عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
اللغة والفكر صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الأربعاء, 17 أبريل 2013 02:06

اللغة والفكر

 

أ.د. حامد طاهر

 


1-الغرض من البحث :


أحاول فى هذا البحث أن أبين العلاقات المتشابكة والمتطابقة تمامًا بين اللغة والفكر ، وهو موضوع لم يتناوله اللغويون والمفكرون إلا على هامش أبحاثهم ، وكثيرًا ما عمل كل منهما فى واد منفصل ، مع أن أهميته تتمثل أولاً فى تنظيم فكر الإنسان حتى يكون واضحا ومنتجا ، وثانيا فى الحرص على دقة اللغة حتى تكون مركزة ، ومعبرة تمامًا عن هذا الفكر . إن الفكر بدون اللغة غير متصّور ، واللغة بدون فكر مجرد ثرثرة فارغة من المعنى ، لذلك أرجو أن يكون هذا البحث المزدوج الهدف فاتحة لدراسات يقوم بها متخصصون فى الفكر واللغة معا. ومن المتوقع أن النتائج المتحصلة من هذه الدراسات سوف تكون واعدة ، وخاصة فيما يتعلق بتعليم اللغة ، أو بتطوير البحث العلمى ، أو حتى بحديث الناس فى حياتهم اليومية .


2-عناصر الموضوع :


· اللغة فطرة واكتساب .

· اللغة ضرورة واختيار.

· علاقة اللغة بالفكر.

· العامية والفصحى.

· من عيوب اللغة.

· مجالات اللغة فى المجتمع.

· فحص الفكر من خلال اللغة.


3-اللغة فطرة واصطلاح :


خلق الله الإنسان قابلاً لفهم اللغة والتحدث بها . وهذا هو معنى الفطرة أى الاستعداد الذى يبدأ فى الظهور تدريجيا مع تقدم العمر ومرور الوقت . فالطفل يبدأ بالبكاء والصراخ لكى يطلب شيئًا أو يرفضه ، وكذلك بحركات يديه ورجليه وتجاعيد وجهه ، ثم يدرك بعد ذلك أن بعض الألفاظ التى ينطقها أبواه وإخوته تحقق له ما يريد ، وهى أقل جهدا واختصارا ، فيعمل على محاكاتها ، وكلما أكثر من نطق الكلمات تحققت رغباته ، وكلما اتبع النظام اللغوى السائد فى أسرته فرحت به وكافأته . وهكذا تجرى المرحلة الأولى من تعلم اللغة ، والالتزام باصطلاحها داخل الأسرة، تمهيدا لاستخدامها بعد ذلك مع أتراب الصبا ، وزملاء المدرسة، وفى محيط العمل.


ومن المؤسف أن التربويين عندنا يغفلون أو يتجاهلون هذه الحقيقة الأولية ، وهى أن تعلم اللغة مرتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق المصلحة للأفراد. وإذا كانت هذه المصلحة متعلقة فى فترة الطفولة بالجوع والعطش واللعب ، فإنها فى مرحلة المدرسة ينبغى أن تتجه نحو تحقيق رغبة التلميذ – أولاً وقبل كل شيء – فى حب المعرفة ، وتلبية حاجاته فى التعرف على الأشياء والأماكن والأشخاص ، بدلاً من التحليق فى المفاهيم النظرية، والمعانى المجردة . ومن هنا ينبغى فى المرحلة الأولى لتعليم اللغة التركيز على كل ما يهم الطفل ويحتاج إليه بالفعل فى حياته الخاصة.


أما معنى الاصطلاح فى اللغة فيتبين من أن كل جماعة تعيش فى مكان معين تصطلح أى تتوافق على لغتها الخاصة بها ، والتى تبدأ بسيطة وساذجة ، ثم ما تلبث أن تتطور وتتعقد مع تطور المجتمعات وازدهار الأنشطة فيه ، بدءًا من تواصل الأفراد فيما بينهم ، ثم فى تعاملاتهم التجارية ، وأخيرًا فى حركة العلوم والآداب والفنون عندما يصلون إلى مستوى حضارى معين .


ومن أهم خصائص الاصطلاح اللغوى أنه يعم جميع أفراد المجتمع، وحين يبدو أن أحدهم لا يفهم معنى كلمة ، أو يسئ استخدام تعبير فإن مَنْ حوله يسرعون بتوضيح المعنى له ، ويصححون له التعبير الخاطئ ، وبهذا يستقيم النظام اللغوى ، داخل المجتمع ، ويتم الحفاظ عليه من الانكسار ، أو الشذوذ ، أو الخطأ .


وبعد عمومية الاصطلاح اللغوى ، يأتى الاستمرار . وهذا معناه أن لغة المجتمع لا تقتصر على فترة زمنية معينة من تاريخه ، بل إنها تمتد إلى فترات طويلة ، قد تصل فى بعض اللغات إلى ألفىْ عام . ومن الطبيعى أن طول الفترة الزمنية يعطى اللغة قدرًا كبيرا من الرسوخ والاستقرار ، اللذين تصعب معهما أى محاولة للتطوير أو التحديث .


لكن ذلك لا يعنى أن اللغة ساكنه كالجبل ، وإنما هى مائجة كالبحر، الذى تصب فيه مختلف الأنهار ، وتسقط عليه مياه الأمطار ، فيحيلها كلها إلى مياهه . ومن الملاحظ أن كل اللغات تدخلها كلمات أجنبية، بل وعبارات كاملة من لغات أخرى ، لكنها ما تلبث أن تبتلعها وتهضمها ثم تلفظها بعد ذلك داخل نظامها الخاص ، حتى أن أهل اللغة لا يكادون – بعد مرور فترة طويلة من الزمن – يشعرون بالفارق بين ما هو دخيل إليها وما هو أصيل فيها.


هل يمكن الخروج على الاصطلاح اللغوى ؟ كلا ، لأنه قاسٍ وصارم ومن يخرج عليه يقابل من المجتمع بالاستهجان والازدراء ، لكن الأدباء وحدهم هم الذين يمكن أن يُسمح لهم بذلك ، وخاصة عندما يستخدمون الكلمات فى غير ما وضعت له (المجاز) أو حين يكسرون بعض القواعد الصرفية أو النحوية (الضرورة الشعرية) وهم قد يلجأون لذلك بقصد إحداث صدمة لدى المخاطبين توقظ فيهم الدهشة مما قد يرونه عاديا فى حياتهم ، لكن ما يفعله الأدباء ، والشعراء بخاصة ، يظل محاولات فردية ، ما تلبث أن تذوب فى كيان اللغة الكبير ، التى تستوعبها، ثم تعود فتؤكد اصطلاحها – أى سيطرتها – على الجميع .


اللغة ضرورة واختيار :


ومعنى ذلك أن كل إنسان يولد فى جماعة يجد نفسه مضطرًا إلى استخدام لغتها حتى يستطيع تحقيق مصالحه ، والتعامل مع أهله وأصحابه ومن يحتاج إلى التعامل معهم فى المجتمع . وهو هنا مضطر إلى معرفة معانى الألفاظ ، وأزمنة الأفعال ، واستخدامات الأدوات ، والتلفظ بالكليشيهات المتعارف عليها فى المواقف التى تتطلبها . ولأن اللغة تنمو وتتطور بالتدريج ، فإن الإنسان لا يشعر بأنه يتعلمها . والمسألة هنا أشبه بحركات الطفل الأولى عندما يبدأ فى الوقوف والمشى على قدميه ، حيث تكون الخطوات فى البداية مضطربة ومتعثرة ، ثم ما تلبث أن تستقيم وتتوازن ، بل وتسرع بعد ذلك حتى تصل إلى التسابق فى الجرى مع الآخرين .


لكن مجالات اللغة كثيرة ومتنوعة . وهى تنداح فى دوائر متداخلة وأحيانًا متجاورة . ومن الملاحظ أن عمل الإنسان ، وكذلك الوضع الاجتماعى الذى يوجد فيه ، أو يصير إليه يتيحان له قدرًا من الاختيار اللغوى، الذى يتناسب مع عمله ، أو وضعه الاجتماعى. وكلما أتقن الإنسان عملية الاختيار اللغوى تمكن من إنشاء وتطوير علاقات اجتماعية تساعده على النجاح فى حياته . إن لغة العامل لا تشبه كثيرًا لغة الفلاح ، وكلتاهما لا تشبه لغة الموظف . هذا من حيث المجالات . أما من حيث المستويات ، فإن لغة ساعى المكتب لا تشبه لغة المدير ، ولغة صاحب المصنع لا تشبه لغة العامل فيه ، وكذلك الحال بالنسبة إلى لغة صاحب الحقل ولغة الأجير عنده .


وقد ثبت بالفعل أن الشخص الذى يرغب فى الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أعلى فى المجتمع عليه أن يتحدث لغتها ، أى يقوم بعملية اختيار مقصودة ودقيقة حتى يمكنه أن يتواصل بها مع أفرادها دون أن يعتبروه دخيلاً عليهم ، وينتهى به الأمر إلى النبْذ والاستبعاد . من هنا قلنا إن اللغة اختيار ، أى باستطاعة الإنسان – الذى لديه ذكاء وتصميم – أن ينتقى منها ما يخدم مصلحته ، ويحقق هدفه الذى يطمح فى الوصول إليه.


إذن ليست اللغة مفروضة بالكامل على الإنسان فى المجتمع ، وإنما هو فى إطار الخضوع الاجتماعى لها يظل فى حرية من أمره ، بحيث يمكنه أن يختار منها ما يشاء ، وينتقى من أساليبها ما يريده لنفسه .


علاقة اللغة بالفكر :


اللغة هى من أهم خصائص الإنسان التى ميزه الله تعالى بها عن سائر الحيوانات . والمقصود باللغة هنا هى اللغة المنطوقة والمكتوبة ، المكونة من حروف وكلمات ، تتجمع بصورة مطردة فى جمل وعبارات ، ويتواصل بها الإنسان مع أمثاله من البشر ، كما يتعامل بها من أجل تحقيق مصالحه وسد احتياجاته ، وترتقى بعد ذلك فتسجل ما ينتجه من علوم وفنون وآداب ، تبعًا للمستوى الحضارى الذى يصل إليه .


وإذا كانت الأبحاث التجريبية الحديثة قد اكتشفت وأثبتت أن للحيوانات لغة تتفاهم بها وتتواصل ، فإنها لغة منطوقة فقط ، كما أنها لغة نغم وصراخ ، بخلاف لغة الإنسان المكونة من حروف ومقاطع وكلمات ، تتنوع ما بين أسماء وأفعال وأدوات ، كما يوجد لها نظام صرفى ونحوى مستقر، وتتجمل بمحسنات بلاغية تميز فيها بين الجميل والأجمل .


وقد عرف أرسطو (ت 322 ق.م) الإنسان بأنه حيوان ناطق ، ويعنى بالنطق : اللغة والفكر معا وهو يقول صراحة "لا يوجد تفكير بدون رموز لغوية" ، أما علماء النفس فقد ذهبوا فيما بعد إلى ثنائية الفكر واللغة، بمعنى أن الإنسان يفكر أولاً ثم يعبر عن فكرة بعد ذلك . ويؤكد الفيلسوف الفرنسى برجسون أن "اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر" .


لكننا نميل إلى رأى أرسطو الذى يوحد بين اللغة والفكر ، بل إننا نرى عدم دقة التعبير الشائع الذى يقول أن "اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة" لأنه يقرر التمايز بينهما . وفى رأينا أن اللغة والفكر متماهيان ، أى أنه لا توجد لغة (مفهومة) بدون فكر ، كما لا يمكن أن يتبلور فكر بدون اللغة .


فى كل لغات العالم ، تتكون اللغة من ثلاثة مكونات : الأسماء والأفعال والأدوات التى تربط بين هذه وتلك . والأفعال كما نعلم هى الكلمات التى تحدد زمن الحدث فى الماضى أو فى الحاضر أو فى المستقبل ، أما الأسماء فهى التى تعبر عن الأشخاص أو الأشياء أو الأحداث أو المعانى والأفكار – وهى التى ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى علّمها لآدم ) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ( [سورة البقرة : آية 31] .


والواقع أن عناصر الفكر توجد أساسًا فى الأسماء ، فعندما أنطق كلمة (حرية) أو (ديمقراطية) أو (سعادة) فإننى أستدعى على الفور المفهوم أو المضمون أو المحتوى أو معنى هذه الكلمات . وبالطبع لا يمكننى على الإطلاق الإشارة إليها أو التصريح بها بدون تلك الكلمات . لقد قيل بحق إن الأسلوب هو الثوب الذى تكتسى به الفكرة ، بل إنه فى الحقيقة هو الهيكل الذى تتجسد فيه الفكرة .


إننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالكلمات ، أى من خلالها أو بواسطتها. وهذا معناه عدم تصور الفكر هلاميا أو مجردًا أو عاريا بدون ثياب اللغة التى يتشكل أو يتجسد فيها . ولا ينبغى أن نرهق أنفسنا بالتساؤل عن أيهما أسبق من الآخر : الكلمه أم الفكرة ؟ لأن هذا السؤال عديم الجدوى ، وهو يكاد يشبه سؤال البيضة والدجاجه ! إن المهم هو أن الفكر لا ينشأ ولا يتطور بدون اللغة ، كما أن اللغة هى التى تحدد الفكر وتعبر عنه ، وتستطيع نقله إلى الآخرين ، أو استقباله منهم . فما الذى ينتج من ذلك ؟


إن الناس يتفاوتون فى كمية أفكارهم ، ونوعها ، وأهميتها تبعًا لما يمتلكونه من حصيلة لغوية ، تحمل كل كلمة (اسم) فيها فكرة أو جزءًا من فكرة . وهكذا كلما زاد الإنسان من ثروته اللغوية اتسعت خزائن أفكاره والعكس بالعكس . فإن الإنسان الذى لا يمتلك سوى عدد قليل من الكلمات يكون فقيرا فى فكره ولا يستطيع أن يجارى أو يتحاور بندية مع إنسان آخر غنى اللغة والتفكير )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( [سورة الزمر : آية 9] .


وهنا قد يحاول بعض الأفراد فيقولون إننا نمتلك الكثير من الكلمات، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أنهم يملكون نفس القدر من الأفكار ، والسبب فى ذلك أنهم قد يفهمون معناها أو مضمونها بصورة خاطئة أو محرّفة ، أو أنها قد تكون من (المترادفات) أى الكلمات المتعددة التى تطلقها بعض اللغات على الشئ الواحد. ولعل هذا ما دفع أرسطو إلى وضع (علم المنطق) الذى يهدف أساسًا إلى صحة التفكير من خلال الاستخدام الدقيق للغة التى تعبر عنه .


يحتوى منطق أرسطو على ثلاثة مباحث رئيسية هى : التصور ، والتصديق ، والاستدلال . والمبحث الأول منها هو الذى يهمنا الآن . ويتمثل غرضه فى الوصول إلى أعلى درجة ممكنه من تحديد معانى الكلمات ، من حيث عمومها وخصوصها ، وبالتالى وضعها فى المكان المناسب لها تماما وبالضبط . ويظهر ذلك بوضوح من (الكليات الخمس) التى تتدرج على النحو التالى :


1-الجنس ، مثل المعدن ، الذى يشمل أنواعًا مختلفة .

2-النوع ، مثل الإنسان ، الذى يشمل أفرادًا متشابهين .

3-الفصل ، مثل الناطق ، الذى يميز الإنسان من سائر أنواع الحيوانات .

4-الخاصة ، مثل الضاحك ، الذى يعنى إمكانية يمكن أن توجد فى أحد الأوقات.

5-العَرَض العام ، مثل الأبيض أو الأسود ، الذى يختلف على الأجسام والسطوح .. كذلك يضع لنا المنطق (المقولات العشر) أى الأسئلة التى تحدد معانى الألفاظ المفردة التى تدل على معانٍ مفردة ، وهى :


1-مقولة الجوهر : ما هو الشئ ؟

2-مقولة الكم : كم هو ؟

3-مقولة الكيف : كيف هو ؟

4-مقولة الزمان : متى ؟

5-مقولة المكان : أين ؟

6-مقولة الوضع : فى أى وضع هو الشئ ؟

7-مقولة الفعل : فى ماذا يؤثر ؟

8-مقولة الانفعال : بماذا يتأثر ؟

9-مقولة الإضافة : مثل عمود النور ، صوت المطر .

10-مقولة المِلْك : لمن هذا الشئ ؟


وقد أكد أرسطو أن شيئًا من الأشياء لا يخرج عن السؤال عنه بهذه الأسئلة العشرة ، وهى التى تحدد أجناسها ، وتساعد كثيرا فى عمليتى التعريف والتقسيم ، اللتيْن هما الهدف النهائى من مبحث التصور.


لكننى لا أذهب إلى القول بأنه على كل إنسان يحاول أن يحدد معانى ألفاظه أن يدرس منطق أرسطو ، وإنما أذكر هذا الجزء فقط لكى أبيّن أن معظمنا لا يستخدم الألفاظ التى تحتوى على أفكار أو معان فى صورتها الدقيقة ، ولا فى ترتيبها الصحيح . إن العقل السليم يمكنه أن يفعل ذلك بدون منطق أرسطو ، كما أن الخبرات المتراكمة لدى الإنسان الواعى تساعد كثيرًا على استخدام الكلمة المناسبة فى مكانها المناسب تماما ، وبمفهومها الدقيق ، وقد افتتح ديكارت (ت 1650) كتابه الشهير (مقال فى المنهج) بقوله : إن الـ bon sens أى الحس السليم أو العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس . وهو الذى ندرك جميعا به البديهيات العقلية مثل أن (الكل أكبر من الجزء) وأن (الشئ لا يمكن أن يوجد فى مكانين فى وقت واحد) وأن (الشئ ونقيضه لا يجتمعان) .. الخ .


وهكذا فإن شخصا مرتب الفكر يمكنه بسهوله أن تصدر عنه لغة دقيقه . وكلما استبعد من حديثه الحشو والتكرار والاستطراد حصل على احترام السامعين ونجح فى اقناعهم . ونفس الأمر ينطبق على المؤلفين الذين قد يسودون مئات بل آلاف الصفحات دون أن يراعوا الدقة فى اختيار كلماتهم ، وتحديد معاتبها ومفاهيمها . وهذا هو السبب الذى يجعلنا بعد أن نمضى قليلا فى قراءتهم يتبيّن لنا أنهم يثرثرون كثيرًا دون أن يقولوا شيئا مفيدا .


وفى المقابل من ذلك ، يمكن أن نشير إلى دقة العبارات القصيرة والمركزة ، التى صاغها بعض الفلاسفة والعلماء ، والتى تحمل فى نفس الوقت الكثير من المعانى ، بل إن كلا منها يكاد يلخص نظرية معينة ، أو مشروعًا فكريا متكاملا . ومن أمثلة ذلك :


1-لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف (سقراط) .

2-مَنْ لم يقدر على فعل فضيله فليكن همه ترك رذيلة (أرسطو) .

3-الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع (أبقراط) .

4-مَنْ لم تقهر نفسُه جسده صار جسده قبرًا لنفسه (فيثاغورس) .

5-الطب لا ينتهى تعلمه فى المستشفى ، وإنما يبدأ منها (كلود برنار) .

6-العلم لا وطن له (باستير) .

7-الناس يتمايزون بما يظهره كل منهم ، ويتشابهون فيما يخفونه (بول فاليرى).

8-كل حزب يبدأ بالتصوف ، وينتهى بالسياسة (شارل بيجى) .


وإلى جانب هذه الحكم التى صاغها الفلاسفة والعلماء المعروفون ، هناك الأمثال الشعبية ، التى صاغها حكماء مجهولون ، ولأنها كانت صحيحة وحقيقية فقد استقرت فى وجدان شعوبهم ، وظلت تنتقل من جيل إلى جيل . ومن الأمثال الشعبية العالمية (التى قمت بترجمتها من الفرنسية) :


1-لا تشتِر بأذنيك ، اشترِ بعينيك (مثل تشيكى) .

2-الحب الذى يأتى فجأة هو أطول الأمراض شفاء (فرنسى) .

3-أن تنجرع السم أسهل من أن تتلقى الصدقة (فارسى) .

4-الثرثرة بالكلام لا يدفع عنها ضرائب (انجليزى) .

5-عندما يبتسم لنا الحظ نلتقى بأصدقاء ،

وحين يخاصمنا نلتقى بأمرأة جميلة (صينى) .

6-المرأة لها شعر طويل ، ولسان أطول (روسى) .

7-أخطر أعدائنا يختبئ فى قلبنا (لاتينى) .

8-الإنسان فى حالة الغضب يمتطى حصانا جامحا (أمريكى) .

9-الجواهر لها ثمنها ، لكن الفضيحة لا ثمن لها (أسبانى) .

10-الثقافة هى ما يبقى للإنسان بعد أن ينسى كل ما تعلمه (يابانى) .


أما الأمثال الشعبية فى مصر ، والتى حاولت فى كتاب مستقل أن استخلص منها فلسفة الشعب المصرى ، فسوف أقتصر منها على الأمثلة الآتية :


1-كل إنسان معلق من عرقوبه .

2-الشكوى لغير الله مذلّة .

3-صاحب بالين كدّاب .

4-من رادك ريده ، ومن طلب بعدك زيده .

5-لاقينى ولا تغدينى .

6-الغريب أعمى ولو كان بصير .

7-الملافظ سعد .

8-كلب داير ولا سبع نايم .

9-بفلوسك بنت السلطان عروسك .

10-مال الكنزى للنزهى .


تلك هى اللغة فى حالتها المركزة ، والتى تحمل الكلمات القليلة العدد فيها الكثير من المعانى . وهى التى أشار إليها الرسول r بقوله "أوتيتُ جوامع الكلم" أى الكلمات القليلة التى تحتوى على الكثير من الحقائق ، وصنوف الحكمة ، ومن ذلك :


1-إنما الأعمال بالنيات .

2-ليس منا مَنْ لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا .

3-ليس المؤمن الذى يشبع وجاره جائع .

4-علمو ، وبشروا ، ولا تعسروا ، وإذا غضب أحدكم فليسكت .

5-البر حسن الخلق ،

والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس .

6-سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر.

7-إذا لم تستح فاصنع ما شئت .

8-الأرواح جنود مجنّدة ،

فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .


ومن الملاحظ أن اللغة التى صيغت بها الأفكار فى تلك الحِكَم والأمثال الشعبية : لغة سهلة وبسيطة ، تقوم بعملية التوصيل دون صعوبة، ولا تتطلب بحثا عنها فى معاجم اللغة لمعرفة معانيها ، وهذا ما يعطيها القدرة على الاستمرار عبر أزمنة طويلة ، كما يتيح لها التداول والقبول فى مختلف الأماكن . وقد أشار ديكارت إلى ذلك فى (التأملات) حين قال : "إن الفكرة الصحيحة دائمًا واضحة" ، وهذا يعنى أن الفكرة الغامضة قد لا تكون بالضرورة صحيحة ، وأنا دائمًا أنصح طلابى فى الدراسات العليا قائلا لهم : حين تقرأون كتابًا ، سواء كان مصدرًا أو مرجعًا ، وتجدونه غامضا ، أو معقدا ، فلا تسرعوا باتهام عقولكم بالتقصير فى عدم فهمه ، فقد يكون العيب فى الكتاب نفسه ، الذى لم يستطع مؤلفه أن يوضح فكرته .


لكن الناس جميعًا لا يتماثلون فى التعبير الواضح عن أفكارهم . ويرجع ذلك إلى عدة أسباب من أهمها : أن الأفكار نفسها تكون غير ناضجة ، وأحيانا مضطربة ومتناقضة ، وأن اللغة قد تكون فضفاضة ، ولا تعبر بدقة عن المعانى المقصودة منها . وهنا تبرز أهمية كل من (المعاجم اللغوية) التى تحدد للجميع وبالتساوى معانى الكلمات واستخدامها فى مختلف السياقات ، و(دوائر المعارف) التى توضح بالكلمة والصورة حقائق الأشياء ، وتواريخ الأحداث ، وتراجم الشخصيات . والواقع أن هاتيْن الأداتين الأساسيتيْن للمعرفة ضروريتان لنشر الفكر الصحيح ، والتعبير عنه بلغة دقيقة وواضحة ، وهما اللتان تفرقان فى العالم بين شعوب مثقفة ومتنورة ، وبين شعوب أخرى جاهلة ، وغارقة فى ضباب المعلومات الخاطئة .


قارن مثلا بين إنسان يسمع عن (ثعبان الأناكوندا) أو (الحضارة الرومانية) فيفتح دائرة المعارف ويقرأ ما كتب عنهما ، ويشاهد بعض صورهما ، وبين انسان آخر يتلقى معلوماته عنهما ممن حوله . كيف يكون حالهما ؟ ألا يكون الفارق بينهما هو نفس الفارق بين مَنْ يعرف شيئًا معرفة صحيحة وأكيدة ، وبين من لا توجد لديه عنهما سوى مجرد أقوال غامضة ومشوهة . ثم ألا يأتى تعبير كل منهما عما استقاه من المصادر التى اعتمد عليها مختلفا ، ومتباينا كل التباين .


إننا نضع أيدينا هنا مرة أخرى على العلاقة الأكيدة بين الفكر واللغة . فكلما صح الفكر وتحددت معالمه دقت اللغة واختصرت كمية ألفاظها ؛ ولم يعد هناك داع للإطناب أو الاستطراد . وقد قيل بحق : " إن الأسلوب هو الرجل" تلك العبارة التى شاعت منسوبة إلى بيفون الفرنسى ، ولكنها من وضع دينيس الرومانى (المتوفى سنة 20 قبل الميلاد) , كذلك قال أحد الفلاسفة : "كلمنى حتى أعرفك" ومعناه أن الإنسان يظل مثل الصندوق المغلق حتى يتحدث أو يكتب فيعرف مقدار علمه وأهميته . وقد جاء فى الأمثال الاغريقية : "تجنّبْ أن يسبق لسانُك فكرك" وهو قريب من المثل الشعبى المصرى : "لسانك حصانك" ان صنته صانك ، وأن هنته هانك" .


ولمزيد من الدقة فى اللغة ، يرى الفرنسيون أن يكون تعبير الإنسان بلسانه مثل تعبيره بالكتابة . لكن هذا بالطبع أمر شاق . فالكلام المنطوق الذى يكون عادة باللهجة العامية يجرى على السجية ، ولا يتطلب الكثير من الترتيب المنطقى المطلوب فى لغة الكتابة . أما الألمان فيذهبون إلى أن الناس لا يتشابهون أبدًا فى التعبير عن أفكارهم ، وأن كل فرد له أسلوبه الخاص به ، كما أن له أنفًا لا يشبه الآخرين ! ومع ذلك فإنهم يعودون فيؤكدون على أهمية الاقتصاد فى استخدام الكلمات .. تمامًا كما يقتصد الإنسان فى إنفاق النقود !


العامية والفصحى :


وينقلنا هذا مباشرة إلى المستويين الكبيرين فى كل لغة ، وهما العامية والفصحى .


ومعروف أن العامية هى لغة الحديث اليومى ، المنطوقة غالبا ، والتى يتواصل ويتعامل بها الناس فى شئون حياتهم ، وتكاد تستجيب لكل أنشطتهم ، وهى التى يتعلمها الطفل منذ نشأته بواسطة أبويه وأسرته ، ثم أترابه فى اللعب ، وزملائه بعد ذلك فى المدرسة ، والجامعة ، ومكان العمل. والملاحظ أن أحدًا لا يجد صعوبة كبيرة فى تعلم هذا المستوى من اللغة ، التى يطلق عليها (لهجة) ولا توجد لها دروس ولا كتب ولا معلمون ، بل إن البيئة كلها هى التى تتولى تلقينها للفرد ، وتعويده على إتقانها من خلال الاستماع والمحاكاة ، وتجارب الصواب والخطأ .


وتتميز العامية بأنها لغة حية ومتمكنة لأنها تستجيب لكل متطلبات الأفراد داخل الجماعة . فالناس يبيعون بها ويشترون ، ويتحابون ويتخاصمون ، وكما أنها لغة تواصل ومعاملات بينهم ، فإنها كذلك تعبر عن مشاعرهم ونزعاتهم ، ويبرز ذلك أحيانًا فى "أدب شعبى" لا يمكن إغفاله . ومن هنا فإنها قابلة لأن تكون لغة حضارة ، لكن ما يعوقها هو عدم امتلاكها وسائل الفصحى ، التى من أهمها : الكتابة ، أى التسجيل ، الذى يجعلها أكثر توثيقا ، وأطول عمر ، وأوسع انتشارا ، فى حين تكتفى العامية بأنها لغة منطوقة ، تكاد تقتصر على زمان ومكان معينين ، كما أنها لا تفهم فى أماكن مختلفة ، حيث يوجد فى كل مكان لهجته العامية الخاصة به.


أما اللغة الفصحى ، التى يطلق عليها اللغة الرسمية ، أو الأدبية والعلمية ، فهى السجل المعترف به للدولة ، وهى التى تستعمل فى المكاتبات الحكومية ، ويخطب بها السياسيون ورجال الدين ، ويتعامل بها القضاة والمحامون ، ويحاضر بها أساتذة الجامعات ، ويكتب بها الإعلاميون . وهى اللغة التى تترجم بها أو منها غالبا اللغات الأخرى ، كما أنها اللغة التى تؤلف بها الكتب ، وتصدر القرارات والمراسيم ، لكنها مع ذلك كله تنحصر فى تعلمها على المدرسة ، وبالتالى فإنها تصل إلى الطفل من قناة واحدة ، بينما تنهمر عليه العامية من سائر الجهات المحيطة به ، لذلك فإنها تبدو أكثر صعوبة من العامية ، والمستخدمون لها قليلون ، بل إن من يلتزمون بصحتها وبلاغتها أقل من القليل .


وبهذه المناسبة يحسن أن أشير إلى خطأ من يظن أن الفصحى والعامية لابد أن تقضى أحداهما على الأخرى ، ويقصد من ذلك أن تحل الفصحى محل العامية . والواقع أن هذا وهم كبير ، وتجاهل كامل لتاريخ كلٍّ منهما. فقد وجدت العامية دائمًا إلى جانب الفصحى فى كل المجتمعات، والأماكن ، بما فيها شبه الجزيرة العربية ، التى كانت بها – إلى جانب الفصحى – العديد من اللهجات (وكان يطلق عليها مصطلح اللغات) .


إن العامية والفصحى يتعايشان دائمًا بدون مشكلات ، اللهم إلا حين تعلو بعض الأصوات المنفعلة بمناصرة إحداهما ضد الأخرى ، فتنشأ معركة كلامية بدون نتائج ، وينتهى الأمر فى كل مرة إلى أن يتحدث الناس العامية فى حياتهم اليومية ، ويلجأ بعضهم إلى الفصحى فى المواقف التى تتطلبها . بل ما أسهل أن ينتقل الإنسان من إحداهما إلى الأخرى ، كما يحدث أحيانا المزج بينهما دون أن يشعر السامع أو المتحدث بأى عقبة تمنعه من الفهم أو الاسترسال .


والنتيجة من هذه كله أننا إذا أردنا فحص الفكر فى مجتمع ما ، فعلينا ألا نحصر أنفسنا فى لغته الفصحى وحدها ، وإنما لابد أن نضم إليها لهجاته التى يتحدث بها فى حياته اليومية ، لأنهما معا هما اللذان يعبران عن فكره ، وليس واحدة منهما فقط .


من عيوب اللغة :


كما أن فى الفكر عيوبًا يتعلق بعضها بعدم نضج الأفكار ، أو بعدم ترتيب المقدمات ، أو بوضع مقدمات لا تؤدى بالضرورة إلى النتيجة المطلوبة ، كما يتعلق بعضها الآخر بالجزم فى موضع الشك ، أو التأكيد فى موضع الاحتمال ، أو بتعميم الحكم بناءً على جزئيات غير كافية .. إلخ ، فإن للغة أيضا عيوبها المرتبطة بعيوب الفكر ، وكذلك المختصة بها وحدها .


وقد سبق القول إن اللغة فى كل مجتمع تحتوى على آلاف الكلمات والعبارات . وبإمكان كل فرد أن يغترف منها المقدار الذى يحقق به مصالحه ، ويترك ما لا يحقق ذلك . ومن الواضح أنه حين يفعل ذلك لا يلقى – فى كل الأحيان – الاهتمام الكافى للدقة المطلوبة فى اختيار الكلمات والعبارات ، ولا فى مدى مطابقتها لقوانين الفكر الصحيح ، بل إنه ربما استخدم الكلمة فى غير معناها ، وأحيانا فيما يضاده ، وخاصة حين يتم استقبالها من الآخرين دون توقف أو استغراب . إن الناس عادة لا يدققون كثيرًا فى معانى الكلمات التى يستخدمونها ، وقليل منها فقط هم مَنْ يتنبهون لذلك . والواقع أن الجميع لو كان يستخدم اللغة بمعناها الدقيق الذى يتطابق تمامًا مع قوانين الفكر الصحيح لقلت كلمات اللغة كثيرًا عما هي عليه ، ولما حدث هذا الإسراف العشوائى فى استخدام اللغة بعيدًا عن مبادئ الحق ، وأصول الصواب .


يروى أن الصينيين فى سالف الأزمان لم يكونوا يملكون للتعبير عما يريدون سوى قطع صغيرة من الخيط ، يحدثون فيها عقدا معينة على أوضاع خاصة وفى أوقات محددة . وكان موضع العقدة وشكلها يبينان ما يريدون التعبير عنه .. ثم اخترعت الكتابة ، وظهرت مجموعات ضخمة من الكتب التى لم تراع فيها الدقة فى أداء الفكر . وقد قلق أحد الحكماء من هذه الحالة ، فصاح فيهم قائلا : سأردكم إلى التعبير بعقد الخيط !


لكن الذى حدث هو أن تهديد الحكيم الصينى لم يضع حدًا لاندفاع اللغة بدون ضابط . وهى غالبًا ما تحاول الإفلات من قيود الفكر الواضح والمحدد ، معتمدة على ما تمتلكه من وسائل لغوية أو بلاغية (مثل المجاز، والتضاد ، والمترادفات) قد تنحرف بالكلمات عن معانيها المحددة، وتشوش عليها.


وإذا رجعنا للوراء قليلا ، سوف نجد عند ابن المقفع (النصف الأول من القرن الثانى الهجرى - الثامن الميلادى ) مجموعة من النصائح الهامة التى يقدمها للإنسان – المتحدث ، لكى يخلو حديثه من العيوب التى تنتقص منه ، وتكاد تسقط مروءته لدى السامعين . ومن أهم هذه العيوب :


- عدم مراعاة الموقف ، كالضحك فى موقف الحزن ، والاكتئاب وسط فرح الآخرين .

- رواية كل ما يسمعه الإنسان ، قبل أن يفحصه بعقله .

- قطع الحديث بعد البدء به ، محاولاً تذكره .

- التكرار الممل .

- الحلف حيث لا يكون مجال له .

- الكذب ، والملق ، وكثرة الدعاء للمخاطب الأعلى درجة .


ويهمنا هنا – بمناسبة عيوب الحديث التى ذكرها ابن المقفع – أن تؤكد على حقيقة أن اللغة ينبغى أن تكون مرآة صادقة تماما للفكر . لكن بعض الناس يلجأون إلى تعتيم هذه المرآة من خلال رذيلتين أخلاقيتيْن هما : الكذب والنفاق . وفى كل منهما يجرى استخدام اللغة بصورة لا تعبر عن الفكر الحقيقى ، وإنما عن فكر كاذب أو مزيف . فالكاذب يأتى فى حديثه بغير الحقيقة ، والمنافق يتحدث بما لا يعتقد . وفى كلتا الحالين تفقد اللغة مصداقيتها فى التعبير الصريح عن الفكر ، أى فى كونها تجسيدًا حقيقيًا له.


وهكذا فإن الباحث الذى يحاول أن يفحص اللغة السائدة فى المجتمع يجد أن الكثير منها يمكن الحكم عليه بالخطأ ، أو التناقض ، أو الغموض وعدم الدقة . ومن العجيب أن هذه العيوب تمر على الناس من حوله دون أن يتنبهوا لها ، أو يتوقفوا عندها كما يفعل هو ، بل لعله حين يحاول أن ينبههم إلى شئ من ذلك – كما فعل الحكيم الصينى – لا يجد منهم إذنا صاغيه ، ولا اهتمامًا يذكر .


فمثلاً حين يبدأ كاتب فقراته بقوله (ومن المؤكد..) أو (ولا شك فى أن ..) أو (لا جدال فى ..) فإنه يخدع قراءة بأن ما سوف يذكره ليس رأيه الخاص ، وإنما هو حقيقة مقررة لا تقبل الإنكار أو حتى المناقشة . ونفس الأمر ينطبق على الخطيب الذى يتحدث للجماهير قائلا (إن الحرية هى ..) أو (لا تخرج العدالة الاجتماعية عن ..) وهنا قد تصفق الجماهير، وتندمج فى خطابه دون أن تستحضر للحظة عشرات التعريفات الأخرى لكل من الحرية والعدالة الاجتماعية !


وقد يقال إن اللغة نفسها لا ذنب لها فى خداع الفكر . وإنما الذنب يقع على المستخدمين لها . وهذا صحيح . لكن المسئولية أيضا لا تستثنى مَنْ يقرأون اللغة أو يستمعون إليها . فهؤلاء لو تشددوا قليلا ، وطالبوا الكاتب أو المتحدث بحقيقة ما يخاطبهم به أو بمعقوليته لتقلص إلى حد كبير حجم الأخطاء الشنيعة التى يرتكبها مستخدمو اللغة لخداع الجماهير من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية . ألم نقل فى البداية إن اللغة تحقق مصالح الشخص ، وبالتالى فإن مَنْ لا يرعى المبادئ الأخلاقية يمكنه أن يتلاعب باللغة كما يتلاعب الساحر بأصابعه أمام المشاهدين ! ويزداد الأمر صعوبة عندما تنتشر تلك الألفاظ غير الدقيقة والعبارات البلاغية الفضفاضة والشعارات السياسية غير القابلة للتحقق ، فيقوم الناس بترديدها ثم بتلقينها للأجيال الناشئة ، وبذلك تصبح جزءًا لا يتجزأ من بناء اللغة ، يصعب تغييرها ، ويكاد يستحيل تصحيحها .


لكن الأمور لا تسير دائمًا نحو الأسوأ . فإن الجماهير ما تلبث أن تدرك ، إما بنفسها عدم جدوى تلك الكلمات والشعارات التى انطلت عليها فى فترة زمنية معينة ، وفى مواقف حماسية ملتهبة ، أو بواسطة بعض المفكرين العقلاء ، الذين يكشفون زيفها ، ومدى جنايتها على الفكر الصحيح .


وهكذا تعود اللغة – بعد أن تصحح نفسها بنفسها – لكى تكون هى المعبر الحقيقى عن فكر المجتمع ، وبالتالى فإذا أراد علماء النفس والاجتماع ، ثم المؤرخون بعد ذلك ، أن يقيمّوا (من التقييم) المستوى الذهنى ، وبالتالى الحضارى لأى مجتمع أن يتجهوا مباشرة إلى دراسة وتحليل اللغة التى يستخدمها ، والمصطلحات والشعارات التى تتردد فى أجوائه ، ثم ما هو المقصود لديه منها ، وحينئذ سوف يتبين لهم فى أى مكان يمكن أن يوضع هذا المجتمع فى سلم التدرج الحضارى .


مجالات اللغة فى المجتمع :


الذى سيبدو على السطح أن المجتمع كله يتكلم لغة واحدة ، لكن الحقيقة ليست كذلك . فهناك العديد من مجالات اللغة الواحدة داخل المجتمع الواحد . وهى تتنوع بحسب ما يوجد فيه من أنشطة ، وأعمال ، ومستويات اجتماعية وثقافية مختلفة .


وبالنسبة إلى الجانب الثقافى الذى يعبر عادة عن المستوى الفكرى يمكن أن أقدم مثالاً مما يجرى داخل الجامعة الواحدة : حاول أن تستمع إلى محادثة عادية بين طلبة كلية الطب ، وقارنها بمحادثة بين طلبة كلية الحقوق أو الآداب .. طلبة الطب يتحدثون لغة سريعه الإيقاع ، محشوة بالكثير من المصطلحات الانجليزية ، أو الانجليزية العربية ، بينما يغلب على طلبة الحقوق والآداب الاطناب ، ويقل لديهم استخدام المصطلحات ، الأولون يتحدثون عن وقائع محددة وتجارب معملية ومشاهدات فعلية بينما الآخرون يتحدثون عن افتراضات وأحداث فردية ، ونظريات لا يمكن اثبات صحتها فى الواقع .


إن الفارق هنا بين هاتين المجموعتين من طلاب الجامعة الواحدة ليس هو الفارق بين أشخاص بقدر ما هو بين تخصصات علمية ، يعتمد بعضها على المنهج التجريبى المحدد ، والآخر على المناهج الإنسانية التى تقوم على وجهات النظر العامة . وهذا هو ما يجعل لغة كل من المجموعتين تختلف عن الأخرى .


إن تعميم هذا المثال على مختلف أنشطة المجتمع سوف يجعلنا نتحدث عن لغة إعلامية ، ولغة اقتصادية ، ولغة دبلوماسية ، ولغة علمية، ولغة دينية .. إلخ الأمر الذى يتيح لنا وضع خريطة لغوية للمجتمع ، ثم يقوم الدارسون بعد ذلك بفحص كل موقع فيها ، وبيان مستواه الفكرى الذى تعبر عنه اللغة ، وذلك بالإضافة إلى توجيه متعلم اللغة من أهلها أو من غير الناطقين بها إلى المجال الذى يرغب فيه ، أو يريد التخصص ، وهذا ما سوف يوفر عليه التجول فى مجالات مختلفة ينفق فى تعلمها زمنا طويلا ، وقد تكون فى النهاية عديمة الجدوى له .


ومن أهم مجالات اللغة : لغة التراث واللغة المعاصرة . ومن المعروف أن الفارق بينهما ليس قليلا . فإن لغة التراث من حيث المعجم ، وتركيب الصيغ ، والمستوى البلاغى – لا تكاد تتشابه إلى حد كبير مع اللغة المعاصرة ، التى تجاوزت الكثير من مقررات لغة التراث ، وصيغها، وبلاغتها ، وأصبح لها طابعها الجديد الذى يفرض على علماء اللغة المحدثين أن يضعوا القواميس الحديثة التى تستوعب ما استجد فيها من ألفاظ ومصطلحات ، وما صار شائعًا فيها من صيغ جديدة ، مخترعة أو منقولة من لغات أجنبية ، وأخيرًا على المتخصصين فى علوم الأدب والنقد أن يبحثوا فى هذه اللغة المعاصرة عن مواطن الجمال الجديدة ، التى تحتاج بالفعل إلى بلاغة جديدة .


إننا هنا لا نسعى إلى الاحصاء أو الاستقصاء ، وإنما إلى توجيه الأنظار فقط إلى فصل هام فى الدراسات اللغوية يقوم على التحليل اللغوى– الموضوعى والاجتماعى ، بحيث تصنف مجالاتها تبعًا للموضوع وكذلك للفئة التى تستخدمها . وفى رأينا أن هذه الدراسة سوف تنعكس إيجابًا على عملية تعليم اللغة ، وذلك بجمع المصطلحات الخاصة بكل مجال ، وتوضيح معانيها ، وبيان السياقات المختلفة التى تستعمل فيها لكى تساعد المتعلم على استيعابها بسرعة وسهولة ، حتى يتمكن بعد ذلك من التحدث أو الكتابة بها .


إن كل نشاط من أنشطة المجتمع يمتلك لغته الخاصة ، أعنى مصطلحاته التى يتعامل بها مع العاملين فيه ، وبالتالى فإن متابعة هذا المصطلحات فى نشأتها وشبابها وشيخوختها تظل من حق المتحدثين بها ، وليس من حق المجامع اللغوية ، التى تدرس اللغة (منفصلة) عن هذا النشاط وحركته الدائمة . وهذا هو السبب فى أن أعمال هذه المجامع وتوصياتها التى تصدر عنها - بعد بحث وجهد عظيمْين – تظل حبرًا على ورق ، ولا تكاد تلقى استجابة تذكر من المستخدمين الفعليين للغة .


فحص الفكر من خلال اللغة :


من النصائح الجيدة للإمام محمد عبده : أنك إذا أردت معرفة شعب ما على حقيقته ، فما عليك إلا أن تجلس فى أحد مقاهيه الشعبية ، وتستمع جيدا لما يتحدث فيه الجالسون من حولك – وهذا يعنى ألا تقتصر فى معرفة أحوال هذا الشعب على الخرائط والمؤلفات العلمية والأدبية وحدها، وإنما عليك بالغوص فى أعماقه ، أى فى "حديث المقهى" الذى يجريه الناس على سجيتهم ، حيث يناقشون أكبر وأصغر القضايا التى تهمهم فى حياتهم اليومية.


وإذا سلمنا حتى الآن بأن اللغة هى وعاء الفكر وجسده ، فإنها على هذا الأساس تصبح المدخل الذى يضع أيدينا على مستوى الفكر الموجود لدى الشعوب التى تتحدث بها ، ومدى رقى هذا الفكر أو انحطاطه ، بل إنها تستطيع أيضا – من خلال الدراسة اللغوية – الفكرية المقارنة – أن تطلعنا على أوجه الفروق بين الشعوب ، وبيان ما وصلت إليه من تقدم ، أو ما زالت تتعثر فيه من تخلف وجمود .


لكن هل توجد معايير ، يمكن على أساسها فحص لغة من اللغات لمعرفة مستوى الفكر الموجود بها ؟


هنا يمكن أن نقترح – والباب مفتوح لاقتراحات غيرنا – بعض المعايير ، وأهمها :


أولاً : مدى تماسك البناء الداخلى للغة بدءًا من استخدامها للمفردات بمعانيها الواضحة (المعنى المعجمى) ومرورًا بقواعد الصرف والنحو التى تتحكم فيها ، ثم المستوى البلاغى الذى قد تلجأ إليه أحيانا للتحسين أو التجميل .


ثانيًا : مدى استقرار أو عدم استقرار الكليشيهات المتوارثة فى اللغة ، وتنوع طرق التعبير التى تفيد التأكيد أو الظن أو الشك أو الاحتمال.. إلخ.


ثالثًا : مدى غلبة بعض مجالات اللغة على غيرها داخل المجتمع ، كأن تسيطر مثلا لغة الدين على لغة السياسة أو الاقتصاد .


رابعًا : مدى جرأة اللغة فى استخدام كلمات وتعبيرات جديدة تناسب العصر الذى توجد فيه ، مع التخلى فى نفس الوقت عن الكلمات والتعبيرات التى تموت .


خامسًا : مدى التطابق بين التطور الحضارى للذى وصل إليه المجتمع فى فترة زمنية معينة ، وبين التطور اللغوى الذى يتطلبه .


ومما لا شك فيه أن هذه المعايير الخمسة تحتاج إلى بحث منفرد ، ربما نقوم به فيما بعد ، خاصة ونحن نعكف حاليا على جمع عناصره ، لكن الإشارة إليها هنا تكفى فى التنبيه إلى ما نقصده بفحص الفكر من خلال اللغة. وهو موضوع بحث هام ، ينبغى أن يشارك فيه المتخصصون فى اللغة والمنطق والفلسفة والاجتماع ، أو على الأقل الذين يمكنهم جمع هذه التخصصات من خلال ثقافتهم المتنوعة .


* *

أهم مراجع البحث :


أولاً : بالعربية :

· إبراهيم أنيس ( د. )

- اللهجات العربية – القاهرة 1952 .

- من أسرار اللغة – الانجلو . ط. ثالثة . القاهرة 1966 .

· أدونيس

- الثابت والمتحول : بحث فى الإتباع والابتداع عند العرب. بيروت 1974.

· أيوب ( د. عبد الرحمن )

- التحليل الدلالى للجملة

بحث بالمجلة العربية للعلوم الإنسانية .جـ. الكويت . العدد10 – 1983م .

· الباقلانى ،

- إعجاز القرآن

تحقيق السيد أحمد صقر . دار المعارف بالقاهرة ط0 1981م.

· تمام حسان ( د. )

- اللغة العربية : مبناها ومعناها . القاهرة 1973 .

· حامد طاهر ( د. )

- ترجمة بحث (الأضداد فى اللغة العربية) لبلاشير.

مجلة مجمع اللغة العربية ،

- ترجمة بحث (مشكلات اللغة العلمية) لجيرار بيتيو

ضمن كتاب (فى مرآة الغرب)

- ترجمة مقال (القاموس) لرولان بيرت

ضمن كتاب (فى مرآة الغرب)

· دى بوجراند (روبرت)

- النص والخطاب والإجراء

ترجمة د. تمام حسان – القاهرة 1998 .

· سعيد بحيرى ( د. )

- علم لغة النص ، لونجمان 1997 .

· السيوطى

- المزهر فى علوم اللغة وأنواعها ، بيروت 1998 .

· السعيد بدوى ( د. )

- مستويات العربية المعاصرة فى مصر . القاهرة 1973م .

· السهيلى

- معانى النحو ، تحقيق د. محمد البنا . ط ثابتة . الرياض.

· على أبو المكارم ( د. )

- مقولات أساسية فى تعليم النحو العربى

دراسات عربية وإسلامية جـ26 القاهرة 2008 .

· فندريس

- اللغة ، ترجمة عبد الحميد الدواخلى ومحمد القصاص القاهرة 1950

· فوك ، يوهان

- العربية : دراسات فى اللغة واللهجات والأساليب

ترجمة د. عبد الحليم النجار . القاهرة 1951

· كمال بشر ( د. )

- علم اللغة الاجتماعى : مدخل ، القاهرة 1994

· ليونز (جون)

- نظرية تشومسكى اللغوية

ترجمة د. حلمى خليل . دار المعرفة الجامعية 1995

· ميشال زكريا ( د. )

- قضايا ألسنية تطبيقية :

دراسات لغوية اجتماعية نفسية مع مقارنة تراثية بيروت 1993

· محمد حماسة عبد اللطيف ( د. )

- بناء الجملة العربية . دار غريب القاهرة 2003

· ماييه (انطوان)

- علم اللسان ، ترجمة د. محمد مندور ضمن كتابه النقد المنهجى عند العرب – دار نهضة مصر بدون تاريخ

· محي أحمد ( د. )

- الاتجاه الوظيفى ودوره فى تحليل اللغة

مجلة عالم الفكر . الكويت 1989 .


ثانيًا : بالفرنسية

  • André Jacob

-Introduction ά lα philosophie du langage, Paris 1976.

  • Arnaldez, Roger

-Lα Lαngage et L’Expression.

Lα Revue du Cαire, No 140-1951 .

  • Belαvαl, y.

-Les Philosophes et Leur Lαngαge.

Pαris 1952 .

  • Blαnché, R-

-Rαison et discourse. Pαris 1967 .

  • Bernstein, B.

Lαngαge et Clαsses sociαles,

Trαd. De Minuit . Paris 1975.

  • De lα Croix, H.

-Le Lαngαge et lα pensée . pαris 1921

  • Foucoult, M.

-Les mots et les choses, pαris 1966.

  • Mouloud, N.

-Lαngαge et structures, pαris 1969.

  • Schαff, A.

-Lαngαge et connαissαnce. Pαris 1967 .

  • Schérer, R.

-Structure et fondement de lα communacαtion humαine, pαris 1965.

  • Sαrtre, J.p.

-Prose et Lαngαge,

Lα Revue du Cαire No 103-1947 .

* * *



التعليقات (3)Add Comment
0
...
أرسلت بواسطة زينب الاموي, نوفمبر 10, 2013
السلام عليكم...
بحث غي غاية الجمال و الروعة
0
...
أرسلت بواسطة نبهات, فبراير 03, 2016
شكرا على هدا المقال الرائع
0
...
أرسلت بواسطة أحمد الحذيفي من المملكة العربية السعودية , مايو 08, 2016
سلمت يمناك يا دكتور , بارك الله في جهودك ونفع بك الأمتين العربية والاسلامية

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الأحد, 19 مايو 2013 14:08