عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
فلسفة القوة بين المتنبى ونيتشه صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
السبت, 14 يونيو 2014 14:25

فلسفة القوة بين المتنبى ونيتشه

أ.د. حامد طاهر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هدف البحث وظروفه وخطته :


يتمثل الهدف الأساسى من هذا البحث فى تحقيق (الفرضية) التى أشار إليها العقاد سنة 1963، أى منذ نصف قرن ، ولم يحاول أحد من دارسى الفلسفة أو من دارسى الأدب المقارن أن يتطرق إليها . يقول العقاد عن المتنبى: "ولا يعسر على الناقد أن يستخرج من ديوانه مذهبا كاملاً فى فلسفة القوة كمذهب نيتشه فى أصوله وتفصيلاته ، لم يجمعه مذهبا منسقا مترابط الأجزاء كمذاهب فلاسفة القوة من بعده ، ولكن الشاعر المطبوع على الإيمان بعقيدة القوة هو أصلح المراجع لمن يطلب الشواهد على أولئك الفلاسفة المشتغلين بالتنسيق والتفسير" (العدد الأول من تراث الإنسانية ، يناير 1963) .

 

أما ظروف هذا البحث فترجع إلى رغبتى فى كتابه بحث تعريفى معاصر بالمتنبى ، شاعر القوة والطموح ، لجيل الشباب فى عصرنا الحاضر ، الذى لم يعد يهتم بأمثال تلك النماذج المتميزة فى تراثنا العربى ، لهذا عكفت على قراءة ديوان المتنبى أكثر من مرة ، كما استعنت بمجموعة المصادر القديمة ، ثم المراجع الحديثة عن المتنبى ، ووجدت نفسى غارقًا فى ذلك الصراع الأجوف الذى دار بين اثنين من كبار نقاد العصر الحديث ، وهما محمود شاكر وطه حسين ، وهو الصراع الذى انصب فى جزء كبير منه حول الشك فى نسب المتنبى إلى أبيه ، وحقيقة اعتناقه مذهب القرامطة ، وحبه المكتوم لأخت سيف الدولة ، وكلها (فرضيات) لا يدعمها التاريخ الأدبى ، وإنما تثبت فروسية ذهنية لدى أصحابها ، ويخرج القارئ منها مشتتا ، ومحبطا ، ومبعدا عن المعانى القوية التى وردت فى شعر المتنبى نفسه .

 

لذلك فقد حوّلنى العقاد بإشارته إلى فلسفة القوة لدى المتنبى ، وإمكانية مقارنتها بفلسفة نيتشه فى القوة – إلى ميدان آخر ، لعله أكثر خصبا وإنتاجية ، وهذا ما جعلنى أعيد قراءة ديوان المتنبى فى ضوء هذه الإشارة ، كما أعيد قراءة فلسفة نيتشه فى ترجماتها الفرنسية ، التى أعرفها ، وكذلك من خلال أهم كتابين صدرا عنه باللغة العربية ، وهما لعبد الرحمن بدوى سنة 1939 ، وفؤاد زكريا سنة 1991 . وهكذا بدأت رحلة طويلة ومرهقة ، لكنها فى الحقيقة كانت ممتعة ومشوقة ، وكان مما يزيد سرورى أن أعثر على بيت من الشعر للمتنبى يكاد يقترب بل يتطابق مع فكرة سوف يقولها نيتشه بعده بألف عام . كذلك كان مما اكتشفته لدى المتنبى أنه لم يكن (يمدح أشخاصا) بقدر ما كان (يمدح نماذج) ، وهذه النماذج تتمثل فى الأشخاص الذين تجتمع فيهم صفات الإنسان الأرقى التى رصدها نيتشه . وأرجو أن تفتح هذه الملاحظة الباب واسعا لإعادة تقييم شعر المدح الذى يمتلئ به تراثنا الشعرى.

 

أما خطة البحث فتبدأ ببعض الإشارات التى تسمح بمشروعية المقارنة بين المتنبى ونيتشه على الرغم من تباعد الزمان ، واختلافهما فى الظروف والبيئة ، يتلوها مختصر سريع لفلسفة القوة عند نيتشه، يتضمن أبرز أفكار هذه الفلسفة حتى تكون مرجعًا للأفكار المشابهة عند المتنبى ، ثم يأتى بعد ذلك عرض تفصيلى لأشعار المتنبى التى تعبر عن جانب أو آخر من فلسفة إرادة القوة . وقد قسمت هذا الجزء إلى قسمين : أولهما يتعلق بصفات المتنبى نفسه ، التى تحدث عنها فى شعره ، والثانى ينصب على الصفات العليا التى مدح على أساسها الشخصيات أو الحكام الذين قابلهم . ومن الواضح أن هذه الصفات جميعها تعبر تعبيرًا مباشرًا عن العناصر التى ذكرها نيتشه فى فلسفة القوة .

 

وبعد ، فإننى أتوقع أن يقرأ هذا البحث فريقان : فريق عشاق المتنبى ، لمجرد الاستمتاع بأشعاره المتميزة ، والتى جعلت منه واحدًا من أهم أعلام الشعر العربى القديم ، وفريق الباحثين ، فى كل من الأدب والفلسفة ، لكى يكون لهم منه موقف : إما بالقبول والموافقة ، وإما بالرفض والممانعة . وسوف يكون لكل من الموقفيْن عندى احترامه ، مع التقدير الكامل للوقوف على أسبابه التى يستند إليها .

 

بين يدى المقارنة :

 

ليس المتوقع من هذا البحث أن يعقد مقارنة متكاملة بين المتنبى ونيتشه فى فلسفة القوة ، وإنما حسبه أن يبرز بعض أهم الأفكار الكلية ، بالإضافة إلى بعض التفصيلات التى توجد لدى الشاعر العربى والفيلسوف الألمانى ، وذلك على الرغم من الفارق الزمنى الذى يفصل بين الاثنين ، والذى يقرب من ألف عام ، إلى جانب البيئة العربية التى عاش فيها المتنبى والتى تختلف كثيرا عن البيئة الأوربية التى عاش فيها نيتشه . وبالطبع لا يوجد حتى اليوم ما يدل أو يشير إلى أن اللاحق منهما قد تأثر بما كتبه السابق. لكن الروح الثائر لدى الشاعر العربى والفيلسوف الألمانى تكاد تبرز فى كل ما ينتجانه من أشعار وأفكار . ونموذج الإنسان الأرقى لدى كل منهما واحد ، وفكرة إرادة الحياة" أو بالأحرى إرادة القوة يؤكدها كل منهما ، سواء من خلال المواقف التى تعرض لها فى حياته أو من خلال إنتاجه الشعرى أو الفكرى .

 

وتبقى هناك بعض التفصيلات الأخرى ، منها أن المتنبى لم يعمر أكثر من (51) سنة مات فى آخرها مقتولا ، وأن نيتشه عاش (56) سنة ، مات فى آخرها مصابًا بالجنون . ومنها أن المتنبى قد اقتحم عصره ، وتعامل مع حكامه ، وعانى كثيرًا من حسّاده ، وطمح – بعد أن امتلأت خزائنه بالمال – إلى أن يتولى منصب حاكم إحدى الولايات ، أى أنه سعى إلى الحكم بكل ما يتطلبه من كفاءات عملية ، واتخاذ قرارات يومية ، أما نيتشه فقد رفض مجتمعه بالكامل ، وآثر الانغزال التام ، وظل يكتب مؤلفاته وهو قابع وحيدًا ومريضا فى مسكنه بعد أن قطع علاقاته مع كل من كان يعرفهم ويعرفونه . وفى مجال الشهرة ، كان المتنبى أوفر حظا ، فبعد فترة من الكفاح فى سبيل لقمة العيش ، علا نجمه ، وذاعت أشعاره ، وتهافت عليه الحكام والأمراء لكى يسجل مفاخرهم ، ويخلد ذكرهم. أما نيتشه فقد ظل ، لآخر فترة من صحوه قبل أن يدخل فى مرحلة الجنون ، يرجو ويأمل أن يقرأه الناس ، ولكنه لم يحظ إلا بقلة قليلة هى التى تنبهت له ، لكنها لم تزد على ذلك . أما انتشاره الواسع فلم يحدث إلا بعد وفاته ، حيث أصبح فاكهة كل المفكرين والفلاسفة الذين جاءوا بعده ، ولا يكاد يوجد مثلا كاتب فرنسى كبير جاء بعد نيتشه إلا وقد تأثر بأفكاره سلبا أو إيجابا .


وأخيرًا هناك نقطة جديرة بالاعتبار ، وهى أن شعر المتنبى لا يكاد ينفصل عن أحداث حياته ، فهو جزء منها ، وقطعة حيّة من كيانه . وليس كل الشعراء كذلك . فهناك منهم ، ليس فقط الذين قرأت لهم ، وإنما الذين أعرفهم عن قرب ، يمكن فصل حياتهم تماما عن أشعارهم . وقد شاهدتُ بنفسى من يكتب بلوعةٍ عن الحب ، وهو لا يحب إلا ذاته ، ومن يتحدث بكل جرأة عن الشجاعة وهو أجبن البشر ، ومن يمجد فضيلة الكرم وهو بخيل على أقرب الناس إليه . أما القارئ الجيد لأحداث حياة المتنبى ، والذى يتأمل مختلف المواقف التى تعرض لها يجد أن هذا الشاعر الكبير لم يكتب قصيدة إلا بعد معاناة حقيقية لها، كما أنه لم يكن يخدع أو ينافق أو يتظاهر بغير ما يحس به . صحيح أنه كان يبالغ فى المدح كما كان يقذع فى الهجاء ، لكن هذه المبالغة كانت لونًا من أساليب تكبير الصورة للفت الانتباه ، تمامًا كما يفعل رسام الكاريكاتير المعاصر حين يبرز بعض ملامح الصورة على حساب بعضها الآخر.

 

ونفس الأمر نجده بوضوح كامل عند نيتشه ، الذى كان فكره صورة صادقة للغاية من حياته . فهو لم يداهن أو ينافق أو يتخفى خلف قناع الكلمات الزائفة ، وإنما صرح بكل ما كان يفكر فيه دون خشية من أصنام عصره ، ودون أى حساب للأوساط التقليدية التى صدمتها أفكاره الجريئة جدا عن الدين، وتفسيره للأخلاق السائدة ، ومعاييره الجديدة للخير والشر ، إلى جانب آرائه التى فاجأ بها الأوربيين عن ارادة القوة ، ونموذج الإنسان الأرقى.

 

إذن المقارنة مشروعة بين المتنبى ونيتشه . وإذا كان العقاد – كما سبق القول – هو صاحب الفضل الأول فى التنبيه إليها ، فإن هناك جوانب كثيرة جعلتنى أنا شخصيًا أراها فرصة جيدة للنظر إلى هاتيْن القمتيْن من قمم الفكر والأدب العالميين : أحدهما عربى والآخر أوربى . وإذا كانا يفترقان فى أمور ، فإنهما يلتقيان فى أمور كثيرة . وما أروع أن يسعد القراء معى بملاحظة أوجه التلاقى بين البشر جميعا ، والمتميزين منهم بوجه خاص.

 

مختصر فلسفة نيتشه


لفلسفة نيتشه جانبان . أحدهما يتجه للهدم ، والثانى للبناء . وهو يرى أنه لا يمكن إقامة بناء جديد إلا بعد هدم البناء القديم ، وإزالة أنقاضه تماما من المكان . أما هذا البناء القديم فهو الذى أقامه الأجداد منذ آلاف السنين فى مجالى الأخلاق والفلسفة ، وتناقلته الأجيال عن بعضها ، وساد الفكر والسلوك الإنسانييْن حتى العصر الحديث . وقد قام نيتشه بتحليل دؤوب لعناصر هذا البناء، سواء فى أسسه أو تفصيلاته ، ثم انتهى إلى الإحاطة بما أطلق عليه "الأصنام" التى رفعها القدماء بأنفسهم ثم عبدوها . وفى أثناء هجومه على تلك الأصنام تعرض لمجالىْ السياسة والدين .


فى الأخلاق ، فرض العلماء والفلاسفة السابقون على الإنسانية مجموعة من القيم المتعلقة بالخير والشر. وعند التحليل تبين لنيتشه أنهم استمدوها من فكرهم الخاص ، أى من خارج الإنسان ذاته ، وبعيدًا عن طبيعته ، بل إنهم جعلوها مضادة لهذه الطبيعة . وقد أوغلوا فى جلد الإنسان حين راحوا يتحدثون عن وجود ما يسمى بـ (الخير فى ذاته) أو (الخير المطلق) ولم يدركوا أن الخير هو ما وافق طبيعة الإنسان وحقق مطالبه وطموحاته ، والشر ما عارض هذه الطبيعة الإنسانية.


واذن فالإنسان ، صاحب العقل الحر ، هو صاحب الحق الأصيل فى وضع معايير الخير والشر ، وليس يعنى هذا الدعوة إلى الفوضى ، وإنما الارتفاع إلى أعلى مستوى أخلاقى يتوافق عليه مجموعة من الأشخاص المتميزين ، الذين تحرروا من ربقة الماضى وسيادة أفكار عصرهم ، المقبولة عادة دون فحص أو نقد أو تحليل . إن البحث الموضوعى للأخلاق يظهر أن هناك نوعين منها : أخلاق السادة ، وأخلاق العبيد . وهما على نقيض دائم. فأخلاق العبيد التى تتمسك بها غالبية البشر هى التى تمجد الضعف والخضوع والاستكانة وتدعو إلى مسامحة المعتدين ، والصبر على معاناة الفقر والحرمان، والانتظار الدائم لما لا يجئ . وقد خدعهم القدماء والمحدثون معا بأن هذه هى الفضائل التى ينبغى أن يتحلى بها الإنسان ، وإنما قبلها هذا الأخير لأنها توفر له السلامة ، وتبعده عن مواجهة الصعاب ، والخلاصة أنها تجعله طوال حياته راضيا بالذل والهوان .


أما أخلاق السادة فهى التى تدعو إلى السعى والكسب والاستثمار والضرب فى الأرض وتحقيق رغبة التملك التى هى من الرغبات الطبيعية لدى كل إنسان ؛ وذلك بخلاف الزهد الذى تعتبره الأكثرية فضيلة ، والذى يدفع الإنسان بدلاً من أن يعيش حياته ، فإنه يقضى عليها !


وفى مجال الفلسفة ، حمل نيتشه على العقل ، باعتباره أكبر الأصنام التى أقامتها الفلسفة عبر العصور . وذهب إلى أن هذا العقل عندما وجد نفسه عاجزًا عن مواجهة الوجود الواقعى من حوله ، لجأ إلى اختراع علم خاص به ، هو علم المنطق ، لكى يساعده على ترتيب أفكاره . وهكذا سجن نفسه فى داخل القفص الذى صنعه بعقله ، ولم يخرج منه لكى يرى ويشاهد ظواهر الوجود المتحرك ، النابض بالحياة والحركة والتطور من حوله . ولكى يهدم نيتشه قانون الذاتية (الشىء هو هو) الذى يؤكده كل المناطقة ، أعلن أنه خطأ محض . لأنه ما من شئ فى الوجود ثابت ومستقر ، بل ان كل شئ يلحقه التغير والفناء. وبالطبع لا معنى لعالم المثل الذى اخترعه أفلاطون اختراعا ، ولا يوجد له أى انعكاس حقيقى فى واقع الحياة الإنسانية .


أما فى مجال السياسة ، فقد حمل نيتشه حملة شعواء على مستوى فكرة الجماهيرية المتغلبة باسم الديمقراطية على الأقلية المتميزة التى يتكون منها مجتمع السادة . وفيما يتعلق بالدين ، هاجم نيتشه كهنوت الكنيسة ، ولم يعترف أبدًا بطقوسها التى ابتدعتها عبر الزمن ، حتى أوهمت أتباعها جميعا بأن هذه الطقوس جزء لا يتجزأ من صميم الدين . وعموما فقد رأى نيتشه أن الدين يكرس فكرة الفرار من الحياة بدلاً من مواجهتها ، ويبتعد عن الصراع المباشر معها من أجل التغلب على عقباتها .


وبالنسبة إلى الحرب ، كان لنيتشه موقفان مختلفان منها . الأول عارضها باعتبارها شرًا يودى بحياة الناس ، ويدمر العمران ، والثانى وهو الأهم أنها من أفضل الحوافز فى تحريك قوى الإنسان ، وتنشيط ملكاته النائمة والمستكينة من خلال الاستعداد والمغالبة وتحقيق النصر والحصول على الغنائم، وهذه كلها من أخلاق السادة ، النابعة من إرادة القوة.


أما بالنسبة لموقفه من المرأة ، فهو موقف معادٍ تماما ، حيث يعتبرها خاضعة خانعة ، لا تسعى أبدًا للتخلص من الأوضاع السائدة والصعبة التى توجد فيها . وهى السبب فى الإمساك بالرجل عن طلب الحرية أو الحصول عليها ، ولذلك فإنها تبقيه إلى جوارها مكبليْن معًا فى الذل والمهانة .


والواقع أن قمة تفكير نيتشه تتمثل فى تصويره للإنسان الأرقى ، أو الأعلى أو المتميز ، الذى تجتمع فيه كل الأخلاق العليا ، والصفات الإيجابية ، وبه تتطور الإنسانية كلها ، وعليه تقع مسئولية قيادتها نحو الأفضل . هذا الإنسان هو الأقدر على وضع المعايير الجديدة للخير والشر ، انطلاقًا من التوافق التام مع طبيعته ، دون إهمال أو إرغام لها . ولأنه إنسان قوى فهو يصارح الجميع برأيه ، ولا يلجأ أبدًا للكذب ولا للنفاق أو الخداع . وهذا الإنسان هو الذى أطلق عليه فى أدب الخيال العلمى مصطلح (السوبرمان) ، وهو الذى فهمه خطأ الحزب النازى الذى حاول تطبيقه بالفعل على الشعب الألمانى كله ، مع أن نيتشه لم يدع أبدًا إلى يكوّن هذا الإنسان مع أمثاله جماعة أو حزبًا سياسيا .


ولكى يكمل نيتشه مذهبه الفلسفى ، ذهب إلى أن الإنسانية تمر بمراحل متعاقبة ، لكى تبدأ بعد كل فترة : أخرى تشبهها تماما ، بل تتطابق معها بكل ما يجرى فيها من أحداث ، وما يوجد فيها من جماد ونبات وحيوان. وهو يرى أن الاعتقاد بالدورات المتعاقبة هذه هى التى تعطى الإنسان الأمل فى أن يعيش حياته من جديد فى فرصة ثانية ، وثالثة . ومما يلاحظ أن هذه الفكرة ، التى أطلق عليها نيتشه (العوْد الأبدى) لم تظهر إلا فى كتابه الفلسفى ذى الطابع الشعرى (هكذا تحدث زرادشت) مما جعلها حلا لا يصمد طويلا أمام التحليل العقلى الخالص.


فلسفة القوة عند المتنبى


من الطبيعى ألا نتوقع نسقا فلسفيا مترابطا ، ومشروحًا بإفاضة لدى المتنبى ، كما هو الحال لدى نيتشه . والسبب يرجع إلى أنه شاعر كان يبث أفكاره فى ثنايا قصائده التى أنشأها على مدى أكثر من ثلاثين عاما متواصلة . ولأن معظم هذه القصائد لم تكن فى موضوع واحد ، فإن كل قصيدة كانت لها مناسبتها الخاصة ، وأفكارها المرتبطة بها ، لذلك سوف يكون من اللازم التقاط البيت أو الأبيات التى تعبر عن جانب أو آخر من جوانب فلسفة القوة لديه .


وفى البداية ، يمكننا التأكيد على أن ديوان المتنبى يحتوى على "روح شعرى" خاص به وحده ، وهو يسرى فى معظم قصائده حتى التى قالها فى فترة الصبا . وهذا الروح الشعرى هو فى حد ذاته أصدق تعبير عن شخصية هذا الشاعر ، الذى تميز بأخلاق القوة ، التى ذكرها عن نفسه ، أو التى خصها بالمدح فى الشخصيات التى التقى بها . وبناءً على ذلك ، سوف أصنف أفكار المتنبى عن القوة إلى قسمين : أحدهما يتعلق مباشرة بشخصه هو ، وما كان يراه فى نفسه من التفوق والتميز والعلو عمن حوله من الناس ، والثانى يدور حول أفكاره عن بعض مجالات فلسفة القوة التى سجلها لبعض ممدوحيه ، كما أدان على أساسها بعض الحكام الذين غابت منهم صفات القوة والعلو والتميز ، واتسموا على العكس من ذلك بالضعف والجبن والدونية .


القسم الأول : عن شخص المتنبى :


يروى عن المتنبى أن علامات الذكاء والنجابة ظهرت عليه فى سن مبكرة . ويقال إنه كتب الشعر وهو فى التاسعة من عمره ، كما كانت له ذاكرة قوية يستظهر بها كل ما يسمعه أو يقرأه فورًا وبدون مراجعة . وقد ذكروا فى هذا الصدد أنه كان راوية لأشعار ابن الرومى ، كما كان كثير التصفح والمراجعة لديوانىْ أبى تمام والبحترى . والثلاثة كما نعلم من أكبر شعراء العربية الذين تميزوا بجزالة الأسلوب ، وعمق المعنى ، وسيولة الطبع ، وطول النفس الشعرى. وهذه المزايا كلها موجودة فى شعر المتنبى .


فإذا أضفنا إلى ذلك أن والده أرسله إلى البادية ليتقن اللغة العربية من ألسنة أهلها ، أدركنا أنه جمع بين حياة المدينة فى الكوفة ، وبين حياة البدو فى الصحراء ، بخشونتها وتوافر مجال الحرية والوحدة فيها ، وهناك تعرف على تضاريس الصحراء ، سواء فى الليل أو فى النهار ، كما تعامل مع حيواناتها ، ولاحظ بدقة دبيب حشراتها وحركة وحوشها . ويذكرون عن المتنبى أنه كان ممن يتميزون بسرعة المشى ، والانتقال فى هذه البيئة الصعبة من مكان إلى آخر ، بصورة كان تدهش القبائل البدوية حين كان ينقل لها أخبار ما شاهده لدى إحداها ، وهى على مسيرة عدة أيام !


هذا الشاب البدوى القح ، الذى وجد نفسه مسكونًا بموهبة شعرية متدفقة، وفى بيئة اجتماعية واقتصادية قاحلة (الكوفة وباديتها فى أوائل القرن الثالث الهجرى) أقول وجد نفسه – وقد فقد أمه ، ثم أباه (الذى كان سقاء يحمل الماء على جمل) مضطرا للسعى وحده لتحصيل رزقه بواسطة الشئ الذى يجيده ، وهو الشعر ، ولم يكن أمامه سوى مدح بعض الأشخاص الذين ألقتهم الظروف فى طريقه ، لكنه لم يكن يحصل منهم إلا على أقل القليل (أحيانا درهم واحد فى مقابل القصيدة) !


ومع بداية دخوله مرحلة الشباب ، قام بعمل جنونى ، وهو ادعاؤه النبوة فى وسط أهل البدو ، الذين لم يكونوا قد تمثلوا جيدا حقائق الإسلام . وقد استخدم فى ذلك بعض الحيل والألاعيب التى كان قد تعلمها أثناء اقامته الأولى فى البادية ، ونتيجة لذلك تم القبض عليه ، وإيداعه السجن ، لكنه راح يستعطف الوالى حتى أطلق سراحه ، ولم يعد فيما بعد إلى ذلك أبدًا . لكن لقب فعلته اللعين (المتنبى) ظل عالقًا به ، رغم شهرته أيضا بـ (أبى الطيب) ، وهى الكنية التى لم تكن تكفى وحدها للتعريف به .


ويهمنى هنا أن أرصد بعض المفاتيح فى شخصية المتنبى تساعدنا على فهم أعمق له ، كما تقرينا كثيرا من أشعاره ، وما كان يرمى إليه منها . فهو أولاً بدوى لا يقبل الضيم على نفسه ، وعربى يؤمن بالعروبة ويبغض تحكم الأعاجم فى السلطة ، وفارس يعتز كثيرًا بسيفه ورمحه وحصانه الذى يتنقل به بين البلاد ، وشاعر يرى أنه بموهبته يفوق جميع شعراء عصره . إن هذه المفاتيح الأربعة هى التى تحدد – فى رأيى – معالم شخصية المتنبى ، وتستمر معه فى كل مراحل حياته ، دون أن يفقد واحدة منها . فإذا أضفنا إليها ظروف البيئة الفقيرة التى عاش فيها صباه وشبابه وقفنا على أحد أسباب سعيه الدؤوب فى تحصيل الثروة ، ومن بعدها تحقيق طموح عابر فى تولى منصب الحاكم فى إحدى الولايات .


فى الكتّاب ، أى المدرسة الأولية ، وهو قبل العاشرة ، كانت له وفرة من الشعر تتدلى تحت أذنية . فقيل له عنها : (ما أحسن هذه الوفرة !) فقال :

 

لا تحسن الوفرة حتى تُرى

منشورة الضفرين يوم القتال

على فتى معتقل صعدة

يُعلها من كل وافى السبال

 

والمعنى : أن هذه الوفرة لا تحسن بالفعل إلا إذا أسدلت فى المعركة ، وهى على رأس فارس يمسك رمحا ، ويسقيه من دم خصمه المكتمل الشارب ! وهكذا تبدو منذ الصبا ، لدى الطفل الصغير ، تلك النزعة الغالبة لخوض المعارك مفضلاً إياها على جمال الشكل ، وحسن المظهر . ثم هاهى تنمو معه وتكبر فى مرحلة الشباب ، الذى عانى فيها الفقر والحرمان ، ولازمه إلى حد ما سوء الحظ . يقول مخاطبًا نفسه :

 

إلى أى حين أنت فى زى محرم

وحتى متى فى شقوة وإلى كم

وإلا تمت تحت السيوف مكرما

تمت ، وتقاسى الذل غير مكرم

فثبْ واثقا بالله وثبة ماجد

يرى الموت فى الهيجاجنى النحل فى الفم

 

وزىّ المحرم هنا دلالة على أنه لا يستر جسمه إلا بثوب واحد ، غير مخيط ، أى أنه لا يجد الثياب المناسبة له : وهو يشير إلى طول مدة شقائه ، لكنه يعود فيبرهن لنفسه أنه إذا لم يقتحم المعارك ليموت فى ظلال سيوفها مكرما ، فإن الموت سوف يلحقه ذليلا مهانا ، لذلك ينبغى عليه أن يقفز قفزه فارس شجاع ، يصبح لديه طعم الموت فى الحرب مثل طعم عسل النحل فى الفم !


وهكذا منذ اللحظات الأولى ، بدأت تظهر نزعة المتنبى إلى القيام بعمل مجيد ، وعدم الخضوع لظروف الفقر وما يصحبه من الذل وعدم التكريم ، وبالجملة : إرادة القوة ، التى توصل إليها نيتشه ، بعد أن تحرر فى شبابه من تأثير فلسفة شوبنهور حول (إرادة الحياة) وتطبيقها الموسيقى لدى فاجنر.


والإنسان الأرقى عند نيتشه هو ذلك الإنسان الذى لا يتصف فقط بالقوة، وإنما أيضا بالشجاعة المطلقة ، والتى تظهر فى تحطيمه لقيم المجتمع الخانع ، الضعيف ، المستسلم للعديد من أشباح الخوف . والمتنبى هنا ، ومنذ شبابه ، يعلن بكل صراحة أنه ضد الخوف بكل أنوعه ، وأهمها الخوف من الموت ، الذى يلازم الغنم والبهائم ، ولا ينبغى أن يستسلم له من يسعى إلى الأعمال المجيدة . يقول :

 

ردى حياض الردى يا نفس واتّركى

حياض خوف الردى للشاه والنغم


إن لم أذرْكِ على الأرماح سائلةً

فلا دعيتُ ابن أم المجد والكرم


وإذا كان نيتشه يضع الإنسان الأرقى فوق غيره من باقى أفراد المجتمع، بسبب ما يمتلكه من عقل حر لا يخضع للسائد من القيم الموروثة والأفكار الشائعة ، فإن المتنبى يدهشنا بمقطوعة شعرية قالها فى شبابه ، تؤكد تميزه على الجميع ، وتخرج بالقطع عن إطار الفخر الذى عهدناه فى الشعر العربى القديم ، والحديث أيضا . يقول :

 

أى محل أرتقى

أىّ عظيم أتقى

وكـــــــــل ما خلــــــق اللـــــــه وما لـــــــــم يخلـــــــــــــــــق

محتقر فى همتى

كشعرة فى مفرقى

 

وحين يعاتبه صديقه أبو سعيد المجمرى فى عدم ذهابه للقاء الملوك ، وتقديم نفسه إليهم كشاعر موهوب ، يرد على المتنبى :

 

أبا سعيد جنّبْ العتابا

فرب رأى جاوز الصوابا

فإنهم قد أكثروا الحجّابا

واستوقفوا لردنا البوابا

وإن حدّ الصارم القرضابا

والذابلات السمر والعرابا

 

ترفع فيما بيننا الحجابا

 

 

(الصارم القرضاب : السيف القاطع – الذابلات السمر : الرماح – العراب : الخيل العربية الأصيلة)


ولا شك أن هذا الوعيد أو التوعد من المتنبى لحكام عصره قد ظل ملازما له فى خلفية مديحه لبعضهم حين أحسنوا استقباله وأحاطوه بالتكريم الأدبى ، والرفد المادى ، وكان يظهر بوضوح وربما بوحشية عندما يتحول إلى مجال الهجاء ، كما سنرى فيما بعد .


إن إرادة القوة عند المتنبى لا تكاد تختلف عما دعا إليه نيتشه من ضرورة أن يكون صاحبها ذا همّة عالية ، وروح طموح ، وعمل دائم ، وجهد مستمر ، والخلاصة أنه أبعد ما يكون عن أحلام اليقظة التى يحلق فيها الضعفاء، وكذلك عن القناعة بالقليل فيما يزعم العاجزون أنه يكفيهم . يقول المتنبى :

 

ليس التعلل بالآمال من أربى

ولا القناعة بالإقلال من شيمى

 

ويعبر عن ضخامة آماله ، وعظيم مطالبه قائلا :

 

تحقر عندى همتى كل مطلب

ويقصر فى عينى المدى المتطاول

وما زلت طودا لا تزول مناكبى

إلى أن بدت للضيم فى زلازل

 

والإنسان الأرقى هو الذى يمتلئ قلبه بارادة القوة ، وليس الحياة فقط ، وهو العصامى الذى يبنى نفسه بنفسه ، وبالتالى فإنه لا يعتمد على حسب أو نسب ، ولا يتكئ على شرف قومه ، بل انه هو الذى يجعلهم يشرفون به .

 

لا بقومى شرفت بل شرفوا بى

وبنفسى فخرت لا بجد ودى

إن أكنْ معجبا فعجب عجيب

لم يجد فوق نفسه من مزيد

أنا ترب الندى ورب القوافى

وسمام العدا وغيظ الحسود

أنا فى أمــــــــة ، تداركهـــــــا اللـــــــــــه ، غريــــــــب كصالــــــح فى ثمود

 

ومن الواضح أن هذه الغربة التى يقررها المتنبى عن نفسه وسط أمته، وليس وسط قومه أو عشيرته فقط ، إنما تصدر عن إحساسه بما يمتلكه من مميزات عليا ، وخصائص متفردة ، لكنه مع الأسف لا يجد لها التقدير الملائم ، ولا الرزق المناسب . وهو بالمناسبة لا يرضى أبدًا أن يكون هذا الرزق مسبوقًا أو متبوعًا بالتنكيد :

 

أين فضلى إذا قنعــــــــت من الدهـــــــــر بعيش معجــــل التنكيد

ضاق صدرى ، وطال فى طلب الرزق قيامى ، وقل عنه تعودى

أبدًا أقطع البلاد ونجمى

فى نحوس ، وهمتى فى صعود

 

لكنه بعد هذه الشكوى المريرة والعابرة ، يعود فيرفع قامته قائلاً :

 

عش عزيزًا أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود

فرؤوس الرماح أذهب للغيظ وأشفى لغل صدر الحقود

لا كما قد حييت غير حميد

وإذا مت مت غير فقيد

فاطلب العز فى لظىً ، ودع الذل ، ولو كان فى جنان الخلود

 

فى شخص المتنبى تتحقق الكثير من الصفات التى ذكرها نيتشه فى الإنسان الأرقى أو الاعلى أو المتميز . ومن أهم هذه الصفات توافر الإحساس العميق بالذات ، والشعور القوى باستعلائها على الجميع . يقول المتنبى :

 

واقفا تحت إخمصىْ قدر نفسى

واقفا تحت إخمصىّ الأنامُ

 

ويقول :

 

أمط عنك تشبيهى بما وكأنما

فما أحد فوقى ولا أحد مثلى

 

ويقول :

 

إنى أنا الذهب المعروف مخبره

يزيد فى السبك للدينار دينارا

 

ويقول :

 

أنا صخرة الوادى إذا ما زوحمت

وإذا نطقت فإننى الجوزاء

وإذا خفيت على الغبى فحاذر

ألا ترانى مقلة عمياء

 

ومن الطبيعى أن يؤدى هذا الإحساس العميق بالذات واستعلائها إلى احتقار أهل الزمان الخانعين ، والمحصورين فى نطاق أخلاقهم الدنيئة ، يقول المتنبى :

 

أذم إلى هذا الزمان أهيله

فأعلمهم فدم ، وأحزمهم وغدُ

وأكرمهم كلب ، وأبصرهم عمٍ

وأسهدهم فهد ، وأشجعهم قرد

 

وأمثال هؤلاء جميعا لا يستحقون عند المتنبى سوى الطعن بالرمح الذى ينبغى أن يرتوى بدمائهم :

 

ومن عرف الأيام معرفتى بها

وبالناس ، روّى رمحه غير راحم

 

وهنا يتفق المتنبى تمامًا مع نيتشه فى النظر إلى عوام الناس ، الجهلاء، ذوى الأخلاق الدنيئة ، بدون رحمة أو تعاطف . لذلك فإنه لا يبالى بقلة أعداد الموافقين له فى الرأى :

 

لا ألحظ الدنيا بعينىْ وامق

ولا أبالى قلة الموافق

 

ويبدو بالفعل أن تجربة المتنبى مع الناس هى التى جعلته يدرك حقيقتهم، التى تتخفى دائمًا خلف قناع زائف من الود الكاذب ، والتدين المنافق. يقول :

 

إذا ما الناس جربهم لبيب

فإنى قد أكلتهم وذاقا

فلم أر ودهم إلا خداعا

ولم أر دينهم إلا نفاقا

 

وإذا كانت أخلاق العامة هى فى حقيقتها أخلاق العبيد ، فإن أحدًا منهم لا يستطيع أن يقدم المساعدة للإنسان الأرقى الذى يتجاوز طموحه حدود إمكانياتهم الضعيفة :

 

أهمّ بشىء والليالى كأنها

تطاردنى عن كونه وأطاردُ

وحيد من الخلان فى كل بلدة

إذا عظم المطلوب قل المساعد

 

وليس هذا "المطلوب" لدى المتنبى سوى تحقيق المجد بساعده وسيفه . يقول :

 

وما رغبتى فى عسجد أستفيده

ولكنها فى مفخر أستجده

 

ومن أهم صفات الإنسان الأرقى التى حددها نيتشه أنه لا يرى حقائق الوجود الثابت سوى أوهام ترسخت عبر آلاف السنين ، وبررها للناس فلاسفة النظر العقلى ، فى مذاهب لا تصمد أمام التحليل الجاد. أما الحقائق التى يعترف بها فهى تلك التى يقررها الإنسان الأرقى بنفسه ، ومن خلال تعامله المباشر مع الوجود الخارجى . يقول المتنبى :

 

وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى

وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا

 

وهذا معناه أنه لا وجود لكل من الخوف والأمن فيما اصطلح عليه الناس فى الوجود الخارجى ، وإنما هما فى الحقيقة شعوران ذاتيان يرتبطان مباشرة بنفس الإنسان .


ويرى نيتشه أن الإنسان الأرقى لا يتوقف لحظة واحدة عن مواجهة الخطر ، بل عليه اقتحام ميدانه ، وعدم الوقوف ساكنا فى انتظار قدومه ، كما يفعل سائر الضعفاء ، لكنه لم يذهب إلى حد التضحية بالروح فى هذه المعركة، وإنما عليه أن يحافظ دائمًا عليها ، لكن المتنبى يتقدم خطوة للأمام ، فيدعو نفسه إلى التضحية بتلك الحياة فى سبيل تحقيق مطلبه يقول :

 

إذا لم تجد ما يبتر الفقر قاعدًا

فقم واطلب الشىء الذى يبتر العمرا

 

وينبغى أن يعلو الحصول إلى الهدف على كل التوازنات أو التنازلات التى قد يقدمها الإنسان الأرقى مع بعض الموالين له ، لذلك فإنه ينطلق بسيفه ، أى بإرادة القوة ، إلى غرضه مكتسحًا فى طريقه كل من يقف دون تحقيق هذا الغرض . يقول المتنبى :

 

ومن يبغ ما أبغى من المجد والعلا

تساو المحابى عنده والمقاتل

ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم

وليس لنا إلا السيوف وسائل

 

إن ضعفاء الناس هم الذين يعرقلون مسيرة الإنسان الأرقى ، لكن هناك أيضا قسوة الظروف ، ومصائب الزمان . وهنا لا ينبغى على هذا الإنسان المتميز أن ينحنى أمامها ، بل عليه أن يواجهها بكل شجاعة ولا ييأس أبدًا بفضل همته من مقاومته لها :

 

ولا أظن بنات الدهر تتركنى

حتى تسد عليها طرْقها هممى

 

(بنات الدهر : مصائبه)


وهو يؤكد من جديد صلابته فى مواجهة الموت ، والذهاب إلى حد قتل الأفعى بسمّه هو ، مشيرًا إلى قوة عزيمته :

 

يحاذرنى حتفى كأنى حتفه

وتنكرنى الأفعى فيقتلها سُمّى

كأنى دحوت الأرض من خبرتى بها

كأنى بنى الاسكندر السد من عزمى

 

ولعلنا الآن لم نعد نسأل عما كان يسأل عنه معاصرو المتنبى الذين كانوا مندهشين فى تجوله فى مختلف البلاد ، وما هو الهدف الذى يسعى إليه :

 

يقولون لى : ما أنت فى كل بلدة

وما تبتغى ؟ ما أبتغى جلّ أن يُسمى

 

لأننا من خلال تحديد ملامح الإنسان الأرقى ، التى رصدها نيتشه ، يمكننا بسهولة أن نتعرف على تلك القوة الدافعة ، التى كانت تشغل روح المتنبى ، وتجعله دائم التنقل من مكان لآخر ، غير مستقر على حال نعمة أو شقاء . يقول المتنبى :

 

ألفت ترحلى وجعلت أرضى

قتودى ، والغريرىّ الجلالا

فما حاولت فى أرض مقاما

ولا أرفعت عن أرض زوالا

على قلق كأن الريح تحتى

أوجهها جنوبًا أو شمالاً

 

(القتود : جمع قتد ، وهو خشب الرحل – الغُريرىّ الجلال : الفحل العظيم) ، ويقول :

 

أوانًا فى بيوت البدو رحلى

وآونة على قتد البعير

أعرض للرماح الصم نحرى

وأنصب حر وجهى للهجير

وأسرى فى ظلام الليل وحدى

كأنى منه فى قمر منير

 

وهكذا نرى المتنبى راحلاً أبدا ، ومرتفعا دائمًا عن كل ما يشغل الناس من سفاسف الأمور ، لكنه يعترف أيضا بأن خصومه ليس هؤلاء الناس فقط ، وإنما هو العصر كله الذى يعيش فيه ، وتكاد تعاديه فيه مظاهر الطبيعة الجامدة كلها ، يقول :

 

ونفس لا تجيب إلى خسيس

وعين لا تدار على نظير

وكف لا تنازع من أتانى

ينازعنى سوى شرفى وخيرى

وقلة ناصر ، جوزيت عنى

بشر منك باشر الدهور

عدو كل شئ فيك ، حتى

لخلت الأكم موغرة الصدور !

 

ويرى المتنبى أن هذا العدو المشترك من الناس والدهر لا يسعى إلى أن يسلبه نفائس ما حصل عليه بفضل مجهوده وكفاحه وإنما يسعى إلى اجتثاث روحه أصلا :

 

فلو أنى حسدت على نفيس

لجدت به لذى الجد العثور

ولكنى حسدت على حياتى

وما خير الحياة بلا سرور

 

ويقرر المتنبى أن كلا من الحقد والحسد وأمثال هذه المشاعر الخسيسة التى هى من أخلاق العبيد عند نيتشه هى التى كانت تحيط به سواء من العامة أو من الحكام :

 

لا أقترى بلدًا إلا على غرر

ولا أمر بخلق غير مضطغن

ولا أعاشر من أملاكهم ملكا

إلا أحق بضرب الرأس من وثن

 

ويذكر المتنبى أن خصومه الذين يعملون على تشويه سمعته يبلسون تماما عندما يرونه وجهًا لوجه ، وهو لا يعاقبهم على ذلك ، وإنما يعاتبهم بالصفح عنهم ، والتهوين من شأنهم .

 

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرنى

فلا أعاتبه صفحا وإهوانا

وهكذا كنت فى أهلى وفى وطنى

إن النفيس غريب حيثما كانا

 

والنفيس والغريب هى من جنس الألفاظ التى استخدمها نيتشه فى وصف الإنسان الأرقى : هذا الإنسان الذى يجد فى الحياة ذاتها أقوى دافع لكى يحقق فيها أهدافه العليا ، غير عابئ بتقلبات الزمن ، وغلبة الحزن ، وانعدام السرور . يقول المتنبى :

 

أريد من زمنى ذا أن يبلغنى

ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

لا تلق دهرك إلا غير مكترث

ما دام يصحب فيه روحك البدن

فما يديم سرور ما سررت به

ولا يرد عليك الفائتَ الحزن

 

ومن طبيعة هذا الإنسان القوى ألا يغضب أو ييأس حين تعاديه الظروف القاهرة فى عدم تحقيق طموحاته أو آماله :

 

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن

 

وهكذا يظل الإنسان الحقيقى فى سعى دائب ، وحركة مستمرة ، لأن القعود فى نفس المكان يلحق به الضرر ، ويلقى بجسمه فى المرض . وكما يقول الرياضيون : إن عدم تحريك العضلة يضعفها :

 

يقول لى الطبيب : أكلت شيئا

وداؤك فى شرابك والطعام

وما فى طبه أنى جواد

أضر بجسمه طول الجمام

تعود أن يغبّر فى السرايا

ويدخل من قتام فى قتام

فأمسك لا يطال له فيرعى

ولا هو فى العليق ولا اللجام

 

وبهذه المناسبة ، تجدر الإشارة إلى أن المتنبى من الشعراء القلائل الذين عبروا عن إحساسهم ومشاعرهم تجاه المرض الذى ألمّ بهم . ومن الملاحظ أنه يصف أعراض المرض بدقة ، ثم يحاول تأملها ، وينتهى أخيرًا بوضع فلسفة لها : تمامًا كما فعل نيتشه مع أمراضه العضال ، وإن كان هذا الأخير أشد وأقسى .


فى الأبيات السابقة ، يخلص المتنبى إلى أن سبب المرض الحقيقى يختلف كثيرًا عما شخصه له الطبيب . فهو يرى أن سبب مرضه تناوله لشئ فاسد من الطعام أو الشراب ، لكن المتنبى يؤكد خطأ هذا السبب ويقول إنه غير موجود فى الطب العضوى ، وإنما المفروض أن يبحث عنه فى الطب النفسى ، لأن مشكلته الحقيقية ترجع إلى الإمساك به مقيما فى مساحة محدودة من المكان، بينما كان متعودا على الانطلاق فى المساحات الفسيحة للمعارك ، والاشتراك فى معامعها ، واستنشاق غبارها المتصاعد من حوافر الخيل ، لذلك كان طول فترة راحته واستجمامه هى السبب الأساسى فى ضعف جسمه ، وتهاوى مقاومته .


وإذا كنا نلاحظ أن المتنبى فى هذه القصيدة الشهيرة عن (الانفلونزا) يتألم ويتوجع ، إلا أنه كان يحاول أن يعلو على هذا الألم ، من خلال خطابه المباشر إلى الانفلونزا ، التى اعتبرها إحدى مصائب الدهر ، لا تزوره إلا فى الليل ، وعندما تتمكن من جسده يضيق جلده عن تحملها وتحمله معها فى نفس الوقت . ومن الغريب أنه راح ينتظر موعد قدومها إليه كل مساء ، مبديا الشوق لها وهو غير مشتاق ، ومظهرًا الهيام بها ، وهو غير مستهام . ومع ذلك كانت صادقة فى موعدها ، فلم تخلف وعدًا لها ! .


وهكذا نرى أن هذا الوصف الدقيق للمرض ، ومحاولة تحليله نفسيا ، إنما هو نوع من استعذاب العذاب ، والاستعلاء على قسوة الألم الناتجة عنه ، وكلاهما لا يبعد كثيرًا عما قام به نيتشه فى تحليله لأمراضه ، والخروج من ذلك بنتيجة كبرى جعلته يقول : "أنا أعرف الحياة معرفة جيدة ، لأنى كنت على وشك فقدها" ويقول أيضا : "إنى لأدرك تمام الإدراك هذه الميزة التى منحتنيها صحتى المضطربة فامتزت بها على جميع المفكرين المبنيين بالجير والملاط" .

وفى نفس القصيدة يقول المتنبى مخاطبًا الانفلونزا :


 

أبنتَ الدهر ، عندى كل بنت

فكيف وصلت أنت من الزحام؟!

 

وهو ما يؤكده فى موضع آخر ، حيث يقول :

 

رمانى الدهر بالأرزاء حتى

فؤادى فى غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتنى سهام

تكسرت النصال على النصال

وهان فما أبالى بالرزايا

لأنى ما انتفعت بأن أبالى

 

وهكذا يؤكد المتنبى أن كثرة المصائب ، وتوالى سقوطها تنتهى بأن تفقد ضحيتها الشعور بالإحساس ، والمبالاة بها ، والتجربة تثبت أن مثل هذه المبالاة لا تنفع صاحبها ، ولا تصد قدرا :

 

أظمتنى الدنيا فلما جئتها

مستسقيا مطرت علىّ مصائبا

 

ولعل هذا ما جعله يتمنى أن يكتب قصيدة واحدة خالية من الشكوى والعتاب :

 

ألا ليت شعرى هل أقول قصيدة

فلا أشتكى فيها ولا أتعتب

 

والشكوى هنا من مصائب الدهر ، أما العتاب فهو للناس : الأصدقاء والمعارف . لقد دفعت التجربة الإنسانية العميقة التى عاشها المتنبى إلى أن يدرك أن الدهر خال من أى شىء يستحق الحمد :

 

منْ خصّ بالذم الفراق ، فإننى

مَنْ لا يرى فى الدهر شيئًا يُحمد

 

لكن الإنسان الأرقى – كما يذهب نيتشه – ليس هو الخانع أو المستسلم لأمراض الجسم ، أو لحوادث الدهر ، بل هو المصمم على تحقيق مطالبه بأصعب الوسائل . يقول المتنبى :

 

يهون على مثلى إذا رام حاجة

وقوع العوالى دونها والقواضب

كثير حياة المرء مثل قليلها

يزول ، وباقى عيشه مثل ذاهب

إليك ، فإنى لست ممن إذا اتقى

عضاض الأفاعى نام فوق العقارب

 

وهو يؤكد ارتفاع مستوى مطالبه عن مستوى جميع الناس من حوله . والدليل على ذلك أن ما يقصده من الأعمال العظيمة = العجيبة يصبح من العجائب التى تدهش العجائب نفسها :

 

إلىّ لعمرى قصد كل عجيبة

كأنى عجيب فى عيون العجائب

بأى بلاد لم أجرّ ذؤابتى

وأى مكان لم تطأه ركائبى

 

وبالطبع لابد أن نذكر هنا البيت الشهير الذى قاله المتنبى مفتخرًا بفروسيته من ناحية ، وموهبته الشعرية من ناحية أخرى :

 

الخيل والليل والبيداء تعرفنى

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

والواقع أن فخر المتنبى بموهبته الشعرية لم يكن له حدود ، وإن كان من النقاد العرب القدامى مَنْ لم يستسيغوه تماما ، كما فعل ذلك بعض معاصريه الحاسدين له ، فإن نيتشه يعتبر مثل هذا الفخر نوعًا من "وصف الحال كما هو عليه "لدى الإنسان الأرقى . يقول المتنبى :

 

وما الدهر إلا من رواة قصائدى

إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا

فسار به مَنْ لا يسير مشمِّرًا

وغنى به لم يغن مغرّدا

 

ويقول :

 

أنا الذى نظر الأعمى إلى أدبى

وأسمعت كلماتى مَنْ به صمم

أنام ملء جفونى عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

 

وقد كان هذا صحيحا . فإن قصائده كانت تتردد فى كل البلاد الناطقة بالعربية ، وحتى فيما وراءها من بلاد الفرس. وبالإضافة إلى حفظ أشعاره ، وتداولها ، وبيان مواطن الجمال فيها ، فقد بلغت شروح ديوانه حوالى الأربعين، وهذا ما لم يتوافر لأى شاعر عربى سواه ، كما كان من بين من عكفوا على شرحه كبار اللغويين (مثل ابن جنى) والشعراء مثل (المعرى) والنقاد (مثل الجرجانى عبد العزيز ، والعبيدى ، والواحدى ، والبرقوقى) .


إن التميز ليس عيبا ينبغى إخفاؤه ، أو التنصل منه بدعوى التواضع ، وإنما ينبغى أن يعلن عن نفسه وخاصة وسط المتساويين والضعفاء . أما التواضع الكاذب الذى يساير هؤلاء فهو الذى يهدف إلى استمرار الضعف والرداءة وعدم الارتفاع للأعلى ، وتلك هى من أخلاق العبيد التى تحدث عنها نيتشه بكثير من التفصيل . يقول المتنبى :

 

ولما صار ود الناس خبا

جزيت على ابتسام بابتسام

وصرت أشك فيمن أصطفيه

لعلمى أنه بعض الأنام

يحب العاقلون على التصافى

وحب الجاهلين على الوسام

وآنف من أخى لأبى وأمى

إذا ما لم أجده من الكرام

أرى الأجداد تغلبها كثيرا

على الأولاد أخلاق اللئام

 

وهكذا نرى لدى المتنبى التصريح بكل وضوح بـ (أخلاق اللئام) التى هى أخلاق العبيد فى مقابل أخلاق الكرام التى هى أخلاق السادة .. تلك الأخلاق التى تظل تدفع أصحابها إلى محاولة الوصول إلى الكمال . يقول المتنبى :

 

عجبت لمن له قد وحَد

وينبو نبوة القضم الكهام

ومَنْ يجد الطريق إلى المعالى

فلا يذر المطىّ بلا سنام

ولم أر فى عيوب الناس شيئا

كنقص القادرين على التمام

 

(القد : القامة – الحد : البأس – ينبو السيف : لا يصيب – القضم : المنثلم – الكهام : الذى لا يقطع) .

والمتنبى ليس آله صماء ، بل هو إنسان ينفعل ، وله رد فعل إزاء العدو والصديق . يقول :

 

ويزيدنى غضب الأعادى قسوة

ويلم بى عتب الصديق فأجزع

 

ولأنه إنسان متفرد بين الناس ، فعليه أن يكون على الدوام متيقظا لتصرفاتهم ، حذرًا من خداعهم المتكرر ، والذى يختفى دائمًا خلف أقنعة الإبتسام الزائف ، والمودة الظاهرية :

 

ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة

بين الرجال ولو كانوا ذوى رحم

وكن على حذر للناس تستره

ولا يغرنك منهم ثغر مبتسم

غاض الوفاء فما تلقاه فى عدة

وأعوز الصدق فى الإخبار والقسم

 

إن كثرة التجارب التى مرت بالمتنبى جعلته بستخلص حكمته الخاصة به ، وخاصة من تقلبات الدنيا أمام عينيه :

 

ومَنْ صحب الدنيا طويلا تقلبت

على عينه حتى يرى صدقها كذبا

 

ومع ذلك فإنه لا يرضخ لهذا الهبوط الأخلاقى الذى يحيط به ، بل إنه يستمر فى صعوده نحو الأعلى :

 

ومَنْ تكن الأسد الضوارى جدوده

يكن ليله صبحا ، ومطعمه غصبا

ولست أبالى بعد إدراكى العلا

أكان تراثا ما تناولت أو كسبا

 

وهنا يلتقى المتنبى مع نيتشه مرة أخرى فى ضرورة أن يقيم الإنسان الأرقى معايير الأخلاق من منظوره الخاص ، بدلاً من أن يأخذها أو يعتمد عليها من القيم السائدة فى المجتمع ، والتى ترجع سيادتها فيه إلى أخْذ الناس لها دون فحص أو تمحيص ، والى متابعة بعضهم بعضا فيها دون توقف لمعرفة ما هو الصحيح فيها من الفاسد . وها هو يرصد فى البيتيْن السابقين فقط : قلة الإنصاف ، والوجوه التى تبتسم نفاقا ، وانعدام الوفاء ، والكذب المتفشى فى كل من الأخبار ، والأيمان المغلظة!


لقد انتهى المتنبى فى سلوكه الشخصى ، وقناعاته الداخلية إلى أن طريق المجد الحقيقى لا يمكن سلوكه بدون سلاح القوة ، وهو يعلن بكل وضوح :

 

حتى رجعتُ وأقلامى قوائل لى

المجد للسيف ، ليس المجد للقلم

 

ويهتف بأعلى صوته مصرحًا بأخلاقه للجميع :

 

لتعلم مصر ومن بالعراق

ومن بالعواصم أنى الفتى

وأنى وفيت وأنى أبيت

وأنى عتوت على من عتا

وما كل من قال قولاً وفى

ولا كل من سيم خسفا أبى

ومن يك قلب كقلبى له

يشق إلى العز قلب النوى

ولابد للقلب من آلة

ورأى يصدع صم الصفا

 

وإذا كان معظم الناس يقبلون ما يعرضه عليهم الزمان ، وتواتيهم به الظروف ، فإن المتنبى يتفرد عنهم جميعا بأنه لا يقبل عطاء الزمان ، ذلك الذى يأتيه عفوًا أو عن طريق الصدفة ، وبأنه حين يريد له أمرًا فإنه يتوقف لكى يتخير بنفسه ما يريده :

 

أعطى الزمان فما قبلتُ عطاءه

وأراد لى فأردت أن أتخيرا

 

ويعاتب أحد الحكام ، ممن كان يعزهم ، ثم ثبت له أنه أرسل فى إثره بعض من يقتله من أتباعه ، فيقول :

 

ونفسى له نفسى الفداء لنفسه

ولكنّ بعض المالكين عنيف

فإن كان يبغى قتلهايك قاتلا

بكفيه ، فالقتل الشريف شريف

 

وهذا عتاب من أقسى ما قرأت عنه فى الأدب العربى ، وكذلك العالمى!

وفى ختام هذا القسم ، الخاص بشخصية المتنبى وأخلاقه ، يمكن ايراد البيت الذى يلخص ذلك كله فى قوله :

 

وفؤادى من الملـــــــــــوك ، وإن كان لســـــانى يرى من الشعراء

 

القسم الثانى :


يختص هذا القسم من البحث بأفكار المتنبى المرتبطة بفلسفة القوة ، والمنبثة فى قصائده التى مدح فيها أو هجا حكام عصره أو الشخصيات التى التقى بهم أثناء تجواله الطويل بين موطنه الأصلى فى العراق ، ثم فى الشام ومصر وبلاد فارس . والملاحظ هنا على المتنبى أنه كان على عكس نيتشه فى: مخالطة البشر ، ولقائه بالحكام ، وتنقله فى الصحراء مواجها مخاطرها ، ومتحملاً صعوبة السيْر فيها ، ليلاً أو نهارًا ، كما يبدو بوضوح أنه كان يسعى لمواجهة المشاكل بدلاً من تجنبها ، وكلما اتسعت شهرته الأدبية كثر حساده الذين بلغ بهم الحقد إلى حد الاعتداء البدنى عليه (كما حدث من ابن خالويه حين شج رأسه بمفتاح) أو التحريض على قتله (كما حدث من أبى العشائر الذى حرّض بعض غلمانه على التخلص منه) !


من هذه التجربة الانسانية الصعبة ، استمد المتنبى الكثير من أفكاره ، إلى جانب ما حصّله من الثقافات التى نشأ فيها : البدوية والعربية والإسلامية ، وما قرأه مترجما من الثقافات الأجنبية كالفارسية والهندية واليونانية ، وفى هذه الأخيره يلتقى مع عدد كبير من أفكار أرسطو .


ويلاحظ على ديوان المتنبى أن (المدح) هو الغالب عليه ، وإلى جانبه يوجد (الرثاء) لبعض أقارب الممدوحين ، ثم يأتى (الهجاء ، والفخر) وهذه هى الموضوعات الرئيسية الأربعة التى تغلب على قصائده . أما (الوصف والحكمة) اللذان يعتبرهما دارسو الأدب من الموضوعات الرئيسية فى شعر المتنبى ، فهما – فى رأيى – مجرد وسائل فنية كان يستعين بهما على إقامة بنائه الشعرى ، وذلك مثل (الغزل) الذى كان يبتدئ به قصائده ، وهو التقليد الذى كان متعارفًا عليه فى الشعر العربى ، منذ العصر الجاهلى حتى عصر المتنبى، وأطلق عليه نقاد العرب القدامى : عمود الشعر.


وإذا كان فخر المتنبى بشخصه وبموهبته الشعرية قد استعرضناه فى القسم الأول من هذا البحث ، فإننا نلاحظ هنا أن هذا الفخر لم يكن افتخارًا لفظيًا أو شكليًا (كما نجده مثلا عند كل من جرير والفرزدق) وإنما كان تصريحا بالصفات العليا التى وضعها المتنبى لنفسه ، ويبدو بالفعل أنه لم يجد أى غضاضة على الإطلاق فى التغنى بها أمام من يمدحهم من الحكام والأمراء ، كما حدث فى قصيدته الشهيرة ، والأخيرة ، التى ألقاها أمام سيف الدولة ، وفى قلب بلاطه العامر برجال الدولة وكبار الشخصيات ، وفيها يقول :

 

سيعلم الجمع من ضمّ مجلسنا

بأننى خير من تسعى به قدم

 

وواضح أن مثل هذا القول لا يصدر من مادح متكسب بقدر ما يعلن عن إنسان متميز ، يرى أن كرامته تعلو فوق الجميع !


الممدوح كنموذج :


كان (المدح) قبل عصر المتنبى وحتى وصل إليه تقليدًا مستقرا ، وعرفا سائدًا لدى الشعراء ، يصوغونه لزعماء القبائل ثم للأمراء والحكام بقصد الحصول منهم على العطايا والمكافآت ، التى كانوا فى أشد الحاجة إليها ، لكن الممدوحين من جانبهم كانوا أيضا فى أشد الحاجة إلى هذا المديح ، لأنه هو الذى يرسخ مكانتهم ، وينشر فضائلهم ، ويرعب أعداءهم ، ويترك لهم بعد وفاتهم حسن السمعة وجميل الأثر. لذلك كان حرص الحكام على المدح يعادل حاجة الشعراء إلى مكافآتهم . وهكذا صار الأمر – كما فى مجال الاقتصاد - أشبه بعملية العرض والطلب !


ونحن نعلم من حياة المتنبى أنه عندما وجد نفسه يمتلك منذ الصبا تلك الموهبة الشعرية المتدفقة ، راح يستغلها فى الحصول على رزقه من خلال مدحه لبعض الأشخاص المغمورين الذين التقى بهم . وتذكر الروايات أنه لم يكن يحصل منهم إلا على أقل القليل (درهم واحد أحيانا للقصيدة !) ثم جاءت اللحظة السعيدة فى حياته ، عندما مدح أبا العشائر الذى كان واليا على أنطاكية من قبل سيف الدولة ، فقدمه إلى ابن عمه الأمير سيف الدولة حاكم حلب ، سنة (237هـ) وهناك ظل فى حمايته معززا ، ومحفوفا بكرمه لمدة تسع سنوات متواصلة .


والواقع أن هذه الفترة التى قضاها المتنبى فى رعاية سيف الدولة كانت من أخصب فترات إنتاجه الشعرى. فقد لازمه فيها ملازمة لصيقة ، تعرف من خلالها على صفاته ، وقدرته على الحكم ، وإدارته لشئون الرعية ، وإعداده للجيش وقيادته للفتك بالأعداء ، وحفظ حرمة حدود الدولة ، كما شاهد معه بعض رحلات الصيد ، وجلس إليه أحيانا فى مجلس الشراب على الرغم من كرهه الشديد للخمر ، وعدم استساغته لها . وكان من الطبيعى أن يقف المتنبى مع سيف الدولة فى بعض محنه ، ومنها فقده لأختين ، وأمه ، وأحد مماليكه المقربين جدا إليه. وقد تجلى ذلك فى مواساته له ، ورثائه لهم . ويبقى السؤال هنا : ما الذى كان يشيد به المتنبى فى مدحه لسيف الدولة ؟ عدة ملامح وخصال ، أهمها : حسن الخلقة ، والكرم ، والشجاعة ، والمهارة فى قيادة الجيش ، والانتصار فى المعركة . يقول المتنبى :

 

وبمهجتى يا عاذلى الملك الذى

أسخطت أعذل منك فى إرضائه

إن كان قد ملك القلوب فإنه

ملك الزمان بأرضه وسمائه

الشمس من حساده ، والنصر من

قرنائه ، والسيف من أسمائه

أين الثلاثة من ثلاث خلاله

من حسنه وإبائه ومضائه ؟!

مضت الدهور وما أتين بمثله

ولقد أتى فعجزن عن نظرائه

 

وهو يسجل لحظة تعرفه على سيف الدولة ، بل بالأحرى إعجابه بمجموع صفاته وأخلاقه التى كان ينتظرها المتنبى من (نموذج الحاكم العربى) الذى يجمع فى شخصه بين حسن المظهر وكرم الأخلاق ، والتطلع إلى المجد ، ومحاربة الأعداء والانتصار عليهم. يقول المتنبى:

 

سلكت صروف الدهر حتى لقيته

على ظهر عزم مؤيدات قوائمه

فأبصرت بدرًا لا يرى البدر مثله

وخاطبت بحرًا لا يرى العِبْر عائمه

غضبت له لما رأيت صفاته

بلا واصف ، والشعر تهذى طماطمه

لقد سل سيف الدولة المجد معلما

فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه

تحاربه الأعداء وهى عبيده

وتدخر الأموال وهى غنائمه

ويستكبرون الدهر والدهر دونه

ويستعظمون الموت والموت خادمه

 

(مؤيدات : قوية . العِبْر : الساحل . الطماطم جمع طمطم : الذى فى لسانه عجمة) والذى يتأمل جيدا البيت الذى يذكر فيه المتنبى غضبه من عدم رؤية أحد يقوم بإعلاء صفات سيف الدولة ، ويكون على قدر قامته ، يمكنه أن يقف على الواقع الحقيقى للمدح الذى أعلى فيه المتنبى تلك الصفات ، وعمل على تخليدها للأجيال اللاحقة ، ولعلنى أكاد أذهب إلى أنه لولا قصائد المديح التى طوّق بها المتنبى عنق سيف الدولة ما أصبح له ذكر فى التاريخ ، ولظل مجرد اسم يذكر وسط مئات الأمراء التى حكموا بعض أقاليم الدولة الإسلامية.


لقد رأى المتنبى فى سيف الدولة نموذج الحاكم العربى الأصيل ، الذى يقف باقتدار على أحد ثغور الدولة ، محافظًا عليه ، ومدافعًا بكل بسالة عن حرمته . وكانت خصالة الشخصية تمتزج تمام الامتزاج مع أسلوبه فى إدارة الحكم ، والقيادة العسكرية . والخلاصة أنه كان النموذج الأرقى الذى لم يكن المتنبى يرضى بسواه ، أو بأقل منه . وهكذا فإننى أعود فأؤكد على أن مدح المتنبى لسيف الدولة بالذات ولبعض الأمراء القريبى الشبه به ، لم يكن (مدح أشخاص) بقدر ما كان (مدح نماذج) والفارق كبير . فالأول غرضه الأول والأخير هو الحصول على مكافأة الممدوح ، أما الثانى فهو يهدف إلى إعلاء صفات عليا للحكام ، الذين كانت الأمة فى أشد الحاجة إليهم . يقول المتنبى مخاطبا بدر بن عمار (والى طبرية) :

 

مثلك يا بدر لا يكون ولا

تصلح إلا لمثلك الدول

 

ويحمل على الأعاجم الذين تولواْ الحكم فى بعض الأقاليم الإسلامية ، بعد سيطرتهم على مركز الخلافة فى بغداد :

 

وإنما الناس بالملوك ولا

تصلح عُرْب ملوكها عجمُ

لا أدب عندهم ولا حسب

ولا عهود لهم ولا ذمم

بكل أرض وطئتها أمم

ترعى بعبد كأنها غنم

يستخشن الخز حين يلمسه

وكان يُبرى بظفره القلم

 

وهو يرى أن معالى الأمور ، ومنها منصب الحكم ، لا يبلغها ولا ينجح فيها إلا مَنْ كان مؤهلاً لذلك بقوة الإرادة ، ومضاء العزيمة لكنه ينظر حوله فلا يرى إلا أشخاصًا ذوى أجسام ضخمه ، لكن نفوسهم صغيره ، أما حكامهم فهم مثل الأرانب فى ضعفها ، تبدو مفتحه العيون بينما هى فى الحقيقة نائمة العقول. وما أحقها بالقتل والإبادة (وهذا هو نفس ما دعا إليه نيتشه) يقول المتنبى :

 

ودهر ناسه ناس صغار

وإن كانت لهم جثث ضخام

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

أرانب غير أنهم مُلوك

مفتحة عيونهم نيام

بأجسام يحرّ القتل فيها

وما أقرانها إلا الطغام !

 

(الرغام : التراب . يحرّ : يشتد . الأقران : الأكفاء فى الحرب)

لذلك فإن شخصًا واحدًا ، ذا كفاءات عالية ، وصفات متميزة (أى من السادة) يمكنه أن يعدل ، بل إنه يفوق تلك الأعداد الغفيره :

 

ما كل مَنْ طلب المعالى نافذا

فيها ، ولا كل الرجال فحولا

 

وهنا فكرة مشتركة أخرى بين المتنبى ونيتشه ، وهى المتعلقة بالمقارنة بين (الكم والكيف) . وخلاصة هذه الفكرة عند نيتشه أن كثرة العدد (الكم) لا قيمة لها فى مقابل التوعية الخاصة (الكيف) ويتضح ذلك فى الأفراد والحضارات . أما فى الأفراد فإن القلة القليلة المتميزة هى أفضل بكثير لتقدم الحياة والارتقاء بها من الكثرة الخانعة المغمورة ، والتى لا تكاد تنظر إلا إلى ما تحت قدميها. وبالنسبة إلى الحضارة ، فإنها عندما تبدأ تعتمد فى الأساس على قلة من الأفراد يتميزون بالإبداع والاختراع واقتحام الصعاب وتحقيق عظائم الأعمال ، ثم تأتى بعد ذلك فترة تسمى (المدنية) وفيها تستقر الدولة ، وتكثر فيها أعداد الأفراد الذين يكتفون باجترار ما قام به الرواد السابقون . وتظل الأمور تسير على هذا النحو الجامد البليد حتى تضعف المدنية ، وتنتهى بالزوال .


وهناك أدلة كثيرة على أن المتنبى لم يكن مدحه (مدح أشخاص) وإنما (مدح نماذج عليا) تجتمع فيها صفات وخصائص الإنسان الأرقى ، وهو نفس ما كان ينشده نيتشه . ومنها أولا : أن المتنبى لم يكن يرضى من ممدوحيه الاشتغال بصغائر الأمور ، وكان يُعلى فيهم مواجهة الصعاب ، والتصدى الشجاع للعقبات :

 

التاركين من الأشياء أهونها

والراكبين من الأشياء ما صعبا

 

وهؤلاء إذا قصدوا الأعداء ، أمطرت سيوفهم الموت على رؤوسهم ، حتى تحسبها سحابًا ينهال عليهم :

 

قوم إذا أمطرت موتا سيوفهُم

حسبتها سحبا جادت على بلد

 

ويقارن المتنبى بين حاكم يظل مهتما بأمور الدفاع والحرب ، وبين حاكم آخر مشغول بمعاقرة الخمر ، فيقول :

 

ما الذى عنده تدار المنايا

كالذى عنده تدار الشمول ؟!

 

ومن تلك الأدلة ثانيا : أن المتنبى لم يكن يستطيب الإقامة لدى حاكم متهاون أو مقصّر ، أو غير منصف فى توزيع عدله على الجميع ، لذلك عندما هوجم فى مجلس سيف الدولة ، ولم يجد منه دفاعًا عنه أو انتصافا لحقه غادر البلاط ، وهجر كل ما كان يتقلب فيه من الجاه والعز إلى غير رجعة ، بل إنه استطاع أن يجعل من رحيله عن سيف الدولة وأتباعه بمثابة رحيلهم هم عنه :

 

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا

ألا تفارقهم ، فالراحلون همُ

 

وقد يقال : إن المتنبى عندما ذهب إلى كافور الإخشيدى فى مصر ، ظل يلح عليه فى تولى منصب حاكم بإحدى الولايات التابعة له . وهذا حق ، بل إنه واضح تمامًا من بعض الأبيات التى ضمنها فى قصائده ، لكن الأمر اللافت للنظر أنه لم يسع إلى شىء من ذلك ، وهو فى كنف سيف الدولة ، لماذا ؟ لأنه وجد فيه (الحاكم النموذج) الذى استحق مدحه ، فمنحه أروع قصائده . أما كافور ، فقد كان أمثاله لا يصلحون لحكم ولاية كبرى مثل مصر وما يتبعها من الشام والعراق والجزيرة العربية ، فى نفس الوقت الذى لم تكن مؤهلاته تصلح لتجعل منه قائدًا كبيرًا ومثلا أعلى ، ولذلك راح المتنبى يقدم نفسه على أنه الأجدر والأحق منه بهذا المنصب . يقول عن كافور :

 

أكلما اغتال عبد السوء سيده

أو خانه ، فله فى مصر تمهيد

صار الخصىّ إمام الآبقين به

فالحر مستعبد والعبد معبود

 

إن المجد الذى يخلد سيرة الملوك لا يأتى من الوصول إلى الحكم بأساليب الغدر والخيانة ، ولا يستمر بعد التمكن منه فى الانشغال بمجالس الشرب والرقص والغناء ، يقول المتنبى :

 

ولا تحسبن المجد زقا وقينة

فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وأن ترى

لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك فى الدنيا دويا ، كأنما

تناول سمع المرء أنمله العشر

 

(الزق : وعاء الخمر . الفتكة البكر : البطش غير المسبوق . الهبوات : غبار المعارك . المجر : الكثير) .


وأخيرا ، فإن المتنبى – لمن يزعمون أنه ظل طوال عمره يتكسب بمدح الحكام والأمراء – قد امتنع عن مدح الوزراء ومَنْ دونهم ، وقصر مدحه فقط على مدح الملوك والحكام ، والسبب هنا واضح . لأن الملوك والأمراء هم دائما الذين بأيديهم مقاليد الأمور ، أما الوزراء فلم يكونوا سوى أتباع منفذين لأوامر أسيادهم ، فضلا عن رغباتهم ! وهذا يدل على أن (نموذج الحاكم) لدى المتنبى كان يتمثل فى كبير القوم ، وليس فيمن يليه من الأتباع ، مهما علت مناصبهم ، واتسع مجال نفوذهم .


وإرادة القوة التى دعا إليها نيتشه تكاد لا تفارق المتنبى فى معظم قصائده ، سواء منها ما يدور حول المدح أو حتى الهجاء والرثاء . ولعل هذا ما جعل المتنبى يتميز ، بل يتفرد من بين جميع الشعراء السابقين عليه واللاحقين له ، بأنه قام بعمليتى هدم (فى الهجاء) وعملية بناء (فى المدح) ولدى نيتشه ما يقابل هاتين العملتين ، وإن كانتا تتسمان بالتحليل الأوفى والتسلسل العقلى الصارم . يقول المتنبى :

 

إذا غامرت فى شرف مروم

فلا تطمع بما دون النجوم

فطعم الموت فى أمر حقير

كطعم الموت فى أمر عظيم

 

ويقول :

 

على قدر أهل العزم تأتى العزائم

وتأتى على قدر الكرام الكرائم

وتعظم فى عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

 

ويقول :

 

من أطاق التماس شىء غلابا

واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا

كل غادٍ لحاجة يتمنى

أن يكون الغضنفر الرئبالا

 

وهو يرى أن الظلم (أى التغلب بمعناه الواسع) من طبيعة البشر. وكما يرى نيتشه بالضبط أن الإنسان الذى يلجأ إلى الانصاف مدعيًا العفة إنما يفعل ذلك لضعف فيه ، وهذا من أخلاق العبيد وليس السادة :

يقول المتنبى :

 

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم

 

وهو يؤكد ذلك حين يتحدث عن الحلم الناشئ عن عدم القدرة :

 

كل حلم أتى بغير اقتدار

حجة لاجئ إليها اللئام

مَنْ يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

 

ويقول أيضا ، متفقًا تمامًا مع نيتشه :

 

يرى الجبناء أن العجز عقل

وتلك خديعة الطبع اللئيم

 

وهو يرى أن قوة الشجاعة إذا اجتمعت مع حكمة العقل حققا لصاحبهما، وخاصة إذا كان ذا نفس حرة ، أفضل النتائج ، يقول المتنبى :

 

الرأى قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهى المحل الثانى

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة

بلغا من العلياء كل مكان

 

ويقول :

 

وكل شجاعة فى المرء تغنى

ولا مثل الشجاعة فى الحكيم

 

ويقول :

 

وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا

إذا لم يكن فوق الكرام كرام

 

لقد كان عصر المتنبى مليئا بالحكام : حكام الأقاليم والإمارات الصغيرة التى كانت تتناثر من جسد دولة الخلافة . ونظرًا لكثرة هؤلاء الحكام فقد كان من الممكن رصد التمايز بين أحدهم والآخر : فى صفاته وأخلاقه وأدائه والنتائج المترتبة على قراراته .


وقد نستغرب اليوم من عدم قيام المتنبى بمدح الخليفة نفسه ، ولا سعى إلى ذلك ، مع أنه الرأس الأكبر فى الدولة الإسلامية ، ولعل السبب هنا قد أصبح واضحا ، لأن الخلفاء فى عهده كانوا قليلى الحيلة ، تاركين تصريف الأمور الفعلية للقادة العسكريين ، وهؤلاء كانوا فى غالبيتهم من الأتراك والديلم، كما أنهم أهملوا حركات الانفصال التى كان يقوم بها حكام الأقاليم مستغلين ضعف السلطة المركزية من ناحية وابتعاد ولاياتهم عنها من ناحية أخرى . وفى هذا يقول المتنبى متحسرا :

 

سادات كل أناس من نفوسهمُ

وسادة المسلمين الأعبد القزم

 

وهو يقول ، مادحا وهاجيا فى وقت واحد :

 

وما قست كل ملوك البلاد

فدع ذكر بعض بمن فى حلب

ولو كنت سميتهم باسمه

لكان الحديد وكانوا الخشب !

 

ويقول أيضا بنفس الأسلوب الذى يجمع بين مدح سيف الدولة وهجاء غيره :

 

إذا كان بعض الناس سيفا لدولة

ففى الناس بوقات لها وطبول

 

ويكشف عن السبب الذى دفعه إلى التوجه إليه ، دون سواه ، فيقول :

 

ونهب نفوس أهل النهب أوْلى

بأهل المجد من نهب القماش

فسرت إليه فى طلب المعالى

وسار سواى فى طلب المعاش

 

ويتحدث عن غيره بين ملوك عصره قائلا :

 

رأيتك فى الذين أرى ملوكا

كأنك مستقيم فى مُحال

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

 

(المحال : المعوج)

ومن أروع ما وصف به جيش سيف الدوله وقيادته المركزية له :

 

يهز الجيش حولك جانبيْه

كما نفضت جناحيها العقاب

رميتهمُ ببحر من حديد

له فى البر خلفهمُ عُباب

فمسّاهم وبسطهم حرير

وصبّحهم وبسطهم تراب

 

فإذا تركنا المدح جانبا ، وجدنا العديد من أفكار المتنبى تدور حول (إرادة القوة) التى دعا إليها نيتشه بكل ما تتضمنه من أخلاق هى نفسها أخلاق السادة . ومن ذلك قوله :

 

أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل

والطعن عند مجبيهنّ كالقبل

وما تقر سيوف فى ممالكها

حتى تقلقل دهرًا قبل فى القلل

 

وهو يدين حياة الذل والخنوع والاستسلام فى قوله :

 

إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة

فلا تستعدن الحام اليمانيا

ولا تستطيلن الرماح لغارة

ولا تستجدن العتاق المذاكيا

فما ينفع الأسد الحياء من الطوى

ولا تُتقى حتى تكون ضواريا

 

(الأسل : الرماح . تقلقل : تحرك . القُلل : الرؤوس)

وما دام الموت هو نهاية كل حى ، فالمنطق السليم يقول : من الأفضل أن يعيش الإنسان ويموت شجاعا ، وبالعكس لا ينبغى عليه أن يعيش ويموت جبانا :

 

ولوان الحياة تبقى لحى

لعددنا أضلنا الشجعانا

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تموت جبانا

 

ويؤكد المتنبى أن المجد لا يناله سوى السادة الذين (يفعلون) ولا يكتفون (بالكلام) ، كما أنهم لا يعتمدون على (ما ورثوه) عن الآباء والأجداد ، وإنما يمضون بعزيمتهم (وسيوفهم) لتحقيق مطالبهم :

 

لا يدرك المجد إلا سيد فطن

لما يشق على السادات فعّال

لا وارث جهلت يمناه ما وهبت

ولا كسوب بغير السيف سآل

القاتل السيف فى جسم القتيل به

وللسيوف كما للناس آجال

ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته

ما فاته ، وفضول العيش أشغال

 

الموقف من المرأة


إن جوانب الشبه بين المتنبى ونيتشه كثيره ومتنوعه ، وهى لا تقف فقط عند الأفكار الكلية الكبرى ، بل إنها تدخل أيضا فى صميم التفصيلات. وبناء على ذلك يمكن للباحث المدقق أن يستخرج من أشعار المتنبى بعض العبارات ، وحتى الألفاظ ، التى تقابلها لدى نيتشه .


ويهمنى قبل ختام هذا البحث أن أشير إلى موقف كل منهما من المرأة ، وهو أيضا موقف متقارب . فكل منهما لا يطمئن إليها ، ولا يثق فى قدراتها العقلية والأخلاقية . أما نيتشه فإنه يقطع صلته بها تماما ، وهو يقول : "أذاهبٌ أنت إلى المرأة ؟ لا تنس إذن سوطك" ! وأما المتنبى فإنه فى مقدمات قصائده يتغنى بجمال المرأة ، ويصور حبه العميق لها ، كما يحمل على الفراق الذى يبعده عنها ، ويبعدها عنه . لكن هذه المقدمات الغزلية – كما سبق القول – كانت جزءًا لا يتجزأ من "عمود الشعر العربى" الذى سار عليه كبار الشعراء من قبله ، ولذلك نجده بعد ذلك ، يفلسف نظرته للعشق قائلا :

 

وما العشق إلا غرة وطماعة

يعرض قلب نفسه فيصاب

وغير فؤادى للغوانى رميّة

وغير بنانى للزجاج ركاب

 

(رقيّة : هدف . الزجاج : المقصود به كؤوس الخمر)

وهو يؤكد بكل حسم أن الغوانى ضياء من الخارج ، لكن باطنهن ظلام:

 

ومَنْ خبر الغوانى فالغوانى

ضياء فى بواطنه ظلام

 

وهو يلخص أخيرًا رأيه فى أخلاق النساء عموما ، فى مقطوعة شعرية كاملة ، فيقول :

 

إذا غدرت حسناء وفت بعهدها

فمن عهدها ألا يدوم لها عهد

وإن عشقت كانت أشد صبابة

وأن فركت فاذهب فما فركها قصد

وأن حقدت لم يبق فى قلبها رضا

وإن رضيت لم يبق فى قلبها حقد

كذلك أخلاق النساء وربما

يضل بها الهادى ويخفى بها الرشد

 

(فركتْ : أَبغضت)


خاتمة البحث :


أعتقد أننى أوردت فى هذا البحث ما فيه كفاية من أشعار المتنبى لكى يثبت الفرضية التى أشار إليها العقاد ، فى بحثه المختصر عن المتنبى ، والذى نشر فى العدد الأول من (سلسلة تراث الإنسانية) فى يناير 1963 . وفى ظنى أن أحدًا من الباحثين ، سواء فى الفلسفة أو فى الأدب المقارن ، لم يحاول التحقق منها من قبل . وقد أصبح واضحًا الآن أن مجموعة الأفكار المتشابهة فى مجال فلسفة القوة بين المتنبى ونيتشه يمكنها أن تدخل الآن فى الدراسات المقارنة بهذين المجالين اللذين قد يبدوان منفصلين ، لكنهما ليسا كذلك . وبالطبع ليس هذا البحث هو الكلمة الأخيرة فى الموضوع ، وإنما هو مجرد فاتحة لدراسات أخرى لاحقة ، يمكنها أن تستخرج من النتائج ما لم يحققه بصورة كاملة .


إن المقارنة بين الأفكار فى الثقافات والآداب المختلفة اللغات تعتبر من أفضل وسائل إحداث التقارب الحضارى بين الشعوب ، بل لعلنى أذهب إلى القول بأنها ربما تنزع فتيل الأحقاد المتراكمة عبر العصور ، والتى لا تستطيع السياسة ولا التبادل الاقتصادى أن يزيلاها تماما أو يخففا من حدتها . وهى فوق هذا وذاك تقدم للعقل المتفتح متعة متابعة العقول الكبرى وهى تتلاقى عبر عصور مختلفة ، وأماكن متباينة . وأخيرًا فإن الفكر الثاقب للإنسان عندما يعلو على الظروف المحيطة والمحبطة من حوله يمكنه أن يصبح صافيا صفاء الماء فى السحب التى تعبر فوقنا ، وقد يكون بعضها قريبًا من سطح الأرض ، وبعضها الآخر أقرب إلى فضائها الخارجى .


أهم المصادر والمراجع :


أولاً : بالغة العربية :


· ديوان المتنبى ،

شرح البرقوقى – دار صادر بيروت (د0ت)

· ديوان المتنبى ،

ط. مصغرة – المركز العربى للبحث والنشر. القاهرة 1980.

· طه حسين ،

مع المتنبى – دار المعارف القاهرة 1962.

· محمود شاكر ،

المتنبى . فى سفريْن . مطبعة المدنى 1976 .

· محمد كمال حلمى (بك) ،

أبو الطيب المتنبى . مكتبة ومطبعة الشباب القاهرة 1921 .

· البديعى (يوسف) ،

الصبح المنبى عن عن حيثية المتنبى – دار المعارف. ط0 ثانية 1977 .

· الجرجانى (القاضى على بن عبد العزيز) ،

الوساطة بين المتنبى وخصومه – تحقيق هاشم انشاوى – دار احياء الكتب العربية 1985.

· عبد الرحمن بدوى (أ0د0) ،

نيتشه – سلسلة خلاصة الفكر الأوربى – مكتبة النهضة المصرية (د0ت) .

· فؤاد زكريا (أ0د0) ،

نيتشه – نوابع الفكر الغربى (1) – دار المعارف . ط0 ثالثة 1991 .

· و ل ديورانت ،

قصة الفلسفة – ترجمة فتح الله المشعشع ط0 خامسة . دار المعارف . بيروت 1985 .

· يوسف كرم ،

تاريخ الفلسفة الحديثه ط. سادسة . دار المعارف . القاهرة 1979 .

ثانيًا : باللغة الفرنسية

* Nietzsche,

- Lα généαlogie de lα morαle . Pαris 1969.

- Aurore, Pαris 1974 .

- Ainsi Pαrlait Zαrαthourstrα, Pαris 1972 .

* Bαrαnger,

Nietzsche, Pαris 1946 .

* Dwelshαu Vers,

Lα Philosoplie de Nietzsche, Pαris 1909 .

* jαspers, K

Nietzsche et le christiαnisme, Pαris 1949 .

* Boudot, p.

Nietzsche et los écrivαins Frαncαis, pαris 1970 .

* Mueller, F.L.

L’irrαtionαlisme contemporαin, Paris 1970.

* * *



*) أستاذ الفلسفة الإسلامية ، ونائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق.

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 22 نوفمبر 2019 15:11