عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
عبد الله البردونى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الأحد, 04 يوليو 2010 22:31

 

 

حوار مع الشاعر اليمنى

عبد الله البردونـى

( نشر هذا الحوار بمجلة البيان

الكويتية ، فبراير 1983 )





يقول عن نفسه مرة إنه ( كاهن الحرف ) ، ومرة أخرى ( صعلوك الحروف ) ، والواقع أن عبدالله البردونى – الذى بدأ كتابة الشعر فى سنة 1948 ، ونشر ديوانه الأول 1962 .. حتى صارت له الآن سبعة دواوين ، كلها جيد وأصيل – قد أصبح يمثل ظاهرة شعرية متفردة فى الوطن العربى المعاصر، فالطاقة الشعرية التى ينطوى عليها هذا الشاعر قادرة – فى رأيى – على بعث الشعر العربى من جديد ، كما أن الأداة التعبيرية التى يجيد استخدامها فى اطار الشكل التقليدى أوضح دليل على امكانية ( التطوير من الداخل ) فى بناء القصيدة العربية  ذات الشكل العمودى . وبالاضافة إلى هذا وذاك ، فإنه يمتلك التواصل الجيد ، الذى يشبه الحضور المسرحى ، مع جمهوره .


اعجبنى كثيرا شعر البردونى . ودفعنى هذا الاعجاب إلى أن أنتهز فرصة وجوده فى القاهرة فى شهر أكتوبر لعام 1982 - وذلك للمشاركة فى ذكرى شوقى وحافظ – لكى أجرى معه الحوار التالى :


لو سألتك عن رحلتك التعليمية ، فعلى أى المعالم الرئيسية يمكنك أن تتوقف ؟


نشأت فى أسرة يمنية فقيرة تشتغل بفلاحة الأرض . وإذا كان للوراثة دخل فإن والدتى من أسرة شاعرة – على الطريقة العامية القبلية فى اليمن – والواقع أننى كنت أحس أن لدى استعدادا خاصا لقول الشعر من البداية . دخلت كتّاب القرية ( البردّون : بفتح الباء والراء وتشديد الدال ) وكان يسمى مِعْلامة: حيث حفظت النصف الأخير من القرآن الكريم ، لأن مثل هذا التعليم كانوا يختارونه ليتجاوب مع فهم التلاميذ ، حيث أن البداية بالسور القصيرة يسهل حفظ السور الطوال . ثم انتقلت إلى معلامة القرية المجاورة ، لأن أختى تزوجت بها . فأكملت فيها حفظ القرآن . وكانت الدراسة فيها أكثر انتظاما من معلامة البردون . وعندما انتقل معلمى ( الشيخ محمد الصوفى ) إلى مدينة ذمار ، نقلنى معه متحملا مسؤولية تعليمى ، دون أن يتحمل مسؤولية عيشى .


ماذا فعلت ؟


تعلمت مستغنيا عن العيش ، وقد كنت أحصل عليه عن طريق زملائى فى المدرسة . ثم انتقلت إلى جامع يسمى ( المدرسة الشمسية ) وفيه قطعت شوطا فى دراسة النحو والفقه وأصول الفقه وعلوم البلاغة والصرف وأصول الدين . بعد ذلك انتقلت إلى صنعاء ، حيث التحقت فيها بدار العلوم سنة 1949 وقد تخرجت منها سنة 1951 ، أى بعد سنتين فقط لأننى لم أدخلها من شعبها الأولى ، وإنما من الشعب المتقدمة التى تكمل تعليم ذمار .


هل كنت تلميذا مجتهدا ؟


نعم ، لأن تعليم مدرسة ذمار كان مطابقا لمنهج دار العلوم فى صنعاء . وقد تجاوبت كثيرا مع علومها . وبالأخص علوم البلاغة ، التى أصغيت من شواهدها الشعرية إلى الشعر العربى ، وإلى سره التعبيرى ، حتى أننى لم أقف عند اللفظة ، وإنما حاولت أن أشم لكل حرفا لونا ، وأرى له شكلا .

بالمناسبة ، من هم أحب الشعراء القدامى إلى قلبك ؟


أبو تمام والمتنبى والمعرى والشريف الرضى .. وما زلت أقرأ لهم حتى الآن .

لكننى ألاحظ فى شعرك روحا قويا من سخرية بشار بن برد ؟


لم يكن بشار ساخرا ، وإنما هجّاء .. وإذا كانت له سخرية فهى سخرية الزنادقة ، وذلك على العكس من المعرى ، الذى يمكن أن يقال إنه حزين حزن الحكماء !


ألا تربطك صفة العمى خاصة بأمثال المعرى وبشار ؟


صفة العمى من الأمور التى تجعل العميان متشابهين ، أو محبين لبعضهم . ومع ذلك فأنا أحب المتنبى كالمعرى ، وأحب الشريف الرضى كبشار ( لكننى قد أصرح لك بأننى أحب طه حسين أكثر من العقاد ) ومع ذلك فإن الأعمى أكثر ميلا إلى المبصريين ، لأنهم يملكون ما يفقد . والإنسان يحن إلى غير الموجود لديه .


هل تعتقد أن لصفة العمى أثرا فى النبوغ ؟


كما أن صفة العمى ليست بالضرورة رابطة مشتركة . كذلك فإن صفة البصر ليست سببا فى النبوغ . فما كل المبصرين : دانتى أو المتنبى أو الجاحظ أو شكسبير . كذلك المكفوفين ، ما كلهم طه حسين أو أبا العلاء أو هوميروس . فليس العمى هو الذى يرشح النبوغ ، بدليل أن أغلب العميان من الضائعين ، وأقلهم هم الذين حققوا بروزا فى الأدب أو الدين أو فى قراءة القرآن . أما الأغلبية فقد أصابهم العمى بالعجز كإحدى المعوقات الكبرى .


لكن ألا يقف العمى عائقا فى تكوين الصورة الشعرية لديك ؟


أشرت من قبل إلى حنين الإنسان إلى ما يفقد .. إنه هو الذى يجعل الأعمى يتصور الألوان والأشكال بحساسية مفرطة .. لهذا جعل المكفوفين من الألوان رموزا وتوريات وقرائن على عوالم فنية ، كما نجد فى قول المعرى :


ليلتى هذى عروس من الزنج عليها قلائد من جمان

أو كما نجد فى قول بشار :

وكـأن رجـع حديثـهـا قطـع الرياض كسـين زهــرا


فالألوان عند الشاعر الكفبف تصور له العالم الخارجى ، وما يحفل به من صور . ومن هنا يحسن تصور الكفيف للمشاهد الخارجية أكثر مما تبدو عليه للمبصريين .


كيف ترى الواقع الشعرى المعاصر فى اليمن ؟


من أظهر الأمور ظواهر الأدب .. فهى الوحيدة التى تعلن عن نفسها يوميا . لأن الأدب بدون كواليس ، وبدون تحايلات سياسية . لهذا يمكن معرفة الواقع الشعرى فى اليمن وغيره إذا توافرت المتابعة . ولعل واقع الشعر اليمنى لا يختلف عن واقع الشعر فى مصر ولبنان والعراق . فكل المدارس الشعرية متواكبة بعضها إلى جوار بعض ، الشكل الكلاسيكى إلى جانب الشكل الجديد ، والشكل الجديد إلى جانب الشكل الكلاسيكى .. وأنا أفرق هنا بين القديم والكلاسيكى لأن هناك الكلاسيكية القديمة التى هى أقرب إلى التقليد ، والكلاسيكية الجديدة التى هى أقرب إلى الجديد . أما القديم فهو محاكاة تامة للقدامى . ولا شك أن الانتهاج فيها قليل جدا ، نتيجة ظهور الشعر الذى ينتزع لغته ومضامينه من لغة الناس ومن قضاياهم .


بدأ الشعر اليمنى فى الخمسينات بتحديث القصيدة العمودية ، عند الزبيرى ، والحضرانى ، والشامى ، ولطفى جعفر أمان .. ثم انتقل إلى العمودى المتطور الذى يعتمد على القافية المتراوحة .


ومن بداية الستينات إلى السبعينات ، ظهرت القصيدة الجديدة ( الشعر الحر ) التى تعتمد على التفعيلة بدل البحر ، وعلى السطر بدل البيت ، وعلى النبرة بدل القافية . وتفرد الشعر اليمنى بغياب الصراع بين الأشكال الشعرية . لأن التطور عم الشعر كله ، وعلى أى شكل .. فكان هناك تآخ بين المدارس الشعرية بشرط أن تكون القصيدة شعرا فى أى شكل . لأن لكل شعر جمالياته الخاصة به ، سواء كان ( بيتا ) أو ( جديدا ) .


ومن بداية السبعينات إلى الآن ، استجدت القصيدة النثرية ، وكانت امتدادا للقصيدة الجديدة ، التى جاءت بدورها من الشعر العمودى المتطور .

لكن هل ترى اختلافا كبيرا بين واقع الشعر العربى فى اليمن ، وواقعه فى الوطن العربى ككل ؟


واقع الشعر فى اليمن لا يختلف كثيرا عن واقع الشعر فى سائر الأقطار العربية ذات الثقافات والجامعات والتاريخ الطويل فى الشعر وتعدد مدارسه .


لكن ربما كان واقع الشعر فى اليمن أقرب إلى واقع الشعر فى العراق ومصر . ففى الوقت الذى ظهر فيه السياب ونازك الملائكة والبياتى فى العراق ، وعبد الصبور وحجازى فى مصر ، وعلى الجندى وعلى كنعان فى سوريا ، وخليل حاوى وأدونيس فى لبنان .. ظهر فى اليمن لطفى جعفر أمان ، وابراهيم صادق ، وعلى عبد العزيز نصر .


وكان الشعراء فى كل الأقطار امتدادا لشعراء الثلاثينات والأربعينات ، الذين بدأوا التحديث .. لكى يأتى بعدهم الجيل الذى غرق فى الحداثة .


فالشعر هو أكثر الجوانب تألقا . وما فيه من نكسات أو قلة خصوبة فإنما يرجع إلى ما فى الواقع العربى من نكسات سياسية ، واضطراب اجتماعى وتفاوت عنيف بين الغنى الفاحش ، والتأخر الفاحش . ففى بعض المناطق لا نجد توافقا بين التقدم المادى والتخلف الثقافى .. بما فى ذلك ثقافة الشعر .


ألا تعتقد إذن بأن هناك أزمة شعرية عامة فى الوقت الحاضر ؟


لا أجد مبررا لدعوى أن هناك أزمة شعرية ، كما يقول أكثر الكتاب . هناك فى اليمن شعر لأن هناك قراء . والذى يُخصب مناخ الشعر هو وجود القارئ الذى أصبح من مستوى الشاعر ثقافيا . ولا شك أن القراء متفاوتون كالشعراء : هناك القارئ العاشق للشعر ، وهناك القارئ الذى يميل إلى الشعر . فالذين يعشقون الشعر يتذوقونه ويعرفون تطور مسيرته . والذين يميلون إليه يحبون قراءته ، والذين يتخصصون بأعمال أخرى غير أدبية يحبون سماعه على الأقل . فتجد فى اليمن مثلا أن الطبيب والمهندس والفلاح يجتمعون على حب الشعر . لأن الشعر فى الأصل فن سماعى كالغناء .


هل من الأفضل أن ينشد الشعر العربى ليُسمع .. أم يكتب ليقرأ ؟


بالنسبة لغير عشاق الشعر ، يكتفون بالسماع كفن اطرابى . أما المثقفون أدبيا فلا يسمعون إلا لكى يقرأوا .. لأن السماع اطراب آنى . أما تكوين فكرة نقدية أو معرفة أدبية فهى تتطلب القراءة ، واعادة القراءة مرات ..


والشعر العربى كغيره من ألوان الشعر فن سماعى ، وفن قراءة . وربما أصبح ، مقروءا لأنه كان سماعيا ، بدليل أن العرب كانوا يقولون ( أنشد فلان قصيدة ) ولم يقولوا ( كتب فلان قصيدة أو قرأ ) وهذا الفرق بين الانشاد والقراءة هو الفرق بين الشعر والنثر ، لأن قراءة الشعر غير قراءة النثر . إنها دخول إلى عالم الشاعر وليست مجرد معرفة مثل التى تحدث فى قراءة كتاب .


ما رأيك فى الشعر الحر ؟

لعلى قد أشرت إلى الشعر الحر فى جملة مدارس الشعر . ولا أراه غريبا على الأصل وانما هذه ظاهرة من ظواهر التحرر السياسى والاجتماعى . فبعد أن ناضلت الشعوب العربية وتحررت من الاستعمار والعهود الفاسدة ، ظهر الشعر الحر كتعبير عن ذلك التحرر . وما كان فيه من قصور التحرر السياسى والتحرر الاجتماعى . فكما كان هناك ايهام فى التحرر السياسى كانت هناك ضحالة فى التحرر الشعرى . وكما كان هناك سوء استغلال للحرية السياسية ، كان هناك اتساق بلا بصيرة وراء الشكل حتى تسمت متابعة أحدث الأشكال ( عبادة الشكل ) على حد تعبير د. احسان عباس


ان متابعة الشكل ذاته تجعل الشعر مجرد تشكيل . لكن عندما يكون هذا التشكيل تابعا اغنى المضمون ، ونظرية المعنى ، فإن المضمون يخلق حينئذ شكله من تطور مضمونه الفلسفى .


كيف ترى حالة النقد الأدبى .. فى الوطن العربى ؟


النقد الأدبى فى الوطن العربى تابع للأدب الإنشائى . وبمقدار رقى الأدب الإنشائى يرقى الأدب النقدى ، لأن ازدهاره موقوف على ازدهار الأدب الإنشائى .


صحيح أن مدارس النقد متعددة بمقدار تعدد مدارس الأدب ، فعندنا حتى الآن أربع مدارس نقدية: المدرسة التأثرية ، والمدرسة النفسية ، والمدرسة التاريخية ، والمدرسة البنيوية ، وهى أحدث مدارس النقد .


وهناك فروع لهذه المدارس . كما أنها كلها امتداد لمدارس أدبية فى تاريخنا . فالمدرسة التأثرية مثلا كان لها أصول عند الجاحظ فى البيان والتبيين ، وعند الآمدى فى الموازنة ، وعند عبد العزيز الجرجانى فى الوساطة ، وعند أبى هلال العسكرى فى الصناعتين .


إلا أن المدارس الحديثة استرفدت من المدارس الأوربية الترتيب والمنهجية . وما كان هناك من أزمة فى النقد كما يقال ، فهى ترجع إلى أزمة فى الأدب المنقود .


إذا صح أن يكون للإنسان رأى فى آراء الآخرين عنه ، فما رأيك فى النقاد المعاصرين الذين تناولوا شعرك ؟


حتى الآن ، لم أظفر بنقاد جادين ، ولا بنقد جاد . وأعتقد أن كل نقد ، وكل ناقد إنما يدلنى على وجودى . وإن كنت أجزم بأن الكتابة النقدية كلها حتى الآن لا تفيد الشاعر اطلاقا ، قد تكون الكتابة النقدية اضافه ثقافية ، وقد تكون زيادة فى رصيد المعارف الأدبية . لكننى إلى الان لم أجد ناقدا يبصّر الشاعر أو يبلغ به مستوى النضج المنشود ، نتيجة اختلاف الرؤية عند الشاعر كمبدع فن ، وعند الناقد كمفسر لهذا الإبداع الفنى .


وفى تصورى أن أغنى نقد هو دراسة الماضى الأدبى ، مثل دراسة طه حسين لأبى العلاء ، ودراسة محمد مندور للنقد المنهجى عند العرب ، ودراسة العقاد لابن الرومى ، وأبى نواس ، وابن أبى ربيعة ، وجميل بثينة .


أما النقاد المعاصرون الذين ينتقدون شعراء معاصرين فتخلو اراؤهم من اصابة ، ولا تخلو كتاباتهم من لمح ذكى ، ومحاولة ابداعية . لكنهم لا يفيدون الشاعر المنقود بأى شكل من الأشكال ، لأنهم لا يتجاوزون التعريفات أو الأحكام العامة . وإذا استشهدوا بالنصوص فيجزئون ما يريدون ، ويتركون ما لا يريدون . ومع كل ذلك ، فإن البؤس فى النقد يرجع إلى عدم الغنى فى الأدب الإنشائى ، لأن النقد الحقيقى هو ثمرة للازدهار الحقيقى فى الفن المنقود .


استمعنا فى مهرجان شوقى وحافظ لبعض البحوث النقدية التى حاولت تطبيق المذهب البنيوى على شعر شوقى .. وكان حظها من الفشل محققا . فهل توافق على تطبيق هذا المذهب على شعرك ؟


أنا لا أسأل عن مذهب النقد الذى ينقدنى حتى لو كان المذهب البنيوى . ولكن هذا النقد لا يتلمس الفن ، وانما يتلمس الأشكال اللغوية ، والفضاء النفسى ، والأركان المتعددة للأشكال اللغوية للفن . فهذا النقد لغوى أكثر منه فنى أدبى . واللغة فى الأدب مجرد قشرة لا تبدو حيويتها إلا بفضل ما فيها من مضمون .. كالسكرية للعناقيد ، أو كالنسغ للنباتات .


قليل جدا من شعرائنا العرب قد تحدثوا عن حالة الابداع الشعرى لديهم .. وبهذا تركوا المجال واسعا لتخمينات الدارسين .. فهل يمكن أن تحدد لنا تلك اللحظات الابداعية التى تصاحب مولد القصائد لديك ؟


لا شك أن تحديد اللحظات الابداعية خارج عن التحديد . لأنها من الساعات الغيبوبية ، وإنما هناك ملامح يتذكرها المرء :


قبل أن أحس ركض القصيدة فى النفس ، أحس فراغا حزينا ، حتى أدخل فى عراك العمل الشعرى ، ويخف هذا الحزن الباطن ويتحول إلى تحديق نفسى إلى الخارج ، وإلى داخل الداخل . ثم يأتى دور البحث عن الكلمة المؤدية ، والأكثر أداء ، والعبارة الموحية .. وإذا تهيأت الأداة الطيّعة للمطلع (مطلع القصيدة ) أمكن مواصلتها بطريقة أسهل .. وهكذا حتى أفرغ منها . وبعد أن تصبح القصيدة فى صيغتها النهـائية أمليها على من يكتبها ، وقد أنشئ غيرهـا ، وأكتب الاثنين معـا ، وأحيانا ثلاث قصائد معا . لأن القصيدة بعد أن تكتمل تظل فى الحافظة ، وأضيف إليها غيرها ( ثم ثانية وثالثة ، وأحيانا رابعة وخامسة ) لأننى لا أنقل القصيدة إلى الورق إلا بعد أن تكتمل صنعتها : هذا فى الأغلب . وقد أنقح بعد الكتابة أحيانا ، أو أضيف أبياتا أخرى .. لكن هذا نادر . أما الغالب فاننى اتعامل مع القصيدة ، ثم أحفظها حتى أكتبها ، ثم أظل حافظا لها مدة طويلة ، ولا أنسى إلا البيت والبيتين أو الترتيب أحيانا إذا طالت المدة بين انشاء القصيدة وكتابتها .


وأظن ان هذه ظاهرة فريدة فيما أعلم . فقد كان أبو العلاء المعرى يعتمد على من يكتب له حال النظم ، ومثله بشار . ولعل ضرورة العمى هى التى فرضت علىّ هذه الطريقة ، لأنى أنظم الشعر فى خلوتى ، ولا أتمكن من الكتابة لضرورة العمى .. لهذا اؤجل كتابة القصيدة حتى الفراغ منها .


كيف ترى كشاعر عربى معاصر قضية الالتزام فى الفن ؟


لاشك أن الفن مسئولية . كما أن العلم مسئولية ، كما أن الحياة كلها مسئولية . لأن الإنسان لا يولد لنفسه ، ويموت لنفسه . وإنما هو مخلوق لغيره كالأضواء والروائح والألوان ، فإنها خلقت لغيرها وليست لنفسها . ومن هذا القبيل ، يبدو التزام الشاعر بالقضايا الكبرى .


ما مدى علاقتك بالأدب الغربى ، وهل يمكن أن توضح رأيك فى أدبائه ؟


اننى أقرأ كل ما تقع عليه يدى مترجما من الأدب الغربى . وفى الحقيقة ، لا أستطيع أن أقدم رأيى فى الأدباء الغربيين ما دمت أقرأهم باللغة العربية . ويمكن أن يكون لى رأى فى المترجمين ، لا فى الذين ترجموا لهم . لأن الأدب فن تعبيرى ، وليس مجرد موضوع كالفلسفة والصحافة والكتب الدراسية التى يمكن نقل مضمونها دون أن يؤثر ذلك كثيرا فى أسلوبها .


لكن هل يمكن أن تحدد تأثرك ببعض الأسماء ؟


تأثرت كثيرا بالشاعر اليوت .. أما الكتّاب ، فأهمهم : سارتر ، وهيمنجواى ، والبرتو مورافيا ، وازرا باوند .


ما دمت قد شاركت فى الاحتفال بذكرى مرور خمسين سنة على وفاة شوقى وحافظ ، فهل لى أن أطلب رأيك فيهما .. وفيما تبقى منهما للجيل المعاصر ؟


لا شك أن شوقى كما قيل : خاتمة القدماء وطليعة المحدثين . فلقد أعاد إلى الشعر العربى شبابه بعد أن خبا ، وترنح تحت المحسنات والجناسات والتشكيلات . ولم يقف شوقى عند استعادته شباب الشعر، بل دلّ العيون على آفاق جديدة ، وبالأخص فى مسرحياته .


أما حافظ فكالرصافى والزهاوى .. كان ذاكرة شعرية يمد أسلوب القدماء بأقل التجديد على عكس شوقى الذى كان يجدد فى عناصر الصورة ، وفى ترتيبها ، وان كان لم يخرج هو الآخر عن اطار القدماء، إلا فى بعض القصائد والموضوعات مثل وصف الطائرة فى قصائده الأربع ، ووصف السيارة ، ووصف الترام ، وفى قصائده عن الحروب التركية – اليونانية .


كان لشوقى لمعات تجديدية ، لأنه كان يولّد من المولّدين ، ولم يكن كالمولدين الذين استولدوا تجارب القدماء .. وإنما أضاف إلى التوليد آفاقا مختلفة وذلك يرجع إلى سببين : معرفة شوقى بنماذج هامة من الأدب المعاصر ، واحاطته بالثقافة العربية الإسلامية كلها .


كان شوقى على احاطه بالتاريخ الإسلامى ، وبالمذاهب الدينية والفكرية ، والتطورات الفلسفية ، كما تدل على ذلك معارضته لابن سينا ، وكما تنطوى عليه بعض قصائده من أفكار مأخوذة من كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابى . فشوقى كان يعرف التاريخ العربى الإسلامى بشعره وفلسفته ومذاهبه وحروبه وأطوار أفكاره .


أما حافظ فكان مجرد ذاكرة شعرية لا يعرف من التاريخ العربى غير الشعر ، فليس فى شعره لمح فلسفى مثل شوقى ، أو تضمين قصة وردت فى كتب الأدب العربى القديم كما نجد عند شوقى مثلا فى قوله :


شيعوا الشمس ومالوا بضحاها وانحنى الشرق عليها فبكاها

لـيتنـى فـى الركب لـمـا أفـلـــت يوشع ، همت ، فنادى ، فثناها

فهذه إشارة إلى قصة يوشع مع الشمس ، واستفادة من قول أبى تمام :

فوالله ما أدرى أأحلام نائم ألمت بنا ، أم كان فى الركب يوشع

وهذا ما سماه البلاغيون ( اشارة إلى قصة )


ولم يكتف شوقى بالاشارة إلى القصة ، وإنما كان متعمقا فى الأساطير . وفوق ذلك ، كان شوقى متعمقا فى الأساطير العربية ، وفى خرافات العرب كما تدل على ذلك روايته "مجنون ليلى" و "عنتره" وكان كذلك محيطا بالتاريخ الفرعونى كما يبدو ذلك واضحا من قصائده التى أشار فيها إلى هذا التاريخ ، وأهمها "كبار الحوادث فى وادى النيل" . فشوقى كان على حظ كبير من الثقافة ، وأهم مسائلها . على حين يبدو حافظ مقصورا على الشعر العربى وحده . ومع ذلك فقط كان لشوقى بعض الغلطات اللغوية مثل قوله :


بنيت على التوحيد وهو حقيقة نادى بها سقراط والقدماء


فلم يكن لسقراط فلسفة لاهوتية ، وانما كان هناك شئ من اللاهوت فى مُثُل أفلاطون .


كذلك أشار شوقى إلى أن أرسطو طاليس كان من دعاة التوحيد فى قصيدته عن كتاب "الأخلاق" الذى ترجمه أحمد لطفى السيد ، فهو يقول عن أرسطو :


وغدا وراح موحّدا قبل البنّية والحطيم

ولم يكن أرسطو من أهل التوحيد ، وإنما كانت فلسفته حول السياسة والأخلاق والفن . وليس لديه أى إلماح إلى التوحيد . كما نجد مثلا فى مسألة العقل الكلى عند أفلاطون .


ومع ذلك فقد كان كل من شوقى وحافظ من أبرز العلامات فى شعرنا المعاصر من منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع الثلاثينات . وما يزال لهما آثار وأصداء ، وبالأخص عند ذريتهما الأدبية من أمثال على الجارم فى مصر ، وبدوى الجبل فى سوريا ، ومحمد الزبيرى فى اليمن . وأظن أن مدرسة هذين العلمين قد انطوت .. وأصبحا تراثا غنيا . يستحق الاحتفاء والاحتفال به فى كل عام .


ما هى آخر أعمالك ؟

أعدت ديوانى الثامن للنشر ، وهو بعنوان "ترجمة رملية لأعراس الغبار" أما ديوانى السابع فقد ظهر عام 1979 بعنوان "زمان بلا نوعية" .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


...... وانتهى الحوار ، وتركت الشاعر اليمنى الكبير عبد الله البردونى ، وهو أشد ما يكون تواضعا ووداعة .. ولكننى عندما خلوت إلى ديوانه الأخير ، عرفت الثائر على حقيقته .. أليس هو الذى يقول :


أنا ضــــد تيار هذا الركــــام أعوم إلى شاطئ من شُــــعل

وأدرى ، وأدرى بأنى إليه أخوض دمى ، والردى والوحل

وفوق فمـــى أرجـــل الآخرين وفوق قذالى قبــــور الأول

لأنــى أبلبــــل نـوم الجــــــدار أغنــى بمن لقبـــوهم همـل

ولكننــــى لا أمــــلّ العنــــــــاد لأن التمــــاوت مــوت أمل

وأعرف أنى الوحيد ، وحولى كهوف من الروم حمر المقل

وأنى على نصف رأسى أطير إلى الحتف ، والقتل يمشى المهل

 

 


التعليقات (4)Add Comment
0
...
أرسلت بواسطة ماجد, سبتمبر 01, 2016
رحمة الله على هذا الشاعر الكبير
للاسف لم يحظى بما يليق بمكانته وقوة شعره
شكرا لك على هذا الجهد
0
...
أرسلت بواسطة ابراهيم جادالله, أغسطس 27, 2018
ابراهيم جادالله . كاتب روائى مصرى ، ويمت لك بصلة من ناحية أمه
من قرية العائلة بالمنصورة ( الدنابيق )
وقضى من عمره ست سنوات مجاورا للبردونى ولى كتاب تحت الإعداد عنه وعن محمد أركون بفصل بعنوان ( آخر عنقود الشعر العربى )
0
...
أرسلت بواسطة يوسف محمد عبدالوهاب , سبتمبر 10, 2018
عندما يكتب المبدع عن مبدع نقرأ مقالا في غاية الإبداع
0
...
أرسلت بواسطة يوسف محمد عبدالوهاب , سبتمبر 10, 2018
عندما يكتب المبدع عن مبدع نقرأ مقالا في غاية الإبداع

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 15 نوفمبر 2019 14:51