عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
منكر ونكير صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الاثنين, 27 يوليو 2015 21:20

منكر ونكير


انصرف المشيعون . لم يلتفت إلى قبره سوى زوجته ، وابنه الصغير. أما ابنته ، فقد استندت إلى ذراع زوجها . وأسرعت أخته الكبرى لتلحق بموعد الطبيب . وتفرق أصدقائه الثلاثة بعد أن قال أحدهم : موعدنا اليوم بعد العزاء فى المقهى لنحيى ذكراه ، على طريقتنا الخاصة . وآخر من غادر المكان هو المقرئ الضرير . كان مبتسما لأنهم أرضوه بمبلغ كبير..


الآن فقط ، بدأ يستريح . منذ مات : لم يكن يدرك أن إجراءات دفنه سوف تطول إلى هذا الحد .. الصراخ ، المغسلون ، شراء الكفن ، شهادة الدفن ، دهشة أهل الحى ، وحزنهم على وفاته : عجيب ! عم إبراهيم الكواء الذى لم يكن يستلطفه قط بكى .. والمعلم زكريا صاحب الجراج ، الذى لم يركن سيارته لديه قط أطفأ سيجارته عند مرور النعش ، وظل صامتا وشفتاه تتحركان بآيات من القرآن الكريم . ومن يدرى ؟ ربما كانوا يفكرون فى أنفسهم . هو أيضًا ، لم يكن يفكر جديًا فى أنه ذات يوم قريب سيموت . ومع ذلك ، فقد كان منظر الجنازة يطرح عليه سؤالاً ملحًا : ماذا يحدث للميت وهو فى النعش ؟ هل يفقد الإحساس تمامًا ؟


سمع ذات يوم خطيب المسجد يلقى حديثًا بعد العصر عن عذاب القبر وضغطته ، ومنكر ونكير .. ويومها كاد يسأله عن الذين يموتون غرقًا أو احتراقًا .. لكنه صمت ، حتى لا يُحرج الشيخ . وقرر أن يقرأ فى هذا الموضوع بعض الكتب ، لكنه لم يفعل .. ما أكثر الأشياء التى كان يود أن يفعلها ! الآن فقط عرف كل شئ . ولا يمكن أن يقول بأنه كان سعيدًا تمامًا بتلك اللحظات التى قضاها فى النعش .. لقد ود لو وضعوه فى سيارة ، أو جرته عربة بحصانين .. الواقع أن اهتزازات الحاملين كانت تؤلمه ، ترجّه أحيانًا بعنف .. تفقده حلم الراحة الأبدية التى كان يتوق إليها منذ فارق الحياة. ومع ذلك فقد كان حريصَا على أن يظل متيقظًا طوال الوقت ، حتى يعيش تلك اللحظات التى تخيلها على ألف صورة من قبل . إنها الآن حقيقة : الجسد ، إنه يُحس به .. لم يفقده بعد .. حاول أن يحرك أصابع قدميه ، لكنه اصطدم بشدة الرباط : من قال إن النفس تغادر البدن ؟ جرّب مرة أن ينقلب على جنبه ، فكادت خشبة النعش تسقط من فوق الأكتاف : سمع من يقول بصوت عال : "لا حول ولا قوة إلا بالله "قرر أى يفعل ذلك مرة أخرى . كان الجو باردًا . حمد الله على أنه لم يمت فى الصيف : الشمس الحارقة ، والتراب الساخن ، والعرق ، ورائحة العفن .. ثم تبرم المشيّعين ! أما اليوم فالنسيم بارد ولذيذ ، ورائحة ورود وخضروات غير مرئية تنتشر فى أرجاء المدافن .. ولا شك أن الطقس قد انعكس أثره على وجوه الأهل والأصدقاء .. فغابت الكآبة منها ، وحل محلها قدر لا بأس به من الرضا والاستسلام .. وهو يعتقد أنه لولا مشاغلهم التى يعرفها جيدًا لظلوا إلى جواره أطول فترة ممكنة ، ومع ذلك فقد أحسنوا صنعًا بانصرافهم ..


الآن .. لا أحد . سوى صبى صغير يتبعه كلب كبير. اقتربا من القبر المرشوش بالماء ، انحنى الصبى على علبة سجائر فارغة ، بينما أسرع الكلب يتشمم الأرض . آه .. هزّ الكلب ذيله ، ودار حول شاهد القبر. كاد يبول عليه، لكن الصبى ابتعد ، فلحق به الكلب مسرعًا . الحمد لله . لم يفعلها.


لماذا لم يضعوا على القبر زهورًا .. لكن ماذا يهم ؟ القبر المجاور ذبلت وروده ، وبعضها يبس وتحول إلى هشيم كئيب . من يسكنه ؟ استولت عليه رغبه حادة فى التطفل .. حاول أن يفتح عينيه . لم يستطع . لكن منظر القبر تمثل له بالكامل : كانت هناك ثلاث جثث . أحدثها فى اليسار لامرأة فى الثلاثين .. ليست بها إصابات . ما سبب الوفاة إذن ؟ وفجأة وقف شعر رأسه حين شاهد دودة زرقاء فسفورية تقترب من رقبتها وتدخل من فتحة صغيرة . "هش" : صرخ لإبعادها . لكنه لم يسمع لكلمته صوتًا . والدودة لم تتوقف . نظر حوله . كان هناك هيكل عظمى بدون كفن . وبالتدريج راح يسقط عليه الضوء من ثقب صغير فى سقف القبر . شغله جدًا صوت ذرات التراب المتساقطة وهى تنهال على كفنه .. أى عمل هذا الذى يفسد ولما ينقض على إتمامه سوى لحظات ؟! هل ينسد من تلقاء نفسه ؟


كان فى حاجة شديدة إلى أن ينقطع عن العالم الخارجى ليبدأ رحلته الجديدة التى طالما تاق لمعرفة أسرارها المخبأة .. لكن الخوف عاوده فأفسد عليه لذة الاستمتاع بوحدته : كان أخشى ما يخشاه أن يمر كلب أو قط فتجذبه رائحة الرفات .. وبدأ يحسّ فعلاً بأنه ضعيف جدًا ولا حول له .. ولم يمض وقت طويل حتى أنسدّ الثقب ، وشمل القبر ظلام شامل وصمت مطبق .. عندئذ بدأ يحس بأن شيئًا سيحدث .. أحدًا يقترب .. وفجأة علا صهيل خيول مختلطًا برنين أجراس وصفارات إنذار ، ودخل رجلان " (طويل) و(أطول) : لكنهما يرتديان زيًا موحدًا : برنس مصنوع من كتان أبيض به خطوط زرقاء متعرجة. (الأطول) يمسك بعصا ذات مقبض أنيق ، و(الطويل) يتأبط ملفًا بأوراق ملونة ..


ومن العجيب أن وصولهما على هذا النحو لم يلق فى نفسه الفزع . بل على العكس ، أحسّ بارتياح من كان ينتظر ضيفًا ، ولكنه لا يعرف هويته . وبدا (الأطول) هادئًا ، ورزينًا ، وكأنه قاض عادل . أما (الطويل) ، فأكثر عصبية ونشاطًا .. قال الأطول ناظرًا ناحية الثقب :

- هذا السقف غير متين

- لكنه أمتن مما زرناه فى الصباح

- نعم .. لكنّ هنا ثقبًا ..

- ماذا نفعل فى إهمال الأقارب ؟

- حسنًا .. فلننظرْ فيما خلّف صاحبنا ؟


فتح الطويل ملف الأوراق الملونة ، وبحركة آلية استخرج عدة أوراق : خمسة أو ستة – وراح يقرأ : زوجة فى الخامسة والأربعين ، ابنة متزوجة فى العشرين ، ابن فى الثالثة عشرة ، وأخت كبرى تجاوزت الستين .استوعب (الأطول) ما قيل بانتباه شديد ، ثم سأل :

- وماذا عن والديه ؟

- ماتا منذ خمسة عشر عامًا .. الأب بعد الأم بشهرين .


بدأ يشعر بالخوف . كل المعلومات التى يتبادلانها دقيقة للغاية . والطويل يبدو كأنه على علم كامل بكل التفاصيل عن حياة العائلة ، وتساءل :

- هل يعرف عنّى نفس القدر ؟

وانتظر . توقع أن يسألاه : ما اسمك ؟ وما دينك ؟ لكنهما لم يفعلا .. ولماذا السؤال والملف الذى بأيديهما يحتوى على كل شئ . ظلا يتحدثان عن أفراد العائلة . وأدهشه أن يسمع عن ابنته بعض الأسرار التى لم تقلها له زوجته . وفجأة قال الأطول :

- حدثنا عن علاقته بجيرانه

- متحفظ .. لم يكن يهتم كثيرًا بما يحدث لهم !

ظهر الاشئمزاز بوضح على وجه الأطول ، فدب الخوف بصورة أكبر إلى قلبه .. واستمر الطويل :

- وضع لنفسه مبدأ وحاول تطبيقه : "لا يختلط كثيرًا بهم حتى لا تفسد علاقته معهم" .


ابتسم الأطول ، فتنفس الصعداء . علم أنه يقف فى صفه ، لولا تلك المنغصات . ود لو انتقل الطويل إلى نقطة أخرى ، وحلت عليه بكآبة صورة تلك العلاقة العابرة بزوجة أحد الجيران .. لكنه ذلك كان قبل أن يتزوج . كارثة لو تليت الآن . لكنه لم يكن البادئ . فقد تمت عملية إغوانه على نحو ماكر .. صحيح أنه كان يشتهيها ، لكنه لم يفعل أكثر من النظر ، والصمت .. ومن العجيب أنهما جاءا بنتيجة .. آه .. ليتنى ما استسلمت . لكنها هى التى مهدت كل شئ . كانت خبيرة ، ومحنكة : وكل ما حكته له عن مغامرات أخت زوجها مع عشيقها كانت تتوقع أن يفعله معها .. لكن : ألا يُحسب له أنه هو الذى قرر قطع العلاقة .. وغادر الحى كله مضحيًا بمزايا عديدة . اللعنة على تلك اللذة المحرمة . كانت خاطفة ، ومحاطة بأسلاك شائكة جعلته يزهد فيها .. "يزهد فيها" أم يخشى منها " آه .. هما الآن سواء.

وسمع الطويل يقول :

- وهنا علاقة بزوجة أحد الجيران !

انتبه الأطول سائلاً :

- كم كان عمره حينئذ ؟

- تسعة عشر عامًا .. ثم أضاف بتأكيد من يريد أن ينبه إلى حقيقة :

- بعد البلوغ بست سنوات !


هز الأول رأسه فعلم أنه ذنب لا يغتفر . ولأول مرة حاول أن يتدخل ليدافع عن نفسه ، ويقول إنها هى التى أغرته ، وأنه هو الذى قطع العلاقة .. وأنه كان بإمكانه الاستمرار .. لكنه وجدهما ينتقلان بسرعة إلى نقطة أخرى :

- وأقاربه ؟

سأل الأطول ، كما لو كان يريد أن يجمع بعض الأدلة لصالحه .


فى البداية ، كان أبر العائلة . كان يحرم نفسه ليسعد عمة ضريرة ، أو خالاً معوزًا .. تابع ابنة أخته برعايته المالية حتى أكملت تعليمها ، وساهم – إلى حد ما – فى زواجها .. لكنه بعد أن تزوج ، تحول إلى إنسان مختلف : ابتعد عن الأقارب ، واعتذر أحيانًا عن مقابلتهم . ولهذا فإن معظمهم لم يشهد جنازته . وقال البعض : "كلب وراح" !


طأطأ (الأطول) رأسه . لم يجد ما يجيب به. لعله كان يقارن بين الأدلة . اقترب منه . لمس صدره بطرف عصاه، فانسابت فى جسده قشعريرة وارتباك . تمنى لو كانت هناك مدفأة : كانت ليالى الشتاء هى أحب الأوقات إليه : يقضيها مع زوجته وطفليه . حتى بعد زواج ابنته كان يفضل أن يدعوها وزوجها إلى العشاء فى ليالى الشتاء . زوجها ولد مجامل جدًا ، وهذا ما كان يخيفه . ماذا سيفعل الآن معها فى غيابه ؟


عمومًا البنت شاطره ، وهى أذكى بكثير من أمها ..

سمع الأطول يسأل :

-وعلاقته بأبنائه ؟

-طيبة .. يعاملهما كأصدقاء .

-وزوجته ؟

آه .. هنا المأزق . حاول أن يقول لهما إن فترة انفصالى عنها طالت ثلاث سنوات ، لم يكن وراءها فى الحقيقة سوى الملل .

لكنه كان يدرك أنهما سيعرفان الحقيقة .. وأحس أنه غير قادر على الكلام ، فاستسلم للإصغاء .. ماذا يهم ؟

-إنها لم تغفر له قط علاقته بفتاة تصغره بعشرين عامًا..

اهتم الأطول ، وراح يخطو بهدوء حول جسده المسجّى ، وهو ينكت الأرض بعصاه الأنيقة ..


وتمثل له وجه (نشوى) بحيويته وشقاوته .. لولا رفض عمها الغبى لكانت قد أصبحت زوجته ، ولم تعتبر الآن خطيئة ثقيلة فى حسابه .. كانت أمها موافقة على الزواج ، لكن العم المتشنج أصر على الرفض : فارق بعشرين عامًا !! هى التى جعلته يأكل الآيس كريم فى الشارع ، ويركب دراجة فى القناطر ، ويصعد البرج لأول مرة فى حياته .. كانت متدفّقة ، والحياة معها أغنية سريعة الإيقاع ، لذيذة النغم .. لكن عمها لم يفهم سر اللقاء الذى جمعهما .. صحيح أنها كانت تفتقد حنان الأب لكنها كانت تشعره برجولته .. الجرح الذى فوق حاجبه كان من اصطدامه بباب الشقة التى عاشا بها أحلى ساعات عمره فى الإسكندرية .. غضبت فأسرع خلفها فارتطم ، فأسرعت لتضع رأسه فى حجرها ، وتضغط على الجرح بشفتيها .. كان ينظر فى وجهها فيشعر أن الدنيا قد ابتسمت له .. لكن السعادة لم تدم .. فقد جاء رفض العم ، وسعى الأسرة لإصلاح ذات البين مع زوجته .. وكان من المؤلم أن يتابع أخبار نشوى من بعيد ، وهى تقبل زوجًا أصغر منه ، ثم تنجب وتصبح أمًا جميلة ورزينة وأكثر هدوءًا ..

سأل الأطول :

-هل حضرت زوجته الجنازة !

-كانت تبكى بحرقة .. إنها تحبه بالفعل

نظر الأطول فى السقف . ثم قال :

-لقد انسدّ الثقب تمامًا !


لم يعقب الطويل بشئ ! لكنه أخرج ورقة فارغة تمامًا واستعد ليكتب فيها : يبدو أنه القرار .. لكن حسبكما ! فأنا لم أدافع عن نفسى .. هناك الكثير مما يمكن أن أقوله .. ولماذا تقتصران فقط على هذه الأمور ؟ أين النوايا الطيبة ، والمشاعر الإنسانية ، والأفكار البناءة ؟! أين المحاولات الجادة فى مجال العمل ، والإخلاص فيه ؟ !


وعندما وجدهما ينتهيان تمامًا من "حالته" حاول أن يصرخ ، يقول أى شئ .. لكنه أدرك هذه المرة أن جسده لا يستجيب له .. يبدو أنه فقد السيطرة تمامًا عليه .. وأحس باختناق وعطش ودخان كثيف يملأ جنبات القبر ..وراحت تقترب من سمعه ضجة عجلات قطار ، وصخور ضخمة تسقط فى بئر .. حاول أن ينظر فى الورقة الأخيرة لكن أجفانه لم تنفرج . تذكر الدود الذى يفرغ الجمجمة من اللحم .. ظلت الورقة فارغة ، والقلم الغليظ على أول سطر .. وزاد خوفه مختلطًا بالضيق والضجر، وكاد يقول لهما : اكتبا أى شئ ! وراح ينتابه الصداع .عجيب ! نفس الصداع الذى كان يحس به وهو حى : أى فرق إذن ؟! فى مثل تلك الحالة ، كانت قدرته على الاحتمال تتلاشى إلى الصفر .. كان يلقى بأى عمل فى يده ويسرع إلى المنزل ، مستلقيًا على وجهه ، دافنًا رأسه فى المخدة الناعمة .. وعلى الفور ، تسرع زوجته بعمل كوب من عصير الليمون فيخفف من حدته دون أن يقضى عليه تمامًا .. الإسبرين ، وكل المهدئات كانت ممنوعة بأمر الطبيب .. "اللعنة .. اتركانى الآن للحظات ، وعودًا بعد قليل.."


ظل القلم فى موضعه من أول السطر فى أعلى الورقة الفارغة ، ولون الورقة يتحول من الأزرق إلى الأحمر إلى الأصفر .. كما يحدث أحيانًا فى شاشة التليفزيون .. ما اسم فيلم الأوسكار هذا الأسبوع ؟ إنه يذكر أن فيه ممثلة يحبها ، لكنه واثق من أنه أضاع ساعات كثيرة أمام التليفزيون بدون جدوى .. هذا الجهاز لا يُعلم شيئًا .. مجرد تسلية فقط .. أبدًا .. إنه يشغل وقت الفراغ ، ويحول بين الإنسان ونفسه..


حاول أن يفتح عينه ليرى ما فى الورقة ، لكن عينه ظلت مغمضة ، ومع ذلك ، فهى تبصر ، وتذكر الآية : ( وكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) حسنًا .. إنه الآن يرى كل شئ بوضوح : يرى أمامه ، وخلفه ، وعن جانبيه .. لماذا يحس إذن بالحاجة إلى النهوض .. ظل مستسلمًا وبدأ الصداع يخف .. ليته كان يحفظ سورة "يس" حتى يقرأها الآن .. أليست "قلب القرآن" ؟ لم يقدر أن يستذكر سوى "الفاتحة" و "قل هو الله أحد" .. وتمنى لو كان أوصاهم بوضع مصحف إلى جواره .. كان من السهل أن يقرأ منه حتى وهو مغلق .. فى آخر لقاء مع (نشوى) أهدته مصحفًا أنيقًا ظل محتفظًا به إلى جوار سريره .. وعندما سألته زوجته قال إنه اشتراه .. لم يبدً أنها صدقت ، لكنها استحسنت وجوده إلى جواره .. كان يقرأ فيه أحيانا ولا يغلقه إلا عندما تشتد على مخيلته صورة (نشوى) . عجبا .. كيف تجتمع الدنيا والآخرة ؟


الرجلان لم يعد لهما ملامح . ذابا فى دخان أبيض ، ورويدًا رويدًا هدأت ضوضاء كانت صاخبة .. ولم يعد يسمع إلا صدى صلصلة أجراس بعيدة ، ونباح كلب متقطع .. الثقب فى أعلى القبر عاد من جديد يتسع .. ومن فترة لأخرى ، ينفذ منه شعاع حاد من أشعة شمس العصر .. يبدو أن التراب المبتل قد جف ، لأن الغبار راح يصيب أنفه وحلقه بجفاف شديد .. أحس بالحاجة إلى شربة ماء .. ونذكر (قربة) عم مسعود السقا بجوار السيدة زينب.. كانت شربة الماء لديه تعدل كل مرطبات الثلاجة .. وكثيرا ما أغضب زوجته بصراحته فى ذلك .. كانت تقول إن القربة متسخة ، والكيزان تلوثها العامة .. لكنه كان يحس لها بطعم خاص، ويسعده أن يشم فيها رائحة الزهر القوية ..


لماذا لم يسأله الرجلان عن الصلاة ؟ صحيح لم يؤدها بانتظام ، لكنه كان شديد الخشوع فيها. أما صلاة الجمعة فكانت ضرورية حتى يقطع الألسنة . وبالنسبة إلي الصوم فقليلا ما شرب فى نهار رمضان دون أن يخبر أحدا .. كان يتجه إلى الله فى صدق ، ويقول : "أنت وحدك الذى تعذرنى" .


فى العام الذى نوى فيه الحج ، وكان قادرا ، حل نظام "القرعة" .. لم يخرج اسمه ، ومتى خرج اسمه فى مسألة حظ .. عندئذ أدرك أن الحج ليس مكتوبا له . وحين عرض عليه أحد المعارف بوزارة الأوقاف أن يساعده فى هذا الموضوع كانت الرغبة فى السفر إلى مكة قد انطفأت .. وحل محلها زهد شامل فى كل شئ .. وبالمصادفة قرأ عن الحج الروحى : طواف الروح بالعرش والإنسان فى مكانه .. ويذكر أنه قرر أن يخوض تجربة صوفية ، لكنه لم يستطع أن يستمر فيها لأكثر من عدة أيام !

كان يعتقد دائما أنه إنسان صالح . لا يؤذى أحدا . ولا يحب أن يوذى أحد أمامه .. أضاع على نفسه كثيرا من الفرص ، لأنه ناصر الحق .. أو ما رجح أنه الحق..


كان دائما يعيش خارج بيئته . لم تشده قط مظاهر الترف المادى . وكثيرا ما نشبت بينه وبين زوجته خلافات حادة جول أثاث المنزل .. هى تقيم وزنا لاعتبارات الضيوف ، وهو يرى أن الضيوف تزور أهل المنزل ، وليس الأثاث .. لم يدرك أنه كان على خطأ إلا حينما استعد لاستقبال أهل خطيب ابنته .. كانوا يتفحصون كل شئ .. من السجاجيد حتى النجف : مظاهر فارغة، وناس سطحيون .. لقد ربى ابنته على احتقار الزيف ، وهى مثله صريحة .. بالأمس سمعها تتهامس مع أمها فى المطبخ .. أدرك على الفور أنها تشكو لها من زوجها : الولد طيب ، ولكنه عصبى قليلا .. لا يهم .. فهى التى اختارته ورضيت به .. لهذا فهو يتركها مطمئنا إلى أنها قادرة على حل مشكلاتها بنفسها .. أما ابنه فهو المشكلة .. لكن ماذا يهم الرسوب مرة أو مرتين .. هو نفسه رسب ، لكنه ما لبث أن استعاد توازنه ، وواصل النجاح حتى التخرج .


عاد صوت الطويل واضحا :

- ما تقترح أن نكتب ؟

أخرجه السؤال الحاسم من ماضيه : نسى أولاده وزوجته وكل المشاكل الماضية .. المهم الآن هى اللحظة الحاضرة .. إما إلى جنة وإما إلى نار !


وتذكر أنه سمع ذات يوم حديثا نبويا يقول إن رجلا فاسقا دخل الجنة لأنه سقى كلبا عطشانا كان مشرفا على الهلاك .. لكنه مع الأسف لم يلق مثل هذا الكلب طيلة حياته .. ومع أنه كان واعيا برمزية القصة فى الحث على عمل الخير .. إلا أنه لم يعثر فى ذاكرته على أى حادثة شبيهة بساقى الكلب!


تمنى فى تلك اللحظة بالذات لو أنه بدأ حياته من جديد .. إذن لصحح الكثير من أخطائه .. وتساءل : لماذا لا تتاح للإنسان فرصة أخرى؟


إنه لم يفعل شيئا يأباه ضميره. كما أنه لم يجبر نفسه على عمل لم يهيأ له سلفا .. كان يتقن كل عمل يسند إليه .. وعلى الرغم من لوم أسرته له بأنه لا يسعى للمغامرة .. فإنه كان يحسب النتائج ، ويرى أن الناجحين فى الحياة يصلون فى إحدى المراحل إلى نقطة قريبة من الفشل ! كان دائما يسأل : وماذا بعد النجاح ؟ فلا يجد إلا الوحدة ، والبرودة ، وغيرة الآخرين .. وكلها كانت تملأ نفسه بالخوف والإحجام .


من جديد سمع الأطول يقول :

- الواقع أن موقفه محير .. كفة السيئات أثقل . لكن هناك بعض الحسنات التى يمكن أن تؤخذ فى الاعتبار.


أحسن أنه ضاع .. هو الذى اعتقد أنه بنواياه الطيبة يستحق الجنة ، يفاجأ الآن بأنه يحاسب على الأعمال فقط .. لكن هذه الأعمال تصدر عادة عن دوافع ، وتحركها أهداف ، ويصحبها قصد ونية .. أليس لكل هذا اعتبار ؟!


اختلس النظر إلى وجه الأطول، فوجده أكثر تجهما وعبوسا، ومع ذلك فهو لا يشك في عدالته.. وانتهى به الأمر إلى حالة من الاستسلام الكامل : فليكن أى قرار!


واتضحت أمام عينيه أبعاد الورقة بالكامل : راح (الطويل) يحرك فوقها القلم الغليظ ، فترتسم تحته دوائر ومثلثات.. وهكذا كان يفعل فى اجتماعات مجلس الإدارة التى لم يكن يدلى فيها بأى رأى.. في أول اجتماع ظل مشدودا طوال الوقت، ولكنه مع كثرة الاجتماعات وتفاهة ما يدور فيها تعود أن يخطط فى الورقة التى أمامه دوائر ومثلثات .. وعندما شاهده جاره قال له :


- إن هذه الرسوم تدل على حالته النفسية..

لم يصدق فهى ليست أكثر من "نغبشة" لقضاء الوقت، والهروب من الملل.. وربما لمحاربة النعاس !

كان الرجلان ما زالا واقفين فى حالة من التردد.. وطال الوقت إلى حد أن قال لنفسه : أليس وراءهما أحد سواى؟! لكن الأطول رمقه بنظرة ذات معنى، أدرك منها أنه عرف ما يفكر فيه.. أحس بحرج شديد !


قال الطويل :

- نكتبه فى أدنى درجات الجنة، بعد أن يقضى جزاءه فى الجحيم؟!

- لكنه لا يدخل تماما فى تلك الطبقة..

- إذن نعلق حالته .. حتى الحشر؟

- يبدو أن هذا هو ما سأقرره بالفعل..

وانصرفا . .

 

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الاثنين, 27 يوليو 2015 21:22