عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
ثلاث نظريات فلسفية من مصر صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الاثنين, 22 يونيو 2015 23:46

ثلاث نظريات فلسفية من مصر

 


تقديـم :


فى النصف الثانى من القرن العشرين ، وعلى مدى ثمانى سنوات فقط، ظهرت فى مصر ثلاثة مؤلفات فلسفية لثلاثة من كبار المفكرين والأدباء ، قدّم كل منها نظرية متكاملة فى الفكر والحياة ، وارتبطت باسم صاحبها ، لأنها تستحق ذلك بالفعل ، وهى :


- نظرية التعادلية لتوفيق الحكيم 1955 .

- نظرية وحدة المعرفة لمحمد كامل حسين 1958 .

- نظرية الجوانية لعثمان أمين 1963 (1)


وقد كان المأمول أن تأخذ هذه النظريات الفلسفية الثلاث ، والتى ظهرت متعاقبة على هذا النحو ، اهتماما إيجابيا من دارسي الفلسفة والمثقفين عموما ، لكنها مع الأسف مرت مرورًا عابرا ، ولم يوقف عند بعضها أحيانا إلا لكى يجرى اتهامها بالاقتباس من نظرية فيلسوف أجنبى(2) ، بدلاً من محاولة العكوف على مضمونها ، وتحليل عناصرها ، والكشف عن أبعادها ، ومدى إمكانية تأثيرها فى المجتمع المصرى .


ذهبت النظريات الثلاث إذن إلى وادى النسيان ، وألقى عليها – مثل العديد من الأفكار اللامعة والرائدة والمفيدة فى حياتنا الثقافية – الكثير من الرمال ! ولم يبق لنا الآن إلا أن نفتش عنها ، ونستخرجها ، ونحاول أن نلقى عليها بعض الضوء الكاشف ، محاولين وضعها معًا فى إطار واحد ، لكى نثبت أن الفكر المصرى لم يخل تماما من العقول التى استطاعت أن تتخلص من ضجيج التفاصيل والأحداث الجزئية المحيطة بها والضاغطة عليها إلى آفاق المعنى الكلى للكون والحياة ، وأن تقدم لأمتها أولاً ، وللإنسانية ثانيا فكرًا مصريًا ينزع إلى التحليق فى أجواء المثالية الفلسفية ، دون أن يفقد جذوره فى أرض الواقع العملى .


إن ما أحاول أن أقوم به فى هذا البحث ليس إلا امتدادًا لفكرة سبق أن طرحتها فى بحث آخر بعنوان "نحو التأسيس فلسفة مصرية"(3) ، انتهيت فيه إلى قلة ، بل ندرة الأفكار الفلسفية الخالصة التى ظهرت فى مصر قديمًا وحديثًا، على الرغم من قيام تلك الحضارة الرائعة والراسخة المعالم على أرضها . وقد أسلمنى هذا البحث بعد ذلك إلى محاولة جديدة تماما لاستخلاص عناصر أصيلة للفلسفة المصرية من "الأمثال الشعبية"(4) التى ما يزال المصريون يرددون الكثير منها فى حياتهم اليومية ويعتبرونها ثوابت فى ثقافتهم وسلوكهم .


لقد كان لدى هؤلاء المفكرين الثلاثة (توفيق الحكيم ، ومحمد كامل حسين ، وعثمان أمين) من الجرأة والاعتداد بالنفس ما جعلهم ينشرون أفكارهم مؤكدين أنها نظريات فلسفية ، بينما كان هناك – وإلى جانبهم – العديد من المفكرين المصريين الذين اكتفوا بنثر آرائهم الفلسفية مبعثرة فى ثنايا مؤلفاتهم، أو ضمن التعليق على الدراسات والترجمات التى قاموا بها للنظريات والمذاهب الغربية حين عرضوها باستفاضة على مجتمعهم ، ومن أبرز هؤلاء : (عبد الرحمن بدوى ، وزكى نجيب محمود ، وفؤاد زكريا) وأستطيع أن أقرر بكل اطمئنان أن لدى كل من هؤلاء الثلاثة بالذات – كما لدى الكثير من أمثالهم – نظريات فلسفية خاصة بهم ، لكنهم أحجموا عن بلورتها وصياغتها فى الإطار الذى كانت تتطلبه . وهذا ما يفتح الباب واسعًا أمام دارسى الفلسفة فى مصر إلى التنقيب ، ومعاودة البحث فى إنتاج هؤلاء المفكرين لكى يستخلصوا لكل منهم نظريته الفلسفية .


سوف أتبع فى عرض هذه النظريات الثلاث منهج التحليل النقدى البسيط ، الذى يقوم أولاً على القراءة الفاحصة لكل منها ، ثم تقديمها بصورة مختصرة تركز على أهم الأفكار دون إهمال بعض التفاصيل والأمثلة التوضيحية ، وبعد الانتهاء من عرض كل نظرية ، أضع تقييما نقديا لها يتكون من مجموعة ملاحظات ، تظل بعد كل شىء وجهه نظر شخصية ، وفى ختام البحث توجد مجموعة من النتائج العامة التى تلقى الضوء على أهمية النظريات الثلاث والآفاق التى تفتحها أمامنا .


وبالطبع ، سوف يلاحظ القارئ أننا تركنا الجو التاريخى الذى ظهرت فيه هذه النظريات ، وعوامل التأثير والتأثر التى ترتبط بأصحابها وهذا هو جوهر المنهج التاريخى الذى نتركه لغيرنا من الباحثين ، الذين ربما يستهويهم الموضوع ، فيقبلون عليه مزيد من التفصيلات وال


1-نظرية التعادلية لتوفيق الحكيم

فى عام 1955 نشر توفيق الحكيم كتابًا صغير الحجم بعنوان "التعادلية" وجاء فى تقديمه له : "هذه الصفحات ليست سوى إجابة موجزة عن سؤال مهم، وجهه إلىّ قارئ جاد : ما هو مذهبك فى الحياة والفن ؟ وقد جعلت إجابتى للنشر ، لأنها تلقى ضوءًا على كتبى التى نشرت ، ثم هى بعد ذلك تحمل تحديدا لوضع يمكن وصفه بأنه مذهبى فى الحياة والفن"(5) ثم بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا ، أى فى 1983 ، أعاد نشر الكتاب ملحقا به : مقالا نقديا للدكتور زكى نجيب محمود (نشر فى مجلة الهلال فبراير 1968) وقسمًا آخر سماه : "الإسلام والتعادلية" يبلغ حوالى 70 صفحة .


ويفسر لنا توفيق الحكيم السبب فى إلحاق هذا القسم الثانى بالكتاب قائلا : "فى عام 1955 ، كتبت "التعادلية" لأوضح أن كل شىء فى الكون يقوم على التعادلية. ثم وصلت إلى عام 1982 فوجدت أن دينى ، وهو الإسلام ، وهو جزء من النظام الكونى ، قائم على التعادلية . ولذلك أضفت هذا القسم الخاص بالإسلام من وجهة النظر التعادلية ، ورأيت أن ما يمكن جعله أساسًا لفلسفة عربية إسلامية هو ما نشأ من عقيدتنا التى نقول للإنسان إن عليه أن يعيش فى عالمين : أى يعيش فى الدنيا كأنه يعيش أبدا ، ويعيش للآخرة كأنه يموت غدا . وهذا يقتضى من هذه الفلسفة أن ندرس الحياة الدنيا جيدا ، ونحاول أن تعرف ما نستطيع معرفته عن الحياة الآخرة . ولكننا مع الأسف لم نحاول دراسة الحياة الدنيا لتعايش الحياة الأخرى فى تعادل منتج ، فخشينا مواجهة قضايا العصر ، فتخلفنا عنه" (6) .


وهكذا يبدو بوضوح أننا أمام أديب – فيلسوف ، قصد قصدًا أن يبلور نظريته الخاصة فى الفن والحياة ، ثم ألحق بها تأملاته فى الإسلام ، الذى وجده فى أكثر من مجال يؤكد أفكار هذه النظرية ، ويدعم توجهاتها (7) .


وفى البداية ، يحاول توفيق الحكيم الإجابة عن السؤال الذى قد يبدو بسيطًا : "ما هو الإنسان؟" ثم يفترض تعريفه على النحو التالى : أنه المخلوق المعروف لنا جميعا الذى يعيش فوق هذه الكرة الأرضية . لكن هذه الإجابة تسلمنا بالضرورة إلى سؤال آخر : "ما هى الأرض؟" إنها كرة تعيش بالتوازن أو التعادل بينها وبين كرة أضخم وهى الشمس . فالتعادل إذن هو الصفة الأولى للأرض التى يعيش عليها الإنسان . وهذا الإنسان تستمر حياته الحسية بالتنفس، الذى هو تعادل ين الشهيق والزفير ، وحياته الروحية موزعة بين الفكر والشعور ، أو بعبارة أخرى بين العقل والقلب(8) .


وإذا كان العلم يتخصص فى دراسة الإنسان ومحاولة اكتشاف أسراره من الناحية الحسية ، فإن كلا من الأدب والفن يتجه إلى تفسير الإنسان من الناحية الروحية . لكن لا ينبغى أن يفهم من ذلك أن الأدب والفن ينكران الناحية الحسية ، بل إنهما يستفيدان من كل منجزات العلم وتراكماته التى تساعد على فهم الروح(9) .


ثم ينتقل توفيق الحكيم يعد ذلك إلى محاوله الإجابة عن سؤالين مهمين:

الأول : هل الإنسان وحده فى هذا الكون ؟

والثانى : هل الإنسان حر فى هذا الكون ؟


وهو يرى بحق أن الإجابة عن هذين السؤالين يترتب عليهما تحدبد تبعات الإنسان ، وتعيين مدى نشاطه ، ونتيجة كفاحه(10) .


أما العصر الحديث (فى الغرب طبعا) فقد أجاب بأن الإنسان وحده لا شريك له فى هذا الكون ، وأنه إله هذا الوجود ، وأنه حر تمام الحرية(11) وبذلك قضى على تعاليم الأديان ، وختم نفسه بطابع المادية . وهذا ما أحدث المأساة : أى انعدام التعادل بين الفكر الذى هو نتيجة العقل ، وبين الإيمان الذى هو نتيجة القلب . وكلما امتد نطاق العلم انحسرت دائرة الدين ، حتى أصبحت فى أقل نطاق ممكن . ومع ذلك ؛ هل استطاع العلم والفكر أن يحلا مشكلات لقلب ؟ كلا ، فقد زاد الاضطراب نتيجة اختلال التعادل . ويرى توفيق الحكيم متفائلا أن هذا الاختلال لابد أن يصحح نفسه على مدى الوقت (12) .


وبعد أن يشير توفيق الحكيم إلى آراء النقاد الغربيين الذين حاولوا استخلاص اتجاهه الفكرى والفلسفى ، يصرح هو نفسه قائلا : "أنا أحس بشعورى الداخلى أن الإنسان ليس وحده فى هذا الكون ، وهذا هو الإيمان . وليس من حق أحد أن يطلب إلى الإيمان تعليلا أو دليلا . فإما أن نشعر أولا نشعر . وليس للعقل هنا أن يتدخل ليثبت شيئًا . وإن أولئك الذين يلجأون إلى العقل ومنطقه ليثبت لهم الإيمان إنما يسيئون إلى الإيمان . فالإيمان لا برهان عليه من خارجه . إنى أومن بأنى لست وحدى لأنى أشعر بذلك . ولم أفقد إيمانى لأنى رجل متعادل .. ولكنى من جهة أخرى أفكر بعقلى ، لا لكى أدعم إيمانى بأنى لست وحدى ، بل لأعرض المسألة أمام تفكيرى بعيدًا عن الإيمان ، ثم يلخص قائلا : "فلنؤمن إذن بالقلب وحده .. تلك هى قوته . ولندع العقل يفكر فى مجاله وحده .. تلك هى قوته . وهذا التعادل بين القوتين يكفل سلامة الشخصية الإنسانية" (13) .


الإنسان إذن يعمل بالعقل والقلب ، ويوظف فى حياته كلا من نتائجهما وهما العلم والإيمان . والإنسان فى اتجاهه حر ، حتى تتدخل فى أمره قوى خارجية يسميها توفيق الحكيم القوى الإلهية . فحرية الإنسان إذن مقيدة ، شأنها شأن حرية الحركة فى المادة(14) .


والإنسان لكى يتقدم للأمام لابد له من نموذج . وهذا النموذج هو إدراكه للأرقى ، الذى يمثل لديه حافزًا للتطور .. وبدون هذا النموذج تضمحل قواه ، فيتحلل ويتلاشى . ويرى توفيق الحكيم أن العصور السابقة ، كانت سائرة على طريق التطور المتعادل للإنسان بين عقله وقلبه ، حتى جاء العصر الحديث ، فأحدث ذلك الخلل الهائل فى ميزان التعادل عندما أعلى العقل على القلب ، ورفع العلم كثيرا فوق الإيمان ! (15) .


والإنسان خلق حرا ، يتكيف عمله ويتحدد اتجاهه تبعًا لظروف اتصاله بالحياة ، ومهما يكن من أمر القوى الأخرى التى تؤثر فى إرادته ، فإن هذا التأثير لا ينفى عنه صفة الإرادة الحرة فى كثير من أوضاعها(16) ولكى يوضح توفيق الحكيم حرية الإنسان يقارنها بحرية النمل أو النحل ، الذى خلق منذ البداية ولديه "معرفة متحجرة" أى غريزة مهنية ثابتة ، يستطيع بها أن يبنى عشا، وأن يكون مملكه منظمة، دون أن يتمكن من تطوير نظامها أو حتى إفساده ! إنه خلق بهذه المعرفة وسيظل أسيرًا لها حتى الموت ، وذلك بخلاف الإنسان الذى يبدأ مجردًا من المعرفة والمهارة والإبداع ثم يحصل عليها بجهده، وينوعها برغبته وقدراته المتنوعة(17) .


وبالنسبة إلى مسئولية الإنسان التى يتحملها نتيجة منحه تلك الحرية المقيدة أو المحدودة ، يمكن الحديث عن الخير والشر . وهما يمثلان الموجب والسالب فى كهرباء العلاقات البشرية . ولا يوجدان إلا بوجود المجتمع . فالخير هو الفعل الإرادى الذى يؤدى إلى نفع الغير ، والشر هو الفعل الإرادى الذى يؤدى إلى ضرر الغير . ومعنى هذا أنهما لا يوجدان بوجود "الغير" (18) يقول توفيق الحكيم : "فى رأيى أن الشر والخير كالليل والنهار يتعادلان ، ولا ندرى أيهما أسبق . وقد يكون الشر هو الأصل فى الإنسان . لأنه متصل بالوعى الأساسى للإنسان ، وهو الشعور بالذات ، وحب الذات" (19) .


أما عقاب الشر ، الذى جرت عليه المجتمعات ، بالحبس أو السجن ، فيعارضه توفيق الحكيم على نحو مبتكر ، إذْ يرى أن وضع الشرير فى السجن يزيده شرا ، ثم يخرجه منه أشد حقدا وكراهية وانتقاما من المجتمع الذى حرمه حريته خلال فترة سجنه . أما الحل الأمثل لديه ، فهو مجازاة الشخص الذى يلحق شرا بالمجتمع بإلزامه لعمل خير معادل له ، وهكذا بدلاً من التوسع فى بناء السجون نبنى المصانع التى يمكن أن ينتج فيها مرتكبو الشر ما ينفع المجتمع لقاء فعلتهم الضارة . لكنه يستثنى عقوبة الإعدام فى جزاء القتل العمد. لأن القصاص هنا تعادلية ، كما أن مقابلة الشر بعمل الخير فى المصانع وليس فى السجون تعادلية (20) .


إن وجود الخير والشر فى الإنسان يؤدى إلى وجود الضمير . ويعرفه توفيق الحكيم بأنه : شعور الذات بشر ، لحق بالغير ، لم يقدَّم عنه حساب(21) وهذا الشعور يسمى فى عرف الأخلاق بالعدل . والعدل هو المظهر الأخلاقى للتعادل . وكما يوجد الضمير عند الفرد يوجد عند المجتمع ، حين يشعر بأنه إلحق الضرر بإحدى طوائفة، أو بمجتمع آخر(22) .


أما فى مجال السياسة والاقتصاد فإن المعادل للضمير هى القوانين الآلية التى تعمل من تلقاء نفسها ، كما تعمل قوانين الغريزة فى محيط الحيوان والنبات . فقلما حدث فى تاريخ الأمم أن انفردت – طويلاً – دولة واحدة بالقوة فى العالم . وإذا لم تظهر قوة أخرى تغالبها انقسمت هى نفسها إلى قسمين متنافسين يغالب أحدهما الآخر (مثال : الدولة الرومانية) . وفى السياسة الداخلية لابد أيضا من توازن ، أى تعادل بين قوة الحاكم وقوة المحكوم ، من خلال رجال الدين أو رجال الفكر ثم ثورة الشعب فى النهاية(23) .


وفى الاقتصاد ، لابد أن يكون هناك توازن أى تعادل بين العرض والطلب ، وبين الصادرات والواردات ، وبين الإيرادات والمصروفات . ونحن نلاحظ أنه عندما يحدث الخلل فى جانب يسود الاضطراب ، وتتدهور الأحوال. وهكذا فإن كل فعل فى محيطة له رد فعل . وما رد الفعل هذا سوى آلة التعادل للفعل إذا أسرف وجار واختل توازنه ، وجاوز حدوده(24) .


لكن توفيق الحكيم يعود فيفصل الحديث فى التعادلية بين رجال الحكم ورجال الفكر ، الذين حلّوا فى العصر الحديث محل رجال الدين ، الذين كانوا يوجهون الحكام ويعارضونهم أحيانا فى العصور القديمة ، لكنهم ما لبثوا تحت إغراء الترغيب وضغط الترهيب أن خضعوا لسلطانهم ، وأصبحوا أداة طيعة فى أيديهم . إن الحكام فى تصور التعادلية هم الذين يمثلون قوة الفعل التى ينبغى أن تقابلها وتقاومها قوة الفكر : "قوة العمل التى تمثل التنفيذ تخشى وتكره دائمًا قوة الفكر التى تمثل النقد والتوجيه"(25) ولذلك فإن الحكام فى العصر الحديث يقومون بتكرار نفس الأسلوب الذى استخدموه قديما مع رجال الدين ، وهو سلاح الترغيب والترهيب مع رجال الفكر ، أى المعارضين لهم . ويرى توفيق الحكيم عدم إمكانية اندماج قوتى الفعل والتفكير فى قوة واحدة ، بل إنه يؤكد أن ذلك مستحيل(26) .


وأخيرًا يلخص توفيق الحكيم مبادئ التعادلية فى الخمسة التالية:

أولاً : أنت تعادلى إذا كنت تعتقد أن الوجود هو التعادل مع الغير . والوجود التعادلى يتلخص فى هذه العبارة : "بغير الغير لا يوجد وجود" .

ثانيًا : أنت تعادلى إذا كنت تعتقد أن الفكر ينبغى أن يكون معادلاً للعمل ، وأن مسئولية الفكر هى فى حريته واستقلاله تجاه العمل .

ثالثًا : أنت تعادلى إذا اعتقدت أن الخير والشر وضعان للإنسان ، وهما يتعادلان ، ومن هنا فإن جزاء الشر ينبغى أن يكون عمل خير يعادل ما ارتكب من شر .

رابعًا : أنت تعادلى إذا كنت تعتقد أن العقل بمنطقه وشكه يجب أن يعادل ويوازن القلب بشعوره وإيمانه . أى أن الشك يمكن أن يعيش مستقلا موازيا للإيمان .

خامسًا : أنت تعادلى إذا كنت ترى أن العمل الأدبى أو الفنى يجب أن يقوم على التعادل والتوازن بين قوة التعبير وقوة التفسير(27) .


ثم يعود توفيق الحكيم فيحدد "جوهر التعادلية فى ضرورة عدم أخذها بالمعنى اللغوى الذى يفيد التساوى ، ولا بمعنى الاعتدال أو التوسط فى الأمور، وإنما بمعنى التعادل الذى هو التقابل ، بحيث أن القوة المعادلة هنا معناها القوة المقابلة والمناهضة. يقول : "والتعادلية فى هذا الكتاب هى الحركة المقابلة والمناهضة لحركة أخرى" ويفسر ذلك أكثر بقوله : "التعادلية هى فلسفة القوة المقابلة ، والحركة المقاومة للابتلاعية" ! (28)


إلى هنا ينتهى القسم الأول من كتاب التعادلية الذى نشره توفيق الحكيم سنة 1955 ، وكان بذلك أول مفكر مصرى ينشر نظرية فلسفية خاصة به . أما القسم الثانى الذى أضافه سنة 1983 عن "الإسلام والتعادلية" فهو عبارة عن مجموعة ملاحظات وخواطر وتأملات حول ما ورد فى تعاليم الإسلام مرتبطًا بنظريته عن التعادلية . والواقع أن صاحب النظرية نفسه يغنينا عن تلخيصها ، لأنه هو نفسه قام بهذا التلخيص فى النقاط الآتية :

أولاً : تعادلية الكون للمحافظة على كل ما أوجده الخالق . فلا طغيان لموجود على موجود . وقد أوصى الله فى قرآنه بعدم الغلو والإسراف ، وبالعدل لعدم الإخلال بالتعادل الضرورى لتوازن عناصر البقاء : من أضخم الكواكب إلى أصغر الخلايا .


ثانيًا : الله لا يلغى وجود ما أوجده ، ولكن يغير صفة الوجود . وما نسميه الموت ليس إلغاء الوجود ، بل تغيير صفته ، ونقله من وجود دنيوى إلى وجود أخروى .


ثالثًا : الإسلام صالح لكل زمان ومكان . والمقصود أن تفسير القرآن ليس واحدا ، بل إنه متعدد بتعدد الزمان والمكان . فالنص واحد والتفسير متعدد . ولكل زمان دولة ورجال وتفسير ! والكون متحرك فى الزمان والمكان ، وكذلك الإسلام . والإنسان متحرك فى مراحل العمر ، لا جمود ولا وقوف فى زمن واحد أو وضع ثابت . الله وحدة الثابت . وفى الإنسان شىء ثابت ، وهو المتصل بالله . أما المتصل بالدنيا فهو القابل للتغيير مثلها .


رابعًا : بشرية الإسلام : أكد القرآن على أن نبى الإسلام بشر يوحى إليه . فهو إذن محكوم ببشريته إلا فيما ينزل به وحى ، فهو محكوم بألوهية التنزيل.


خامسًا : حرية البشر : ترك الإسلام للإنسان حرية الرأى والتصرف فيما يراه نافعًا له ولمجتمعه ، وتبعًا لحسن استخدام عقله الذى خلقه الله له ، وحثه على استعماله ليدرك به عظمة الخالق فى خلقه ، ويتابع به حركة الدنيا فى الدنيا ، ويبعد عنه الجمود الذى يؤدى إلى ضعف نشاطه الفكرى ، فلا يقوى على تغيير ما ينفسه حتى يساعده الله على ما منه خيره ، مصدقا لما قاله ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ( . إذن تغيير المجتمع والإنسان وبناء الأمة فى وجودها على الأرض ، ووجودها فى السماء ، ورسم الطريق إلى الوجودين هو واجب الفلسفة الإسلامية(29) .


ملاحظاتى على النظرية :

أولاً : تعبر نظرية التعادلية عن فكرة أصيلة لدى توفيق الحكيم ، لم ينشئها إنشاء ، وإنما قام باستخلاصها من مجموع أعماله الأدبية والفكرية التى سبق أن كتبها ونشرها(30) ، لكنه ما لبث أن توسع فيها ، وبسطها على كل ما حوله من مجالات الحياة ، وبذلك خرجت عن حدود الإجابة على سؤال أحد القراء ، لتصبح نظرية فلسفية متكاملة الأركان .


ثانيًا : قيام النظرية على التعادل بين الثنائيات الموجودة فى الكون والحياة يعد امتدادًا طبيعيا لاتجاه عام يسود الفكر المصرى ، بدءًا من تصورات الحضارة المصرية القديمة ، واعتمادًا على ما أكدته الأديان السماوية التى استقرت فى مصر (المسيحية والإسلام) والتى تقرر أهمية التعادل بين الدنيا والآخرة ، والحياة والموت ، والجسد والروح .. إلخ .


ثالثًا : أن توفيق الحكيم لا يتعامل مع فكرة التعادل بين تلك الثنائيات بصورة استاتيكية، وإنما يعتبرها نوعًا من تدافع القوى الدينامية غى العالم : فالشر لابد أن يقاومه الخير ، والظلم لابد أن يواجه بالعدل ، والعمل ينبغى أن تستمر مكافحته بالفكر .


رابعًا : نظرية التعادلية من المنابع الفكرية المنتجة ، أى التى تخرج منها وتتناسل أفكار أخرى مفيدة ، ومن ذلك مثلا ما قدمه توفيق الحكيم عن عقوبة الشر بعمل الخير ، بدلاً من حبس أو سجن مرتكبه ، الأمر الذى يزيده شرا وانتقاما من المجتمع .


خامسًا : حاول توفيق الحكيم أن تبرز فكرة سياسية واجتماعية هامة للغاية فى مجال تعادل العمل والفكر ، وضرورة أن ينأى أهل الفكر بأنفسهم عن الانخراط أو الوقوع فى شبكة العمل التى تحولهم من مفكرين – منتقدين ومصححين للأوضاع ، إلى مجرد أتباع ومبررين أو منافقين !


وأخيرًا : فإن إضافة القسم الخاص بالإسلام إلى نظرية التعادلية بعد ما يقرب من ثلاثين عاما على ظهورها – جاء شارحًا لها ومؤيدًا لكثير من عناصرها . ولعله أراد أن يدعم "نظريته الفكرية الخالصة" بطابع دينى يلقى استجابة من الجمهور . ومع ذلك فإن النظرية فى حد ذاتها لا تخرج عن النطاق الإسلامى فى مجملها ، وحتى فى تفاصيلها ، بالإضافة إلى أنها صادرة أساسًا من مفكر وأديب مسل


2-نظرية وحدة المعرفة لمحمد كامل حسين :

نشر الدكتور محمد كامل حسين الكتاب الذى يتضمن نظرية "وحدة المعرفة" فى عام 1958 ، أى بعد ثلاث سنوات فقط من ظهور تعادلية توفيق الحكيم . وإذا كان الرجل من أكبر أطباء العظام فى مصر ، فإنه كان يتميز أيضا بمواهب متعددة : فكرية وأدبية(31) إلى جانب رؤيته التى يمكن أن نصنفها فى إطار فلسفة العلوم epistemologie .


تقوم نظرية وحدة المعرفة على فكرة بسيطة ، تتلخص فيما يلى :

- فى الكون نظام .

- فى العقل نظام .

- والمعرفة هى مطابقة هذين النظامين .

- والنظامان من معدن واحد .

- والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه .

- ولو لم يكونا متشابهن لاستحالت المعرفة .

- ولو لم تكن المطابقة بينهما ممكنه ما علم أحد شيئًا .

ويؤكد صاحب النظرية أن تشابه النظامين الكونى والعقلى ليس فرضا يحتاج إلى برهان ، بل هو جوهر إمكان المعرفة . ومن أنكره فقد أنكر المعرفة نفسها(32) .


والسؤال الآن : إذا كان النظام الكونى ثابتا مستقرا منظما ، فلماذا لم تسايره المعرفة الإنسانية بحيث تكون هى الأخرى ثابتة مستقره منظمة ؟ والملاحظ أن هذه المعرفة ما زالت مضطربة مفككة وفيها شوائب كثيرة . فمن أين أتى ذلك ؟ لأسباب ثلاثة :

1- أنه لم يقدر للعقل الإنسان ، حين أخذ بالبحث فى أسرار الكون ، أن يبدأ من حيث كان يجب البدء ،

2- ولم يقدر لعلمه أن ينمو نموا طبيعيا ،

3- ولم يقدر له أن يلم بأشتات هذا العلم فيراه جملة واحدة ، بدلاً من أن يتشتت فى تفصيلاته .

تلك هى أبرز عيوب الفكر البشرى عبر تاريخه الطويل(33) .


إن الترتيب الطبيعى للقوانين الكونية ، كما يقرر محمد كامل حسين ، يبدأ بأبسطها وأعمها وأدناها ، وهى قوانين المادة ، تتلوها قوانين الحياة ، ثم تأتى أرقاها وأكثرها تعقيدا وهى قوانين الإنسان . ومشكلة العقل البشرى تكمن فى أنه بدأ بالإنسانيات ، ثم أتبعها بقوانين الحياة ، وأخيرًا المادة .. أى أنه قلب الهرم رأسًا على عقب ، ومن هنا كان الاضطراب الذى حدث فى المعرفة البشرية(34) .


وبيان ذلك يرجع إلى أن الكشف عن قوانين المادة يحتاج إلى أجهزة دقيقة معقدة ، وهذه لم تكن فى متناول الإنسان ، فى حين أن الإنسانيات كان أمرها سهلاً ، لأنها تعتمد على التفكير العقلى الخالص . وهكذا بدأ البحث فيها لسهولته ، واستطاع الإنسان أن يصل إلى اختراع علم المنطق الذى يميز بين صواب المقولات العقلية من خطأها ، بينما ظل الواقع ، الذى تدرسه علوم المادة والحياة ، بعيدًا عن هذا العلم ، وغير خاضع لمعاييره .


وهناك عيوب ثلاثة رافقت نظام المعرفة منذ البداية حتى وقتنا الحاضر:

العيب الأول : استقلال كل مجال من مجالات المعرفة بنظمه وقوانينه .

العيب الثانى : البدء بأواخر العلوم بدلاً من أولاها .

العيب الثالث : اختلاف النمو فى مجالات المعرفة . فبينما تراكمت نتائج الإنسانيات خلال عشرات القرون ، لم تصبح علوم الحياة مقرره إلا فى القرن التاسع عشر ، ولم يتبين العلماء الأسس الثابتة للطبيعيات إلا فى القرن العشرين.


وهكذا فإن تصحيح الوضع يتطلب إعادة الهرم بحيث نبدأ بقاعدته : علوم الطبيعة والمادة ، ثم نقيم على نتائجها علوم الحياة والبيولوجيا ، لكى ننتهى أخيرًا بالإنسانيات ، مستفيدين فى نفس الوقت من كل النتائج العلمية السابقة فى المجالين الأول والثانى(35) .


يقول محمد كامل حسين : "وعلى ذلك فإن مدار البحث فى هذه الرسالة لن يكون إيجاد حقيقة علمية جديدة ، أو قوانين جديدة ، أو مذهبا جديدا ، بل ستكون غايته : الجمع بين فروع المعرفة جميعا يبين لنا الصورة الكاملة للمعرفة كلها . عند ذلك نتبين وحدة التفكير ، ووحدة النظم الكونية ، ويكون علينا ، إذا اتسعت لنا الصورة كاملة ، أن نسقط من المعرفة كل ما لا يتفق مع هذه الصورة"(36) .


ولكى تكون صورة كاملة للمعرفة ، لابد أن نبحث فى طبيعة جهاز التفكير ، وهو العقل . وتكفى الإشارة هنا إلى خصائصه الثلاث الآتية :

- أنه لا يقبل الفوضى

- أنه لا يحتمل الفراغ .

- أنه ينزع إلى تجسيد المعنويات(37) .


وبالنسبة إلى مذاهب التفكير الكبرى التى سادت فى العالم ، فإن محمد كامل حسين يحددها فى اثنين رئيسيين :

الأول : خرافى علمى يهدف إلى ربط الأشياء ، وكشف العلاقات السببية بينها ، ويهتم بالجزئيات .

والثانى : فلسفى دينى يركز على الغايات ، ونظرته أكثر شمولاً ، ولا يهتم كثيرًا بالتفاصيل(38) .


أما الجمع بين الخرافة والعلم فى مذهب أو اتجاه واحد ، فإن صاحب النظرية يرى أن الخرافات : أول العلم ، بمعنى أن الخرافة نظرية لم تثبت ، والعلم خرافات ثبتت أصولها ، واطردت نتائجها إلى حد ما . ومما يلاحظ هنا أن جهاز التفكير ، العقل ، لا يؤثر فى حقائق الأمور نفسها ، بل إن دوره ينحصر فى محاولة الفهم ، واستقبال ما يقرره الواقع من قوانين ، ثم القيام بالبرهنة عليها وتصنيفها فى مكانها المناسب من نظام المعرفة العام .


أن السعى إلى إقامة نظام جديد للمعرفة يتطلب بالضرورة هدمًا لقواعد النظام القديم ، الذى يحتوى على أخطاء رئيسية ، يحددها محمد كامل حسين فى الأربعة التالية :

1- فكرة الغائية .

2- التفكير الثنائى .

3- مفهومنا للزمن .

4- تصورنا للحقيقة والسببية .

وبعد أن يبين مدى الخلل فى هذه القوانين القائمة ، والتى سيطرت على الفكر الإنسانى منذ بدأ حتى الآن(39) ، يحاول أن يقيم النظام الجديد للمعرفة على عدة أسس أهمها :


نظرية تفاضل القوانين (هيرارشية القوانين)(40) . وهو يؤكد أن هذه النظرية ليست قابلة للصواب والخطأ (كذا) لأنها مستمدة من القوانين الطبيعية التى ثبت صدقها ، والتى يعد دليل صدقها أو صوابها مطابقتها للواقع ، وبرهان ثبوتها إمكان حساب نتائجها رياضيا ، والتى لا استثناء فيها . وتقوم النظرية على سبعة قواعد هى:


القاعدة الأولى : الأشياء وقوانينها شئ واحد ، لا وجود لأحدها دون الآخر . الأشياء هى التى تجسم القوانين ، والقوانين هى التى توجد الأشياء .

القاعدة الثانية : إذا كان قانونان لا يعمل أحدهما إلا فيما سبق أن عمل فيه الآخر كان أولهما أعلى من الثانى . القوانين الأعلى أكثر تعقيدًا من الأدنى .

القاعدة الثالثة : القانون الأعلى لا يتعدى عمله الأشياء التى هو مهيأ لها ، ولا أثر له فى تغيير عمل القانون الأدنى .

القاعدة الرابعة : يعمل القانون الأعلى فى "تاريخ حياة" ما هو أدنى منه دون أن يغير من قوانين هذا الذى هو أدنى . وهذا الأثر الذى يحدثه القانون الأعلى فى حياة ما هو أدنى هو القضاء والقدر .

القاعدة الخامسة : يستطيع الشىء الأدنى أن يعرف وجود ما هو أعلى ، ولكنه لا يعرف من صفاته وخواصه إلا ما يتعلق بقانونه الأدنى ، ومن المستحيل عليه أن يعرف كنه ما هو أعلى منه من القوانين والأشياء .

القاعدة السادسة : فى كل طبقة من القوانين وبين الطبقات المختلفة تدرج يجعلها منظمة تنظيمًا تكون فيه الأشياء والقوانين الدنيا أعم وأبسط وأثبت من العليا التى تزداد فى رقيها تخصيصًا وتعقيدًا وقلقًا .

القاعدة السابعة : كل شىء وقانون ينظر إلى ما هو أعلى منه على أنه إله قادر قاهر لا يسأل عما يفعل ، ولا تفهم حكمته التى لا يمكن استنتاجها طبيعيا من قوانين هذا الذى هو أدنى(41) .


ومن خلال محاولة محمد كامل حسين تطبيق هذه القواعد على النظام الكونى الذى يبدأ من البروتون والالكترون – أصغر جزء فى المادة – مرورا بمركبات الجماد ، والنبات والحيوان ، وانتهاء بأكثرها تعقيدًا وهو الإنسان .. الذى يمثل العضو العصبى (المخ) أكثر أجهزته تعقيدًا ، ويحتوى على كل من الذاكرة والعقل ، وبالتالى يقدر على إدراك المعنويات ، وهى ثلاثة : العلم، والجمال ، والفضائل . إذا كان الجمال حسيا ، فإن الفضائل جمال عقلى (42)


وباعتبار د.محمد كامل حسين مفكرا مصريا ومؤمنا ، فإنه يسعى بكل الوسائل لكى يضع الإيمان فى مكانه من هذا التصنيف الكونى والمعرفة ، ولذلك يتحدث عن تصور الإنسان لله تعالى فيقول : "الله بالنسبة للإنسان : كالإنسان بالنسبة للنحلة مثلا حين يهىء لها الإنسان الراحة والغذاء ويعفيها من جهد صنع الشمع . كل ذلك عن علم وقدرة وفهم وإرادة . فهى تعلم بوجود شىء عال قادر مريد دون أن تستطيع تصور الإنسان ، كذلك الإنسان يدرك وجود ذات علية عالمة قادرة مريدة تعمل فى حياته ، ولكنه لا يستطيع أن يتصورها على حقيقتها(43) .


ويقول أيضًا : كل ما يستطيع أن يعلمه الإنسان عن الله هو وجوده وأن بيده القضاء والقدر . وكل محاولة يبذلها لمعرفة كنهه ، سبحانه وتعالى ، محكوم عليها بالإخفاق حتما . أما وجود الله فثابت ... ووجود القضاء والقدر دليل على وجود قوة عليا وقانون أرقى منا فهما بذلك . وبالنسبة للحرية الإنسانية فى ظل الإيمان بالقضاء والقدر ، فإن كل شىء حر فى عمل ما يريد فى دائرة حدود القوانين الخاصة به . ولا تعارض بين هذا وبين السببية(44) . والملاحظ هنا أن الدكتور محمد حسين كامل يلجأ إلى الدين ، وبخاصة الإسلام، لكى يستمد منه بعض الأدلة التى أوردها لتأكيد وجود الله تعالى وحفظه لكل ما فى السماوات والأرض ، وتسخيره للإنسان . أما باقى ملاحظاتى على النظرية فتتلخص فيما يلى :


أولاً : أن كتاب وحدة المعرفة لمحمد كامل حسين محاولة فكرية جريئة فى مجال المنهج Méthodologie ، وأكاد أذهب إلى أنها تشبه من وجوه كثيرة المحاولة التى سبق أن قام بها ديكارت (ت 1650) فى كتابه الشهير "مقال فى المنهج" والذى كان له تأثير كبير فى اتجاه الفكر الحديث ، وخروجه من عباءة المنطق الأرسطى الذى سيطر على العقل الإنسانى لما يزيد عن ألفى عام .


ثانيًا : يسعى صاحب النظرية إلى هدم القواعد التى يقوم عليها النظام الفكرى التقليدى ، وإحلال نظام جديد للمعرفة ، يقوم على فكرة تدرج القوانين ، التى يرى أنها فكرة علمية خالصة ، تفسر بصورة موضوعية الظواهر الطبيعية والحياتية، بعيدًا عن افتراضات وتهويمات العقل الإنسانى القابلة فى الغالب للصواب والخطأ .


ثالثًا : يغلب على النظرية التفسير العلمى باعتبار تخصص صاحبها، وهو يذهب فى تحليلاته أحيانًا إلى إغفال دور الدين الذى يجيب بوضوح على كثير من الأفكار التى رفضها صاحب النظرية ، ومن أبرزها فكرة الغائية .


رابعًا : يجمع صاحب النظرية بين التفكير الفلسفى والدين فى اتجاه واحد ، وقد أداه ذلك إلى الوقوع فى صدام مع بعض الحقائق التى يقررها الدين .


خامسًا : ترجمة محمد كامل حسين لمصطلح (هيرارشبة القوانين) بـ (تفاضل القوانين) فى رأيى ليس دقيقًا ، والأدق منه مصطلح (تدرج القوانين) لأن المصطلح الأجنبى يدل على الترتيب أكثر مما يدل على الأفضلية .


وأخيرًا : انشغل الوسط الثقافى بالحوار العنيف والساخر أيضا الذى جرى بين العقاد وزكى نجيب محمود من ناحية ، وبين صاحب نظرية وحدة المعرفة من ناحية أخرى . وقد تركز حول : هل الكتاب مقتبس أو حتى مسروق من فكرة الفيلسوف الإنجليزى الكسندر صمويل أم أنه من أفكار محمد كامل حسين نفسه ؟ وقد أدى هذا الحوار إلى إبعاد الدارسين عن الكتاب ، وعن الفكرة الهامة التى وردت فيه، وعن النظرية التى قام ببلورتها فى أسلوب واضح ، وبأدلة مقنعة فى أغلب الأحيان .


3-نظرية الجوانية لعثمان أمين :

نشر الدكتور عثمان أمين كتابه بعنوان "الجوانية : أصول عقيدة وفلسفة ثورة" فى عام 1963 ، أى بعد ظهور "وحدة المعرفة" لمحمد كامل حسين بخمس سنوات ، ويعد أكبر المؤلفات الثلاثة التى نعرضها هنا حجما ، حيث يبلغ 340 صفحة من القطع الكبير ، خصص الباب الأول منه (أكثر من مائة صفحة) للحديث عن نشأته ، والجو العائلى الذى عاشه ، وفترة شبابه التى كان يلاحظ فيها الناس والأحداث فى مصر ، خلال تلك الفترة ، وكذلك القراءات التى أثرت فى ثقافته، والأساتذة والأعلام الذين التقى بهم أو قرأ لهم ، وكان لهم أثر واضح فى تكوينه العلمى .


وعلى الرغم من أن كثيرًا من عناصر الجوانيه ، كما يراها عثمان أمين، قد وردت فى هذا الباب إلا أنه يخصص الباب الثانى للإجابة على سؤال مباشر هو : ما الجوانية ؟ وهذا ما يهمنا بالدرجة الأولى فى هذا البحث .


يقول عثمان أمين : الجوانية عندى "فلسفة" ، وخير من هذا "طريقة فى التفلسف" ، ولا أقول "مذهب" : لأن المذهب شأنه أن يكون مغلقا قد رسمت حدوده مرة واحدة ، وحبست تأملاته فى نطاق معين ، بل هى تفلسف مفتوح على النفس وعلى الدنيا ، متعرض لنفحات السماء فى كل لحظة ، وطريق مبسوط أمام الوعى ينتظر السالكين إلى يوم الدين" (45) .


ومع ذلك فإنه يعود فيقول : فالجوانية إذن فلسفة تحاول أن ترى الأشخاص والأشياء رؤية روحية بمعنى أن تنظر إلى المخبر ولا تقف عند المظهر ، وأن تلتمس الباطن دون أن تقنع بالظاهر ، وأن تبحث عن الداخل بعد ملاحظة الخارج ، وأن تلتفت إلى المعنى وإلى الكيف وإلى القيمة وإلى الماهية وإلى الروح من وراء اللفظ والكم والمشاهدة والعَرَض والعيان"(46) .


ويمثل لذلك بما روى عن سقراط حين رأى رجلاً وسيما ، بدينا ، قوى الأركان ، متين البنيان ، فقال له : يا هذا .. كلمنى حتى أراك(47) .


ومثال آخر : روى أن رجلاً تكلم عند معاوية بكلام طويل لا جدوى منه ، ولما أطال قال : أأسكت يا أمير المؤمنين ؟ قال معاوية ! وهل تكلمت؟!(48) .


ويرى عثمان أمين أن الرسول r قد عبر عن معنى الجوانية فى كثير من أحاديثه . ومن أكثرها دلالة : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وأيضا : مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة إلى أن يدع طعامه وشرابه" وأيضا : "كم من قائم ، حظه من صلاته التعب والنصب" ! (49) .


أما بالنسبة إلى من يرغب فى الحصول على المعرفة الجوانية ، فعليه أن يلجأ إلى تطبيق منهج معايشتها من الداخل ، وليس مجرد تناولها من الخارج. وإلى هذا أشار أفلاطون فى رسالته السابعة حين شبه تلك المعرفة بنور ينفجر فى النفس بواسطة نار اشتعلت فى نفس أخرى ! وأكده الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين" بمثال الحوض المحفور فى الأرض ، والذى يمكن تزويده بالماء من أعلى بواسطة روافد الأنهار ، كما يمكن أن يندفع فيه الماء من باطن الأرض "ويكون ذلك أصفى وأدوم ، وقد يكون أغزر وأكثر"(50) .


ويرى عثمان أمين أن الفلسفة لا تستطيع أن تجاوز نطاق الوعى الإنسانى ، الذى هو نوع من الكشف الباطن أو الوحى الداخلى . وهذا الوعى على أنحاء : فيكون وعيا عقليا أو دينيا أو أخلاقيا . ولذلك وجدنا الفلاسفة الأصليين متفقين على الحقائق الثلاث الكبرى : روحانية النفس ، ووجود الله ، وقانون الأخلاق ، ومن المقرر أن الوعى الإنسانى يحتوى على مستويات كثيرة من الوجود ، وفيه مراتب عديدة من الكمال . لكن التجريبيين والوضعيين لم يروا فيه إلا المراتب الدنيا ، مراتب الأحاسيس ، فى حين أن العقليين والمثاليين إنما رأوا المراتب العليا ، مراتب الأفكار والمثل(51) .


وهكذا فإن الجوانية – كما يؤكد صاحبها – تحتوى على ضرب من الميتافيزيقا ، يمكن أن نسميه "ميتافيزيقا الرؤية الواعية" التى هى أقرب إلى الرؤية الفنية . فهى ليست رؤية حسية فزيولوجية ، بل هى رؤية روحية نفسية، ترى بالعين الداخلية ، أو عين البصيرة ، كما يقول الغزالى . ويشرح برجسون هذا المعنى بمثال الشخص الذى يلتقط صورا فوتوغرافية لمدينة ما من مختلف جوانبها ، ثم يقوم بوضع هذه الصور إلى جانب بعضها لاستكمال منظرها الكلى ، فمن المؤكد أن ذلك لا يعدل على الإطلاق المدينة نفسها التى تتجول فى شوارعها . ونفس الأمر يحدث بالنسبة لترجمة قصيدة ما إلى كل لغات العالم فإنها لن تعطى أبدًا المعنى الباطن الأصل الذى حاولت نقله إلى تلك اللغات(52).


إن الجوانية تتجاوز المظهر الخارجى للأشياء ، محاولة الغوص فى أعماقها. وغالبا ما تحتوى هذه الأعماق على قيم روحية أبدية لا ما يسعى إليه العقل والعلم من محاولة الإمساك بالحسيات والوقائع الزمنية المؤقتة . ولا تدعى الجوانية أنها سوف تمتلك الحقيقة ، فهذا أمر مستبعد تماما ، بل إنها تظل فى محاولة مستمرة من أجل بلوغها ، وبذل الجهد الداخلى أو الجوانى من أجل التعرف عليها . وتؤمن الجوانية بأن القوة الحقيقية هى قوة الروح والمثل الأعلى ، وأن السلطة التى ظفر بها الإنسان على العالم الخارجى ، عالم المادة والأجسام ، قد أضلته عن قوته الأصيلة التى هى المثالية الروحية(53) .


هذا ما يمكن أن نعتبره الجانب النظرى فى فكرة عثمان أمين عن الجوانية ، أما جوانبها التطبيقية فقد راح يعرضها بعد ذلك فى مجالات : اللغة العربية ، والأخلاق الإسلامية ، ورسالة الأمة العربية ، مستطردًا بعد ذلك إلى روح الثورة التى قادها الزعيم جمال عبد الناصر ، ومتوقفا بعد ذلك عند الغزالى فى جوانيته الأخلاقية، ثم فى أدب العقاد ، ودراسته للمسيح عليه السلام .


وهنا يبدو بوضوح مدى التباعد والتنوع الذى يظهر من حشد هذه المجالات المختلفة ، وعملية الاختيار غير المنهجى الذى قامت عليه ، الأمر الذى أدى فى الغالب إلى تشتيت الانتباه عن جوهر النظرية التى عرضها عثمان أمين. وسوف نشير باختصار إلى أهم هذه المجالات :


فى مجال اللغة العربية ، يخصص عثمان أمين بابًا كاملاً (149-184) لبيان فلسفتها ، أى عناصر قوتها وجمالها ، وعوامل بقائها وانتشارها . ويمكن أن نلخص هذه العناصر والعوامل فيما يلى :

1-النزوع نحو المثالية ، أى تفضيل الفكرة والخاطر على الصورة المادية والتجربة الحسية .

2- الحضور الجوانى بمعنى أن الضمائر حاضرة فى كل فعل .

3- الصدارة للمعنى على اللفظ ، الذى هو مجرد وسيلة وواسطة .

4- الإعراب الذى يتوصل به إلى بيان المعانى .

5- رسم الظلال والألوان للشىء الواحد ، بمعنى وفرة الألفاظ التى تشير إلى درجاته وأحواله .

6- الحرص على الإيجاز مع دقة التعبير ، ومنها "جوامع الكلم" للرسول r .

7- الدعوة إلى الحركة والاتجاه للقوة : كلمة واحدة عند العرب تثيرهم للفعل !

8- الوعى والفهم قبل النطق والسمع .


وفى مجال الأخلاق الإسلامية (54) ، استطاع عثمان أمين أن يعثر على العديد من المواد التى يدعم بها نظريته الجوانية ، سواء فى تعاليم القرآن الكريم، أو فى السنة النبوية ، وسيرة السلف الصالح ، لكنه توقف بصفة خاصة عند على بن أبى طالب ، وأخلاقه الفروسية ، ثم عرج إلى الأخلاق عند الصوفية ، مستمدًا الكثير من الغزالى الذى توسع فى هذا المجال .


ويرى عثمان أمين أن الفرائض التى شرعها الإسلام ذات وشائج قوية ، تربطها بالمبادئ الأخلاقية التى تحقق للفرد كرامته الإنسانية وحريته ومسئوليته، وحسن نيته واستقامة ضميره .. وهذه كلها دعائم تقوم عليها الجوانية(55) .


أما الباب الخامس من الكتاب ، والذى جعل عنوانه "فى رسالة الأمة العربية"(56) فقد تحدث فيه عن أن الأمة العربية تحمل رسالة جوانية (كذا) وأن الجوانية هى روح الاشتراكية العربية (كذا أيضا) وأخيرًا دور المثقف فى المجتمع الفاضل . وفى رأيى أن هذا الباب قد أقحم على الكتاب ، وعلى النظرية نفسها إقحاما، بفعل الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التى عاشها عثمان أمين فى تلك الفترة، والتى يبدو أنه كان مضطرًا إلى مجاراة الوضع القائم فى مصر حينئذ ، حيث كان يروج للكثير من الشعارات الرنانة ، التى لم يكن لها فى ضمير الناس – باستثناء المنتفعين من النظام – أى انعكاس حقيقى .. أى جوانى !


لكن عثمان أمين يعود – بعد هذا الباب – فيتحدث عن الدين باعتباره البعد الجوانى الحقيقى لإنسان ، وذلك على أساس أن جوهر الدين هو الإيمان بالله وبالغيب. وهذا الإيمان يقوم على ثنائية العالم ، أعنى عالم الطبيعة وعالم الروح ، أو عالم الشهادة وعالم الغيب ، لذلك فإن الدين يدفع الإنسان ويوجههه إلى البعد الجوانى فى الحياة ، وهو البعد الذى يتجاوز الظاهر إلى الباطن ، وكذلك عالم المادة إلى عالم الروح(57) .


وفى ختام كتابه ، يجمع عثمان أمين بعض المقالات الصحفية أو البحوث التى ألقاها فى مؤتمرات حول : الجوانى والبرانى فى اللغة العربية (مكرر) ، والجوانية الأخلاقية عند الغزالى (مكرر) ، والجوانية فى أدب العقاد (مكرر) ، والجوانية فى نظرة العقاد إلى تعاليم المسيح u (58).


ملاحظاتى على النظرية :

أولاً : النظرية تمتاز بصدورها عن فيلسوف مصرى – مسلم ، يؤمن بالقيم الروحية ، ويتجذر الحس الدينى فى أعماقه . وقد استعان بثقافته الواسعة فى الفلسفة الغربية والحديثة ، وبقراءاته الواعية فى التراث العربى والإسلامى لكى يلتقط منها كل التفاصيل التى تدعم نظريته ، ثم بلور فكرته الأساسية فى إعلاء جانب الروح على جانب المادة ، والتركيز على بواطن الأمور بدلاً من الوقوف الشكلى عند مظاهرها الخارجية .


ثانيًا : أن نظرية الجوانية ، رغم روابطها الشديدة بالمثالية الفلسفية ، إلا أنها تتميز لدى عثمان أمين بطابعها المصرى ، أى النابع من الروح المصرية الموجودة حتى الآن فى الشعب المصرى ، وطبقاته الدنيا التى تراكمت فى وعيها عصور طويلة من الحضارة المصرية القديمة ، والأديان السماوية المتعاقبة .


ثالثًا : يحسب لعثمان أمين خلال عرضه للجوانية ثورته القوية ، والتى يمكن أن تستمر حتى الآن ، ضد المظهرية ، والشكلية ، والأفعال الخالية من مراعاة الضمير ، والسلوكيات الخادعة ، وكل ما من شأنه أن يخلو من الصدق والإخلاص .


رابعًا : نجح عثمان أمين فى دقة استشهاده بالنصوص التى تؤيد فكرته عن الجوانية ، سواء من أقوال كبار الفلاسفة الغربيين ، أو من أعلام الفكر الإسلامى . وهى ميزة لا نكاد نجدها إلا عند قلة نادرة من المفكرين المصريين الذين تعمقوا فى دراسة الجانبين معا .


خامسًا : ان اندفاع عثمان أمين فى محاولة بيان صحة نظريته الجوانية جعله يغفل كثيرًا عن الاهتمام بالجانب المادى وأثره فى حياة الأفراد والمجتمعات . لكننا نسرع فنلتمس له العذر برغبته الصادقة فى محاولة ايقاظ همة الشعب المصرى ، ودفعه إلى طرح النفاق والانخذاع بالمظهر الخارجى للأمور دون التعمق فى جوهرها.


سادسًا : تكاد نظرية الجوانية ، وفكرتها الأساسية تكون مستمدة فى معظم مقوماتها من التصوف الإسلامى ، الذى اهتم بالنفس الإنسانية ، وميز الحقيقة من الشريعة ، وأعلى الباطن على الظاهر . وهناك العديد من أعلام التصوف الإسلامى ، وخاصة فى القرنين الثالث والرابع الهجريين يكادون يعبرون بأقوالهم عما بلوره عثمان أمين فى نظرية الجوانية ، وأخص بالذكر من بين هؤلاء : المحاسبى ، والحكيم الترمذي .


خاتمة ونتائج :

فى غضون ثمانى سنوات فقط ، ظهرت فى مصر هذه النظريات الفلسفية الثلاث . ومن غير الممكن أن يحدث ذلك مصادفة ، بل إن الواقع المصرى فى تلك الفترة (1955-1963) لابد أن يكون له أثره المباشر ، أو حتى غير المباشر ، فى دفع أولئك المفكرين الثلاثة إلى إصدار مثل هذه النظريات . وهنا مجال مفتوح لدراسة تاريخية يمكن أن يقوم بها أحد الباحثين حول هذا الموضوع .


أما أهم النتائج التى نخرج بها من هذا البحث ، فأجملها فيما يلى :

1- النظريات الفلسفية الثلاث تثبت – ولو جزئيا – إمكانية وجود فلسفة مصرية بالمعنى المحدد للكلمة ، وقد كان من أغرب الأمور أن الشعب المصرى – بتاريخه الطويل وحضارته العريقة – يخلو من وجود فلسفة ذات شخصية خاصة بها ، كما هو الحال لدى شعوب أقصر تاريخا وربما أقل حضارة مثل الشعوب اليونانية والفرنسية والألمانية والانجليزية .

2- أن المفكرين المصريين الثلاث الذين صرحوا بإنتاج أو بابداع هذه النظريات قد جمع كل منهم بين الثقافة الغربية ، القديمة والحديثة ، وبين الثقافة العربية والإسلامية . وقد أعادوا بذلك ما كان يحدث فى الفلسفة الإسلامية لدى أمثال الكندى والفارابى وابن سينا وإخوان الصفا ..

3- على الرغم مما يبدو من التنوع فى النظريات الثلاث ، نتيجة صدورها من مفكرين ذوى مشارب متباينة (فأحدهم طبيب ، والثانى دارس فلسفة ، والثالث أديب روائى) فإنها تتكامل فيما بينها لتقدم رؤية مصرية ذات طابع خاص بها ، حيث تنزع نظرية (وحدة المعرفة) إلى تفسير الكون والحياة تفسيرًا علميًا ، وتركز (الجوانية) على الجانب الباطنى فى التجربة الإنسانية، وتتجه (التعادلية) إلى نظرة متوازنة بين القوى التى تتحكم فى الكون والحياة من خلال تدافعها فيما بينها .

4- أن المجتمع المصرى فى الفترة التى ظهرت فيه هذه النظريات الفلسفية الثلاث لم يكن – فيما يبدو – مؤهلا لتقبلها فضلاً عن استيعابها والإفادة منها : فقد حاولت (وحدة المعرفة) أن تزيل عن عينيه غشاوة الفهم العشوائى لقوانين الطبيعة والحياة ، وتنبهه إلى أهمية المنهج العلمى للمعرفة الصحيحة ، وراحت الجوانية تدفعه دفعًا إلى عدم الأخذ بالمظاهر ، وضرورة البحث فى أعماق الأشياء والأحداث ، أما التعادلية فقد قدمت له نظرة متوازنة للأمور حتى يدرك المعنى الكلى للحياة ، بدلاً من أن يقصر نظره على جانب واحد منها .

5- وإذا كنا لا نلوم كثيرة الحركة الثقافية فى المجتمع المصرى التى لم تحسن استقبال تلك النظريات ، فإننا نتجه باللوم الأكبر لأقسام الفلسفة فى الجامعات المصرية – وكانت قد بدأت نشاطها بالفعل – التى لم تعكف على دراستها ، واستخلاص النتائج المترتبة عليها ، خاصة وأن أصحابها قد صرحوا بأنهم يقدمون لمجتمعهم فكرًا جديدا ، ومفيدا ، وإصلاحيا .

6- أن إنفاق الوقت والجهد فى بحث مصادر هذه النظريات : من أين أتت ؟ وما هى العناصر الأجنبية التى أخذتها من غيرها ؟ يمكن أن يتأخر بعد البحث الموضوعى المباشر لأفكارها الأساسية ، وما الذى يمكن أن تفيد به المجتمع المصرى ؟ والوسائل التى تطرحها فى هذا الصدد ؟

7- إننى أهدف من عرض هذه النظريات الثلاث – مجمعة لأول مرة بهذا الشكل – إلى أمرين :

أ- توجيه أنظار شباب الباحثين فى الفلسفة بخاصة ، والمثقفين عموما ، إلى إعادة مناقشة ما جاء فى هذه النظريات ، وإلقاء الضوء عليها ، وإعادة الاعتبار لها .

ب- استمرار الكشف عن نظريات وأفكار أخرى مشابهة حتى نتمكن فى النهاية من بناء فلسفة مصرية ، ذات شخصية محددة ، ومرتبطة بالشعب المصرى صاحب التاريخ الطويل ، والحضارة العريقة ، والذى لا يقل بحال من الأحوال عن الشعوب الأحدث منه ، والتى استطاعت أن تكون فلسفات خاصة بها .

* *


هوامش البحث

(1) التعادلية ، مكتبة الآداب ، القاهرة 1955 ، ثم أعاد توفيق الحكيم نشره بعنوان "التعادلية مع التعادلية والإسلام" فى نفس المكتبة 1983 ، وهو ما اعتمدنا عليه. أما وحدة المعرفة لمحمد كامل حسين لنشرت فى مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة 1958 ، وأخيرًا الجوانية لعثمان أمين ، فنشرت فى دار القلم بالقاهرة 1963 .

(2) هو الكسندر صمويل ، الذى نشر كتابه Space, Time and Diety أى المكان والزمان والربوبية ، ونشر فى عام 1934 . وانظر تداعيات القضية فى الكتاب القيم الذى ألفه د0 محمد الجوادى : الدكتور محمد كامل حسين عالما ومفكرًتا وأديبا ، الهيئة المصرية العامة 1979 .

(3) نشر فى سلسلة "دراسات عربية وإسلامية الجزء 29 .

(4) انظر كتابنا بعنوان "الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية" ، دار الهانى 2008 وهو موضوع على موقعنا على الانترنت www. Hamedtaher.com .

(5) التعادلية ، ص33 .

(6) التعادلية ص163 ، 164 .

(7) نفس الأمر سوف نجده عند عثمان أمين ، بعد أن عرض نظريته فى الجوانية ، ثم راح يدعمها بتعاليم الإسلام .

(8) التعادلية ، ص39 .

(9) التعادلية ، ص42 ، 43 .

(10) التعادلية ، ص45 .

(11) السابق ، نفس الصفحة .

(12) السابق ص47 .

(13) السابق ص52 ، 53 .

(14) السابق ، ص58 .

(15) السابق ، ص66 وما بعدها .

(16) السابق ، ص70 .

(17) السابق ، ص55 ، وأيضًا 70 .

(18) السابق ، ص71 .

(19) السابق ، ص72 .

(20) السابق ، الصفحات 72-78 .

(21) السابق ، ص80 .

(22) السابق ، ص78 .

(23) السابق ، ص81 .

(24) السابق ، ص84 .

(25) السابق ، ص91 .

(26) السابق ، ص95 .

(27) السابق ص144-146 .

(28) السابق ، ص159 .

(29) السابق صفحات 231-234 .

(30) انظر قائمة أعماله فى أول كتاب التعادلية ، ونحص بالذكر : تأملات فى السياسة ، حديث مع الكواكب ، بالإضافة طبعًا إلى أعماله الروائية وقصصه القصيرة التى تمتلئ بالأفكار الفلسفية .

(31) من أهم أعماله فى هذه المجالات : الوادى المقدس ، الذى يقدم تفسيرًا للدين ، والتحليل البيولوجى للتاريخ، أما روايته "قرية ظالمة" فقد طارت باسمه فى الخارج ، دون أن يكون لها نفس التقدير فى مصر والعالم العربى – انظر كتاب د0 محمد الجوادى عن د0 محمد كامل حسين ، الذى جمع فيه تراث الرجل، ونوه بأهميته فى حياتنا الفكرية والثقافية ، الهيئة المصرية للكتاب 1979 .

(32) وحدة المعرفة ، ص1 .

(33) السابق ، ص3 .

(34) السابق ، نفس الصفحة .

(35) السابق ، ص4-10 .

(36) السابق ، ص10 .

(37) السابق ، ص12 .

(38) السابق ، ص16 .

(39) السابق ، صفحات 29-56 .

(40) السابق ، ص57 .

(41) السابق ، ص59 .

(42) السابق ، ص63 .

(43) السابق ، نفس الصفحة .

(44) السابق ، ص163 ، 164 .

(45) الجواثقة ، ص113 .

(46) السابق ، نفس الصفحة .

(47) السابق ، نفس الصفحة .

(48) السابق ، ص116 .

(49) السابق ، ص119 .

(50) السابق ، ص126 .

(51) السابق ، ص127 وما بعدها .

(52) السابق ، ص129 ، 130 .

(53) السابق ، ص136 ، 137 .

(54) السابق ، ص187 وما بعدها .

(55) السابق ، ص191 .

(56) الصفحات 225-249 .

(57) ص253 وما بعدها .

(58) الصفحات 267-315 .

أهم مراجع البحث :

* أميره حلمى مطر ( د. )

- أحمد لطفى السيد فيلسوفا . بحث ضمن الكتاب التذكارى عنه . المجلس الأعلى للثقافة 1986 .

* توفيق الحكيم

- تأملات فى السياسة . مكتبة الآداب ، القاهرة 1954 .

- حديث مع الكوكب (حوار فلسفى) . مكتبة الآداب ، القاهرة 1974 .

- التعادلية ، مع الإسلام والتعادلية . مكتبة الآداب ، القاهرة 1983 .

*جمال حمدان ( د. )

- شخصية مصر . كتابة الهلال ، القاهرة 1993 .

* حامد طاهر ( د. )

- الفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث . ط2 . مكتبة النهضة المصرية 2007

- الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية . دار الهانى ، القاهرة 2008

- نحو التأصيل لفلسفة مصرية

بحث فى كل من "دراسات عربية واسلامية" جـ27 ومجلة "ابداع" العدد 48 .

وهو موضوع على موقع الأنترنت

www. hamedtaher. com

* حسين المرصفى

- الكلم الثمان . نشر ودراسة د0 أحمد زكريا الشلr – الهيئة المصرية للكتاب ، 1984 .

* ديرموند ستيورات

- القاهرة – ترجمة يحى حقى . ط0 الهلال . مارس 1969 .

* زكى نجيب محمود ( د. )

- تعادلية الحكيم– مقال نشر فى مجلة الهلال ، فبراير 1968، واعاد توفيق الحكيم نشره

فى مقدمة التعادلية 1983 .

* عثمان أمين ( د. )

- الجوانية ، دار القلم ، القاهرة 1963 .

- ديكارت ، مكتبة النهضة المصرية 1958 .

- رواد الوعى الإنسانى فى الشرق الإسلامى – المكتبة الثقافية . القاهرة 1961 .

* الفارابى

- إحصاء العلوم – تحقيق د0 عنان أمين – دار الفكر العربى ، القاهرة 1948 .

* فتحى رضوان

- أفكار الكبار – الهيئة المصرية للكتاب ، القاهرة 1978 .

* لويس عوض ( د. )

- تاريخ الفكر المصرى الحديث من عصر إسماعيل إلى ثورة 1919 جـ1 ، 2

الهيئة المصرية للكتاب ، القاهرة 1980 .

* محمد الجوادى ( د. )

- الدكتور محمد كامل حسين : عالما ومفكرا وأديبا . ط ثانية – الهيئة المصرية للكتاب2003 .

وكانت الطبعة الأولى سنة 1978 ، وهى التى حازت على جائزة مجمع اللغة العربية .

* محمد حسنين هيكل ( د. )

- مصر والقرن الواحد والعشرون – دار الشروق ، القاهرة 1994 .

* محمد كامل حسين ( د. )

- حول وحدة المعرفة . مقال بمجلة المجلة ، القاهرة ، يناير 1963 .

- وحدة المعرفة . مكتبة النهضة المصرية 1958 .

* نسيم مجلى

- ابن سينا القرن العشرين (عند د0 محمد كامل حسين) سلسلة أعلام العرب (133) القاهرة 1988 .

* *

 

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الاثنين, 22 يونيو 2015 23:54