عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
مع دانتى فى الكوميديا صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الخميس, 26 أكتوبر 2017 23:59

 

مع دانتى فى الكوميديا

للدكتور حامد طاهر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 

فى أعماق غابة مظلمة ، يكتشف مسافر أنه قد ضلّ الطريق . الدنيا ليل ، وبينما القلب مأخوذ بالخوف والقلق ، ينتهى به الحال إلى الوصول إلى أسفل ربوة تنعكس على قمتها خيوط الفجر الأولى .. بالنسبة إليه ، هذا هو المخرج .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


خطوات المسافر مرهقة ، وأنفاسه متقطعة . ومن وقت لآخر ، يلتفت فى ذعر إلى الخلف ناحية الظلمات التى تخلص منها ، ثم يعاود الصعود من جديد فى اتجاه القمة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وفجأة ، يبرز من خلف أحد النتوءات قط برى مرقش ، فيقطع عليه الطريق. لكن اللحظة توحى بالثقة . فالنهار أخذ فى الانتشار ، غير أن حيوانا مفترسا آخر يظهر : أسد يتضور جوعا ، وبعده مباشرة تندفع ذئبة بشعة ، فتدفع الرجل إلى الهاوية التى كان قد خرج منها .. هذه المرة لم يعدْ هناك أمل !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فى تلك اللحظة ، يتمثل أمامه شخص غريب . وهنا يصيح المسافر فيه بكل يأس:" كنْ من شئت . خيالاً أم انسانا ، لكن ارحمنى ". وبصوت يكاد يكون همسا ، يجيب الشخص الغريب : " أنا لم أعد انسانا .. "

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


إنه ظل فرجيل- الشاعر اللاتينى الشهير ، صاحب الإليادة ، والمتوفى سنة 19 قبل الميلاد – الذى يتكلم .. ويواصل : " للخروج من هذا المكان الموحش ، لابد من سلوك طريق آخر .. اتبعنى وسوف أقودك عبر الأماكن الخالدة ، حيث يبكى أناس ، ويأمل آخرون .. لكنك إذا أردت الذهاب إلى أعلى من ذلك فإن هناك روحا أخرى ، أشرف منى ، سوف تأخذ مكانى إلى جانبك " .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ثم يستدير الاثنان مخلفيْن الربوه ، التى كانت تبدو قريبة للغاية ، هابطين فى اتجاه الهاوية . وهنا يسقط المساء على ذلك النهار الذى لا يُنسى . يوم الجمعة المقدسة ، الثامن من إبريل ، سنة 1200 ميلادية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هكذا يبدو المشهد الأول من افتتاحية الكوميدا الإلهية . والبطل نفسه هو الراوى . لكن ماذا تعنى المغامرة ؟ ومن هو ذلك الرجل المسافر ؟ ان اسمه لا يظهر إلا مرة واحدة طوال تلك الملحمة الشعرية التى تبلغ (14) ألف بيت ، مقسمة إلى مائة نشيد ، وفى بناء عروضى محكم للغاية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وتجدر الإشارة إلى أن وصف الكوميديا بأنها "إلهية" ليس من عمل دانتى ، وإنما يرجع إلى إعجاب الشراح الأول ، وخاصة بوكاس Boccace ، وكذلك إلى محتوى العمل نفسه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أما الكوميديا كشكل فنى ، فقد كانت تمثل لدانتى أسلوباً وسطا يقع بين طرفين : الأول أسلوب المأساة النبيل ، مثل إليادة فرجيل ، والثانى أسلوب المراثى المتواضع .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ولد دانتى سنة 1265 فى فلورنسا ، أنشط المدن الإيطالية فى العصور الوسطى ، بفضل تجارتها المزدهرة ، وكفاءة عمالها المهرة ، وسمعة عملتها الذهبية ، التى كانت محترمة فى أوربا كلها ، حيث كانت تمثل عاصمة الغرب المالية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ولا شك أن هذه الثروة قد عبرت عن نفسها فى عدد وفير من الآثار المعمارية البالغة الروعة ، مثل كنائس سانت ماريا ، وحصن باليزو ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هكذا إجتمع الازدهار – الاقتصادى مع الازدهار المعمارى ، ويبدو أن كلا منهما ، كان ينبغى أن يؤدى إلى السعادة . لكن مع الأسف : تحت أقدام الثروة انتشرت فى فلورنسا الاضطرابات السياسية والاجتماعية . وهذا ما يفسر حالة الفقر والعوز التى عانى منها دانتى .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ولبيان ذلك ، يمكن أن نستحضر من ملامح هذاالعصر : الذى تميز بسياق الثروة ، والذى تنتصر فيه الطبقة البرجوازية التى يتكون منها رجال الأعمال وأصحاب المبانى على حساب نبلاء الأراضى الزراعية أو الاقطاعيين . وقد اضطرت الظروف هؤلاء الأخيرين إلى مغادرتهم قصورهم الفاخرة ، التى كانت مطلة على وادى نهر Arno ، والمجئ للسكنى فى المدينة ، حاملين معهم سخطهم على ذلك الوضع الجديد .. أما الشعب الكادح فقد انحاز إلى طبقة البرجوازيين ضد طبقة النبلاء ، لكنه فى المقابل راح يطالبهم بإصلاح المؤسسات مع القدر اللازم من الديمقراطية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ولا تكتمل الخلفية الاجتماعية لمدينة فلورنسا فى ذلك الوقت إلا باستحضار الصراع التقليدى الذى كان مشتعلا بين الإمبراطورية والبابوية ، ومحاولة كلا الطرفين الاستئثار بالسيطرة لصالحه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وإذن فقد كان الصراع على أشده فى تلك الفترة التى سبقت مولد دانتى وعلى الرغم من وجود لحظات من السلام المؤقت ، فقد كان دائما معرضا للانفجار. وهكذا يمكن القول بأنه كان زمانا صعبا . والغد مشكوك فيه . وربما كان هذا هو المستنقع المظلم الذى أرعب صاحبنا " المسافر " فى رحلته الخالدة !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لكن فى سنة 1280 ، أصبح فى الإمكان تحقيق قدر من التصالح بين الأطراف المتصارعة . يشهد على ذلك تنظيم بعض الأعياد الشعبية التى شارك فيها الصغير دانتى (وعمره حينئذ 15 عاما) وقد كان عليه قبل أن يحكم على هذا العالم ، أن يختار نصيبه منه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ان ما نعلم عن دانتى ضئيل . ويبدو أنه منحدر من أسرة برجوازية كانت قد تدهورت بها الحال ، فأصبحت فقيرة . وهو لا يذكر كلمة واحدة عن أبيه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الذى يبدو أنه تزوج من امرأة أخرى قبل وفاته . والخلاصة أن الوسط العائلى لم يكن مبتسما لدانتى . لكنه كان يحس بمتعتى الدراسة ، والصداقة . أما حبه الأساسى فقد انقسم بين مجالين : حب الشعر ، وحب تلك الفتاة الملائكية :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بياتريس ، الذى كان يقول عنها : " أتمنى أن أكتب فيها ما لم يكتبه شاعر قط فى فتاة .." والواقع أنه صدق فى ذلك ، فقد كتب فيها أجمل أشعاره .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان دانتى يرى بياتريس فى شوارع فلونسا الضيقة ، فتبتسم له ، وتلقى له بتحية وادعة تقذفه فى عالم من الوجد والأحلام . لكن الموت لم يلبث أن اختطفها وهى فى عمر الزهور (24 سنة) فجمع دانتى أشعاره التى كتبها فيها ، وعلق عليها نثرا فى كتيب ذى دلالة واضحة أطلق عليها عنوان "الحياة الجديدة Vita Nova، الذى يعلن فيه عن ميلاد عمله الكبير : الكوميديا ، الذى سيخلد اسمه فى تاريخ الأدب العالمى .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فهل يمكن القول بأن حب دانتى لبياتريس كان حبا عاديا ، أو عابرا ، أم أنه كان من ذلك النوع العميق المتجذر فى أنحاء النفس والروح . ولنأكد هذا الحب، راح دانتى يعمل بكل قواه الشعرية على استمراره كوهج يضئ له حياته كلها، بل إنه حاول أن يتغلب على المدى الذى طوى صفحة حبيبته المادية لكى يقيم من روحها تمثالاً ينبض بالحياة ، ويأخذ بيده للنجاة من براثن كل الصعاب التى أحاطت به .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فى خاتمة كتاب (الحياة الجديدة) يؤكد دانتى أن نظرة بياتريس كانت كافية لتحافظ عليه من كل الشرور أو الصعاب التى واجهته . يقول على لسانها :

- إننى أدعمه بنظراتى

وأقوده معى فى الطريق المستقيم .

وهو يعترف فى بعض لحظات الضعف التى تعرض لها ، وهى ليست معه:

- الأشياء الحاضرة ، ومتعها الزائفة أضلت خطواتى

منذ أن اختفى وجهك من أمامى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ومما يلاحظ هنا أن المسألة هنا تكاد تتعلق بعقيدة دينية (الطريق المستقيم.. أضلت خطواتى) ، وهو الأمر الذى رفع من هذا الحب الذى بدأ بشريا لكى يصبح علويا ، ترفرف أجنحته فى عالم آخر غير هذا العالم الدنيوى !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لكن هل استطاع دانتى أن يواصل حياته كلها متغنيا بحبه الخالد لبياتريس، الواقع أنه حاول التعويض عن هذا الظمأ العاطفى بالانغماس فى أمرين كلاهما صعب . الأول هو انشغاله بالفلسفة أى بالعلوم المدنية ، وكانت حينئذ أرضا خطرة، ومليئة بألغام العصور الوسطى التى سيطرت عليها سلطة الكنيسة ومحرماتها . والأمر الثانى هو الاشتغال بأنشطة ذات طابع سياسى ومنها تسجيل فى نقابة الأطباء والصيادلة [وكان فى فلورنسا 12 نقابة مهنية ، لا يحق لأى إنسان أن يمارس السياسة دون أن يسجل اسمه فى واحدة منها] .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وباشتراكه فى تلك النقابة أصبح عضوا فى أحد الحزبين المتصارعين ، وتم انتخابه عن طريق القرعة فى مجلس المائة ، ومنه إلى منصب هام فى القضاء العالى . وهى وظيفة لم يمارسها سوى شهرين فقط (يوليه وأغسطس سنة 1300) والسبب أنه سافر فى نفس العام عضوا فى وفد لمقابلة البابا فى روما ، بهدف تخفيف غضبه عن الحزب الذى ينتمى إليه ، لكن حكما قضائيا صدر ضده بغرامة لم يسرع بدفعها ، فحكم عليه بالإعدام حرقا ، لكنه مثل آخرين من قبله اختار طريق المنفى ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وهكذا أضيفت إلى تجربة الشاعر العاشق ، المرهف الحس ، تجارب أخرى عقلية وحياتية جعلته أكثر نضجا ، وراحت نظرته إلى العالم ككل تتسع من مجرد دائرة حبه الشخصى العميق ، إلى محيط العالم الإنسانى .. الإلهى الكبير ، الذى يتجاوز حدود تلك الحياة الدنيا .. إلى مآلات الحياة الآخرة !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


متابعة الرحلة فى الكوميديا :


وصل الشاعران (دانتى وفرجيل) إلى الحفرة ، التى أحدثها الشيطان عند سقوطه ، وذلك بعد معاناة هائلة أثناء عبورهما ، فوجدا فوهات تنتظم فى دوائر متتالية (تسع دوائر) وتجمع كل منها الذين اشتركوا فى اقتراف ذنب معين . ويلاحظ أنه كلما كانت الدائرة فى أسفل الدرك ، كان الذنب أكبر ، والعقاب بالتالى أشد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وحتى يمكننا من تكوين فكرة واضحة عن البناء الأساسى للكوميديا كما وضعها دانتى ، يستحسن أن نتابع معا هذا المختصر :

- الغابة المظلمة التى ضلّ فيها المسافر .

- مقابلة الحيوانات الثلاثة المتوحشة : القط البرى ، والأسد ، والذئبة .

- السقوط فى الهاوية ، ولقاء شبح فرجيل الذى سوف يقوده كدليل .

- المرور على دهليز خارج الجحيم ،

حيث يوجد الجبناء ، غير المرغوب فيهم ، والمرفوضين أيضا من الجنة .

وهم فى حالة هروب دائم من لسْع الحشرات التى تطاردهم دون توقف .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


- الدوائر التسع ، ويتدرج فيها العذاب ، بحيث يشتد كلما هبطنا :

الدائرة الأولى : وتضم الأطفال الذين ماتوا دون تعميد

والعادلين الذين عاشوا قبل مجئ المسيح .

الدائرة الثانية : الفّجار .

الدائرة الثالثة : الأكولين .

الدائرة الرابعة : البخلاء والمسرفين .

الدائرة الخامسة : الفضوليين .

الدائرة السادسة : المبتدعين .

الدائرة السابعة : الذين كانوا عنيدين فى معاملة (الجار ، أنفسهم ، الله والطبيعة)

الدائرة الثامنة : المزورين .

الدائرة التاسعة : الخونة (لأقاربهم ، لوطنهم ، مضيفهم ، أصحاب معروفهم).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ثم فى الأعماق ،عقب الخونة مباشرة ، يوجد الشيطان ، بوجوهه الثلاثة : يهوذا ، الذى خان المسيح ، بريتيس وكاسيس اللذيْن خانا قيصر روما القديم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بعد ذلك ، تبدأ مرحلة الصعود من قاع الجحيم ، ناحية المطْهر ، وهو عبارة عن جبل عال يرتفع فى وسط المحيط الجنوبى ، بعيدا عن كل الأحياء ، فى مواجهة مدينة القدس (أورشليم) .. وهنا يسكن أولئك الذين يتلذذون بعذاب النار ، لأنهم يعيشون على أمل أن يأتى يوم يخرجون منها ، ويعبرون أخيرا مع السعداء فى سعادة أبدية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ويلاحظ أن الرحلة تبدأ فى تلك اللحظة تأخذ اتجاها صاعدا ، ومن الطبيعى أن يخف العذاب كلما صعدنا إلى الأعلى . لكن قبل البداية ، نلتقى على شاطئ الجزيرة بالتائبين الذين ماتوا دون أن تقبل قرابينهم . ثم تصعد بعد ذلك مصطبتيْن واسعتين:

المصطبة الأولى وتضم الذين تابوا فى وقت متأخر من العمر .

والمصطبة الثانية تضم الأمراء العابثين ، والمغترين الذين ماتوا نتيجة موت عنيف.

ثم يظهر باب المطهر ، وبعده تتوالى سبع شرفات ضخمة :

الشرفة الأولى وتضم المزهويين .

الشرفة الثانية وتضم الحسّاد .

الشرفة الثالثة وتضم الغضوبين .

الشرفة الرابعة وتضم المهملين والكسالى .

الشرفة الخامسة وتضم البخلاء والمسرفين .

الشرفة السادسة وتضم الأكولين .

الشرفة السابعة وتضم الفجار .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وننتقل بعد ذلك إلى " الجنة الأرضية " وفيها يتم "اعتراف دانتى " وتظهر مليكة أفكاره بياتريس ، التى سوف تقوده – بدلاً من فرجيل الذى يختفى حينئذ – إلى السماوات التسع التالية :

السماء الأولى : مسكن الذين لم يتمكنوا أن يوفوا بنذورهم .

السماء الثانية : مسكن النفوس المولعة بالمجد .

السماء الثالثة : مسكن النفوس التى أولعت بالحب .

السماء الرابعة : مسكن الحكماء والفقهاء .

السماء الخامسة : مسكن المدافعين عن العقيدة .

السماء السادسة : مسكن النفوس المولعة بالعدالة .

السماء السابعة : مسكن المتأملة .

السماء الثامنة : وفيها يجرى انتصار المسيح ، وموكب السعداء ، وتمجيد العذراء.

السماء التاسعة : مسكن الملائكة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ثم بعد ذلك ، نجد "الوردة الإلهية " وفيها يسكن أسعد السعداء ، الذين يتمتعوا بالنظر إلى الحضرة الإلهية .. وهنا تختفى بياتريس ليحل محلها القديس برنار ، الذى يصحب دانتى إلى حيث يحظى بغاية الغايات ، وهى : رؤية الله .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ومن الواضح أن كثيرا من عناصر هذا البناء الملحمى ترجع إلى مصادر إسلامية ، وتأتى فى مقدمتها : قصة معراج الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ويرجع الفضل فى ذلك إلى المستشرق الأسبانى الكبير آسين بلاثيوس الذى وّجه أنظار العالم كله إلى علاقة القربى الوثيقة بين كوميديا دانتى وفلسفة محيى الدين بن عربى . وقدحدث ذلك فى عام 1929 . ويمكننى أن أضيف هنا إلى أن بعض مخططات الحكيم الترمذى تكاد تتطابق مع بعض أفكار الكوميديا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لكن مسألة المصادر الإسلامية ينبغى ألا تجعلنا نتغاضى عن عبقرية دانتى فى حشد وتطعيم ملحمته الضخمة بتلك التفعيلات والمشاهد الأخروية ، وكذلك بالمفاجآت غير المتوقعة التى تستمر فى إدهاش المتلقى ، كلما انتقل من جزء إلى جزء آخر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ومن الناحية الروائية الخالصة ، لابد أن نعترف لدانتى بأنه كان سابقا لعصره ، بل ومحلقا عليه ، حيث استطاع أن يأخذ بتلابيب القارئ وهو يتابع تفاصيل لا تكاد تفترق عن روايات الرعب المنتشرة فى عصرنا الحاضر ، ومنها على سبيل المثال : مشهد دانتى وصاحبه الهادئ فرجيل أمام جدران مدينة الشيطان التى تزمجر حولها الشياطين ، وتعوى النساء ! وكذلك مشهد أولئك الغضوبين الذين يعض بعضهم بعضا وهم يتخبطون فى أوحال نهر Styx ، أو مشهد الفجار الذين يتطايرون كأوراق الشجر الميتة تحت دفع الريح الخالدة ( رمزاً للهوى الذى لم يستطيعوا مقاومته ) أو مشهد أوجولان الذى يقضم رأس جلاده القديم !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وإلى جانب ذلك ، هناك بعض القصص المؤثرة ، مثل تلك التى ترويها لدانتى فرانسواز ريمينى ، ابنة حاكم رافينس ، الذى زوجها أبوها من جيانسيتو ، لكن الزوج كان قبيح المنظر ، وأعرج ، ومشوها ، ونحيلا .. أما أخوه الأصغر باوْلو فقد كان وسيما ، لذلك بادلته زوجة أخيه الإعجاب . وذات يوم ، فاجأهما الزوج وهما يقرآن فى كتاب حب ، فلم يتردد فى قتلهما بضربة سيف واحدة ، اخترقت جسديهما معا .. ومن العجيب أنه حتى فى الجحيم ، لم ينفصل العاشقان البائسان أحدهما عن الآخر. يقول دانتى :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


" وبينما نفس فرانسواز تحكى القصة هكذا ، كانت نفس عشيقها تبكى بمرارة أثرت فى قلبى إلى حد الموت ، فسقطت مغشيا علىّ كجسد ميت " .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وأستطيع القول إن دانتى كان واعيا بأن عمله فى الكوميديا يتجاوز نطاق المحلية ليصبح عملاً عالميا بامتياز . فهو لم يتردد أبداً فى الاستمداد من الأساطير القديمة ، وشخوص أبطالها وأميراتها ، ولا من التاريخ الدامى الذى مر بالإنسانية خلال عصورها السالفة ، ولا من الحضارة الإسلامية التى كانت مصدر إشعاع للغرب من عدة قرون ، فقد أورد منها أسماء الفارابى ، وابن سينا ، وابن رشد، شارح أرسطو الكبير ، كذلك فإنه استمد الكثير من مشاهداته فى عصره الذى كان يموج بالصراعات السياسية والاجتماعية ، وتتعارض فيه الطبقات ، ويقفز إلى السلطة والمكاسب معظم الأفاقين والمنافقين .. ويكفى بعد ذلك كله .. أن دانتى قد أخذ عصره كله من واقعه المحزن إلى أجواء الحياة الأخرى، والتى يكاد الناس فى غمرة صراعهم الدنيوى المحموم يتناسونها أو يهملون وجودها . وأخيراً فإن اختيار دانتى لكتابة ملحمته باللغة الإيطالية – مفضلا إياها على اللاتينية القديمة – كانت نقطة تحول فى ترسيخ أو بالأحرى فى إنشاء الاعتبار لهذه اللغة ، التى أصبحت فيما بعد – وحتى اليوم – هى لغة الشعب الإيطالى كله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 22 نوفمبر 2019 15:35