عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
فلسفة السؤال والتساؤل عند ابى حيان التوحيدى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الجمعة, 29 أكتوبر 2010 15:06

فلسفة السؤال والتساؤل
عند أبى حيان التوحيدى

 

 

 

 

 

أ.د. حامد طاهر (*)


السؤال رغبة فى العلم ، أما التساؤل فهو أسلوب فى التعلم . ولا يكاد يوجد مفكر عربى وصلتنا مؤلفاته مملوءة بالأسئلة والتساؤلات مثل أبى حيان التوحيدى ، صحيح أن الحارث المحاسبى (ت 243هـ ) وضع كتابه "الرعاية" فى صورة سؤال منه وإجابة من شيخه (المجهول) ، وصحيح أيضًا أن الحكيم الترمذى (ت 285هـ) قد طرح بدون إجابة (155) سؤالا حول موضوع الولاية ، وظلت أسئلته مطروحة على الجميع إلى أن أجاب عنها محيى الدين بن عربى (ت 638هـ) فى موسوعته الكبرى "الفتوحات المكية" .


لكننا مع التوحيدى نلتقى بنزعة غالبة فى طرح الأسئلة ، وإثارة التساؤلات، بل بفن متكامل يمكن أن نطلق عليه "فن السؤال والتساؤل".

ومن المقرر أن لكل فن أصولاً وقواعد ، كما أن له غاية وأهدافاً ، وهو دائمًا مرتبط بفلسفة عامة يصدر عنها ، ويتحرك فى إطارها .


وإذا كان السؤال يعبر عن استفهام مباشر يطرحه التوحيدى على أحد أساتذته أو زملائه ليتلقى عنه إجابة محددة ، كما فعل مع مسكويه (421هـ) فإن التساؤل يتم طرحه على النفس ، أو كما فعل التوحيدى على أحد أساتذته الذين لا يمكننا أن نتأكد تمامًا من أنهم قد أجابوه عنه ، أو حتى نتأكد من أنه قد طرح عليهم أساسًا تلك الأسئلة، كما فعل مع السجستانى (ت حوالى 38.)(1) .


وأنا أميل إلى الشك فى أن التوحيدى قد سأل السجستانى بالفعل كل هذه الأسلة ، كما أشك فى أن السجستانى قد أجابه عنها بتلك الصورة ، وأذهب إلى أن كلاً من الأسئلة والإجابات معًا هى من صنع التوحيدى . ومن أقوى الأدلة على ذلك ما نجده من نضج فى الأسئلة ، يتجاوز مستوى التلميذ الذى يسأل لكى يعرف ، بل إنها أقرب إلى أسئلة الصحفى المخضرم الذى يكون على دراية تامة بالموضوع ، ثم يختار شخصية مشهورة لكى يجعلها تنطق بما يريد(2). كذلك فإن الملاحظة الدقيقة للغة السؤال والإجابة تكشف عن نقاط تشابه كثيرة .

تؤكد كلها أنها من صنع شخص واحد (وأنا هنا أدعو إلى إجراء دراسة أسلوبية تهدف إلى استخراج البصمة اللغوية للتوحيدى ، ومقارنتها بأساليب الشخصيات التى أورد لها أقولاً فى مؤلفاته) .


المعروف أن السؤال يطرحه الإنسان على ذوى الخبرة والمعرفة ليجيبوه عنه ، وأن التساؤل هو السؤال الذى يطرحه الإنسان على نفسه ، إما مندهشًا أو متحيرا أو أحيانًا متهكمًا – وقد استخدم التوحيدى الأسلوبين معًا . أما السؤال فكان مع فيلسوف الأخلاق مسكويه(3) .

ومسكويه فيلسوف معروف ومشهور . وآراؤه مبسوطة فى كتبه التى وصلتنا بعضها . وأما التساؤل فقد استخدمه التوحيدى باسم السجستانى(4) ، وكان من هؤلاء المثقفين الكبار الذين يميلون إلى إشاعة التنوير عن طريق الجلسات والمنتديات أكثر مما يركزون على تأليف الكتب والرسائل ، وربما كانوا أكثر علمًا وثقافة من المؤلفين المحترفين(5) .


ويبدو لى أن التوحيدى قد استغل اسم هذه الشخصية الثقافية الكبيرة ليقدم من خلالها تصوراته وآراءه ووجهات نظره فى شتى مجالات المعرفة والثقافة فى عصره ، إلى جانب أخلاقيات المجتمع وسلوكياته. وذلك مثلما فعل أفلاطون عندما قدم آراءه ونظرياته من خلال أستاذه سقراط . وهكذا فإن أسئلة التوحيدىالتى طرحها بصفة خاصة على السجستانى – ليست أكثر من تساؤلات أى أسئلة مطروحة على النفس ، استخدم فيها اسم السجستانى كما استخدم أفلاطون فى محاوراته اسم سقراط(6) .


لماذا يلجأ المفكر إلى أسلوب السؤال والتساؤل ؟ هناك عدة أسباب ، ويمكن أن تكون كلها أو بعضها وراء ذلك . فهناك أولاً : حساسية الدهشة المفرطة لدى بعض المفكرين الذين يقفون من الكون والأحداث والبشر موقف الاستغراب ، أو محاولة الوصول إلى حقائق الأشياء ، وعللها البعيدة(7) . وهناك ثانيًا : الشعور بالخشية من مواجهة الجو السائد فى المجتمع ببعض الآراء التى تخالفه ، أو تصدمه ، وبالتالى تثير الغضب على صاحبها .

وهناك ثالثًا : الرغبة فى تعليم الآخرين ، والأخذ بأيديهم من حالة الجهل واللامبالاة إلى حالة المعرفة والاهتمام ، ثم هناك أخيرًا : إحداث الصدمة الضرورية فى بيئة تسيطر عليها المقولات الجامدة ، والخطاب القاطع الوحيد .


إن الثقافة عندما تنتشر فى مجتمع ما قد تتحول فى لحظة معينة، وبفعل عوامل محددة ، إلى حالة من الاستقرار الذى يكرس الثبات والتقليد والنمطية . وهنا لابد من أن تجدد الثقافة نفسها ، بظهور بعض المفكرين الذين يفتحون فى هذا الجدار السميك ثقبًا ، أو يلقون فى تلك البحيرة الراكدة بحجر . وفى هذه لحالة ، يعتبر كل من السؤال والتساؤل مدخلاً ضروريًا لتحريك السكون ، ودفع الواقفين إلى مواصلة المسير ، وإقلاق راحة الواثقين !


لقد دارت أسئلة التوحيدى وتساؤلاته حول النفس البشرية ، وأسرار الوجود ، وخفايا اللغة ، كما لمست أخلاق الناس ، وتعرضت لمناهج التفكير ، وتناولت علاقة الفلسفة بالدين ، وصلة الأصيل بالوافد ، أو المحلى بالعالمى . وفى هذا الإطار قد لا تكون الإجابات مهمة بنفس القدر الذى ينبغى أن تكون عليه الأسئلة والتساؤلات ، وذلك لسبب بسيط هو أن الإجابات تختلف فى قوتها وضعفها ، وتتفاوت فى صحتها واستمرارها ، ولكن الأسئلة والتساؤلات تظل محتفظة بقيمتها، وخاصة عندما تدور حول القضايا الرئيسية المتصلة بالإنسان والكون والمصير .


لقد اشتهر التوحيدى بما سبق أن أطلقه عليه ياقوت فى معجم الأدباء بأنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ، وتنازعه الدارسون فى مجالى الأدب والفلسفة. والواقع أن التوحيدى يمثل فى الثقافة العربية نموذجًا يوجد أمثال له فى الثقافات الأجنبية . وقد حاول الباحث الموسوعى الكبير عبد الرحمن بدوى أن يقيم علاقة تشابه بين التوحيدى وكافكا فى مجال التشاؤم ، والنزعة العدميه(8) .

ولكننى أختلف معه فى ذلك . فالتوحيدى يدور فى إطار بينما كافكا متحرر من أى إطار ، والتوحيدى مؤمن يحيره الشك أحيانًا ، ولكن قلب كافكا فارغ من الإيمان ، وأخيرًا فإن التوحيدى يرتكز على مجموعة من المبادئ الأخلاقية والاجتماعية فى حين أن كافكا يسعى إلى هدمها من الأساس .


وفى حدود معرفتى بالثقافة الفرنسية ، أقول باطمئنان إن دور التوحيدى فى الثقافة العربية يتشابه إلى حد كبير مع دور ميشيل دى مونتانى M.ntagne فى الثقافة الفرنسية(9) ، وهو الدور الذى يتمثل فيما يمكن أن نطلق غليه "إعادة النظر" فى كل ما يحيط بالإنسان ، مع الغوص فى أعماقه للبحث عن أصل الوجود ، وأسرار الكون ، وختام الحياة . ومن الواضح أن "إعادة النظر" تتطلب عينًا تتوقف أمام المألوف على أنه غريب ، وأمام العادى على أنه نادر مدهش ، كما أنها ليست عينًا بطيئة الحدقة ، تنظر فى اتجاه واحد ، بل هى عين واسعة الرؤية تنتقل بين العديد من الأشياء ، وبسرعة كبيرة ، وأحيانًا خاطفة .


كيف يمكن للمثقف الجاد أن يعيد النظر فيما حوله ؟ بوسائل متعددة ، من أكثرها فعالية استخدام طريقة السؤال والتساؤل ، التى كان يتقنها التوحيدى ، موظفًا طاقته الأدبية فى حسن الصياغة ، وتشقيق الكلام ، وحشد المترادفات التى تمتلئ بها لغة غنية مثل اللغة العربية . يقول التوحيدى : "يا هذا ! قد صرفت لك القول فى فنون من العبارة ، على ضروب من الإشارة"(1.) وعدم التنبه لذلك هو الذى أدّى بكثير من الباحثين إلى تصنيف التوحيدى فى مجال الأدب ، مع أنه لا يستخدم الأدب وأدواته المتاحة فى عصره إلا كوسيلة للتعبير عن أفكاره الفلسفية ، أو بمصطلح أدق : نزعته الفكرية والأخلاقية .


لقد كان التوحدى بدون شك يملك نفسًا متطلّعة إلى المعرفة ، وروحًا موسوعية تهدف إلى الإلمام بكل شئ ، ولعل هذا هو السبب الذى جعله ينفر – فى مطلع حياته من العزلة التى هى طابع المفكرين المتأملين ، ويسعى بكل نشاط إلى المشاركة فيما يمكن أن نطلق عليه "الصالونات الأدبية" التى ازدهرت فى عاصمة الخلافة ، خلال القرن الرابع الهجرى (11). وميزة هذه الصالونات أنك تلتقى فيها بالثقافة الحيّة ، والأفكار التى تشغل الناس فى حياتهم اليومية . لكنها من ناحية أخرى تضم إلى جانب رجال الفكر الرفيع : أدعياء العلم .

والمتفيهقين بالمعرفة ، وأصحاب المنصب والثروة الذين يرغبون فى استكمال وجاهتهم الاجتماعية برعاية الفنون والآداب . وهنا يجد المثقف الجاد نفسه فى مأزق حقيقى : فإما أن يجارى الزيف ، والنفاق ، والمظهرية ، وإما أن ينسحب من الميدان تاركًا كل شئ . وهذا ما فعله التوحيدى فى آخر حياته .


لقد قيل إنه قد انتهى من رحلة الرغبة العارمة فى المعرفة ، والشك والحيرة ، والسؤال والتساؤل – يانسًا أو مستسلمًا ، والدليل على ذلك ما نقرأه فى آخر مؤلفاته "الإشارات الإلهية"(12) – الذى هو عبارة عن أطول مناجاة بشرية لله تعالى فى اللغة العربية ، وربما فى سائر اللغات الأخرى . وفيه يقول : "إذا ضللت عن حكمة الله فقف عند قدرته ، فإنه إن فاتك من حكمته ما يشفيك ، فلن يفوتك من قدرته ما يكفيك(13) ويقول أيضًا : "ويحك ! كيف تحكم بـ لم على خالق   لم ؟ أم كيف تحتج بالحجة على مظهر الحجة ؟ أم كيف تدل بالعقل على منشئ العقل ؟ أم كيف تباهى بالعلم واهب العلم ؟ .


ولكننا هنا ينبغى أن ننبه إلى أمر هام ، وهو أن حالة الاستسلام عن إدراك الحقيقة ، أو إجابة الأسئلة والتساؤلات التى تظهر بوضوح تام عند التوحيدى فى آخر مؤلفاته – لا يصح تعميمها على "المعرفة الإنسانية" بكل فروعها . فهو يقول بصراحة "إن الله وهب لك هذا الإحساس (جمع حس يعنى حاسة) لتعتبر بها فيما ترى ، وتسمع ، وتذوق ، وتشم ، وتلمس"(15) وإذن فالمقصود من الاستسلام هو العجز البشرى عن الاحاطة بأبعاد القدرة الإلهية فى سموها وتعاليها . يقول التوحيدى : "من توجه إلى الله استسلم"(16) وهذا ما نجده عند كبار فلاسفة الصوفية على مر العصور .


فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى دراسة أولية لأسئلة التوحيدى ، وجدنا أهم مؤلفاته فى هذا الصدد ، وهو كتاب (الهوامل والشوامل)(17) الذى طرح فيه (175) سؤالاً على مسكويه . وأول ما نلاحظه على تلك الأسئلة هو مدى التنوع الشديد فيما بينها . فهى تدور حول الإلهيات والطبيعيات والإنسانيات . وتلك هى الدوائر الثلاث ، التى إذا أضيف إليها دائرة الرياضيات تمثلت أمامنا الموسوعة الفلسفية فى إطارها الكلاسيكى ، التى وصلت إلينا من الإغريق .


وكما تختلف أسئلة التوحيدى فى مجالاتها السابقة ، فإنها تتراوح بين البساطة والعمق . فهناك الأسئلة السهلة التى يمكن أن ينشغل بها عامة الناس ، وإذا سمعها أى إنسان تطلع إلى معرفة الإجابة عنها (بل من الممكن جدًا أن تستغلها حاليًا ، أى مجلة معاصرة لتجذب بإثارتها القراء) ومن ذلك مثلاً :


1-
لماذا تواصى الناس بكتمان الأسرار ، وتحرجوا من إفشائها ، ومع ذلك لم تنكتم ؟
2-
ما السبب فى اشتياق الإنسان إلى ما مضى من عمره ؟
3-
لم قبح الثناء فى الوجه ، وحسن فى المغيب ؟
4-
لم صار بعض الناس إذا سئل عن عمره نقص فى الخبر ، وآخر يزيد على عمره ؟
5-
لم صار البنيان إذا لم يسكنه الناس تداعى عن قرب ، وما هذا هو إذا سكن واختلف فيه ؟
6-
لم صارت غيرة المرأة على الرجل أشد من غيرة الرجل على المرأة ؟

وإلى جانب أمثال هذه الأسئلة البسيطة ، أو التى تبدو كذلك ، نلتقى بأسئلة أخرى تؤدى مباشرة إلى ما نطلق عليه "التفلسف" ، أى تأمل أحداث الحياة من منظور فكرى يسعى للفهم ، ومحاولة إزالة الغموض أو التناقض عن المعنى الكلّى للحياة والكون ، ومن ذلك :


1-
ما وجه الحكمة فى آلام الأطفال ، ومَنْ لا عقل له من الحيوان ؟
2-
ما علة كثرة غم من كان أعقل ، وقلة غم من كان أجهل فى الأفراد والأجناس .
3-
لم كلما شاب البدن شبّ الأمل ؟ وهل اشتمل الأمل على مصالح العالم ؟ وإن كان مشتملاً فلم تواصى الناس بقصر الأمل ، وقطع الأمانى ؟
4-
لم اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لصق به ، وآثره ، وكدح فيه ، مع ما يرى من صروفه ونكباته وزواله بأهله ؟
5-
لم كان فرح الإنسان بنيْل ما لم يحتسبه ويتوقعه أكثر من فرحه بدرك ما طلب ، ولحوق ما زال ؟
6-
لم صار اليقين إذا حدث وطرأ لا يثبت ولا يستقر ؟ والشك إذا عرض أرسى ورض (أى استقر) ؟

ثم إن هناك مجموعة من الأسئلة ، تتجه إلى تفسير الظواهر والتغيرات الطبيعية ، وتستدعى بالتالى نوعًا من المعرفة التجريبية ، وحثًا عليها . ومن ذلك :


1-
ما الحكمة من وجود الجبال ؟
2-
لم صار البحر فى جانب من الأرض ؟
3-
لم صارت مياه البحر ملحًا ؟
4-
لم كان صوت الرعد إلى آذاننا أبطأ وأبعد من رؤية البرق إلى أبصارنا ؟
5-
على ماذا يدل انتصاب قامة الإنسان من بين سائر الحيوان ؟

وأخيرًا ، هناك مجموعة من الأسئلة تشير – بصورة غير مباشرة – إلى نقد اجتماعى ، وتعبر بذاتها عن موقف أبى حيان نفسه من بعض الظواهر والمفارقات التى تحدث فى المجتمع ، وتنتشر فى الحياة الثقافية ، ومن ذلك :


1-
ما بال أصحاب التوحيد لا يخبرون عن البارى إلا بنفى الصفات ؟
2-
ما الفرق بين العرافة والكهانة والتنجيم والطرق والعيافة والزجر ؟ وهل تشارك العرب فى هذه الأشياء أمة أخرى ؟
3-
ما علة كراهية النفس الحديث المعاد ؟ وما سبب ثقل إعادة الحديث على المستعاد ؟ وليس فيه فى الحال الثانية إلا ما فيه فى الحالة الأولى ؟ فإن كان بينهما فارق فما هو ؟
4-
لم صار الإنسان إذا صام أو صلى زائدًا على الفرض المشترك فيه حقر غيره ، وتكبر حتى كأنه صاحب الوحى ، أو الواثق بالمغفرة والمنفرد بالجنة ، وهو مع ذلك يعلم أن العمل معرض للآفات التى تحبطه وتجعله هباء منثورًا ؟
ولعل من أوضح الأمثلة فى هذه المجموعة ما نجده فى السؤال التالى ، وما ألحقه به التوحيدى من تعليق حاد ، يكاد يصادر به على الإجابة المطلوبة ، إن كان الأمر – من وجهة نظره – يحتاج إلى إجابة :
5-
ما الذى سوّغ للفقهاء أن يقول بعضهم فى فرج واحد : هذا حرام ، ويقول الآخر فيه بعينه هذا حلال ؟ وكذلك المال والنفس ؟ كلام هذا يوجب قتل هذا ، وصاحبه يمنع من قتله . ويختلفون هذا الاختلاف الموحش ، ويتحكمون هذا التحكم القبيح ، ويتبعون الهوى والشهوة ، ويتسعون فى طريق التأويل ، وليس هذا من فعل أهل الدين والورع ، ولا من أخلاق ذوى العقل والتحصيل . هذا وهم . يزعمون أن الله قد بين الأحكام ، ونصب الأعلام ، وأفرد الخاص من العام ، ولم يترك رطبًا ولا يابسًا إلا أودعه كتابه ، وضمّنه خطابه !
والذى يعيد تأمل هذه المجموعات التى سبقت من الأسئلة سوف يلاحظ قاسمًا مشتركًا بينها جميعًا ، وهو أن السؤال يتجه إلى محاولة التعرف على (علة) الشئ ، أو (حكمته) ، ولذلك يستخدم فيها أداة الاستفهام (لم) ، وحتى عندما يستخدم أداة أخرى مثل (ما) فإنها تلحق مباشرة بكلمة (علة) أو (حكمة) . ومن المعروف أن البحث عن العلة كان وما يزال هو الطابع (العام) للفلسفة ، بينما اتجه العلم إلى البحث عن الكيفية ، أى خصائص الشئ وصيرورة هذه الخصائص من أجل الاستفادة المباشرة منها .
لكن السؤال الفلسفى ، من ناحية أخرى ، حين يتجه إلى البحث عن العلة ، لا يكون عامًا فى كل الأحوال . فهناك العلة القريبة والمباشرة  والعلة البعيدة أو الغائبة . والفيلسوف حين يطرح أسئلته لمعرفة العلل القريبة فإنه يقدم خدمة جيدة للعلم ، وخاصة فى مجال نشأة الظواهر ، وتتابعها ، أو اتصال بعضها ببعض .


كذلك فإن هناك من الأسئلة الفلسفية ما يعد نوعًا من (التحليل العقلى) الذى يساعد فى التعرف على بعض جوانب الظاهرة أو جزئياتها ، وذلك بالإضافة إلى أن معظم الأسئلة الفلسفية تهدف إلى (التركيب العقلى) أى وضع الإجابات الصغيرة والمبعثرة حول ظاهرة ما فى إطار كلى شامل .


ويبقى أن السؤال الفلسفى يحمل فى ذاته دعوة إلى البحث ، والتعرف ، والاكتشاف . وهو بذلك كله يمهد البيئة المناسبة للبحث العلمى الذى يمكنه أن يسترشد بعلامات الاستفهام الفلسفية ليحدد الأرض التى يقيم عليها بناءه .


من هنا ، ينبغى أن ندرك قيمة الدور التمهيدى الكبير الذى آداه التوحيدى للثقافة العربية عن طريق استخدام السؤال والتساؤل ، وما يمكن أن يحدثه ذلك من تحريك السكون ، وغربلة المتوارث ، وفتح آفاق جديدة ومتجددة للمعرفة .


لقد كان على العلماء – حينئذ – أن يبدأوا العمل من تلك البيئة الجديدة التى أعدها لهم التوحيدى، وكان على من أتى بعده من المفكرين أن يكونوا أكثر جرأة واقتحامًا ، وكان من الضرورى أن يستمر إنتاج الأسئلة وطرح التساؤلات حتى لا يخيم شبح الركود ، والمسلمات القطعية التى لا تقبل نقاشًا ، ولا تتحمل إعادة النظر !

 


لكن ماذا حدث للثقافة العربية بعد التوحيدى ؟


عادت الغلبة لاستقرار الحلول السابقة التى أبدعها الأجداد فى ظروف مختلفة ، وتكونت هالات التقديس حول كثير من الأسماء غير المعصومة من الخطأ ، واستعان كثير من العلماء بالسلطة الزمنية لفرض آرائهم على مجرى الحياة ، بدلاً من أن يتركوا تلك الآراء لقانون التجربة ، وما يفرضه من معايير الصواب والخطأ . وفى مجال التعليم الذى يسبق الثقافة ويمهد لها – صار التلقين والحفظ والشرح والتلخيص هى الأعمدة الأساسية التى يقوم عليها صرح الثقافة العربية . وإذا كانت المقدمات تؤدى دائمًا إلى نتائجها ، فقد كان من أهم هذه النتائج : اختفاء الإبداع ، ومحاربة التجديد ، وغياب روح الدهشة ، وضمور فن السؤال والتساؤل .


*  *




 

التعليقات (1)Add Comment
0
...
أرسلت بواسطة عبدالرحمان بن ابراهيم / صفاقس - الجمهورية التونسية, مايو 12, 2018
* شكرا لكم على هذه المقالة القيمة *

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 09 يناير 2015 16:39