عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
المنهج الفلسفى فى قراءة الأعمال الأدبية صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الأحد, 03 مارس 2013 12:41

المنهج الفلسفى


فى قراءة الأعمال الأدبية

 


أ.د. حامد طاهر


يتعرض الإنتاج الأدبى فى العالم العربى لحالة من الإهمال ، ساعد عليها ما وصل إليه النقد الأدبى من فوضى فى تطبيقه ، وسوء استخدام لمناهجه ، وتجاهل لقيمه وتقاليده .


وقد سبق لى أن نبهت إلى أن أوى درجات النقد الأدبى تتمثل فى "المتابعة" ، وأقصد بها يقظة النقاد فى رصد كل م يصدره الأدباء من أعمال ، وتقديم تعريف أوى بها ، وبيان عام بقيمتها ، حتى يساعدوا الفراء فى التعرف على ما يقدم إليهم ، وتمييز الأعمال الجيدة من الرديئة .


ومن الملاحظ أنه على مدى ربع القرن الأخير ، سيطر المنهج البنيوى وحده على الساحه النقدية ، وقد أصبح من الممكن الآن أن نحكم عليه بالفشل ، نتيجة لعاملين أساسيين : الأول يرجع إلى قصور هذا المنهج (ذاته) فى أن ينهض (وحده) بمهمة النقد المتكامل للنص الأدبى ، وأذكر أننى كنت عائدا فى مطلع الثمانينات من يعثتى فى فرنسا ، ودهشت لإقبال النقاد لدينا على تبنى هذا المنهج ، والترويج له فى الوقت الذى لم تعره أوربا سوى اهتمام هامشى ومؤقت ، وكان أهم نقد وجه إليه هناك ، أنه يؤدى إلى تفريغ الأعمال الأدبية من محتواها الإنسانى ، وتجريدها من مضمونها الحى ، نتيجة تركيزة الشديد على البنية والشكل .


أما العامل الثانى فيرجع إلى سوء ترجمة مصطلحات هذا المنهج ، وعدم تعريبها بصورة واضحة ، كان من الممكن أن تساعد على حسن استخدامه ، وبالتالى على إفادة الأدباء والقراء من جانبه الإيجابى ، والملاحظ أننا أصبحنا نجد من هب ودب يكتب "نقدا بنيويا" ، ويتحدث عن "الإسلوبية" مرددًا مقولات رولان بيرت وميشيل فوكول ، ودى سوسير .. الخ ، ووصل الأمر إلى حد أن سئل نجيب محفوظ عن رأيه فى نقد بنيوى كتب عن إحدى رواياته ، فقال الرجل ببساطه (واستهزاء طبعا) : أنا لم أفهم منه شيئا !


إننى أسجل هنا ظاهرة انفصال النقاد العرب المعاصرين عن الأعمال الأدبية ، وبالتالى ابتعادهم عن جمهور الفراء . وقد انتهى الحال إلى إنهم أصبحوا يقرأون لأنفسهم وحدهم ، وانغلقت عليهم دائرة كان من الممكن أن تتسع لتشمل الوسط الأدبى كله .


إن مناهج النقد الأدبى معروفة ، ومستقرة تقريبًا . ولكل منها إيجابياته وسلبياته . وعلى يد كل ناقد يمكن لأى منهج نقدى أن يثرى ويتطور . وسوف أعرض فيما يلى منهجًا فلسفيا لقراءة الأعمال الأدبية ونقدها . وسبب اهتمامى به يعود فى المقام الأول إلى دراستى للفلسفة ، ثم متابعتى للأعمال الأدبية العالمية "على قدر الطاقة البشرية" ، ومنها خرجت بنتيجة مؤداها : أن أى عمل أدبى ، اكتسب قيمة إنسانية ، وتم الاعتراف به فى أكثر من لغة إنما يقوم على فكرة فلسفية محورية ، أو عدة أفكار ، كان الأديب على وعى كامل بها ، ويريد توصيلها للناس بصورة أو بأخرى .


لذلك فإننا نظلم مثل هذه الأعمال الأدبية كثيرًا حين نجردها من هذا المضمون الفلسفى الإنسانى ، ونقتصر – كما هو الحال فى الموجة الأخيرة للنقد البنيوى – على تحليل أسلوبها ، وتركيب عناصرها الفنية ، إن الأدب فى جوهره عبارة عن رسالة . ومن غير المعقول أن نجرد الرسالة من محتواها ، وأن نقصر إعجابنا بها على شكل لظرف ، وطابع البريد ، ونوعية الورق ، ومستوى الخط !!


والمنهج الفلسفى الذى أدعو هنا إليه إنما هو نتيجة رحلة طويلة من معايشة أبرز الأعمال العالمية أمثال كليلة ودمنة ، والإلياذة، وألف ليلة وليلة ، ورسالة الغفران ، ومنطق الطير ، ومسرحيات شكسبير ، وكوميديا دانتى ، وبؤساء هيجو ، والحرب والسلام لتولستوى ، والعجوز والبحر لهيمنجواى ، بل أن الأعمال الأدبية التى كسرت تقاليد الكلاسيكية تحتوى هى الأخرى على مضمون فلسفة واضح مثل عوليس جيمس جويس ، والخرتيت ليونسكو ، وفى انتظار جودو لبيكيت ، والمسخ لكافكا.


ولا تخرج الأعمال الأدبية العربية عن هذا "القانون" ويكفى أن يعاد النظر من جديد فى الأدب العربى حتى يرد الاعتبار لطرفة بن العبد ، والمتبنى ، والمعرى ، وابن عربى ، ويقيم بصورة أفضل فى العصر الحديث كل من شوقى ، وإيليا أبو ماضى ، وجبران ، كما تعاد قراءة كل من نجيب محفوظ ، ويحيى حقى ، ويوسف إدريس قراءة فلسفية .


وإذا سأل سائل : وما الجديد فى هذا المنهج ؟ أجيب بأنه يبرز مضمون العمل الأدبى مركزًا على جانب الإنسانى الذى يتصل بالحقائق والتجارب التى يمر بها الإنسان فى كل زمان ومكان . وهو من هذه الزاوية يقوم جسور اتصال بين آداب العالم المتنوعة ، ومع ومع تركيزه على الجوانب الفلسفية فى العمل الأدبى فإنه يمس جوهر ما فى الإنسان من قيم وغرائز قد تختلف من حيث الظاهر تبعًا لاختلاف الثقافات ، ولكنها تتحد من حيث الواقع والحقيقة ، إن هذا المنهج لا يساعد الأدب المحلى فحسب لكى يخرج إلى نطاق من العالمية ، وإنما يرفع قامته من الأرض إلى السماء ، ويعطيه بعدًا ساميًا ، ويجعل منه رسالة موجهة للإنسان فى كل زمان ومكان .


المنهج الفلسفة فى قراءة الأعمال الأدبية :


يقوم المنهج على عدة أسس واعتبارات أهمها :

1-أن الأعمال الأدبية تعد من أسمى مظاهر النشاط الإنسانى ، الذى تشترك فيه طاقات الإنسان العقلية ، والخيالية ، والوجدانية ، متفاعلة فى ذلك مع البيئة المحيطة به : الناس والأشياء .

2-لا يدعى المنهج أنه مذهب نقدى متكامل للأدب ، وإنما هو بكل بساطة محاولة تساعد على إضفاء طابع فلسفى ذى بعد إنسانى على الأعمال الأدبية .

3-لا يسعى المنهج فرض وجهة نظر فلسفية من الخارج على العمل الأدبى ، وإنما يهتم بإبراز الأفكار والنظرات الفلسفية الموجودة فيه بالفعل .

4-لا يدعى المنهج أنه هو المنهج الوحيد ، أو الأفضل لقراءة العمل الأدبى ، وإنما هو مجرد منهج يمكن أن يضيف شيئا ذا قيمة للمناهج الأخرى التى تقرأ أو تدرس الأعمال الأدبية ، ومن أهمها : المنهج اللغوى ، والمنهج البنيوى ، والمنهج الجمالى ، والمنهج السيكولوجى، والمنهج الاجتماعى ، والمنهج المقارن .. الخ .

5-يتسع المنهج لاستيعاب كل المحاولات التى يقوم بها من يطبقونه على تفسير عمل أدبى واحد ، انطلاقًا من أن لكل قارئ عينه الخاصة به ، ولكل عمل أدبى زواياه المختلفة ، وعطاءاته المتعددة .


خطوات المنهج :


1-تلخيص العمل الأدبى حتى يمكن الإحاطة بموضوعة الرئيسى ، وفكرته المحورية .

2-تحديد القضايا الفكرية التى يثيرها العمل الأدبى .

3-تحليل هذه القضايا من وجهة نظر فلسفية ، مع عدم إغفال طريقة التعبير عنها (وصف من الخارج ، تحليل من الداخل ، مذكرات على لسان الكاتب ، حوار ، بناء درامى ، حسم تساؤل ، تردد ، توقف .. الخ) .

4-بيان القيمة الفلسفية والإنسانية التى يدعو إليها العمل الأدبى .


تطبيق المنهج :


ما أسهل الحديث عن المناهج ، لكل ما أصعب تطبيقها . وهذا يرجع أساسًا إلى أن العمل الحقيقى للناقد إنما يتمثل فى الممارسة الفعلية لمقاييس النقد على النص الأدبى ، وليست المقاييس هنا صارمة ، وإنما هى مجرد أدوات يمكن تطويعها وتطويرها من خلال التفاعل الحميم الناتج عن معايشة النص الأدبى ، بدءًا من القراءة ، وتكرار القراءة ، ثم من التحليل الدقيق للجزئيات ، ورصد الظواهر المشتركة والأفكار المستمرة . وهنا قد يتوقف الناقد عند لقطة أو عبارة ، أو مقطع تكون له دلالة خاصة . ومن المعروف أنه توجد فى كل عمل أدبى معالم ظاهرة أو خفية هى التى تحدد أهم خصائصه، تمامًا مثلما توجد فى شخصية كل انسان سمات معينة هى التى تحدد طبيعته ، وغالبا ما يتفاوت النقاد ، فيما بينهم فى اكتشاف تلك المعالم ، كما أنهم يتفاوتون فى تحليلها ، واستخلاص النتائج منها .


وليس الأمر بعيدًا عن مجال العلم . فالأطباء يتفاوتون فى قراءة الأشعة ، كما أنهم يختلفون أحيانا فى دلالة التحاليل الطبية . ولاشك أن أهم أسباب هذا التفاوت ترجع – فى مجال النقد – إلى ثقافة الناقد ، وقدراته على الرصد والتحليل والاستنتاج ، وقبل هذا وذاك إخلاص الناقد فى أداء وظيفته التى تقترب من وظيفة القاضى النزيه ، والحكم العدل .


نموذج تطبيقى :

رواية العجوز والبحر لهيمنجواى


لم يكن اختيارى لهذه الرواية مصادفة . وإنما تم على أساس ما سبق أن ذكرته من أن كل عمل أدبى ، وصل إلى العالمية ، يحمل فى ثناياه فكرة أو عدة أفكار فلسفية ذات طابع إنسانى عام . ومن ناحية أخرى ، فإن رواية (العجوز والبحر) ليست رواية طويلة ، أو مركبة ، أو ذات أجزاء متعددة مثل سباعية مارسيل بروست ، أو ثلاثية نجيب محفوظ ، وإنما هى مجرد رواية (قصيرة – طويلة) إن صح التعبير . وهى تصلح نموذجًا جيدًا يمكن أن نطبق عليها منهج القراءة الفلسفية بسهولة ، لأن غرضنا من هذا المقال هو أن نوضح معالم المنهج ، تاركين تطبيقاته التفصيلية إلى من يقتنع به من النقاد المتخصصين .


ملخص الرواية :


يحكى أن صيادًا عجوزًا اسمه سانتياجو ظل ما يقرب من ثلاثة شهور دون أن يصطاد سمكة واحدة . وخلال الأربعين يومًا الأولى ، كان يصحبه فتى ، قرر أبواه فى نهايتها أن ينقلاه إلى قارب صيد آخر ، بعد أن تأكد لهما أن العجوز منحوس الحظ . لكن العجوز صمم على أن يخرج هذه المرة من خليج ستريم فى رحلة بعيدة ، داخل المحيط الأطلنطى ، على أمل أن يعثر على صيد ثمن . وبعد إعداد جيد ، تميز بالجيزة ، وفترة انتظار مرهقة غلب عليها الإصرار والتحدى ، علقت بحباله سمكة ضخمة ، اضطرته – على مدى يومين كاملين – أن يترك نفسه وقاربه لجذبها القوى والثابت .. ثم بدأت تظهر على السطح ، وعندئذ نشب صراع رهيب بينها وبين الصياد ، حتى تمكن من قتلها . وبسبب ضخامتها اكتفى بربطها إلى جانب القارب . وفى أثناء العودة إلى الشاطئ مترعا بلذة النصر ، ظهرت الحتيان التى أغرتها رائحة الدم النازف من السمكة . وعندما أخذت تنهش منها ، نشبت معركة أخرى أكثر شراسة تكسرت فيها كل أسلحة العجوز ، ونفدت قواه ، فتوقف عن الصراع ملقيا بهيكله المنهك فى قاع القارب ، وتاركًا ما تبقى من السمكة لهجمات الحيتان العنيدة ، وبدفع الموج وحده ، وصل العجوز إلى الشاطئ غير قادر على شىء . ولم يكد يدخل كوخه العتيق ، حتى سقط على الأرض ، مثخنا بالجراح ، ومستغرقًا فى نوم عميق .


مع خيوط الصباح الأولى ، عرف كل من بالشاطئ أن العجوز قد اصطاد أكبر سمكة تمكن منها صياد على الإطلاق . وعندما أسرع الفتى إلى الكهف ، وجد العجوز فى حالة إنهاك كامل ، إلى حد أنه لم يهتم بما أخذ يردده عن دهشة الصيادين من حجم الهيكل العظمى لسمكة ، ثم ما لبث أن استغرق فى نوم عميق ، رأى فيه نفس الحلم الذى كان يراه غالبًا : مجموعة من الأسود تجرى فى المساء على شواطئ إفريقية ..


الذى ينطبع فى ذهن القارئ بعد الانتهاء من الرواية :


أ-أن الإنسان يظل يصارع بشراسة من أجل الوصول إلى هدف ، أو تحقيق ثروة ، وعندما يحصل عليها إذا بعوامل الفناء تبدأ فى انتزاعها منه .. إلى حد أنه لا يستطيع أن يظهر أدنى مقاومة وهى تنسل من بين يديه .

ب-أن إرادة الإنسان يمكنها أن تتغلب على مظاهر الطبيعة مهما كان جبروتها وسطوتها . وأنه بالعقل والخبرة يمكنه أن يظل متماسكًا فى أقسى الظروف .

ج-أن الرصيد النفسى لدى كل فرد منا قادر عند الضرورة على أن يمد الإرادة بما يقويها ، ويبقيها صامدة ومتماسكة .

د-أن الإنسان عندما يضع لنفسه هدفًا محددًا فإنه يمكنه تحقيقه – مهما كان هذا الهدف بعيدًا أو حتى مستحيلا – لكن ذلك مرتبط بعدة عوامل لابد من توافرها لتحقيق الهدف : (التحدى والإصدار ، التزود بالخبرة ، التخطيط وتوافر الأدوات المساعدة) .

هـ-أن الإنسان – حتى وهو وحيد – يمكنه أن يصنع ثنائية يتحاور أحدهما مع الآخر .. بل إنه عندما يواجه الطبيعة مواجهه مباشرة ، فإنه يتأقلم معها ويصبح جزءًا منها .

و-أن الإنسان وهو يصارع عجوا ما ، تتولد فى نفسه مشاعر خاصة نحو هذا العدو ، تتفاوت من حد الرغبة فى تحطيمه إلى حد الإعجاب به ، ومن كراهيته المطلقة إلى ألفته والتعود عليه .

ز-أن الوحدة قاسية على الإنسان . وأنها بالفعل ضد الطبيعة البشرية التى تحتاج دائما لمن يؤنسها ، ويذهب وحشتها ، سواء فى حالة الفشل ، أو فى حالة الانتصار .


أهم الأفكار الفلسفية فى الرواية :


مما سبق ، يتبين بوضوح مدى الكثرة والتنوع فى الأفكار الفلسفية والانسانية التى وردت فى رواية هيمنجواى . بل إننا لو تتبعناها بتفصيل أكثر لاستطعنا أن تستخرج منها أفكارًا أخرى غير ما أشرت إليه . ولكنا سوف نتوقف هذا عند فكرتين محورتين ، تم التركيز عليهما طوال الرواية ، وهما فكرة الحظ ، وفكرة الشيخوخة والوحدة .


أ-فكرة الحظ


لا أحد يمكنه أن ينكر أن للنجاح طريقه الطبيعى ، وأن لكل عمل نتيجة ، وأنه على قدر ضخامة العمل والتضحية فى تنفيذه تأتى النتائج عظيمة ومدهشة ، لكنك لا تسأل أحدًا من الناجحين فى أعمالهم عن سر نجاحه ، إلا صرح لك بأن هناك قدرًا من الحظ قد صادفه فى لحظة معينة ، وأنه لولا هذا القدر لما تمكن من الوصول إلى شئ على الإطلاق ، حتى أن أشد العلماء ، المؤمنين بالمنهج العلمى ، صرامة ، يعترفون بأنهم لم يتوصلوا إلى اكتشافاتهم الدقيقة إلا بضربة مفاجئة من الحظ .


لكن ما هو الحظ ؟لحظة سعيدة تبتسم فيها الحياة للإنسان ، فيمتلك منها ما يأمله ، ويبلغ ما يسعى إليه . كيف يحدث ؟ فجأة وبدون مقدمات . هل له معيار ؟ من الصعب تحديد معيار ثابت له ، فهو يشمل العاملين كما يشمل الكسالى ، ويصيب الأذكياء كما يصيب الحمقى .


الحظ إذن فوق الإنسان ، يختار من يشاء ، ويستبعد من يريد.والإنسان يتمناه لكنه لا يستدعيه . إنه فقط ينتظره ، انتظارًا قد يطول إلى نهاية العمر ، أو ينتهى بزيارة قريبة . وهناك قصيدة جميلة للشاعر الفرنسى جاك بريفير بعنوان (لكى ترسم صورة لطائر) يتحدث فيها عن الحظ فى صورة طائر يتملى الفنان قدومه ، فيرسم له لوحة فيها قفص ، ثم يسندها إلى فرع شجرة ، ويقف وراءها منتظرًا قدوم الطائر الذى قد يطول سنوات ، لكن على الفنان ألا ييأس . فإذا جاء ، فعله أن يحبس أنفاسه حتى يدخل القفص ، ويغنى .. عندئذ فقط يمكن للفنان أن يثق فى نجاح لوحته ، فيسحب حينئذ ريشة من جناح الطائر ، ويوقع بها إمضاءه فى ركن من اللوحة .


كثيرًا ما يشكو الأذكياء ، من تعثر حظوظهم بالنسبة إلى حظوظ الحمقى . وأطرف الأمثلة على ذلك ما صرح به أحد النحاة العرب ، حين وجد الناس فى السوق يقعون فى الأخطاء اللغوية ، فقال "يلحنون ويرزقون ، ونحن نلحن ولا نرزق" ومع ذلك فإن المألة نسبية ، لأننا لا نصغى دائمًا للحمقى عندما يشكون حظهم العاثر ، فضلاً عن أنهم غالبًا ما يؤثرون الصمت . كذلك فإن الأذكياء لا يريدون قط أن يعترفوا باستسلامهم أمام عشوائية احظ ، وكأنما يسعون بذلك إلى ترويضه ، وإخضاعه لقانون السبب والنتيجة ، لكنهم ينسون أن الحظ لا يصاد حتى يروض ، ولا يستقر على حال حتى يخضع لقانون .


الحظ إذن عشوائى . قد يبدو قريبا بينما هو مبعد ، كذلك فإنه مجهول التوقيت ، لا نعرف متى يجىء ، وإذا جاء ، فإننا لا نعرف متى يرحل ؟


هل يمكن لإنسان أن يتحدى الحظ ؟ المفروض أن تكون الإجابة بالنفى . لكن سانتياجو ، بطل رواية هيمنجواى ، هو الذى تحدى الحظ ، وصم على أن يخرج إلى ملاقائه بعد أن ينس من عدم قدومه إليه . وعلى الرغم من رحيل الفتى الذى كان يساعده ، وحالة قاربه المتهالكة ، وعلى الرغم من أنه هو نفسه ظل 84 يومًا دون أن يصطاد سمكة واحدة ، فإنه قرر الخروج فى مغامرة جديدة ، أكثر خطرًا من كل ما قام به فى حياته . فمن يدرى ؟ ربما ابتسم له الحظ !


سانتياجو إذن هو الإنسان الذى يرفض الاستسلام للعبة الحظ. وماذا ينقصه ؟ قد يكون متقدما فى السن ، لكنه يتمتع بصحة جيدة ، وبناء جسدى صلب . ثم إن لديه ثقة كاملة فى كفاءته ، وفى خبرته ، وفى القدرة على تحقيق طموحه (إننى أعرف أشياء كثيرة ، وأنا عنيد) فليدع إذن للآخرين – الكسالى الإيمان المتثائب بالحظ ، وليخرج هو بمفرده للقائه .. من حدود الخليج ، إلى فضاء المحيط ، حيث لم يجرؤ صياد على المخاطرة بنفسه . ثم إن (شهر سبتمبر هو شهر الأسماك الكبرى ، بينما يمكن لأى إنسان أن يكون صيادًا فى شهر مايو) .


هو إذن واثق . وفى ثقته الكثير من التحدى ، والإصرار ، والعناد . لكنه أيضا مغامر . والمغامر هو الذى لا أسى على ما خلفه وراءه ، ولا يخشى هول ما هو مقدم عليه ، حتى لو كان غامضا ، حتى لو كان مجهولاً ، حتى لو كان بيد الحظ نفسه .


وهكذا فنحن هنا أمام مجموعة من الشروط (كفاءة – ثقة فى النفس – تصميم على المغامرة) ينتج عن توافرها ما يمكن أن نسميه" تهيئة المسرح لمناسب للقاء الإنسان بالحظ" .. إذ لا يلبث العجوز – بعد فترة انتظار مرهقة – أن تعلق بحياله سمكة ضخمة ، بل أضخم من أى سمكة أخرى اصطادها طيلة حياته . هو إذن الحظ . لكن ما يزال أمام العجوز التغلب على السمكة القوية ، واصطحابها معه حتى الشاطئ . وكلاهما فوق طاقة إنسان وحيد ! لذلك راح يتضرع إلى الله ، ويتشفع بالعذراء من أجل دفعة أخرى من الحظ ، حتى يكتمل انتصاره . فهل يتحقق له ؟ الواقع أنه استخدم كل مافى طاقته وقدرته من ذكاء وصبر ومراوغه حتى تمكن من السيطرة على السمكة . لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد . فقد بدأت الحيتان الشرهة ، التى جذبتها رائحة الدم النازف من السمكة الطازجة ، تنهش من لحم السمكة وكأنها تنهش من لحم العجوز المسكين .. أجل ، فقد أصبحت السمكه جزءًا من العجوز (الإنسان – الثروة) وبالتالى فقد أصبح الانتقاص منها أنتقاصًا من قدرته على امتلاكها .. وعلى الرغم من أدائه المتميز فى دفع الحيتان عن السمكة ، إلا أن المزيد منها تقاطر عليها حتى سقط العجوز منهكا ، وترك ثروته الثمينة بتجاذبها الأعداء أمام عينيه . ويبدو أن العجوز قد أدرك أخيرًا – ودون أن يصرح بذلك – أن الحظ قد خذله ، وكأنما أراد هذا "السلطان المجهول" أن يلقن الإنسان درسًَا لا ينسى : أنه هو الذى يحدد الموعد ، ويختار بنفسه مكان اللقاء .


فكرة الشيخوخة والوحدة :


يبدأ هيمنجواى روايته بالعبارة التالية يحكى أن رجلاً عجوزًا ، وحيدًا فى زورقه الذى كان يصطاد به وسط خليج ستريم" وعندما يصفه يقول : إن كل شئ فيه كان عجوزًا ، ما عدا بصره ، الذى كان مرحاً وفيه فتوة ، كما كان له لون البحر" . ويتأكد معنى الشيخوخة فى بداية الرواية من خلال الصحبة التى أصبح من الصعب استمرارها بين العجوز والفتى الذى كان يعمل معه ، والذى تعلم منه حرفه الصيد ، وكان متعلقا به ، لكن والديه أجبراه على العمل فى قارب آخر ، أكثر حظًا من هذا العجوز التعيس .


أما حائط كوخ العجوز ، فقد كان فى الماضى مزينًا بصورة ملونة لزوجته ، لكنه ما لبث أن أخفاها فى ركن من الكوخ ، لأن النظر إليها كان يشعره "بأقصى درجات الوحدة" .


ويتساءل العجوز : لماذا يستيقظ كبار السن باكرا ؟ هل لأنهم يرغبون فى يوم أكثر طولاً من الآخرين ؟!


إن شيخوخة سانتياجو تصحبها عدة أعراض : منها قلة النوم ، وعدم رؤية أحلام متنوعة ، وفقدان الشهية للطعام ، ومحادثة نفسه بصوت عال . وهو يقول : "فى البحر لا ينبغى أن يقال كلام فارغ" .. أما أهم أعراض هذه الشيخوخة فيتمثل فى ذلك التصميم القاطع على تحقيق شىء جديد وعظيم لم يتحقق طوال فترة الشباب . وهو يشبه نفسه بالسلحفاة ، التى يظل قلبها يدق لعدة ساعات ، حتى بعد فتح جوفها وتفريغه مما فيه – يقول : "إن لى قلبا كقلب السلحفاة ، بل إن يدى ورجلى مثلها تماما" .


إن خروج العجوز فى تلك الرحلة الكبرى من الخليج إلى المحيط يكاد يعد انفلاتًا من ضيق المكان ، وقيود البيئة المحلية إلى رحابة العالم الفسيح ، بل إننا لا نستبعد مشابهتها بمحاولة انعتاق النفس من قيود الجسد .


عندما يبتسم الحظ للعجوز ، وتقع فى صنارته أضخم سمكة شاهدها فى حياته يتمنى لو كان الصبى معه ليشهد لحظة انتصاره : فالوحدة فى تلك الحالة قاسية ، وهو يقول بصراحة : "لا ينبغى أن نبقى وحدنا فى حالة الشيخوخة ، لكن هذا أمر لا مفر منه" .


ويعلن عن ضعفه البالغ بكلمات مؤثرة حين يقول فى غمرة صراعه مع السمكة الضخمة : "إن السمكه لا ينبغى أن تعلم أننى وحدى ، فضلاً عن أن نعلم أننى رجل عجوز" .


والملاحظة التى تلفت النظر أن العجوز – وهو يصارع السمكة باستبسال – يحرص على ألا تفلت منه . ويبلغ به الحرص مداه حتى تتصلب أطرافه من شدة الإمساك بالحبل الذى يجرها به . ولا شك أن هذه الحالة تفتح الباب لدراسة حالة الشبخزخة وارتباطها يجب التملك ، أو بعبارة أدق ، يجنون التملك .


إن الإنسان كلما تقدم به العمر صار أشد حرصًا على ما يملك، وبين الحرص والبخل خيط رفيع . أما الذى ينغص عليه حياته ، ويقلق حينئذ راحته فهو خوفه من أن يمس أحد ثروته التى أنهك عمره فى جمعها .. وهذا قد يفسر اضطراب علاقة المسنين عادة بأقرب الناس إليهم ، وهو ما يؤدى بهم عادة إلى الوحدة . إنها إذن عملة واحدة ذات وجهين : الشيخوخة والوحدة .


القيمة الفلسفية لرواية العجوز والبحر :


أول ما ينبغى الالتفات إليه هو عنوان الرواية نفسه فقد اختار هيمنجواى بطله إنسانا فى آخر مراحل العمر (العجوز) ولكنه مزود بكل ما يحتاج إليه لكى يقوم بعمل كبير : الخبرة والتجربة ، الأهلية والكفاءة ، التحدى والإصرار . وهذه العوامل كلها جديرة بأن توفر له تحقيق ما يريده ، وبالفعل تم للعجوز للحصول عليه . ولكن الوسط ، أو البيئة ، أو الكون الذى يعيش الإنسان ويعمل ويصارع فيه هو (البحر) فى اتساعه ، وغموضه ، وما يحتوى عليه من وحوش تتربص بالإنسان ، وتهجم عليه فى أشد اللحظات حرجا وصعوبة .


أليست ملحمة ذلك العجوز ، الوحيد فى آخر عمره ، هى مأساة الإنسان فى كل زمان ومكان . كلنا ينتهى به الحال – أراد أو لم يرد – إلى الوحدة .


فعلى مدى عمر الإنسان، يفقد أحبابه وأصدقاءه ، ومع تقدم عمره ، يأخذ الناس فى الانفضاض من حوله ، وهذا بالطبع مرتبط بقلة أو بانعدام المنفعة المتوقعة منه . ومن ناحية أخرى فإنه قانون تدافع الأجيال .. فالجبل الجديد لابد أن يحصل على مكان ، وأن يأخذ فرصته ، ولهذا فإنه لا يرغب فى بقاء الجيل القديم مكانه ، ولا بد أن يزيحه عنه ، وقد تمثل هذا فى موقف سائر الصيادين من العجوز ، وكذلك أهل الصبى الذين نقلوه من خدمته ..


لكن الإنسان مخلوق مزود بالقدرة على التأقلم ، بل على أقصى درجات التأقلم . لذلك عندما يجد هذا الإنسان نفسه وحيدًا يسرع باستدعاء رصيده من الذكريات والتجارب ، لكى يكون اجترارها – بصوت مهموس أو مسموع – نوعًا من كسر طوق الوحدة ، وتحقيق لثنائية اللازمة لبقاء الجنس البشرى على ظهر الأرض . إن وجود آدم لا يمكن تصوره على الإطلاق بدون حواء . كذلك يمكن تصور إنسان وحيد لا يتحدث إلى نفسه .


ولا يقتصر تحقيق الثنائية فى مجرد حديث الإنسان إلى نفسه ، بل إن من أهم مظاهرها : سعى الإنسان إلى تحقيق أمله أو رغبته ، وهذا نوع آخر من الحوار مع الناس والأشياء . وفيه تستنفذ طاقات الإنسان – دون أن يدرى – حتى إذا بلغ نهاية الشوط ، اختلطت لذه النصر بمرارة الضعف والإنهاك ، لكن الإنسان بهذا "الفعل" يسعى مرة أخرى إلى كسر طوق الوحدة .. وهو يشبه أسماك السالمون التى تصمم على عبور النهر – لأعلى وضد التيار – معرضة نفسها للهلاك المحقق ، ولكنها لا تعبأ إلا بالوصول إلى هدفها .


ما الذى يدفع صيادًا عجوزًا فى أخر مراحل عمره يقرر فجأة أن يخرج من الخليج إلى المحيط ليصطاد سمكة أضخم م الأسماك التى يصطادها سائر الصيادين من حوله ؟ إنها الانتفاضه الأخيرة التى تسبق انطفاء المصباح . لكن هيمنجواى جعل منها "بطوله كاملة ورسم لنا من خلالها "نموذجًا" يمكن أن نقدمه لشابنا حتى نشجعهم على المغامرة والأعمال العظيمة .


لقد استطاع هذا الصياد العجوز المغمور فى خليج ستريم أن يصبح بهذه المغامرة الفردية الخاصة به واحدًا من أبطال العالم .. وفى رواية متوسطة الحجم ، نجح هيمنجواى أن يحشد الكثير من العوامل النفسية التى تصطرع فى أعماق الإنسان ، كل انسان ، وأن يبلور العديد من الأفكار الفلسفية التى يصل إليها عن طريق التجارب، والخبرة الطويلة ، وأروع ما حققه الكاتب العبقرى أنه استخرج من كل واحد فينا جزءًا ووضعه فى شخصية الصياد العجوز .


أما لحظة الوصول إلى هدف وتحقيقه فهى من أسعد اللحظات: لمن يمر بها ، وأيضا لمن يستمع إليها . إنها اللحظة التى يثبت فيها الإنسان أنه الأجدر ، من بين جميع المخلوقات ، على امتلاك الكون ، والسيطرة على الطبيعة .. إنها اللحظة التى يصل فيها الإنسان إلى قمة وجوده . لكن القمة لا تسمح لمن يبلغها بالبقاء فيها إلا لحظة واحدة فقط .. لذلك فإنه سرعان ما يغادرها منسحبًا بهدوء ، أو محكمًا بشناعة . وهذا ما حدث للصياد العجوز .


فى اللحظة التى اعتقد فيها العجوز أنه حقق هدفه ، يقتل السمكة الضخمة وربطها إلى قاربه ، بدأت لحظة أخرى تكالبت عليه فيها مجموعة شرسة من الحيتان ، استطاعت فى النهاية أن تقضم بأنيابها الحادة لحم السمكة بالكامل .. وعندما رفع الموج قارب العجوز إلى الشاطئ ، لم يكن لديه سوى هيكل عظمى يدل على ضخامة حجم السمكة .. تمامًا مثلما تدل أهرامات مصر ، وأكروبول اليونان ، وسور الصين العظيم على ضخامة ما حققه الإنسان فى تلك الحضارات من إنجازات !


وهنا يبرز سؤال : وما الجدوى إذن من الصراع ، ما دام الأمر يؤول فى النهاية إلى مأساة ؟ وهو سؤال له وجاهته . لكن الإنسان بدون هذا الصراع لا يمكنه أن يعيش حياته ، لأنه يحقق من خلال هذا الصراع ما تتطلبه طبيعته من الثنائية التى تنفر من الوحدة، والعزلة ، والانفراد . وقد يقال : ألا يعبر هذا المصير المحتوم عن فلك جبرى يدور فيه الإنسان ؟ والإجابة : إلى حد ما ، وقد عبر بعض فلاسفة المسلمين عن ذلك بقولهم : إنه الجبر فى عين الاختيار .

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 


 






 

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الأحد, 03 مارس 2013 18:31