفع بعبوديته له . قال تعالى }وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ{ [سورة العلق : آية 19] أى أن السجود الذى هو منتهى العبودية لله .. هو طريق القربة الذى هو غاية الحرية .


ويؤكد د . أبو العلا عفيفى ، وهو من أهم الدارسين لابن عربى ، أن وحدة الوجود لديه ذات طابع روحى ، وليست مادية . ومعنى هذا أنها قريبة بل ومنبثقة مما يسمى لدى الصوفية : (وحدة الشهود) ، أى الحالة الروحية العليا التى يشعر بها الصوفى خلال تجربته الروحية أنه قد ذاب عشقا فى محبوبه الأسمى ، وفنى فيه ، واتحد به (43) .


وأخيراً لا يمكن القول بأن فكرة ابن عربى ، أو بالأحرى مذهبه المتكامل فى وحدة الوجود قد تم قبوله فى العالم الإسلامى ، ولكنه ظل موضع رفض واستنكار من عدد كبير من العلماء والفقهاء ، ومن أبرزهم ابن تيمية  (ت 758 هـ) . وفى المقابل من ذلك ، فإن تلاميذ ابن عربى ، وعشاق فكره قد تمسكوا بالفكرة ، وراحوا يدورون حولها . ومن أشهرهم تلميذه عبد الكريم الجيلى (ت 805 هـ) بالإضافة إلى معظم صوفية الفرس ، وأشهرهم عبد الرحمن جامى (ت 672 هـ) .



خاتمة ونتائج :


هذه الأفكار العشرة التى عرضناها عرضاً مختصراً للغاية مع حرصنا على الوضوح – لا تمثل (كل) الأفكار التى ظهرت فى التصوف الإسلامى ، ولكنها بالتأكيد هى أهمها ، وأبرزها ، وأكثرها شهرة وإثارة للجدل فى نفس الوقت . وقد حاولنا أن نلتزم فى عرضها بأكبر قدر من الموضوعية ، دون أن نحكم لها أو عليها ، تاركين للباحثين الجدد اختيار ما يريدون منها للتعمق فى دراسته ، والكشف عن نشأته وتطوره ، ومدى قبوله أو رفضه فى المجتمعات الإسلامية ، مع مقارنته بما يماثله فى التصوف الأجنبى .


إن أفكار التصوف الإسلامى لم تختف تماماً من حياة المسلمين ، بل الكثير منها مازال يعيش فى تصوراتهم ، ويستقر فى وعيهم الجمعى وسلوكهم اليومى. من هنا تأتى أهمية هذه الأفكار ، خاصة إذا قارناها بالأفكار الفلسفية أو الكلامية التى ظهرت معها ، ولم يقدر لها أن تحظى بنفس عمرها : بل إنها كانت قصيرة الأجل ، وما لبثت أن أصبحت فصلاً من التاريخ !


أما فى مجال الدراسات المقارنة ، فإن بعض الأفكار الصوفية التى عرضناها يمكن أن تكون موضوعاً جيداً ومثمراً للغاية لمقارنتها ببعض الأفكار الفلسفية العالمية ، لكن أمثال هذه الدراسة المقارنة تتطلب باحثين يكونون على إلمام كاف بالثقافة الإسلامية من ناحية ، والثقافات العالمية فى لغاتها الأصلية من ناحية أخرى . كذلك فإننا ينبغى ألا نعوّل كثيرا فى هذه الدراسات على مسألة التأثير والتأثر ، وأن ينصب اهتمامنا بالدرجة الأولى على مقارنة الأفكار، وبيان أوجه التشابه أو حتى التضاد بينها . وفى هذا العمل إثراء للفكر الإنسانى ، وبيان لقيمة الأفكار الإسلامية فى إطاره العام .


ومن المهم فى هذه الخاتمة أن نوجه الأنظار كذلك إلى أهمية دراسة الفكر الشرقى (قديمه وحديثه) ومدى صلته أو تفاعله أو حتى تشابهه أحيانا مع بعض الأفكار الرئيسية فى التصوف الإسلامى . لقد مضى زمن طويل والدارسون من المستشرقين والمسلمين على السواء ينفقون وقتهم وجهدهم فى إيجاد الصلات بين الفكر الإسلامى والفكر اليونانى القديم ، أو الفكر الحديث أحيانا ، وقد آن الأوان للاتجاه نحو الشرق الذى كان قريباً جداً من المسلمين ، وخاصة فى القرون الثلاثة الأولى من تاريخهم .


يبقى أمر أخير ، وهو أن دراسة التصوف الإسلامى تقتضى عقلية متفتحة لفهمه أولاً ، والتعمق فيه ثانيا .. أما الحكم عليه فلابد أن يأتى فى المرحلة الأخيرة ، أو لا يكون نتيجة أحكام الآخرين عنه . فكثير من هذه الأحكام وقفت على الظاهر ، دون أن تنفذ إلى الجوهر ، كما أنها قامت فى معظمها على رفض مبدئى للتصوف والصوفية ، دون قراءتهم قراءة مباشرة ، وهذا العيب ظل أحد أسباب سوء الفهم المستمر والمتزايد الذى أدان التصوف ، بمجرد مشاهدة ما يرتكبه المنتسبون إليه فى عصرنا الحاضر من أفعال منافية تمامًا لمبادئه الأساسية أو تعاليمه الأولى .


ويبقى فى النهاية أن نشير إلى ما تركه الصوفية المسلمون لنا من أدب رفيع ، مكتوب باللغات العربية والفارسية والتركية . وهذا الأدب ما زال بحاجة شديدة إلى اكتشاف كنوزه ، وتقديمها للناس فى شكل معاصر ، مع بيان قيمتها فى مجال الآداب العالمية .


آخر تحديث الجمعة, 13 ديسمبر 2019 13:49