عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
الفصل الثالث صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الاثنين, 26 ديسمبر 2016 23:21

الفصل الثالث

حركة التأليف في العالم العربي


أتيح لى ، منذ عدة سنوات ، أن أشارك فى مشروع علمى ، يهدف إلى اختيار مجموعه من النصوص العربية لطلاب الجامعات الأمريكية الذين يدرسون اللغة العربية المعاصرة فى بلادهم([1]) . وقد تطلبت طبيعة عملى فى هذا المشروع أن أقوم بعملية "مسح" واسعة لكل ما كتب باللغة العربية ، فى شكل كتب أو مقالات ، منذ بداية القرن العشرين حتى مطلع الثمانينات([2]). وقد كان من الطبيعى أن أستخلص لنفسى نتيجة الاطلاع على هذا الحشد الهائل من المؤلفات ، عدة ملاحظات ، راحت تتأكد بكثره الشواهد ، التى قمت - مع زملائى بعد ذلك - بتحليلها تحليلا دقيقا لاختيار أنسب النصوص من بينها([3]).


ومن ناحية أخرى كنت أتابع عن قرب معارض الكتب التى أقيمت فى القاهره وبعض العواصم العربيه خلال السنوات الأخيره([4]) . ولابد من الاعتراف بأن هذه المعارض قد أصبحت بالفعل "مهرجانات شعبيه للكتاب" يتم فيها طرح ما لدى العالم العربى من إنتاج علمى وثقافى على مختلف المستويات ، ويقبل عليها جمهور غفير وتحقق مبيعاتها أرقاما قياسيه من الأرباح . ففيها تعرض كتب التراث المختلفة ، المحققة أو المصورة عن طبعات قديمة ، وكذلك المؤلفات الحديثة والمترجمة عن اللغات الأجنبيه ، والمعاجم ، والدوريات ، بالإضافة إلى كتب التثقيف الشعبى ، أو التعريف العام بمجالات معينه فى العلوم والآداب . وقد ساعدتنى الأدله المطبوعه لهذه المعارض مساعدة حقيقية فى تطوير بعض ملاحظاتى السابقة أو تأكيدها .


كذلك لابد من الإشارة إلى إفادتى البالغة من متابعتى لحركة التأليف الفرنسية التى عايشتها أثناء إقامتى فى باريس منذ سنة 1974 حتى 1981 . فقد كلفتنى مجلة "البيان" الكويتيه بأن أكتب لها رسالة شهرية عن الحركة الثقافية فى فرنسا([5]) فكان إعداد هذه الرسالة يتطلب منى إطلاعا متنوعا على حركة العلوم والآداب والفنون الغربية ، والتى تعتبر باريس مركزا نشيطا لها ، مما كان له أثر كبير على استخلاص بعض الملاحظات الأخرى التى ساعدتنى بصورة مباشرة ، وأحيانا غير مباشرة ، فى بلورة فكرتى عن حركة التأليف فى العالم العربى .


وسوف أقسم هذه الملاحظات إلى قسمين ، يتناول الأول الظواهر الخارجية المرتبطة بحركة التأليف العربية ، أما القسم الثانى فيتصل بمضمون الظواهر الأساسية فى عملية التأليف ذاتها :


الظواهر الخارجية :


أول ما يبدو أن الإنتاج الثقافى الموجود فى العالم العربى ضخم جدا . ولكن هذه الضخامة ما تلبث أن تتضاءل كثيرا إذا ما قورن حجم هذا الإنتاج بالإنتاج العالمى . فتبعا لإحصائية حديثة قامت بها هيئة اليونسكو فى بداية السبعينات([6]) تبين أن العالم العربى ينتج 1 : 100 من نسبة الإنتاج الثقافى العالمى. وأن 75% من هذه النسبة الضئيلة جدا يتمثل فى الكتب الدراسية والتعليمية . ومن المعروف أن هذا النوع من الكتب لا يحسب فى حركة الإنتاج الثقافى لشعب من الشعوب .


فإذا تجاوزنا الآن مسألة الكم ، وجدنا أن الإنتاج العربى الثقافى متنوع إلى حد كبير . لكن هذا التنوع لا يمكن وصفه بالتوازن المعقول بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية . ومن الواضح أن مجموعة العلوم الإنسانية - بما فيها الآداب- تحظى بالنصيب الأوفر من جانب المؤلفين والناشرين معا . ولا شك فى أن هذه الظاهرة تعتبر انعكاسا واضحا لواقع غير متوازن فى العالم العربى نفسه .


وملاحظة أخرى تتصل بتنوع الإنتاج الثقافى العربى . وهى أنه لا يمكن وصفه أيضا بالتكامل ، بمعنى أن الفروع المختلفة لا تتعاون فيما بينها لتمثيل المعرفة الإنسانية فى إطار متناسق . ففى نفس الوقت التى تصدر فيه مؤلفات قيمة للغاية عن الاقتصاد المعاصر ، ووسائل تحليل المعلومات . وإمكانيات الحاسب الآلى فى مجال المعرفة . نلاحظ استمرار ظهور مؤلفات عربية تتناول السحر ، والتنجيم ، وأسرار الحروف مما يدخل فى باب العلوم السرية القديمة .


وتقودنا هذه الملاحظة الأخيرة إلى مشكلة أخذت فى السنوات الأخيرة تبرز بوضوح على الساحة الثقافية ، وهى ما يطلق عليها "مشكلة الأصالة والمعاصرة" وتكمن جذور هذه المشكله فى وجود نوعين من المؤلفات ، بدأ التنافس بينهما منذ ظهور المطبعه فى العالم العربى وهمـا : كتب التراث ، والكتب المترجمه . ومن الطبيعى أن يكون لكل منهما فريق ، وأن يتحمس كل فريق لما يجيده ، لكن المشكلة تفاقمت عندما راح كل فريق ينكر على الآخر ما يفعله . وبدلاً من أن يبحث الفريقان معا عن أسلوب مناسب للتعايش المثمر الذى يمزج بين القديم والحديث، زادت حدة النزاع بينهما واتسعت مسافة الخلاف إلى حد القطيعه تقريبا ، وهذا هو أحد الأوضاع السيئه التى تعانى منها الثقافه فى العالم العربى المعاصر .


وإذا أردنا الاسترسال فى آثار تلك الظاهره إلى النهايه وجدنا وضعا آخر أكثر سوءا . فقد أصبح الناشرون العرب يقبلون على نشر أى كتاب قديم حتى ولو كان عديم القيمة باعتباره من "التراث" ، واعتمادا على أنه يجد إقبالا من جمهور القراء ، فى حين أنهم يترددون كثيرا فى قبول أو نشر أى مؤلف حديث حتى لو كان جيد المحتوى ، خوفا من الإقدام على مغامرة مجهولة العواقب .


إننا لا نتجاوز الحقيقة حين نعلن هنا أن معظم الناشرين العرب يلعبون دورا كبيرا فى إفساد الحركة الثقافية فى العالم العربى . فبدلا من أن يقوموا بواجبهم المهنى فى تسهيل مهمة الكاتب بنقل ما لديه للقراء أصبحوا - نتيجة ظروف متعدده ومتشابكه نحجم هنا عن ذكرها - هم الذين يتحكمون وحدهم فى توجيه الحركة الثقافية كلها .


إننا نتصور "عملية التأليف الصحيحة" تتم فى حركة دائرية مفتوحة وتحتوى على عدة عناصر أساسية تتوالى على النحو التالى :


1- وضع علمى وثقافى معين .


2- مؤلف يتأثر به ويستلهمه ويحاول تطويره أو تغييره أو تجاوزه .


3- ناشر يقوم بنقل ما يكتبه المؤلف إلى القراء .


4- قارئ يستجيب ، أولا يستجيب ، لما يقدم له .


5- ناقد يساعد القارئ ، وينبه المؤلف إلى مواطن القوة والضعف ، فيساعد بذلك على إيجاد وضع علمى وثقافى جديد..


وهذا الوضع الجديد إما أن يدفع المؤلف السابق إلى معاودة الكتابة مرة أخرى ، أو مؤلفا أخر، يتفق معه أو يختلف ، إلى الكتابة من جديد([7]) وهكذا تمضى حركة التأليف فى دائرة مفتوحة تأخذ فى الاتساع شيئا فشيئا حتى تصل إلى الإزدهار المنشود . وفيما يلى رسم توضيحى لهذه العملية :


وثقافى جديد


ناشر


قارئ


مؤلف


وضع علمى


وثقافى معين


وضع علمى


ناقد


 

إن كل عنصر من هذه العناصر المذكورة أساسى فى تنشيط حركة التأليف. ولا شك فى أن غياب أى منها أو عدم أدائه لدوره المخصص له ، أو خروجه عن مكانه المحدد له فى الترتيب السابق - يحدث اضطرابا فى الحركة ، وغالبا ما يصيبها بالضعف أو التوقف ، فمثلاً إذا جاء دور الناشر قبل دور المؤلف (كما يحدث حاليا فى العالم العربى حين يكلف الناشر أحد المؤلفين بالكتابة فى موضوع معين ، لأنه هو الموضوع الذى يقبل عليه القراء ، ويحقق مبيعات كبيرة) فإن الوضع العلمى والثقافى لن يحدث فيه أى تغيير ، بل على العكس سيزداد سوءا ، وبذلك يتصل طرفا الدائرة أحدهما بالآخر ، فتنغلق ، ولا ينتج عنها الاتساع الذى أشرنا إليه .


لكننا قد نظلم الناشرين العرب إذا اتهمناهم - وحدهم - بإفساد حركة التأليف فى العالم العربى المعاصر ، فهناك متهم آخر ينبغى ألا نغفل عن خطورته، وهو ذلك النظام التعليمى المتبع فى كثير من الجامعات العربية ، ذات الأعداد الكبيرة . فقد ساعد هذا النظام على أن يكتب أساتذة الجامعات "مبادئ العلوم" التى يدرسونها للطلاب فى شكل "مذكرات" مرقومة قى البداية على الآلة الكاتبة ، ثم مطبوعة بعد ذلك فى هيئة كتب . ولأن هذه المذكرات مضمونة التوزيع، فإن الناشرين يتسابقون على طبعها ، والتفنن فى إخراجها ، وطرحها فى المكتبات ومعارض الكتب ، بعد أن كانت محصورة فى نطاق الجامعات فقط.


إن هذه المذكرات تمثل نسبة كبيرة جدا مما تقدمه المطبعة العربية فى الوقت الحاضر. وتتمثل خطورتها فى أنها مجرد مختصرات أو تلخيصات منزوعة الهوامش ، والمراجع ، والمصادر فى معظم الأحيان ، أى أنها غير موثّقة ، بالإضافة إلى أن نسبة الإبداع الشخصى فيها تكاد تكون منعدمة . وهو الأمر الذى ساعد ، فى الفترة الأخيرة ، على شيوع سرقتها ، وتبادل الاتهام بين أصحابها .


لقد قدمنا حتى الآن عدة ملاحظات خارجية تتعلق بظواهر عامة تصاحب حركة التأليف العربية . ومن الملاحظ أن بعض هذه الظواهر لا يمكن اعتبارها من صميم عملية التأليف ذاتها ، وإنما هى من الأمور العارضة لها ، لكنها تؤثر فيها تأثيرا بالغا ، كما هو الحال بالنسبة إلى دور الناشرين .


أما بالنسبة إلى المجموعة الأخرى من الملاحظات فهى تتعلق بظواهر أساسية فى حركة التأليف ذاتها . وسوف نكتفى بالحديث عن "عشر ظواهر فقط" نعتبرها ذات أهمية خاصة فى محاولة التشخيص التى نقوم بها:


الظاهرة الأولى : غياب المتخصص فى موضوع واحد فى مجال معين :


لماذا يبدو المؤلف العربى الحديث ملولاً إلى هذا الحد ! فهو لا يصبر طويلاً على الاهتمام بموضوع واحد فى علم من العلوم . وهو دائما متنقل بين موضوعات كثيرة ، وأحيانا متباعدة جدا ، لاشك أنها تشتت جهده ، ولا تصل به فى أغلب الأحيان إلى حد الإجادة التامة فى موضوع بعينه ، بل على العكس تضفى على دراسته طابع التسطيح ، وتبعدها عن التعمق والتأصيل .


ويكفى أن نسأل عن واحد فقط من الدارسين العرب كرّس كل جهوده مثلاً لدراسة شاعر عربى كبير كالمتنبى . إن عشرات الكتب والمقالات الجيدة ظهرت عن المتنبى ، ولكننا ، على الرغم من تقدم البحث الأدبى الحديث ، لا نستطيع عند الحاجة أن نستفتى منها واحدا يكون هو "المرجع المعتمد" فى عصر الشاعر ، وحياته ، وشعره ، وأثره ، فيمن جاء بعده ، وبالجملة : نرجع إليه عندما نريد أن نعرف أى شئ عن المتنبى .


ونحن لا ننكر على أى كاتب أن يتناول أى موضوع يرى من نفسه الرغبة فى تناوله ، والقدرة على دراسته . لكننا نقرر فقط أننا نفتقد الكاتب المتخصص الذى "يستمر" اهتمامه بالموضوع الواحد إلى أن يتمكن من وضع الدراسة - الأم فيه ، ثم تأتى بعد ذلك وجهات النظر المختلفة أو الدراسات الجانبية كما تشاء : تعلق أو تنقد أو تصحح ، وهكذا يعلو باطراد بناء المعرفة ، بدلاً من أن تتناثر لبناته دون نظام .


الظاهرة الثانية: المؤلف يكتب فى موضوعات مختلفة ، أو متباعدة فى مجال معين


من الواضح أن هذه الظاهرة هى الوجه الآخر للظاهرة الأولى . ومن المعروف أن النصف الأول من القرن العشرين قد شهد مجموعة من خيرة الدراسين والكتاب فى العالم العربى ، وأن عددا منهم لا تقصر قامته عن أمثاله من الكتاب العالميين الذين ظهروا تقريبا فى نفس الفترة ( مثال : الدور الثقافى الذى أداه العقاد فى مصر لا يقل أبدا عن الدور الثقافى الذى أداه بول فاليرى فى فرنسا) .


لكننا نلاحظ أن معظم هؤلاء الكتّاب قد وزعوا اهتمامتهم بين موضوعات كثيرة جدا ، وهو أمر كانت تتطلبه طبيعة عصرهم بدون شك . فقد كان تطبيق المنهج فى الدراسات الإنسانية ناشئا ، والوضع الثقافى والعلمى بحاجة إلى التعريف بكل الجوانب ، ولو تعريفا خاطفا . وهذا هو الحال مثلاً بالنسبة إلى :


" التأريخ للأدب العربى " فى عصوره المختلفة . فقد قام بهذا العمل كل من جورجى زيدان ، والرافعى ، والزيات ، وأحمد أمين من منطلقات مختلفة، ولكن ما تركوه لم يخرج عن كونه مجرد مختصرات تبتعد قليلا أو كثيرا عن التأريخ الحقيقى للأدب العربى فى كل مظاهره منذ نشأته حتى الوقت الحاضر .


أما المثال الأكثر تعبيرا عن الظاهرة التى تهمنا هنا ، قيمكن تقديمه من أعمال أستاذ جليل ، هو الشيخ محمد أبو زهرة ، الذى عمل تقريبا فى مجال واحد هو ، مجال الفقه الإسلامى([8])، وكتب فى ذلك عدة مؤلفات قيمة عن أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة فى العالم الإسلامى : أبو حنيفة ، مالك ، الشافعى ، أحمد بن حنبل ، ابن حزم الظاهرى .. ومن الواضح أنه كان يريد أن يملأ فراغات كثيرة فى الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة . لكننا نتساءل هنا : ماذا كان يحدث لو أعطى الشيخ أبو زهرة كل جهوده لمذهب واحد فقط من هذه المذاهب .. إذن لأصبحت لدينا الآن فيه "الدراسة - الأم" ولأمكن لمن جاء بعده أن يضع الدراسة الثانية ، والثالثة وهكذا. .


الظاهرة الثالثة : المؤلف الواحد يكتب فى أكثر من مجال

تعتبر هذه الظاهرة امتدادا طبيعيا للظاهرة الثانية ولكنها أخطر منها بكثير. فإذا كانت الموضوعات المختلفة أو المتباعدة فى المجال الواحد مشتتة للجهد، ومبعدة عن التأصيل المنشود ، فإن المجالات المختلفة أكثر تشتيتا ، وأسوأ أثرا .


ومن أبرز نماذج هذه الظاهرة : العقاد ، الذى ملأ الدنيا وشغل الناس فى عصره ، فقد كتب شعرا ، ورواية ومقالات سياسية ، ونقدا أدبيا ، ودراسات إسلامية . وكذلك د. طه حسين ، الذى هزّ الحياة الثقافية فى عصره هزا عنيفا : كتب روايات ، ونقد تاريخيا ، ونقدا أدبيا ، ودراسات إسلامية ، كما ترجم عددا من المسرحيات الإغريقية ، وشارك فى تحقيق عدد من كتب التراث العربى.


ويمكن القول بأن كلا من العقاد وطه حسين يبقى بكل "أعماله" على وجه العموم ، ولكنه لا يبقى بواحد منها على نحو خاص . وهذا يفسر لنا أننا درسنا بالفعل أشياء كثيرة ، ولكننا عند الفحص الدقيق ما زلنا نكتشف أنها بحاجة إلى معاودة الدراسة من جديد . بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك حينما نعلن أن هذين الكاتبيْن كانا لهما تأثيرهما الشديد فى تأكيد وشيوع ظاهرة عدم التخصص التى ما زالت موجودة حتى اليوم فى الثقافة العربية المعاصرة .



الظاهرة الرابعة : المؤلف الواحد يكتب بمستويات متفاوتة فى مجال واحد أو فى مجالات متعددة
:


يرجع شيوع هذه الظاهرة ، فى المقام الأول ، إلى انتشار "الصحف والمجلات" التى أصبحت مجالا مفتوحا لكل المؤلفين العرب ، إلى جانب الكتب التى كانت فيما مضى هى المجال الوحيد لنشر دراساتهم المتخصصة . ولا شك فى أن الصحافة بإلحاحها اليومى أو الأسبوعى ، أو الشهرى تتطلب من هؤلاء المؤلفين أن يقدموا إليها "أشياء مبسطة ، وعلى وجه السرعة" لإرضاء رغبة القارئ المتعجل.


وإذ كنا لا نسمع عن اسم مؤلف عربى واحد يحجم عن نشر آرائه من خلال الصحف والمجلات ، فإننا على العكس نرى الكثير منهم مندفعا فى هذا التيار ، السريع التدفق ، والذى أصبح له ، مع الأسف ، تأثيره الشديد على حركة التأليف العربية .


فما الذى يدفع باحثا إلى أن ينفق عدة سنين أو شهور فى بناء تصميم جيد لموضوع ينشره فى كتاب ، فى حين أن الفرصة أمامه متاحة لكتابة عدة مقالات ، يومية أو شهرية ، تنهض على الملاحظات الشخصية ، وأحيانا على الذكريات([9]) ، دون الحاجة إلى الرجوع إلى المصادر ، أو الاستعانة بالوثائق ؟!


وبالمناسبة ، نحن لسنا ضد تبسيط المعرفة لجمهور القراء ، ولكننا ضد التبسيط المخلّ الذى يُفقد الباحث قدرته الأساسية على التعمق فى حقائق الأشياء، وتحديد المشكلات أو مناقشتها ، وتقديم الحلول المناسبة لها . وهذا ما لا يتأتى غالبا فى إطار الصحف اليومية أو الشهرية .


إننى أقدر كثيرا مؤلفا غزير الإنتاج ، هو الأستاذ أنور الجندى ، فهو يحسن تجميع الوثائق حول موضوع واحد ، ويجيد عرضه ، ولكننى أعتبره مثالا واضحا على الظاهرة التى نتحدث عنها . فقد راح ينشر فى أيامه الأخيرة عددا كبيرا جدا من الكتيبات ، الصغيرة الحجم ، التى تحمل عناوين ضخمة ، لا يمكن بحال أن تعالج فى مثل هذا المستوى . ونكتفى هنا بذكر عناوين بعض هذه الكتيبات : "الخلافة الإسلامية" ، "مصححو المفاهيم الإسلامية : الغزالى ، ابن تيمية ، ابن حزم" ، "الفنون والمسرح" ، "حركة الترجمة"([10]).


ومرة أخرى نقول إن التبسيط عمل ضرورى . ونحن محتاجون إليه، وخاصة فى مرحلتنا الثقافية الحالية ، لكنه ينبغى ألا يجذب إليه الباحثين الذين تحتاجهم الدراسات الجادة ، والأعمال الكبيرة المتعمقة .


الظاهرة الخامسة : العناوين الفضفاضة :


يساعد الجو العلمى والثقافى ، أثناء تدهوره ، على شيوع عدة ظواهر متشابكة تعتبر "ظاهرة العناوين الفضفاضة" من أبرزها . وتنتشر هذه الظاهرة عندما يستمر صمت النقاد عما يقدم عليه بعض المؤلفين من وضع عناوين أكبر من الموضوعات التى يتناولونها فى كتبهم ، إما رغبة فى الشهرة ، أو مجاراة للأسلوب الصحفى الذى يسعى لجذب انتباه القراء ، أكثر من سعيه إلى تعليمهم. ومن الواضح أن الدافعيْن لا يتعارضان .


إن كمية ضخمة جدا من المؤلفات العربية فى القرن العشرين تتسم بهذه الظاهرة التى يكون فيها عنوان الكتاب غير مطابق تماما لمضمونه . وسوف أكتفى هنا بمثال واضح ، أكنّ لصاحبه كل احترام ، لكن هذا لا يمنع من نقده . وهو كتاب "مناهج البحث عند مفكرى الإسلام" للأستاذ الدكتور على النشار . وإنما اخترت هذا الكتاب بالذات لأنه يحظى بمكانة طيبة لدى كل الدارسين المحدثين تقريبا . والواقع أنه كتاب جيد ، بل رائد فى بابه . ومن الطبيعى أن يتوقع القارئ من عنوانه أن المؤلف يتناول فيه (كل مناهج البحث لدى مفكرى الإسلام) ولكنه حين يدرسه أو يقرأه يتبين له أن موضوعه الأساسى ينحصر فى "نقد ابن تيمية لمنطق أرسطو" . ولا شك أن هذا الموضوع الأخير يعتبر جزءا صغيرا جدا من مناهج البحث الإسلامية . وهكذا يتضح أن العنوان أكبر بكثير من المحتوى الحقيقى للكتاب .


الظاهرة السادسة : موضوعات لا تعبر عن مشكلات حقيقية :


تشيع فى حركة التأليف العربية نسبة كبيرة جدًا من المؤلفات التى تتناول موضوعات لا تساير ما يمر به العالم العربى من مشكلات واقعية ، أو يتطلع إليه من آمال . ومن الغريب أن الجامعات العربية كان عليها أن تولى هذا الأمر عناية خاصة ، غير أن ما يصدر عنها - هى نفسها - من رسائل الماجستير والدكتوراه - التى تنشر بعد ذلك فى شكل كتب - يعكس قدرا كبيرا من اللامبالاة بالمشكلات الحقيقية التى تتعلق بالأمة العربية والإسلامية فى ماضيها وحاضرها ومستقبلها([11]).


والواقع أن هذه الظاهرة تبدأ مع بداية تخصّص طلاب الجامعات فى مرحلة الدراسات العليا . فكثيرا ما نجدهم حينئذ حيارى أمام "موضوع يختارونه للدراسة" وهذا يعنى - فى حد ذاته - غيابا للإحساس بالمشكلات الحقيقية فى مختلف مجالات دراساتهم السابقة . وهناك عدد كبير جدا من طلاب الدراسات العليا يتركون لأساتذتهم أو لزملائهم اختيار الموضوع الذى يدرسونه . وهنا تتدخل اللوائح العقيمة فى إبعاد بعض الطلاب عن موضوعات تمت دراستها من قبل ، ولكنها ما زالت بحاجة إلى دراسات جديدة ، وتوجههم إلى "موضوعات لم تدرس من قبل" حتى ولو كانت عديمة القيمة والفائدة العلمية .


ومع ذلك فإن هذه العمليات قد تكون مفيدة للطلاب أنفسهم ، وخاصة فى مرحلة تدريبهم على منهج البحث وأساليبه ، ولكن مخاطرها تبدو عندما تنشر أعمالهم فى شكل كتب من المفروض أنها تمثل الإنتاج العلمى والثقافى فى العالم العربى .


إن الأمثلة على هذه الظاهرة أكثر من أن تحصى لكن الاستشهاد عليها بالأمثلة سوف يجرنا إلى مشكلات لا نود الدخول فيها . ويكفى أن نشير هنا -على سيبل التندّر- إلى ما نجده فى توصيات إحدى رسائل الدكتوراه التى درس فيها الباحث أحد أعلام البلاغة العرب ، فقد "اكتشف" أن ألف سنة قد مرت على وفاة صاحبه ، وأنه لذلك يقترح إقامة مهرجان عالمى للاحتفال به !


الظاهرة السابعة : غياب الحلول المبتكرة أو الرؤى الجديدة :

يذكر حاجى خليفة فى مقدمته الممتازة لكتاب "كشف الظنون" أن "التأليف" على سبعة أقسام ، لا يؤلف "عالم عاقل" إلا فيها ، وهى :

إما شئ لم يسبق إليه فيخترعه ،


أو شئ ناقص يتممه ،


أو شئ مغلق يشرحه ،


أو شئ طويل يختصره ، دون أن يخل بشئ من معانيه ،


أو شئ مفترق يجمعه ،


أو شئ مختلط يرتبه ،


أو شئ أخطأ فيه مصنفه فيصلحه([12]).


ويهمنا هنا القسم الأول التى تحتاج إليه حركة التأليف العربية إحتياجا شديدا . وقد وضعنا إلى جانب الحلول المبتكرة للمشكلات : الرؤى الجديدة لها، بمعنى أن طرح المشكلة طرحا صحيحا يساعد كثيرا على حلها ، تماما كما أن الملاحظة الجيدة للظواهر فى البحث التجريبى مما يؤدى إلى صحة تفسيرها .


لكن الملاحظ أن الكثرة الغالبة من المؤلفات المتخصصة فى الدراسات اللغوية ، والأدبية ، والدينية تقوم على ما يشبه "الاتباع" . ويبدو ذلك بوضوح من المادة التى تتناولها . فهى تتناقل فيما بينها عددا محدودا من النصوص المأخوذة من كتب التراث ، دون السعى إلى اكتشاف نصوص أخرى غيرها تفتح الباب لتفسيرات جديدة ، وتدفع بالتالى إلى التطور المنشود فى هذه الدراسات .


ومن المعروف أن الابتكار يعتمد على القدرة على إطلاق الفروض الكبيرة ومحاولة إثباتها . وقد كان حدثا علميا مثيرا عندما نشر المستشرق الأسبانى آسين بلاثيوس دراسته عن تأثّــر دانتى فى الكوميديا الإلهية بعناصر إسلامية([13]) ، ويقرب منه ما اقترحه المستشرق الفرنسى بلاشير من ضرورة وضع تقسيم جديد لتاريخ الأدب العربى ، لا يقوم على ما جرى العرف عليه من تقسيم هذا الأدب تبعا للدول والعصور السياسية([14]).


ولا يفوتنا فى هذا الصدد أن نشير إلى أن الدراسين الغربيين ، أو المستشرقين ، ما زالوا هم الذين يملكون زمام المبادرة فى ميدان الابتكار ، على حين أن المؤلفين العرب يكتفون إما بمتابعة آرائهم ، أو بالرد عليها وتفنيدها.


وهذا يقودنا إلى ما شاع فى الفترة الأخيرة مما يمكن أن نطلق عليه "ظاهرة الرد على آراء المستشرقين ولا جدال فى أن هذا عمل جيد فى حد ذاته ، وخاصة عندما يتم باللغة التى يكتب بها المستشرقون أنفسهم . لكن الذى يحدث أننا نسعى بأنفسنا إلى نقل ما كتبوه إلى اللغة العربية ، ثم نستنفد وقتا وجهدا فى الرد عليه ، وتفنيده باللغة العربية أيضا . ومن الآثار السلبية لهذه الظاهرة أنها أدت إلى وقوف المؤلفبن العرب فى موقف الدفاع ، ينتظرون ما يتساقط على أرضهم من كتابات المستشرقين لكى يقوموا بعد ذلك بتفنيده ، دون أن يتقدموا هم أنفسهم فى مجال الابتكار ، أو التفسير الجديد للظواهر التى يدرسونها .


أما فى مجال العلوم التجريبية فلسنا بحاجة إلى التأكيد على أن المؤلفين العرب يتبعون المؤلفين الغربيين " حَذْوَكَ النعلَ بالنعل " كما يقول التعبير العربى القديم ، وتكاد تكون المؤلفات العربية فى هذه المجالات ترجمة أمينة ، أو أحيانا حرفية ركيكة لما فى المؤلفات الغربية .


إن الابتكار فى مجال التأليف على الرغم من أنه قد يحدث فجأة ، إلا أنه يكون عادة وليد سنوات طويلة من الجهد الفردى ، ونتيجة لجو علمى وثقافى معين([15]) ومن الواضح أن الوضع العلمى والثقافى الحالى فى العالم العربى لا يشجع كثيرًا على مثل هذا الابتكار . ومع ذلك ، فمن الضرورى تجاوز هذه الدائرة المحكمة .


الظاهرة الثامنة : عيوب لغة التأليف :


نقصد باللغة هنا معناها الواسع الذى يشمل اختيار الألفاظ ، وصيغ الأفعال، وأدوات الربط ، وبناء الجمل ، واستخدام المصطلحات ، وطرائق التعبير العلمى المتعارف عليها ، وبالجملة : الأداة الأساسية التى يقدم بها مضمون العمل العلمى أو الثقافى .


ولا شك أن لغة التأليف العربى قد تعرضت خلال نصف القرن العشرين لتغيرات جذرية تحتاج حقا إلى مزيد من الدراسة . ويكفى أن نشير هنا إلى نوعين من التأثير ساعدا على هذه التغيرات ، وهما :


(أ) تأثير اللغات الأجنبية ، والأعمال المترجمة عنها .


(ب) تأثير اللهجات العامية .


وقد نسلم بالقول الفرنسى المشهور "إن الأسلوب هو الرجل" ، وذلك فى مجال الفنون والآداب ، ولكننا فى مجال البحث العلمى ، والدراسات المتخصصة نتطلب مستوى شبه موحد من اللغة التى يتفاهم بها المشتغلون فى ميدان معين ، إن لم يكن فى مجموعة متقاربة من المجالات . وأهم خصائص هذه اللغة أن تكون واضحة ، ودقيقة([16]).


والملاحظ أن العالم العربى قد أصبح يحتوى حاليا على أكثر من "لغة عربية" إن صح التعبير- فهناك لغة فى المشرق العربى يمثلها كتاب سوريا ولبنان، ولغة فى المغرب يمثلها كتاب المغرب وتونس ، وبينهما تتردد لغة مصر التى راحت هى الأخرى تتأثر بلغة كلا الفريقين . وهذا هو السبب فى أنه عندما ظهرت مجلة "فصول" فى مصر ، فوجئ المثقفون بلغة مختلفة تماما عما ألفوه فى مجال النقد الأدبى . ومما بلغنى فى هذا الصدد أن الكاتب الروائى نجيب محفوظ قد اندهش من مقال نقدى مكتوب فيها عن أحد أعماله ، واعترف بأنه لم يفهمه !


فإذا انتقلنا إلى اللغة ذاتها فوجئنا بضروب من الفوضى المنتشرة على نحو واسع . ولا شك أن أحد أسباب إنتشارها : صمت النقاد الذين لا يجرؤون ، فيما يبدو ، على تناول هذا الجانب الحساس . أجل ! فإن "اللغة" لدى المؤلف العربى ما زالت تعتبر جزءا من "خصوصياته" التى لا يقبل لأحد أن يتعرض لها00 اللهم إلا بالمديح ! ومع ذلك ، فما أشد إهماله لها ، وعدم حرصه على استخدامها الاستخدام الصحيح !


إن المؤلفات العلمية الجيدة مكتوبة دائما بلغة جيدة . وقد قال كوندياك إن "العلم الجيد ليس إلا لغة أجيد رصفها" ، وسوف نسجل هنا بعض ملاحظاتنا فى هذا الصدد على سبيل "الإشارات التحذيرية" ، تاركين لعلماء اللغة دراسة هذا الموضوع الحيوى :


(أ) إهمال علامات الترقيم مما يحدث فوضى فى العبارات وعدم ترابط بين الجمل، كما يساعد على الاستطرادات المخلّة .


(ب) الأخطاء المطبعية ، ورغم أننا ننسبها دائما إلى عمّال المطبعة ، فإن المؤلف يتحمل مسئولية كبيرة نتيجة عدم متابعة عمله ، حتى مراحله الأخيرة، ومنها مراجعة تجارب الطباعة([17]).


(جـ) الأسلوب الإنشائى الفضفاض الذى يعتمد على التشبيهات والمجازات فى غير موضعها الذى تتطلبه ويحضرنى مثال على ذلك : فقد وصف أحد المؤلفين الحالة الثقافية المزدهرة فى العصر العباسى بأنها " بستان تفتحت فيه شتى "الورود والرياحين " !


(د) اختلاط لغة الأدب بلغة البحث العلمى . ومن المقرر أن كلتا اللغتين تختلف عن الأخرى . فبينما تقترب الأولى من الذاتية تنزع الثانية إلى الموضوعية ، وبينما يغلب على الأولى الطابع العاطفى والانفعالى ، تتسم الثانية بالطابع العقلى والمنطقى .. الـخ .


(هـ) إهمال مطالع الفقرات بعدم مراعاة الدقة فى استخدام العبارات العلمية المتعارف عليها فى البحث العلمى من أمثال : (لاشك) ، (ومن المقرر) ، (ومن الواضح) ،(ومهما يكن من شئ) ، (وفى رأيى أو فى رأينا) ، (ونؤكد) ، (ونحسب) ، (ونظن) ، (ونرجح) ... الـخ .


إن هذه العبارات - على الرغم من إهمال المؤلفين العرب لها فى أغلب الأحيان - هى التى تعطى للبحث أو المقال تماسكه المنطقى ، وتدفع أفكاره إلى التطور المطلوب ، الذى ينتهى دائمًا إلى نتيجة محددة .


ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن لغة الصحافة العربية ربما كانت أكثر استجابة للمضمون الذى تقدمه للقراء . ونعتقد من جانبنا أنه إذا بحثنا عن أسباب ذيوع بعض كبار الصحفيين العرب لوجدنا أن "لغتهم" تأتى فى مقدمة هذه الأسباب . وعموما فإن هذه النقطة تحتاج إلى دراسة أوسع .


الظاهرة التاسعة : غياب الأعمال الأساسية ، والأدوات اللازمة للبحث العلمى


ونقصد بها دوائر المعارف العامة ، والمتخصصة والمعاجم اللغوية ، الموحدة اللغة والثنائية ، والمعاجم الموضوعية التى يختص كل منها بمجال معين.. ولسنا ننكر وجود "بعض" هذه الأعمال ، المكتوبة باللغة العربية كما لا ننكر جهد من قاموا بها إلا أننا نلاحظ أنهم غالبا أفراد تنوء قدراتهم بمثل هذه الأعمال التى تتطلب فرقا كاملة من العلماء والمتخصصين.


إن وضع القاموس فى الوقت الحاضر لم يعد مهمة فرد واحد ، بل إنه مهمة هيئة متكاملة تضم إلى جانب العلماء : الإداريين ، والفنيين ، والرسامين ، والمصورين ، وحتى المطبعة اللازمة لإنجاز مثل هذا العمل .


وهذا هو السبب فى أن الأعمال العربية المتناثرة فى هذا المجال لا يمكن الاعتماد الكامل عليها . فهى ناقصة ، كما لا تجرى متابعتها ، لأن القاموس أو دائرة المعارف ليس مجرد كتاب يؤلفه صاحبه ويمضى ، إنه عمل مفتوح يتطلب استمرار تصحيحه ، وتنقيحه ، والاختصار منه ، والإضافة إليه .


أليس من المؤسف حتى الآن عدم توافر قاموس أساسى "معتبر" للغة العربية ، يساعد القراء والمتخصصين على الإفادة السريعة منه ، كما هو الحال بالنسبة إلى القواميس الأساسية فى معظم لغات العالم ؟


فإذا انتقلنا إلى الموسوعات ، وجدنا ظاهرة أخرى فبالإضافة إلى أنها فى الغالب تقوم على جهود فردية ، نجدها لا تقدم المعلومات بالحياد الكامل ، بل على العكس تتبنى وجهة نظر الكاتب . ومن أحدث الأمثلة على ذلك : "الموسوعة الفلسفية " التى أصدرها أ.د. عبد الرحمن بدوى ، والتى جمع فيها عددا كبيرا من المواد والشخصيات الفلسفية ، ولكنها يغلب عليها طابع "الدراسة" التى تحمل وجهة نظر صاحبها دون أن تكتفى بتقديم المعلومات الأساسية فى الموضوع الذى تتناوله . ونتيجة للفردية فى وضع مثل هذه الموسوعة نجدها "غير مستوعبة" لمواد وشخصيات أساسية فى المجال الفلسفى .


كذلك يحتاج البحث العلمى إلى كشّافات الكتب ، والموضوعات ، والمؤلفين، والأعلام .. الخ . ومن الواضح أن هذه الكشافات لا تتوافر على النحو اللائق فى العالم العربى . وما يوجد منها لا يخرج عن كونه مجرد محاولات متناثرة، إذا لبّت حاجة الدارس فى نقطة واحدة ، فإنها لا تسعفه فى كثير من النقاط . وهنا تكمن إحدى صعوبات البحث العلمى فى العالم العربى .


الظاهرة العاشرة : عدم متابعة حركة التأليف بالتصنيف والنقد :


العالم العربى مشغول ، فى الوقت الحاضر ، بمشكلات كثيرة ، معقدة ومتشابكة . ولا شك فى أن هذه المشكلات تأخذ من اهتمام أبنائه الكثير ، كما أنها تضعهم فى حالة من "اللامبالاة" التى نشهدها فى جميع المجالات تقريبا. ولا تشذ حركة التأليف عن هذه الحالة . فالمتابعة فيها ، سواء بالسيطرة على الإنتاج الثقافى أو بالنقد ، تكاد تكون معدومة وربما يساعد على ذلك صعوبة الاتصالات بين المؤلفين فى البلد العربى الواحد ، فضلاً عن البلاد العربية المختلفة. وقليل هم الباحثون الذين يلمّون إلماما كافيا بكل ما يصدر فى مجالهم الخاص . وما أشد حيرة طلاب الدراسات العليا بعد أن يقع اختيار الواحد منهم على موضوع معين ، ثم يضطر للتأكد من أن هذا الموضوع قد تمت دراسته من قبل أم لا فلا يجد من (أو ما) يدله على ذلك !


وإذا كانت مهمة التصنيف تقع فى المقام الأول على عاتق دور الكتب، ودور النشر ، ومراكز البحوث (وهذه كلها مقصّرة كما هو واضح) فإن مهمة النقد من صميم عمل النقاد. وهؤلاء شبه غائبين ، أو أنهم موجودون ولكنهم صامتون !


إن عملية النقد فى داخل حركة التأليف هى التى تمنحها الحيوية ، وتبعث فيها مزيدا من النشاط . وهذا أمر معروف فى ثقافتنا العربية القديمة. فقد كان المتنبى واحدا من أكبر شعراء العربية ، ومع ذلك فقد تم نقد شعره بعنف ، كما تم أيضا الدفاع عنه ، وتفنيد هذا النقد ومحيى الدين بن عربى ، الصوفى المحيّر ، هوجم ودوفع عنه ، وفى كلا الحالين كسبت الثقافة العربية والإسلامية من وراء ذلك الكثير .


وفى النصف الأول من القرن العشرين ، ظهر فى العالم العربى كتابان أثارا عاصفة من النقد والتعليقات ، هما ("فى الشعر الجاهلى") لطه حسين ، و"(الإسلام وأصول الحكم") لعلى عبد الرازق . ولا ينكر علينا أحد أن النقد الذى ووجه به هذان الكتابان قد بعث الكثير من الحركة ، والحيوية قى الفكر العربى الحديث .


لكن خفوت صوت النقد فى العالم العربى المعاصر يجعل حركة التأليف تسير فى طريق مسدود ، فضلاً عن استمرار ما يشيع فيها من ضروب الفوضى ، وانعدام الضوابط الأولية ، التى تعتبر من أساسيات البحث العلمى . ولا شك فى أن هذا الخفوت له أسبابه وليس من المستحيل الكشف عنها ، وتوضيحها ، تمهيدا لتجنبها .


وأخيرا فإن الظواهر التى ذكرناها فيما يتعلق بحركة التأليف العربى قد تدعو إلى اليأس ، لأنها فى مجموعها سلبية . ولكنها كأى حركة ، غير متوقفة ، ولن تلبث أن تجد وسط هذه الفوضى طريقها الصحيح ، بفضل المتابعة المستمرة من جانب النقاد الذين ينبغى أن يؤدوا دورهم بقدر أكبر من الجدية ، بل والفدائية ، وكذلك من جانب المؤلفين الذين ينبغى أن يواجهوا المشكلات الحقيقية فى مجتمعهم متجنبين الانجراف فى تيار وسائل الإعلام السريعة ، ثم من جانب الناشرين الذين ينبغى عليهم أن يحترموا مهنتهم الأصيلة ، وميثاق شرفها غير المعلن ، وفى النهاية ، من جانب القارئ ، الذى بيده أن يضع حدا لكل المهازل التى تجرى أمامه فى حركة التأليف ، ويعتبر هو أيضا مسئولا عن المشاركة فى استمرارها .


إن حركة التأليف العربية هى المقياس الحقيقى لحركة العقل العربى، وقدرته على متابعة التطور والتقدم وليست مشكلات الثقافة الحالية فى العالم العربى إلا النتائج المباشرة لحركة التأليف نفسها . لذلك فإن محاولة الاقتراب من هذه الحركة، بتشخيص أمراضها ، وملاحظة تطوراتها ، ثم اقتراح الحلول المناسبة لها - أمر على درجة كبيرة من الأهمية ، إن لم نقل إنه المفتاح الحقيقى لحل كثير من مشكلات التخلف التى يعانى منها العالم العربى فى الوقت الحاضر.


خاتمة :


والآن . . أرجو أن يكون عنوان الكتاب قد اتضح معناه الآن ، وذلك على الأقل من خلال العرض المتجاور لهذه الدوائر الثلاث التى تشمل( تحقيق التراث أوإحياءه ، والترجمة ، والتأليف) . لقد ظهر من خلال بحث كل دائرة على حدة أن هناك الكثير من المظاهر المشتركة ، والروابط المتبادلة التى تدعو إلى ضرورة التعاون بين العاملين فيها ، وتقضى بالتالى على عوامل الفرقة والانعزال .


إن التراث ينبغى أن يدخل فى نسيج الفكر العربى المعاصر ، حتى تتحق ظاهرة الامتداد الضرورية لوصل الماضى بالحاضر . ولكى يحدث ذلك لابد من البحث عن مخطوطاته ، وإخراجها فى صورة جيدة ، وتسهيل قراءته والبحث فيه. وكما أن التراث ضرورة للمؤلفين العرب من أجل تزويدهم بالمادة العلمية التى يستخدمونها فى عملهم ، فإنه لازم أيضا للقارئ العربى لكى يزوده بالمرجعية التى تساعده على فهم التاريخ والوعى بالحاضر ، تمهيدا لاستشراف المستقبل .


أما الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية فهى ضرورة آنية ومستمرة . وقد تأكد لنا أن الأمم المتقدمة لا تستغنى أبدا عن الترجمة ، بل إنها كلما زادت تقدما زاد حرصها على الترجمة ، تحقيقا للقول المأثور " ليس الأسد إلا عدة خراف مهضومة ". فكيف الحال بالشعوب النامية التى تحتاج بشدة إلى المزيد من المعارف. ومن المقرر أن المعرفة الموجودة لدى الآخرين لا تتم الاستفادة الكاملة منها إلا عن طريق اللغة . وقد ثبت فى عشر السنوات الماضية خطأ القول بأن علماءنا فى الطب أو الهندسة أو العلوم إذا أجادوا اللغة الانجليزية لم تكن هناك حاجة إلى ترجمة هذه العلوم إلى اللغة العربية ما دامت الفائدة متحققة. لقد أضاع هؤلاء على الأمة العربية الكثير ، لأنه بموتهم يختفى ما حصّلوه من علم أجنبى ، وتظل الأجيال الناشئة بحاجة إلى بدء المسيرة من جديد بدلا من أن تجد لديها ما تبنى عليه . كذلك فإن لغة واحدة كالإنجليزية لم تعد هى وحدها مستودع المعرفة العالمية . فقد بدأت فى التقدم شعوب لا تتحدث الانجليزية . ونحن محتاجون إلى الاستفادة من علمها وتقدمها . فهل نظل نلهث وراء هؤلاء وأولئك ، أم من الأفضل أن ننقل علومهم وثقافتهم إلى لغتنا ونكوّن بذلك رصيداً خاصاً بنا ؟!


إن النتائج لا تأتى مصادفة . لذلك عندما يتم إحياء التراث ، وتزدهر الترجمة ، يصبح التأليف الإبداعى متاحا . لأنه سوف يجد فى كل منهما العناصر اللازمة لدفعه وتطويره ، سواء فى مجال المادة والمضمون ، أو على مستوى المنهج والأساليب . ونحن نعلم جيدا أن المعرفة لا تنبثق فى العقل من فراغ . وإنما تحتاج إلى دوافع واستثارات ، كما أنها تتطلب مشاهدات ورؤى ، قد تتوافق معها وقد تتصادم . ولا ينبغى أن نغفل هنا عن الأثر القوى لقانون المحاكاة والمنافسة ، فهو غريزى فى طبائع البشر . إن العمل العلمى أو الثقافى الجيد يدفع المؤلفين غالبا إلى الاستفادة منه ، وإلى تقليده ، بل إنه قد يجعلهم يتفوقون عليه. ومن هنا تبرز أهمية كل من تحقيق التراث ، والترجمة لبعث النشاط والحيوية فى دائرة التأليف ذاتها .


إن الاعتراف بالحق فضيلة . ومن الإنصاف أن أسجل هنا أننى لست أول من ينبه إلى أهمية العلاقة الوثيقة بين التحقيق والترجمة والتأليف . فقد اجتمع فى سنة 1914 " طائفة من الشباب ، تمتلئ نفوسهم غيرة على العالم الإسلامى، ويطيلون التفكير فى وسائل إصلاحه والنهوض به ، ألف بين أفرادها الشعور بالألم من موقف الشرق وخموله ، والإيمان بوجوب العمل على تنبيه ، والأخذ بيديه ، ورفع مستواه"([18]) عرفت باســـــــم "( لجنة التأليف والترجمة والنشر )". وقامت هذه اللجنة بدور هام فى ترجمة وتأليف ونشر عدد من أروع الأعمال المطبوعة فى مصر والعالم العربى كله . وما زال يكفى أن نقرأ على أى كتاب اسم اللجنة أو شعارها لندرك على الفور وبكل اطمئنان، أنه كتاب جيد فى بابه .


حدث هذا فى بداية القرن العشرين ، وما زالت الحاجة إليه أشد فى مطالع القرن الحادى والعشرين . لكن المؤسف بحق أن أعود فأدعو بنفس الدعوة منفردا وليس فى مقدرتى تنفيذ مثل هذا العمل العظيم ، بينما دعت إليه من قبل جماعة ، وكانت قادرة بإمكانيتها الذاتية حينذاك على تنفيذه .


وهنا أؤكد من جديد أن العمل العلمى لم يعد فى الوقت الحاضر - ولن يصبح فى المستقبل - بإمكان أفراد ، أو حتى جماعات صغيرة تلتقى على وحدة الفكر والشعور ، وتدفعها النوايا الطيبة ، وإنما أصبح من مسئولية الدول والحكومات ، بل والتنظيمات العالمية : تنشئ له الجماعات ، وتقيم مراكز البحوث، وتضع له الخطط والأهداف ، وتحشد له الطاقات البشرية ، وتيسر له الأدوات والأجهزة والوسائل الفنية ، وتحقق له البيئة المناسبة لكى يعمل فى أفضل جو ممكن ، ويقدم بالتالى الناتج المتوقعة منه .


وليس يعنى هذا أن يتضاءل دور العلماء - الأفراد ، وإنما ينبغى أن يتم الاستفادة منهم فى أطر تنظيمية وهياكل علمية محكمة . وفى اليوم الذى يدرك فيه العالم العربى قيمة الفكرة التى تنبثق فى عقل إنسان ويسرع بالتالى إلى احتضانها ، ورعايتها حتى تنضج وتتحقق ، فإنه يكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيح لتقدمه .


وفى ختام هذه الخاتمة ، أتوجه بالدعاء إلى الله الكريم أن يمنح عالمنا العربى المزيد من العلماء والباحثين ، وأن يهئّ مجتمعاتهم لرعايتهم وحسن الإفادة منهم . فإن هذا هو باب المستقبل الكبير ، الذى لا مفر أمامهم من أن يدخلوا منه إلى العالم المعاصر، ويشاركوا بفعالية فى منجزاته .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هوامش الفصل الثالث :




([i][1])اشترك معى فى هذا المشروع الذى استمر عامين كل من د. اليزابيث سارتين ، وهى باحثة إنجليزية متخصصة فى دراسة السيوطى ، وتقوم حاليا بتدريس التاريخ الحديث فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والباحثة الأمريكية كريستن بريستاد التى أنجزت أخيرا رسالتها للدكتوراه فى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة .

([ii][2])كانت مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة هى ميدان العمل الأساسى لهذا المشروع ، وهى مكتبة حديث ومنظمة . وقد استعنت أيضًا بمكتبة جامعة القاهرة ، وكذلك مكتبة كلية دار العلوم ، الغنية بمجموعة من أندر المطبوعات العربية .

([iii][3])من بين أكثر من خمسمائة نص ، قمنا باختيار ثمانين نصاً فقط ، تمثل جوانب النشاط العربى والإسلامى فى الوقت الحاضر . وكانت عملية الاختيار تخضع لمقاييس موضوعية ، ثم يجـرى بعدها شرح الألفاظ والعبارات المشكلة فى النص ، وأخيرًا تتم ترجمة معظم مفرداته إلى اللغة الإنجليزية

([iv][4])من أهمها " معرض الكتاب الدولى الذى تم فى مدينة الدوحة بقطر - فبراير 1986.

([v][5])نشرت هذه الرسالة بعنوان " رسالة أوربا " فى مجلة البيان التى تصدرها رابطة الأدباء بالكويت على مدى عامين : 1979 ، 1980

([vi][6])عدد خاص من مجلة الكاتب الجزائرية - مايو 1973.

([vii][7])وهذا يشبه ما يطلق عليه علماء التربية المحدثون Feedbaek ويترجمونه بالتغذية المرتجعة .

([viii][8])بالإضافة إلى مجال الفقه ، كتب عن المذاهب الإسلامية (علم الكلام) ، والمسيحية (مقارنة أديان).

([ix][9])من أهم الأمثلة على ذلك مجموعة كبيرة من من المقالات كتبها الأستاذ عباس خضر تحت عنوان (هؤلاء عرفتهم) ونشرت فى مجلة الثقافة بالقاهرة

([x][10])كلها من مطبوعات دار الاعتصام بالقاهرة .

([xi][11])انظر الفصل الذى كتبناه عن " المشكلات الحقيقية والمشكلات الزائفة " فى كتابنا : الفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث - دار الثقافة العربية 1993

([xii][12])كشف الظنون ، ص 35 .

([xiii][13])نشر هذا البحث بالإسبانية سنة 1939 . ولم يترجم حتى الآن إلى اللغة العربية ، رغم استفادة كثير من الدارسين العرب منه . انظر آخر دراسـة بالعربية ظهـرت فى هذا الموضوع للدكتور صلاح فضل بعنوان "العناصر الإسلامية فى الكوميديا الإلهية " القاهرة 1982.

([xiv][14])ترجم هذا البحث زميلى الدكتور أحمد درويش بعنوان " تقسيم جديد للأدب العربى" فى "دراسات عربية وإسلامية " الجزء الثانى ص 120 116 .

([xv][15])انظر فى هذا الموضوع فصلاً بعنوان "نظربة الاختراع ودورها فى البحث العلمى "المنشور فى كتابنا: منهج البحث بين التنظير والتطبيق" ، القااهرة1994 .

([xvi][16])انظر ترجمتنا لمقال : اللغة العلمية المعاصرة لجيرار بيتيو بمجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ص52 ، نوفمبر 1983 .

([xvii][17])من الأمور اللافتة للنظر أن الكتب الأجنبية تكاد تخلو تماما من مثل هذه الأخطاء المطبعية . وليس هذا بالأمر العجيب . فإن مراجعتها وتصحيحها يتمان بدقة ويقظة بالغتين .

([xviii][18])من كلمة المرحوم أحمد امين الذى تولى رئاستها على مدى ثلاثين عاما ، وكان من أعضائها : أمين مرس قنديل، وعبد الحميد العبادى ، ومحمد صبرى ابو علم ، ومحمد عوض محمد ، ومحمد بدران ، كما انضم إليهم عقب عودته من البعثة زكى نجيب محمود - انظر ما كتبه عنها أ. د. محمود الطناحى فى كتابه القيم "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربى" ص 124 وما بعدها .

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 25 أكتوبر 2019 14:00