عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
النهضة و الكفاءات البشرية صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الأحد, 19 مايو 2013 21:22

النهضة و الكفاءات البشرية

 


النهضة ببساطة ودون الدخول فى تعريفات لغوية قديمة او صادرة من توجهات سياسية حديثة هى النقلة النوعية التى تحدث فى حياة اى مجتمع، شاملة احواله السياسية والعسكرية،والاقتصادية والاجتماعية، والعلمية والثقافية ، فتخرجه من حال التخلف والجمود الى حال مخالفة لها تماما من التقدم و الازدهار.


وليست النهضة عملا عشوائيا يحدث فجاة بدون مقدمات وشروط ، بل انها عمل انسانى مقصود لا يتحقق ابدا الا بعد توافر مقدماته ، وتنفيذ ما تتطلبه شروطه,بكل دقة واهتمام.


اما مقدمات النهضة فتبدا من استثارة احساس كل افراد المجتمع , وتكامل وعيهم بتردى الاحوال الداخلية, وانحطاط مستوى التقدير الخارجى للبلاد , ثم من المقارنة الحادة بين الماضى المجيد و الحاضر المخزى , و كذلك من متابعة احوال الجيران والمنافسين الذين نجحوا فى تحقيق نهضتهم الخاصة بهم بالاضافة طبعا الى ما قرره توينبى فى نظريته الشهيرة عن (التحدى و الاستجابة) .


وقد ذهب بعض مؤرخى النهضة,الى انها تحدث عادة: اما بعد حرب طاحنة تخرج منها البلد محطمة تماما او الى حد كبير ، واما بعد ثورة شعبية جارفة تقتلع اركان النظام القديم بما يحتوى عليه من فساد وجمود وتخلف .


واما شروط النهضة فبعضها مادى والاخر بشرى. ومن الشروط المادية : ضرورة استثمار الموارد الذاتيه باقصى درجة ممكنة,وتوجيه التعليم والبحث العلمى لخدمة كل مجالات التنمية خدمة حقيقية, وانشاء علاقات اقتصادية مرنة مع كل دول العالم, وعدم التورط فى منازعات اقليمية او حروب خلال فترة بناء النهضة .


واما الشروط البشرية ــ التى هى موضوع هذا البحث ــ فانها تتركز فى الكوادر والافراد الذين تقوم بجهودهم دعائم النهضة , وهولاء ينقسمون الى :عقول تفكروتخطط ، وسواعد تعمل وتنفذ .


أ- وبالنسبة الى اصحاب العقول ,المنوط بهم التفكير فى وسائل النهضة و التخطيط لها,فان هولاء ينبغى ان يكونوا على درجة عالية من التعليم كل فى تخصصه,وكذلك على قدر كبير من الخبرة فى الوظائف التى مارسوها حتى يجمعوا بين الفكر والادارة,حيث انهما وجهان لعملة واحدة, فالفكر بدون خبرة ادارية يظل تحليقا فى الفراغ ، وقد يشتط به الخيال فيحوله الى تهويمات لا يمكن تحقيقها فى الواقع , وفى المقابل فان الاداره بدون فكر تؤدى الى اخطاء شنيعة ومتكررة , كما انها تظل حبيسة اليتها الصدئة,فلا يظهر فيها اى تجديد .


لكننى اعود فاركز على التعليم الذى لا يقتصر على تزويد الطالب بالمعلومات وانما يزوده بالمعرفة. والفارق بينهما يتمثل فى ان المعلومة عبارة عن شئ جديد يدخل الى العقل , اما المعرفة فانها تعنى هضم المعلومة , وتحويلها الى جزء لا يتجزا من شخصية الطالب, بمعنى انه يصبح بامكانه تطبيقها فى حياته العملية , كما يمكنه ان ينتقل منها الى افاق واسعة من المعارف الاخرى. اما المعلومة فهى جزئية بسيطة اذا لم توضع فى مربعها المحدد تظل هائمة فى العقل,ولا تلبث ان تنمحى منه .


والمعرفة انما تتكون لدى الطالب بدفعه الى المشاركة الحقيقية فى العمليه التعليمية, بحيث يمكنه ان يبحث بنفسه عن المعلومات,وان ينسق بينها,كما ينبغى ان يشاهد بنفسه العائد منها , والتعليم الجيد هو الذى يوقف الطالب على المشكلات او العقبات الموجودة فى العلم الذى يدرسه, فلعله يصل ذات يوم الى المساهمة فى حلها. ويكفى ان أشير هنا الى طالب الحقوق الذى يقضى سنواته الأربع فى الجامعه دون ان يزور المحاكم ليشاهد على الطبيعة ما يجرى فيها من اجراءات ومرافعات,واحكام قضائية!


ومن ابرز عيوب التعليم المصرى انه مازال ينظر الى عقول الطلاب على انها عقول صغيرة , مع ان الامر غير ذلك تماما. فهذه العقول الشابة المليئه بالحركة والحيوية قد تكون مساوية , ان لم تكن فى بعض الاحيان اذ كى من عقول شيوخ الاساتذة الذين توقفوا عن التفكير, والهتهم الحياة عن البحث العلمى ومعاناة مشكلاته الحقيقية ، لذلك فاننى انتهز الفرصه هنا لادعو الى اعادة ترتيب منظومة التعليم ,بحيث تتعامل مع الطلاب على انهم اصحاب عقول تكاد تكون متساويه تماما مع عقول الاساتذة , وبالتالى ينبغى احترامها, وعدم تقديم مبادىء العلوم لها على انها نهايات المعرفة العلمية .


والمأمول بالطبع من التعليم الجيد ان يخرج لنا بعض العقول المتميزة,التى هى اقرب ما تكون الى العبقرية . وهنا اقول : ان عبقريا واحدا يمكنه ان يختصر على وطنه الكثير من الجهد و الوقت من خلال اكتشافه لشئ جديد , او اختراعه لاسلوب جديد فى العمل والانتاج .


ومن واجب الدولة ان تهيئ لاصحاب العقول المناخ المناسب لعملهم العقلى, ليس فقط من الناحية الاجتماعيه, وانما ايضا من ناحية بيئة العمل فلابد من تزويدهم بالاجهزة اللازمة, والادوات الضرورية لممارسة عملهم العقلى .


ومن اهم ما بنبغى مراعاته هو اتاحة فرص التلاقى بين العلماء لمناقشة الأمور التى يبحثونها, والنتائج التى يتوصلون اليها . ومثل هذه البيئة شاهدتها اثناء زيارتى للصين,فيما يطلق عليها (اكاديمية العلوم الاجتماعيه)التى يصفونها بانها :عقل الصين ومكانها فى الترتيب يأتى بعد مجلس الوزراء مباشرة , وفوق الوزراء ولها فروع فى كل المدن الصينية, وهى التى تدرس و تخطط ، ثم تصدر التوصيات التى تقوم الوزارات بتنفيذها .


ان النهضة ليست عملا عشوائيا , او حلما من احلام اليقظة, وانما هى تخطيط وعمل وجهد يواصل الليل بالنهار, انها عملية بناء مستمر, وكلما انتهت مرحلة من البناء لابد ان تجرى عملية تقييم لها, قبل ان تبدأ المرحلة التالية . وبذلك نضمن ان البناء يعلو ويتصاعد على اسس صحيحة ، وليس على دعائم معطوبة .


كذلك فان النهضة ليست ابدا عملا فرديا , وانما هى عمل مجموعات, وكل مجموعة من العلماء والباحثين لابد ان يكون هناك تنسيق كامل بين افرادها,كما ينبغى ان يوجد تنسيق بينها كمجموعة وبين المجموعات الاخرى . وبالطبع فان ذلك يتطلب ادارة واعية وحازمة : واعية يوضع كل فرد فى مكانه المناسب تماما,وحازمه فى دفع العمل المشترك بين هذه المجموعات دائما الى الامام. وهنا لا مجال للتهاون ولا للتراخى,كما لا يوجد مجال للمجامله و المحسوبية . وانا اتصور مثل هذه الادارة بالحكم الرياضى الذى يمسك فى يده ساعة دقيقة تحسب عمل كل فرد با لدقائق والثوانى , وليس بالايام والاسابيع !


ب- واما بالنسبة الى أصحاب السواعد التى يقوم بمجهدوهم اليدوى و العضلى والمهارى البنيان المادى للنهضة فهولاء ينبغى ان يتم اعدادهم,وتاهيلهم,وتدربيهم على مختلف المهن والحرف والصناعات التى تتطلبها النهضة . وقد كان لدينا فى مصر تصور عن تكون هذه الكوادر حين تم انشاء المعاهد الفنية, التى توزعت على ثلاث تخصصات: تجارى وصناعى وزراعى ,ويلتحق بها التلاميذ مكانه بعد الحصول على شها دة الاعدادية باى مجموع متدن ، والمتخرج منها يحصل على عمل بأجر ايضا متدن ، ويظل فى دون تطوير مهاراته, أو فتح أبواب الترقى أمامه . لقد كانت الفكرة فى حد ذاتها جيدة, لكنها فشلت فشلا ذريعا عند التطبيق, وساعد على فشلها نظرة المجتمع الى خريجيها بقدر كبير من الدونية عكس النظرة الى خريجى الجامعات . ولو كانت الامور مستقيمة كما فى الدول المتقدمة لاخذنا فى تطوير هذه المعاهد , وارتقينا بالمستوى الاجتماعى لخريجيها فان من يعمل بيده لا يقل فى المكانة عمن يعمل بعقله او بقلمه , لانه هو الذى يرفع لبنات التقدم المادى فى المجتمع, وبالتا لى فلابد ان يتساوى فى الاجر والتقدير ، ان لم يتقدم حتى على خريجى الجامعة , الذين يعملون موظفين فى المكاتب !


هل يمكن احداث ثورة ، ولا اقول طفرة ، تعليمية وتدريبية فى مجال التعليم الفنى الحالى, أو الافضل اقامة تعليم مواز له , يبدأ من جديد , وعلى أسس سليمة؟ سؤالان يستحقان البحث عن اجابة لهما .


أن من أكبر الاخطاء ان نجعل التعليم الفنى لاصحاب المجاميع المتدنية فى الشهادة الاعدادية,بل على العكس لابد من جذب المتفوقين الى هذا التعليم, حتى يتمكنوا بعد ذلك من تحقيق الطفرة التكنولوجية المنشوده ، وكلما كان النجار او الميكانيكى او الكهربائى او العامل الزراعى ذا قدرات عالية كان انتاجه اعلى, وتحسينه لاسلوب العمل مستمرا .


ولابد ان نفتح امام تلاميذ هذا التعليم كل الفرص الممكنه للسفر فى بعثات للدول المتقدمة لكى يشاهدوا ويلمسوا بأنفسهم أخر التطورات التكنولوجية , والالكترونية التى أصبحت تسير عجلة الانتاج فيها, وتختصر الكثير من الوقت والمجهود .


وكما ينبغى توسيع دائرة التخصصات فى التعليم الفنى ينبغى تخصيص مجال للصيانة . فالصيانة كما نعلم جميعا هى التى تضمن حسن عمل الالات واطاله عمر تشغيلها ثم هى بالاضافة الى ذلك توفر على الدولة الكثير من المبالغ الطائلة التى تنفقها فى استيراد الات جديدة بالعملة الصعبة . ان الصيانة فى مصر هى الغائب المفقود, مع انها لا تقل اهميه عن عملية انشاء المبانى, والبدء فى تشغيل المصانع ,او استغلال الحقول .


واود ان اوكد ان اصحاب السواعد بحاجة منذ البداية الى التعلم من اصحاب الخبرة المتمرسين طويلا فى المجال الذى تخصصوا فيه , ولذلك ينبغى ان يظل التلميذ مع معلمه اطول فترة ممكنة,حتى (يتشرب) منه الصنعة, ويتقن اصولها , ولعله بعد ذلك يتقدم فيطورها ويحسن من كفاءتها . وهنا انبه الى ان دورات التدريب ينبغى ان تكون طويلة الاجل, وليست شهرا او شهرين كما يحدث حاليا, ويفضل الحرص فيها على تخصيص معلم بعينه لمجموعة محددة العدد من التلاميذ حتى تتكون بينهم الالفة اللازمة لانتقال الخبرة من جيل الى جيل .


ثم لن يكون عيبا على الاطلاق ان يتساوى مرتب خريج المعاهد الفنية مع خريجى الجامعة ، فكلاهما يقوم بعمل هام ، وليست هنا افضلية,ولا طبقية روتينية مقيته تكرس الرؤيه المتدنية من المجتمع للعمل اليدوى الذى كان ومازال محتقرا فى بلادنا .


ان قيام النهضة على هاتين الدعامتين :العقل واليد هو الذى ميز كل النهضات التى حدثت فى كل انحاء العالم, وبدون الاعتماد عليهما معا(العقل للتخطيط واليد للتنفيذ) لا يمكن لاى نهضة ان تنجح,او تستمر بعد نجاحها . لكننى اعود فاوكد من جديد ان ادارة الجانبين معا , بعد استنفار اقصى طاقاتهما , هو الذى يؤدى الى ان يعملا معا فى تناسق تام, وتعاون وثيق .


اما المبادئ التى ينبغى ان تسود المجتمع فى فترة النهضة , فيمكن بل ينبغى استمدادها من قول الرسول ، صلى الله عليه وسلم: ان الله يحب اذا عمل احدكم عملا ان يتقنه . ومن القول الماثور فى الثقافة العربية: قيمة كل امرئ ما يحسن . ومن الامور المقررة فى العمل و الادارة ان أى انسان لا يمكن ان يتقن و يبدع فى عمله الا اذا احبه , بل تجاوز حبه له مستوى العشق , أما الذين يؤدون اعمالهم على اساس الروتين المتكرر, أوالوظيفة المفروضة عليهم فانهم يظلون فى اماكنهم ,كما ان عملهم يتجمد ثم يتدهور بمرور الوقت وينتهى الى ما نشاهده من تخلف وفساد .


ومن ألزم لوازم النهضة ان تكون ادارة البلد فى أيدى قائد حكيم, محبوب من شعبه,حتى يستطيع ان يدفعهم لا الى العمل فقط بل والى التضحية أيضا , وهذا القائد لابد ان يحسن اختيار معاونيه ووزرائه على اساس الكفاءة الخالصة وليس باى اعتبار اخر ، كما ان على هؤلاء جميعا ان يكون كل منهم قدوة فى مجاله , وان يدرك جيدا ان مسئوليته مضاعفة : أمام قائده من ناحية ,وامام الشعب من ناحية اخرى.ولذلك ينبغى ألا يقع فى أى خطا , أو يرتكب اى مخالفة , لان كلا منهما يؤثر سلبا على روح العمل والانتاج لدى العاملين فى مجال النهضة .


ان منظومة النهضة اشبه بالاوركسترا التى يتولى كل واحد منها اصدار نغم معين ، فى وقت محدد, وبصورة محددة مع الانصياع الكامل لقائدها ، وعدم الخروج عن النغم العام الذى يصدره زملاؤه . كما انها اشبه ايضا بخلية النحل التى تقوم فيها كل جماعة بعمل معين , وكل نحلة تروح وتجئ فى طريقها دون ان تصطدم بزميلاتها, ثم تحقق فى النهايه الهدف المرسوم لها داخل الخلية .


وانا هنا لا الجا الى التشبيه بدافع البلاغة, وانما هى حقيقة مقررة . فالشعوب التى نهضت تخلت عن الجدل العقيم والمهاترات الاعلامية حول قضايا زائفة, والتشرذم فى جماعات متضاربة , كما انها تخلت عن الحقد والحسد وعرقلة الناجحين و مجاملة الفاشلين ، وفى المقابل من ذلك كله , اتجهت الى العمل والعمل وحده بكل جدية وكفاءة , ولذلك قل كلامها وكثرت وازدهرت اعمالها .


اما نماذج هذه الشعوب التى نهضت من كبوتها وتقدمت بعد سقوطها ,فهى كثيرة ومتنوعة , او موجودة حولنا سواء فى الغرب أو فى الشرق : المانيا و اليابان بعد الحرب العالمية الثانية , ثم الصين والهند واندونيسيا وماليزيا وتايلاند و سنغافورة .. لذلك لابد ان ندرس تجارب النهضة فى كل هذه البلاد , ليس فقط من خلال مراكز البحث المتخصصة, وانما من خلال الذهاب اليها , والاقامة لفترة طويلة او مناسبة فيها , حتى نشاهد على الطبيعة : ماذا يفعلونه؟ وكيف كانوا؟ ثم كيف اصبحوا ؟


وتعد قيمة الوقت من اهم ما يطالعنا لدى هذه الشعوب التى حققت نهضتها . فلا تأخير عن حضور اجتماع فى ساعة محددة , ولا اضاعة للوقت فى اجتماع يناقش قضية فارغة ، ولاتراخى فى تسليم منتج او بضاعة فى وقت متفق عليه سلفا , بل حتى لا تهاون فى اذاعة نشرة الاخبار أو اى برنامج ترفيهى فى وقته الذى حددوه للناس من قبل . ومن العجيب اننا نستشهد فى اللغة العربية بالمثل القائل : الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك ، مع اننا من اكثر شعوب الارض اهمالا للوقت ، وعدم احترام له !


وحين قلت :ان هناك (وصفة للتقدم ) ينبغى الاخذ بها , والالتزام بمبادئها , عارضنى بعض المتخصصين قائلا : ان لكل شعب طبيعته الخاصة ,التى لا تصلح معها وصفات الشعوب الاخرى . وهنا سوء فهم اود ان اوضحه ، فانا اقصد بوصفة للتقدم : المبادئ الاساسية للنهضة : كحسن الادارة , والتخصص , والتعليم الجيد, والتدريب المستمر , والصيانة , واحترام الوقت .. وهذه مبادئ وقيم لابد ان تكون موجودة فى اى نهضة , بل اننى اتحدى ان ياتى لى احد بمثال واحد للنهضة لم تلتزم فيه بشئ من ذلك! اما مسألة طبيعة كل شعب فلا انكرها , وقد تقدمت اليابان بالاسس المذكورة وظلت محتفظه بطابعها الخاص بها, وكذلك المانيا , وها هى الصين تتقدم بخطى واسعة ولم يقل احد انها غيرت طبيعتها او ثقافتها او اديانها . ان التعلل بطبيعة كل شعب ما هى الا حجة يلجأ اليها الكسالى ليستروا بها عيوب الشعوب المتخلفة وعدم جراتها فى اقتحام ميدان النهضة !


وهناك خطا اخر، فالبعض يعتقد ان النهضة فى قطاع واحد او اكثر يعتبر نهضة للبلد الذى حققته ,كما فعلت باكستان بالنسبة للسلاح النووى ,وكما فعلت كوريا الشمالية فى تكوين جيش قوي ، لكن النهضة الحقيقية هى النهضة الشاملة فى كل القطاعات ، فليس من الصواب التقدم فى الجانب العسكرى واهمال الجانب الاجتماعى او الاقتصادى ليظل متدهورا او متخلفا , كما هو الحال فى البلاد اللذين ذكرتهما الان . وانا شخصيا اتابع محاولة ايران فى الحصول على القدرة النووية وعدم محاولتها بنفس القدر فى الجوانب الاجتماعية التى تهم كل افراد الشعب الايرانى .


اما نحن فى مصر فقد حدثت عندنا محاولتان للنهضة: الاولى فى عهد محمد على حققت الكثير من الانجازات ثم ما لبثت ان فشلت على ايدى ابنائه واحفاده من بعده ، وبتدخل سافرمن الدول الاوروبية , والثانية فى عهد جمال عبد الناصر التى طمحـت الى تحقيق الكثير , لكنها لم تحقق الا القليل ، كما حدثت لها نفس النهاية على ايدى القوى الاجنبية التى هاجمتها مرتين (1967,1956) وكانت الثانية عبارة عن نكسة كاملة !


لذلك فان من واجبنا – ونحن بصدد انشاء نهضة ثالثة بعد قيام ثورة 25 ينايرــ ان نفحص جيدا اسباب نجاح وفشل هاتين المحاولتين,اللتين وقعتا على نفس الارض وبنفس البشر الذى يعيشون فوقها . ومن المؤكد ــ فى رايى ــ اننا اذا تجردنا بموضوعية كاملة فسوف نكتشف الكثير من مواطن الخلل , التى ينبغى تجنبها , كما يمكن ان نعثر على بعض عناصر النجاح التى يمكن الاخذ بها , وبهذا نكون على صلة بماضينا القريب ,ولا نبدأ تماما من الصفر.


ان الكفاءات البشرية التى هى العمود الفقرى فى بنيان النهضة لا تنشأ فجأة , ولا بالصدفة, وانما تتطلب اعدادا, بعضه طويل الاجل وبعضه قصير . اما قصير الاجل فهو ان نعثر على تلك الكفاءات فى اماكن عملها , وهى فى هذه الحالة تكون قد كونت نفسها بنفسها من خلال التعليم الذاتى , والتجربة العملية المتراكمة على مدى السنوات , وقد تنبه محمد على فى نهضة مصر الاولى الى ذلك , عندما اعتمد على العمال المصريين من الحدادين والنجارين والبنائين , الذين كانوا على درجة عالية من المهارة فى عملهم , لكنه حين قرر الاستعانة بالكفاءات البشريه فى مجال التخطيط والادارة كان عليه ان يختارمجموعة من التلاميذ المصريين النابهين, ويرسلهم فى بعثات الى الدول الاجنبية لكى يدرسوا العلوم الحديثة , وبعد عودتهم اسند اليهم الوزارات و الادارات التى نجحوا فى دفع العمل والانتاج بها خطوات الى الامام .


اما جمال عبد الناصر فى نهضة مصر الثانية فانه اكتفى بالاعتماد على الموجودين بالفعل فى مصر , ولم يهتم بارسال البعثات التعليمية الى البلادالمتقدمة ــ وكان حينئذ على خلاف معها ــ لكى يحصل منها على احدث ما توصلت اليه من مناهج واساليب التقدم الحديثة , ولذلك فان النهضة فى عهده لم تحقق الكثير , ويكفى ان نشير الى قطاع التعليم الذى اتسع كميا , تحت الالتزام بالمجانية ،ولكنه لم يتقدم نوعيا الا بنسبة ضئيله جدا .


ان مدة البعثة التعليمية لاى طالب مصرى الى الدول المتقدمة لا تقل عن خمس سنوات , هى الفترة التى يستطيع فيها ان يتقن اللغة الاجنبية , ثم يبدأ فى استيعاب حضارة البلد الذى يعيش فيه .


واخيرا يتقن التخصص الذى ذهب من اجله . والمهم انه عندما يعود لابد ان يوضع فى المكان المناسب له تماما والذى يستطيع فيه العمل والتطوير , واستبدال الاساليب التقليدية القديمة بأساليب حديثة ومتطورة .


وأخيرا فان الكفاءات البشرية لا يمكن ان تؤدى وظيفتها الاساسية , كما لا يمكن أن تحقق الأهداف المرجوه منها لبناء النهضة اذا عملت فى روتين ادارى وحكومى : جامد و متبلد. و يصبح الأمر تماما كمن يضع مجموعة من الأسماك الحية و النشطة فى ماء راكد ومتعفن . ومن خلال تجربتى الخاصة أستطيع أن أؤكد ان هذا هو ما حدث للكثير من المبعوثين المصريين الذين حصلوا على أعلى درجات العلم فى الدول المتقدمة ثم عادوا ليجدوا محيط العمل فى مصر ضيقا و خانقا , و كانت نتيجة ذلك احد أمرين : اما ان يسرعوا بالهجرة الى تلك البلاد التى تعلموا فيها ليواصلوا نجاحهم , و اما ان يرضوا بالأمر الواقع , ويخضعوا للروتين المتخلف , وينسوا تماما ما تعلموه لكى يتمكنوا من اعالة اسرهم الصغيرة دون الدخول فى صراع هو فى النهاية محسوم النتيجة !




التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 10 يناير 2020 15:51