عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
هاشم الرفاعى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها د . حامد طاهر   
الاثنين, 28 يونيو 2010 22:58




شاعرية هاشم الرفاعى




الشاعرية تتكون من مجموعة من العناصر التى يتوصل بها الشاعر الى مستوى معين فى الاداء الشعرى ، الذى يميزه عن غيره من الشعراء . وهذا معناه أن لكل شاعر شاعريته الخاصة به ، كما أن لكل إنسان شخصيته المستقلة . ومع ذلك ، فإننا إذا تلمسنا عناصر الشاعرية أمكن أن نلخصها فيما يلى :


الموهبة الشعرية ، والتكنيك الشعرى ، والرسالة الشعرية


1-
الموهبة الشعرية


معظم الناس يحبون الشعر . والكثير منهم حاول فى مطلع حياته أن يكتب شعرا ، أو ما اعتقد أنه شعر ، ولكنهم مالبثوا أن وجدوا ماكتبوه عاديا أو ضعيفا ، فانصرفوا عنه ، منهمكين فى حياتهم العملية ، أو فى هوايات أخرى ..   لكن القليل والقليل جدا هم الذين يصرون على الاستمرار فى كتابة الشعر ، ومحاولة الإجادة فيه ، مدفوعين بقوة داخلية ، نابعة من أعماقهم ، وبصوت خفى يتردد فى وجدانهم ، يؤكد لهم أنهم إنما خلقوا ليكونوا شـعراء .. وعلى الرغم من صعوبة الطريـق ، وكثـرة العوائق ، فإنهم يندفعون فيه بلا هوادة ، مضحين بكل ما يملكون : بالجهد و الوقت وجميع الآمال والملذات الأخرى من أجل إرضاء تلك الرغبة القوية فى كتابة الشعر ، والوقوف على بابه ، بل واستجداء لحظاته الخاطفة ، التى تحلق بهم فى فضاء لا يعرفه سائر البشر ، ويمنحهم القدرة على الكتابة بعفوية لا تكلف فيها ، و بساطة لا تعقيد فيها . ويدهشنا فى الشاعر الموهوب أننا نجلس معه فنجد حديثه مألوفا ، وأفكاره شائعة ، ولكنه عندما يطلعنا على إحدى قصائده نجد أنه كأنما استمدها من عالم مغاير لعالمنا ، وما أشبهه بالغواص الذى يتركنا على الشط ليرتاد أعماق البحر مفتشا عن لؤلؤة نادرة ، ليخرجها لنا باهرة ومتألقة .


والموهبة هى التى تجعلنا نفرق بين الشعر المطبوع والنظم المصنوع . فهناك العديد من الأشخاص الذين يمكنهم كتابة "الشعر" فى أى وقت ، وفى أى غرض . وقد يكون هذا الشعر موزونا مقفى ، ومتمشيا مع القواعد والمعايير المعروفة فى علم العروض ، ولكنه يظل خاليا من الروح ، أو ما يمكن أن نطلق عليه "النفس الشعرى" الذى ينساب بسهولة و يسر ، وينتقل من الشاعر إلى قلوب الناس فيجدون له صدى ، ويحسون معه برعشة .


2-
التكنيك الشعرى


هو الأسلوب الذى يتعود الشاعر على استخدامه فى كتابة قصائده ، بدءا من افتتاحية قصائده والمعجم اللغوى الذى يفضله ، ومرورا بالتركيبات الشعرية للجمل والعبارات ، وبأساليب الحكى ، والحوار ، وتعدد الشخصيات داخل القصيدة ، والانتهاء بخاتمتها . ومن المعروف أن لكل قصيدة معمارها الخاص بها . وهى أشبه بالبناية التى يصممها المهندس ، أو بقطعة الحلى التى ينفذها الصائغ ، ينبغى أن يوضع كل جزء فى مكانه ، متماسكا بانسجام تام مع ما يجاوره ، ثم لابد للكل أن يبدو على أفضل نحو ممكن .


ومن الواضح أن التكنيك الشعرى يتطلب القصد ، وإتقان الصنعة ، والجهد المبذول . وهى أمور قد تتناقض مع ما سبق أن ذكرناه عن الموهبة . والواقع أن التناقض ظاهرى فقط ، فالموهبة هى التى تتيح اللحظة المناسبة ، وتزود الشاعر بالروح الدافع والجناح المحلق ، لكن التكنيك يظل من صميم عمله الخاص ، وجهده الشخصى . وما أكثر الشعراء الذين لم يعطوا لهذا العنصر الهام مكانه فلم تستمر موهبتهم طويلا ، وسرعان ما تلاشوا كشعراء مجيدين .


الشاعر يستطيع أن يطور باستمرار أسلوبه الشعرى ، وأن يجود أداءه تبعا لما يطلع عليه ، أو يقتنع به من تطور فى الحركة الشعرية لعصره .. وفى لحظات ليست بالقليلة ، تمد الموهبة الشعرية صاحبها ببعض الإنجازات التى تساعده على أداء عمله . فكثيرا ما يجد الشاعر – أثناء كتابة القصيدة – بعض العبارات تجرى على قلمه دون قصد ، أو بعض الخيالات والصور تتشكل دون تدخل منه . وفى أحيان أخرى ، قد يبدأ الشاعر بكتابة الجزء الأخير من القصيدة قبل أن يشرع فى كتابة مطلعها .. وهكذا فإن التبادل بين الموهبة والتكنيك الشعرى غير مقطوع ، كلما أخلص الشاعر لفنه وأعطاه كل جوارحه ، جادت عليه الموهبة بالكثير من هداياها ..


3-
الرسالة الشعرية


لكل أديب أو عالم دوره فى تفدم الانسانية ، كما أن لكل انسان دوره فى الحياة . والشعراء يتفاوتون فيما بينهم تبعا للدور الذى يقوم به كل منهم ، والرسالة التى يسعى لتوصيلها إلى الناس . ومهما تحدثنا عن أهداف الأدب والشعر ، فإن هدف التغيير للأفضل .. سوف يظل هو أسمى الأهداف ، لكننا نلاحظ أن بعض الشعراء يغلب على دورهم الطابع السياسى ، أو الأخلاقى ، أو الدينى ، أو العاطفى ، ومنهم من يبرز لديه النقد الاجتماعى ، أو الرفض للواقع أو التمرد على الأوضاع السائدة ، ولا شك أن الشاعر فى هذه المستوى لا يمكن فصله عن عصره ، والبيئة التى تحيط به ، وهذا ما يجعلنا نعترف بأن الشاعر مهما حلق عاليا وبعيدا عن مجتمعه فإنه – فى نهاية الأمر – مرتبط به ، مشدود إليه بالكثير من الخيوط التى لا يمكنه الفكاك منها .


وإذا كان لهذا الارتباط بين الشاعر وبيئته بعض المزايا ، فإن له جوانب أخرى سلبية ، فقد تكون مشكلات المجتمع من النوع الذى يطغى عن العناصر الأخرى لشاعرية الشاعر . ويحضرنى هنا ما شاع فى الشعر العربى من مفاخرات ومنافرات بين الشعراء ، اقتضتها ظروف عصرهم وغطت بالتالى على مواهب شعراء من أمثال جرير والفرزدق .. ونفس الأمر ينطبق – من ناحية أخرى – على المتنبى ، الذى بدد جزءا كبيرا من قواه الشعرية الرائعة فى مديح ورثاء من كان يستحق ، ومن لم يكن أهلا لذلك من أبناء عصره .


لكن الشاعر الكبير هو الذى يستطيع أن يسيطر على أدواته بحيث يوجهها إلى نوع الرسالة التى يريد توصيلها للناس ، سواء فى عصره أو لمن يأتى بعده . وكلما اتسمت تلك الرسالة بطابع إنسانى أصيل اتسع نطاق تأثيرها ، واستمر إشعاعها لأطول فترة ممكنة ، لذلك فمن حقنا دائما أن نتساءل – بعد قراءة كل أديبماذا يريد أن يقول لنا ؟


فإذا اقتربنا بعد هذه المحاور الثلاث من شاعرية هاشم الرفاعى ، لاحظنا على الفور أن قصائده التى كتبها فى مرحلة مبكرة من عمره ، تتميز بتلك الموهبة الشعرية التى تنساب فى سهولة ويسر ، وترتفع عن المحاولات المتعثرة لدى من يحاولون كتابة الشعر فى مطلع حياتهم ، بل إنه يسعى إلى محاكاة كبار الشعراء العرب القدامى  فى قصائدهم الشهيرة ، مما يدل على احساسه بامتلاك تلك الموهبة
نقرأ له قصيدة يرثى بها والده فى 27/8/1949 ( عمره حينئذ خمسة عشر عاما ) كتبها على وزن وقافية قصيدة شهيرة لمالك بن الريب مطلعها :

أمن المنون وريبها تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع

يقول هاشم :


أمن المصاب وعظمه تتوجع
والعين منك سيولها لا ترفع
ياليتها تجدى إذاً لرأيتها
بحراً عجاجاً من عيون ينبع
*    *


أبتاه ، شعرى لست أملك غيره
ماذا عساى سوى الرثاء سأصنع
أبتاه ، قد ظلموا فتاك فنبّنى
ما ذنب باك قد جفته الأدمع
ولئن تنم العين عن حزن الفتى
فالحزن أقسى فى القلوب وأوجع
أبتاه ، إنا مؤمنون وإننا
لقوى سلطان المنية نخضع
فاذهب عليك من الإله تحية
ما بدد الظلماء فجر ساطع
وعزاؤنا أن سوف يجمعنا الفنا
بك ، فالفناء مفرّق ومجمّع

صحيح أن المستوى الفنى هنا متوسط ، ولكنه بالنسبة إلى شاعر لا يزيد عمره عن خمسة عشر عاما يكشف عن تمكن واعد من الأداء الشعرى العربى الأصيل ، ويشير إلى وعى بأهم سماته وعناصره . فهو يعالج الحكمة فى قوله ( الحزن أقسى فى القلوب وأوجع ) و ( إننا لقوى سلطان المنية نخضع ) و ( الفناء مفرق و مجمع ) ، كما أنه يستخدم أسلوبا نحويا ، قلما يجيده إلا كبار الشعراء فى قوله :

فاذهب عليك من الإله تحية
ما بدد الظلماء فجر ساطع

وهكذا نجد هاشم الرفاعى يخطو منذ البداية بقدم ثابتة على طريق الشعر العربى ، حتى قبل أن يتلقى عنه دراسات عميقة و موسعة فى كل من الأزهر ، و دار العلوم .


وعلى طريق حافظ ابراهيم ، شاعر النيل ، فى قصيدته  "العمرية" يقول هاشم الرفاعى – وعمره حينئذ ستة عشر عاما – فى ذكرى المولد النبوى :


أما العيون فطول الهجر يبكيها
و الدمع يلمع درا فى مآقيها
* * *


هذا هو الكون فى ديجور ظلمته
يحكى ذئابا وشاة نام راعيها
فذو العشيرة والأنصار ، ترهبـه
كل البرية قاصيها و دانيها
يسطو على الحق ، لا قانون يمنعه
ولا شريعة يخشى بأسى قاضيها
أما الضعيف فمغبون وليس له
فى الأرض عون يقيه شر باغيها
والكل يشرب كأس الإثم فى طرب
وينثنى حين يأتى منكرا تيها
كانت مآثمهم فى عرفهم مرحا
والقتل فى شرعهم قد كان ترفيها
هذى مبادؤهم أيام دولتهم
الزور ينشرها ، والأثم يمليها
حتى أضاءت بمولود لآمنة
أرجاء مكة وانجابت دياجيها

وفى السابعة عشرة من عمره ، يكتب هاشم الرفاعى فى ذكرى المولد النبوى أيضا :
أديرا على سمعى اليراع المثقبا
ولا تمنعانى أن ألذ و أطربا

وبعد مقدمة غزلية على عادة شعراء فن المدائح النبوية ، يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم :

أتى بكتاب فيه للخلق عزة
فساء قريشا ما أتاه وأغضبا
عجبت لهم إذ يركنون لغيهم
وأكثرت مما قد أتوه التعجبا
وكذبه الأغرار إذ قام داعيا
وقد كان ذا صدق لديهم مجرّبا
وكم حاولوا فى الأرض إطفاء نوره
فلا شمسه غابت ، ولا ضوؤه خبا
يقولون : داع ينشد الملك و الغنى
لقد كذبوا ، ما رام بالدين منصبا
ولم يبتغ الجاه العريض لدى الورى
ولا شاء أن يحيا أميرا معصّبا
ولكنه يدعو إلى خير سمحة
ويمحو ضلالا أفسد الناس أحقبا

وفى سن التاسعة عشرة ، يحاكى هاشم الرفاعى أمير الشعراء أحمد شوقى ، فى قصيدته الذائعة "الهمزية" التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول :

جيد الظبا والمقلة الحوراء
هذان يا قلبى هما الغرماء
أما الوليد فكان منقذ أمة
وثنية ، لعبت بها الأهواء
جاء الضياء لمن مضوا فى غيهم
وعلى العيون غشاوة سوداء
هذا النهار تطاحن و تشاجر
والليل كأس ثرة و نساء
أما القلوب فقد تنافر ودها
حتى تفشت بينها البغضاء
ونفوس قوم إذ أراد شفاءها
بهدى حكيم دونه الحكماء
فأعد للأمر الجليل محمدا
إن العظائم كفؤها العظماء

لقد حاولت بإراد هذه الأمثلة أن أثبت توافر الموهبة الشعرية لدى هاشم الرفاعى منذ وقت مبكر ، وأن هذه الموهبة لم تكن ضعيفة ولا مؤقتة ، وإنما كانت قوية ومتمكنة ، وكل ما كانت تحتاجه هو خروج صاحبها من حدود قريته الصغيرة ، إلى فضاء العاصمة ، وتزوده – بالاضافة إلى قواعد العلوم العربية – بثقافة واسعة ومتنوعة . ومن حسن حظ هاشم الرفاعى أن كلا الامرين قد حدث له . وبمجرد حدوثهما ، أخذ إنتاجه الشعرى فى التطور ، والتحديث ، وتجربة أشكال جديدة مع تمسكه فى نفس الوقت بروعة الصياغة العربية الأصيلة .
لم يكتب هاشم الرفاعى الشعر الحر ، بل إنه رفضه بكل حسم ، فقال مخاطبا أنصاره :

أيها الهاتفون بالشعر حرا
ولكم دعوة به طنّانه
قد أتيتم له بنهج غريب
يفرض اليوم بينكم سلطانه
وهجرتم توافه المتنبى
وأبنتم بعلمكم نقصانه
وتشدقتموا بزخرف قول
عن مفاهيم نمقتها الرطانه
ثم قلتم من الحياة كلاما
ومن الواقع استمد كيانه
ليس شعرا ، وإنما هو شئ
فوقه الشعر رتبة ومكانه
ذهبت عنه روعة الحون
يرهف الدهر عندها آذانه
وخلا من أصالة وجلال
بهما أظهر الزمان افتتانه
إنه أبصر الحياة سقيما
حاملا فى يمينه أكفانه
أيعيش الوليد والداء يمشى
بين جنبيه ناشرا سرطانه

وبعد أن أثبت قدرة الشعراء القدامى على تناول كل موضوعات الحياة فى إطار الشعر العربى التقليدى – العمودى – يقول :
لا أنادى بأن تحاكوا زهيرا
فيه ، أو أن تقلدوا حسانه
راح عهد الوقوف بالطلل الباكى
فلا تذكروا به سكانه
جددوا ما استطعتموا فى المعانى
وقفوا ، لا تحطموا أوزانه
ليست الفكرة الجديدة تأبى
عرضها فى جزالة ورصانه
ألبسوها من القوافى خلودا
ومن الوزن قوة ومتانه
لا تحيطوا تراثنا بلهيب
فى غد ، تكره العيون دخانه
كل نهج أتى ليستر عجزا
نتقيه ، ونزدرى بهتانه
رب ، إنى على القديم مقيم
وأعد الخلاص منه خيانه

وهكذا ظن هاشم الرفاعى أنه سيقيم على القديم ، لكن التطور الذى كانت تشهده بيئته فى كل مجالات الحياة ، ومنها الشعر ، دفعته إلى بعض التجديد . ومن يدرى لو طال به العمر بعد الثلاثين أو الأربعين ، إلى أى مدى كان سيمضى ؟!
وفى قصيدته " وصية لاجئ " يقول على لسانه فى المقطع الأول :

أنا يابنى غدا سيطوينى الغسق
لم يبق من ظل الحياة سوى رمق
وحطام قلب عاش مشبوب القلق
قد أشرق المصباح يوما واحترق
فإذا نفضت غبار قبرى عن يدك
ومضيت تلتمس الطريق إلى غدك
فاذكر وصية لاجئ تحت التراب
سلبوه آمال الكهولة و الشباب

وعلى هذا النسق ، الذى يخرج عن إطار الالتزام بالقافية الموحدة فى سائر القصيدة ، يتحرك هاشم الرفاعى فى إطار أكثر سعة ، وتنوعا ، يتلائم مع هذا اللون الجديد من الشعر ، الذى يمكن أن نصفه بأنه مرحلة وسط بين الشعر التقليدىالعمودى ، والشعر الحر .
(
يتكون المقطع من تسعة أبيات ، كل بيت يحتوى ثلاث تفعيلات ، الأبيات الخمسة الأولى بقافية القاف ، والسادس والسابع بقافية الكاف ، والثامن والتاسع بقافية الياء . )


وفى قصيدة "الجزائر الثائرة" نجد التطوير يتقدم خطوة أخرى ، فلا يكتفى هاشم الرفاعى بتغيير القوافى ، وإنما أيضا يراوح بين عدد التفعيلات :

بهواك ، بالدم فوق تربك ياجزائر
يجرى وينبع من حشاشة كل ثائر
بشهيدك الملقى على سفح المجازر
بالسخط يغلى فى القلوب وفى الحناجر
بالرابضين على القمم
الثائرين على الظلم
سنفجر الأضواء من تلك الدياجر
وتسيل أفراح الحياة على الجزائر

(
المقطع مكون من ثمانية أبيات ، الأربعة الأولى بثلاث تفعيلات ، وبقافية الراء ، والخامس والسادس بتفعيلتين اثنتين فقط ، وبقافية الميم ، والسابع والثامن بثلاث تفعيلات ، وبقافية الراء ، ويلاحظ أن القوافى ستتغير أكثر من ذلك فى المقاطع التالية من القصيدة ) .


لقد سبق أن أشرت إلى تلك العلاقة التبادلية بين الشاعر وبيئته ، وأنه مهما حاول الفكاك منها فإنه لن يستطيع التخلص من حبالها التى تشده إليها . وأضيف هنا : إن البيئة المتطورة لا ترضى إلا بشاعر متطور .


إننا الآن فى قلب التكنيك الشعرى لدى هاشم الرفاعى ، وإذا أردنا التلخيص قلنا إنه حافظ على شكل القصيدة العربية فى مراحله الأولى ، لكنه بدأ يخطو بعد ذلك على أرضه الخاصة به ، وسوف نلحظ بوضوح تقليله من استخدام لغة التراث الشعرى القديم ، وكذلك كليشيهاته المحددة .. وأصبح يغترف مباشرة من لغة الحياة المعاصرة .


ولنقرأ معا هذين النموذجين : الأول مثال لغلبة محاكاة القدماء ، حيث يقول فى قصيدة بعنوان ( حوار ) :

بعينيك ما أصمى الفؤاد وما أصبى
وحبك ما أغرى بى الأمل الجدبا
وهجرك ما أحسسته فى جوانحى
لهيبا ، وما ألقاه فى أضلعى كربا
ليالى من حولى فراغ ووحشة
وبيداء من شوق ضللت بها الصحبا

والنموذج الثانى لتعبير الشاعر عن نفسه بلغته هو :

شكرى إليك يسوقه قلبى ولا
يجدى لسانى فيه يا "فريال"
لى أمنيات ، كان فوزى واحدا
منها ، فهل تتحقق الآمال

وبعد اللغة ، يأتى معمار القصيدة ، الذى أخذ هو الآخر ينسلخ من الشكل التقليدى إلى أشكال أخرى جديدة ، تتمثل فى التهيئة المسرحية لموضوع القصيدة ، كما يبدو أوضح أمثلتها فى "رسالة من أفريقية" التى تبدأ بوصف الغابة وما يغلفها من ضباب ، وما تهيئه من سيادة القوى على الضعيف ، ثم يأخذ بطل القصيدة فى الحديث عن نفسه وعن القوى الاستعمارية التى تترصده من ناحية ، وتتأهب لابتلاع القارة الوادعة بعد ذلك . وفى قصيدة "وصية لاجئ" يتحدث الأب إلى ابنه ، وفى "رسالة فى ليلة التنفيذ" يتحدث الابن المنتظر لحظة إعدامه إلى والده ، وفى "أغنية أم" تتحدث إلى وليدها ، مرضعة إياه الجراح مع اللبن .. وفى قصيدة "بطولة حب" يجيب بطل القصيدة على سؤال حبيبته حول السبب فى إنهاء قصة حبهما بأنه مشغول عنها بهموم الوطن ..


ولا شك أن هذه الزوايا المتعددة لبناء القصيدة قد أتاح لهاشم الرفاعى فرصة الخروج من الشكل التقليدى للقصيدة العربية ، إلى أشكال متنوعة ، جاءت متمشية مع روح العصر الذى عاش فيه .. إن استخدام الشخصيات المتعددة ، والحوار ، والعبارات المقتطعة من الذكريات ، إلى جانب لغة حية ، وطازجة ، وقريبة فى بعض الأحيان من اللهجة العامية ، ذات الدلالات الكامنة فى النفوس ، كل ذلك جعل قصائد هاشم الرفاعى تتميز بطابع خاص ، ويصبح من السهل التعرف عليه من خلالها . وتلك من أهم علامات الشاعر الجيد .


كذلك ينبغى ألا نغفل عن أن البيئة الثقافية التى عاش فيها هاشم الرفاعى كانت بيئة سماعية ، تهتم بالانشاد الشعرى أكثر مما تهتم بقراءة الشعر فى دواوين .. ولا شك أن تلك البيئة تنعكس بالضرورة على شكل وموضوعات القصائد . فالشاعر حريص على أن يعجب مستمعيه ، والجمهور من جانبه متعطش إلى الجملة الشعرية المدهشة ، وأحيانا إلى "القفلة" التى يتجاوب فيها من خلال التصفيق مع الشاعر . ولذلك سوف نرى فى العديد من قصائد هاشم الرفاعى تلك الجمل الشعرية المدهشة ، وتلك "القفلات" التى تستثير أحاسيس الجمهور ، وتنتزع تصفيقهم .


لكن يبقى دائما عنصر الصدق فى التجربة الشعرية ، الذى يتمكن من إحداث التواصل بين الشاعر وجمهوره ، وكما نعلم جيدا أن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت فى القلب ، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان !
والآن : ما الرسالة الشعرية لهاشم الرفاعى ، أو بتعبير أكثر بساطة : ماذا أراد أن يقول لنا ؟؟
الواقع أن رسالة هاشم الرفاعى كانت انعكاسا لمرحلة وطنية ، شهدت فيها مصر سياسيا : التحول من النظام الملكى إلى النظام الجمهورى ، واجتماعيا : انتهاء عصر الإقطاعيات والألقاب وبداية عصر الملكيات الصغيرة والإحساس بالمساواة ( صدور قانون باطلاق لقب السيد على جميع المواطنين بلا استثناء ) ، وتنمويا : محاولة بناء اقتصاد وطنى ، يتم الاعتماد فيه على الذات ، تجنبا لآثار التبعية للغرب ، وقوميا : الدعوة الملتهبة إلى القومية العربية والوحدة ، والرغبة فى عدم الوقوع تحت السيطرة أى من المعسكرين اللذين كانا يقتسمان العالم فى الخمسينات : المعسكر الرأسمالى ، والمعسكر الاشتراكى وذلك عن طريق تبنى سياسة مستقلة ، تمثلت فيما سمى حينئذ بسياسة عدم الانحياز ، التى تبلورت معالمها فى مؤتمر باندوج .

 

قد كانت الطموحات كبيرة ، والآمال عريضة ، واستطاع الزعيم جمال عبد الناصر أن يلهب مشاعر أبناء الوطن العربى من المحيط إلى الخليج ضد الاستعمار وأعوانه من الإقطاعيين وأصحاب رؤؤس الأموال ، وأن يحشد الكراهية للغرب الذى امتص ثروات الشعوب العربية على مدى عشرات السنين ، وقد آن الأوان أن يحمل عصاه ويرحل ..


كان إحساس كل مصرى ، وكل عربى أن أمتهم مقبلة على عصر مجيد ، تحتل فيه مكان الصدارة بين الأمم الكبرى ، التى تقود لا أن تتبع ، والتى تفرض إرادتها ، لا أن يملى عليها شئ .. وكانت أجهزة الإعلام المصرية قوية وعالية ، إلى حد أنها لم تفسح المجال لأى اعلام آخر أن يقدم للمواطنين الوجه الآخر من الصورة ..


فى هذا الجو المشحون بالتحدى ، والخارج لتوه من الإحساس بالقهر ، والمتطلع لغد واسع مشرق ، كتب هاشم الرفاعى قصائده .. حيا الثورة المصرية ، وناصر كل ثورة عربية أو إفريقية ضد المستعمر وأنظمته الفاسدة التى أقامها لتنفيذ أغراضه .. واعتنق الحرية ، وما يرتبط بها من الإحساس بالعزة والكرامة ، مذهبا لا يحيد عنه .. ورجع لماضيه ، فوجد فيه صفحات مشرفة من الكفاح ، واعتمد على الإسلام مخرجا من أزمات الواقع ، ومدخلا طبيعيا لآفاق المستقبل .. وإذا كان هناك دهر طويل قد مضى على الأمة العربية ، وهى متخلفة عن ركب الحضارة ، فلابد أن تستنهض العزائم للأخذ بوسائل النهضة ، التى تقوم على دعامتين هما : العلم و الإيمان ..


أين نحن اليوم من ركب الألى
وطدوا للعلم هذى الطُنبا
سخروا الذرّة ، بل قد أوشكوا
أن ينالوا فى السماء الكوكبا
يا بنى الإسلام هبوا وانهضوا
لا تناموا ، بلغ السيل الزبى
واذكروا عهدا سمت أمجادكم
فيه حينا ، إذ سموتم رتبا
رب سيف صارم ذى نبوة
وجواد سابق يوما كبا

والخلاصة أن الرسالة الشعرية لدى هاشم الرفاعى يمكن أن تتمثل فى : الانتماء الوطنى العميق لمصر ، ومناصرة قضايا الحرية ، والكرامة للأمة العربية ، والإيمان الجازم بأن الإسلام هو ملاذ الأمة ، وسبب نهضتها فى عصورها الأولى ، كما أنه مفتاحها الرئيسى للنهضة الحالية .









 

 


التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 15 نوفمبر 2019 14:36