الآبار المردومة

أعترف بأننى لم أكن أعرف شيئا عن هذا الموضوع على الإطلاق قبل أن يحدثنى الأستاذ صبرى عن الأحوال فى المؤسسة الحكومية التى يعمل بها . قال الأستاذ صبرى : إن الفساد ضارب فى كل شرايين المؤسسة وهو بالطبع يبدأ من المدير ثم الأمين العام ويتمدد بين الموظفين حتى يصل إلى العمال . قلت له : وأين الجهات الرقابية العديدة التى تتابع المؤسسات وترصد بدقة كل ما يجري فيها من مظاهر الخلل وخبايا الفساد ؟ قال : إنها بالفعل تأتى ، وتفحص ، وتسجل ، وتكتب تقريرها ، ثم تمضى .. ويبقى الحال كما هو ! قلت له : ولماذا لا يتم عزل المدير الفاسد حتى ينصلح حال المؤسسة كلها ؟ أجاب : هذه هى المأساة . والأدهى أنه كلما مضى الوقت ازداد تمكنا واستبدادا . هل أنت وحدك الذى يلاحظ فساد المؤسسة ، أم أن هناك أحدا غيرك ؟

بلع الأستاذ صبرى ريقه وقال : هناك الكثير من الآبار المردومة .

اندهشت لسماع هذه العبارة الغريبة ، فرجوته أن يوضحها لى . قال : هذه الآبار تعنى الموظفين الذين يعرفون مثلى تماما خبايا المؤسسة ، ومدى فساد كل شخص فيها ، لكنهم مضطرون للصمت والتجاهل واللامبالاة خوفا على وظائفهم من ناحية ، وحرصا على مصاريف أولادهم من ناحية أخرى، خاصة وأنهم شاهدوا بأعينهم من تحدث أو حتى همس عن الفساد قد أطيح به على الفور ، لذلك فإنهم يردمون الكثير من الرمال على الأسرار التى يعرفونها عن المؤسسة ويسكتون !

وأصارحكم بأننى تعجبت كثيرا من تلك العبارة التى تكتسى بطابع بلاغى قوى للغاية ، والتى لم أقرأ عنها فى مطولات البلاغة العربية . وتوقفت مع نفسى لأتساءل : لماذا لم يستخدم أجدادنا العرب هذا التعبير ؟ هل لأن الظاهرة لم تكن موجودة لديهم ؟ أم لأنهم عجزوا عن الإتيان بها أو بمثلها ؟

وبعد شهر تقريبا ، زارنى أحد أقاربى من الشبان الموظفين حديثا ، وكان سعيدا جدا بالوظيفة ، وعندما سألته عن أحوال المؤسسة التى يعمل بها قال : الأمور جيدة ، وتجرى على ما يرام . نظرت فى عينيه طويلا ثم سألته : يعنى لا توجد عندكم آبار مردومة ؟ لم يفهم الشاب العبارة ، لكنه راح يبتسم محاولا مجاراتى فى الحديث ثم قال مرة ثانية : الأمور تجرى على ما يرام . ساعتها أدركت أنه ما زال حديث العهد بالوظيفة ، وأنه لم ينظر حوله ليعرف إن كان هناك آبار مردومة ، أم لا ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليقات (0)

الإسم

التعليق

تصغير | تكبير

أضف تعليق