عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
حديث عفوي عن الشعر والنقد صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الجمعة, 22 مارس 2019 17:33

حديث عفوي عن الشعر والنقد


يبدو فعلًا أن الداء قد تأصل..

وأن جذوة الشعر – التي ظننت أنها خمدت- مازالت حية ، فها هي من حين لآخر تتوهج وتحرق..

وذلك على الرغم من هجوم شتاء العواطف، والإحساس المتزايد، في بعض الأحيان، بعدم الجدوى!

ذات مرة، سئلت:

- ما الذي يدفعك لكتابة قصيدة؟

ويومها أجبت على عجل:

- حدة الانفعال أمام موقف معين!

لكنني عندما تتبعت هذا الدافع وجدته متعددًا:

فهو أحيانًا يكون بالفعل ما ذكرته ،

وأحيانًا أخرى يكون: رد فعل، منافسًا، بعد قراءة عمل أدبي متميز،

وأحيانًا: محاولة اختصار المعاني الكثيرة والمتناثرة في مقاطع محددة ،

وأحيانًا: الحرص على تسجيل جزء من تاريخ العاطفة، مثلما يكتب العاشقون أسماءهم على لحاء الشجر!

وفي كل الأحوال ،

أعترف بأنني لم أبدأ مطلقًا في كتابة قصيدة إلا بعد أن تكون قد تكاملت عناصرها الوجدانية والفنية، وأصبحت بالنسبة لي حملًا ثقيلًا، ينبغي التخلص منه!

ولعل هذا هو الفارق الأساسي بين الشعر والنظم. فالنظم – باعتباره كلامًا موزونًا مقفى- نوع من الشعر، ولكنه قابل لأن يطرقه الإنسان كما يشاء، وفي أي وقت يريد.. أما الشعر، فهو الذي يحدد للإنسان وقت كتابته !

أجد هذا واضحًا تمام الوضوح عندما انتهي من كتابة قصيدة، ثم اكتشف أن في أحد أجزائها كلمة قلقة، أو عبارة لا تعجبني، فأتركها لوقت آخر كي أعاود إصلاحها أو تحسينها، فلا استطيع .

وغالبًا ما يكون الجهد المبذول في تغيير كلمة واحدة أكثر بمراحل من كتابة عشرات الكلمات الأخرى، التي جاءت في وقتها من تلقاء نفسها !

ليس معنى هذا أن القصد غائب، أو أن الوعي– أثناء كتابة الشعر- مفقود، بل على العكس: إن كلًا من القصد والوعي يكون في قمة نشاطه الفاعل، وطاقته المحترقة.. والذي أراه تفسيرًا لهذه الظاهرة الشعرية العجيبة هو أن الجهد بعد ذلك يخور، والعاطفة تبرد، والعقل يكون – من الإرهاق- قد تهاوى.. وهذا هو السر في الصعوبة التي يعاني منها الشعراء، عندما يحاولون إصلاح جزء بسيط مما سبق أن كتبوه.. فهم عندئذ يكونون بحاجة إلى إعادة شحن، أو تسخين، كتلك التي يقوم بها أصحاب السيارات في الصباح البارد !

ويؤكد بعض الشعراء أنهم يكتبون أحيانًا بعض المقاطع الشعرية من قصائدهم في أثناء النوم.. وليس هذا مستغربًا ، فإن حدة انشغال الوعي بالقصيدة لابد أن تنفجر بعض شظاياه في فترات اللاوعي، ومنها النوم ..

وقديمًا حاول بعض الشعراء الرومانسيون استكتاب قصائدهم في حالة الغيام الكائنة بين اليقظة والنوم. والفنانون السرياليون يقولون إنهم لا يعملون إلا عندما يسكت العقل، ويبدأ الشعور..

والواقع أن جغرافية النفس البشرية لم تسجل حدودها بعد.. بحيث يمكن القول، بحسم كامل، إن العاطفة تبدأ من هنا وتنتهي هناك.. وإن العقل يحتل المساحة من كذا إلى كذا..

وحسبي الآن أن أقول إن الفنان يحب دائمًا أن يؤكد هويته الفنية عن طريق إنكار القصد، حتى يثبت للناس أنه إنما يأتي بفنه عن طريق الإلهام، ولهذا ارتبط الإلهام غالبًا بالسماء.. فهي عالية ، وبعيدة ، ومقدسة !

وقديمًا ذهب الشعراء العرب إلى أنهم يستمدون إلهامهم من وادي عبقر، وهو وادي الجن..

وقبلهم تصور شعراء الإغريق ربات للإلهام، وساد الاعتقاد في ذلك لديهم إلى حد أن فيلسوفًا متميزًا مثل سقراط قد بدأ مهمته التنويرية الكبيرة اعتمادًا على صوت داخلي، أكدته له كاهنة في معبد دلف ..

كل هذا كان ممكنًا تصوره في الزمن الماضي، وأقصد به الزمن الذي سبق عصر العلم والتكنولوجيا..

أما الآن، فقد أصبحت الكاميرا تصور أدق التفاصيل، والمسجلات تحتفظ بأدنى حفيف للأصوات، وبلغ الفن السينمائي والتلفزيوني حدا مذهلًا، يستطيع به أن يفجر ضحكات الناس، أو يسيل دموعهم، وهو الأمر الذي لم يكن بإمكان أدباء الأمس أن يبلغوه إلا بشق الأنفس !

على الشعراء إذن أن يعترفوا بأن هناك وسائل أخرى جديدة، قد أصبحت قادرة على التصوير والتأثير.. أكثر من مجرد تلك (اللغة- العجوز) التي يمتلكونها، والتي تحاول جاهدة أن تحافظ على جمالها بأصباغ التشبيه، والمجاز، والكناية.. إلخ.

لقد كنا نعجب قديمًا بمقدرة البحتري على وصف إيوان كسرى، وتصويره الأخاذ للمعركة المسجلة على جدران ذلك القصر العتيق..

كما كنا نعجب بلقطة ابن الرومي عن صانع الرقاق، وهو يدحو الفطيرة بمهارة، فتستدير بين أنامله، كما تتكون الدائرة على صفحة الماء (يلقى فيه بالحجر)..

وأظننا الآن في شغل عن مثل هذا التصوير اللغوي بما يقدمه لنا التلفزيون: صورا حية عما يحدث لحظة بلحظة في عش النسر، أو داخل خلية النحل، أو فقس بيض السمك تحت الماء، وأحيانًا من متابعة زهرة وهي تتفتح أو نبته صغيرة وهي تشق سطح التربة..

كثير من الناس يقول: إن عهد الشعر قد ولى. وربما كان في هذا بعض الحقيقة – بشرط أن يكون المقصود منه أن عصر وسائل الشعر القديم هو الذي ولى... أما الشعر في جوهره من حيث هو لغة العواطف، وحديث الانفعالات، وكلام المشاعر فإنه ما زال موجودًا، وسيظل باستمرار مع وجود الإنسان على كوكب الأرض، وحتى معه وهو يبحث في الفضاء عن الكواكب الأخرى..

المهم إذن أن يستفيد الشعراء من التقدم المذهل في وسائل الاتصال، والتطور الهائل في الأجهزة السمعية –البصرية-، وانعكاس ذلك على فني السينما والتلفزيون، وما أحدثته في أجناس الأدب الأخرى كالقصة والرواية والمسرحية.. لكن كيف تتم هذه الاستفادة؟

- بمتابعة هذه الفنون، وهي تعمل عملها في المجتمع..

وعدم الانفصال عن ذوق الناس، وهو باستمرار يتغير..

ثم اقتباس ما يمكن اقتباسه من أساليب التأثير الجديدة .

ولكي يتم ذلك، لابد من أن يقف الشعراء على حقيقة الوسيلة الأساسية التي يستخدمونها، وهي اللغة: فيحددوا إمكانياتها، ويتصرفوا بالتالي في حدودها.

وهنا أتوقف برهة لأطمئن الشعراء إلى أن هذه الوسيلة التي قد تبدو بسيطة –والتي نصف بسبب سوء استعمالها شخصًا ما بأنه ثرثار، أو بذيء اللسان- تحتوي من ناحية أخرى على طاقات كامنة لا حدود لها..

فالله ، جل جلاله ، خلق الكون بالكلمة.

ورسالاته إلى الأنبياء جميعًا إنما كانت عن طريق الكلمة.

وعيسى، عليه السلام، كلمه الله.

فأي شرف أسمى من ذلك، وأي وسيلة أعظم!  ثم أقول :

من ناحية المعجم الشعري: تتكون اللغة من كلمات، ولكل كلمة معناها الأساسي، ودلالاتها المتنوعة، والمتغيرة التي تختلف باختلاف السياقات التي تجيء فيها..

فهل ينزح الشعراء من القاموس، مع أن عددًا كبيرًا من ألفاظه قد ماتت.. أم يستخدمون لغة الحياة الجارية، مع أن عددًا كبيرًا من كلماتها غير قاسي؟!

كذلك فإن الوافد الأجنبي لا ينتظر علماء المجامع اللغوية لكي يمنحوه حق الدخول، والدوران على الألسنة..

فهل ينتظر الشعراء قرارات هذه المجامع، أم يسايرون العصر، فيطلقون على الأشياء ما يسميه الناس بها ؟

هذه مجرد نماذج لأسئلة ، أرجو أن تتضمن في نفس الوقت إجابتها !

ومن ناحية موسيقى الشعر.. وهو المصطلح الحديث والأنيق الذي أصبح الكثير يؤثرونه على عروض الشعر.. حسنًا!

لدينا من تراث الماضي: ستة عشر بحرا

بالإضافة إلى تنويعة الموشحات التي ازدهرت في الأندلس..

ومن العصر الحديث: شعر المهجر بأوزانه القصيرة، وقوافيه المتعددة .

ثم شعر التفعيلة أو الشعر الحر..

فهل يقتصر الشعراء على أوزان الماضي، أم يتوسعون في نظام التفعيلة، أم يمزجون بين ما لديهم من ألحان.. بحيث يقدمون للناس في هذا العصر لغة شعرية ذات إيقاع خاص به، تكون قادرة على أن تعيش جنبًا إلى جنب مع موسيقى (الأورج الإلكتروني)، وتتميز في نفس الوقت بطابعها الأصيل؟!

ومن ناحية الجملة الشعرية .. هل يظل الشعراء متشبثين بمقاييس البلاغة العربية القديمة كما وردت عند السكاكي والسعد التفتازاني، أم أن العصر الحاضر قد أصبح بحاجة إلى بلاغة من نوع جديد ؟!

أنا شخصيًا أرى أن الجملة التقريرية البسيطة حين تعبر عن موقف شعري حقيقي تصبح (أبلغ) من تشبيهات ابن المعتز، واستعارات أبي تمام..

وهنا فقد أصبح على الشعراء أن يكتبوا شعرًا جديدًا بالفعل، يحمل في ثناياه بلاغته الجديدة، خاصة وأننا أصبحنا نقيّم الأدب في العصر الحاضر بمقاييس يتدخل فيها كل من علم النفس، وعلم الاجتماع، وفلسفة الحضارة، والأدب المقارن، ونختبر مدى فشله أو نجاحه باستبيانات الرأي العام التي تزودنا بها نظرية الاتصال الحديثة..

يأتي بعد ذلك بناء القصيدة نفسه، وفيه يندرج العنوان، والموضوع، والمدخل، والتقسيمات ، والخاتمة ..

وهنا مجال واسع لتجديدات كثيرة تنتظر القصيدة العربية المعاصرة ..

من ذلك مثلًا: أنني أصبحت أفضل البناء القصصي المتنامي من خلال الحوار، والقطع، والمفاجأة.. وذلك من أجل الحفاظ على وحدة القصيدة، وإعطائها كيانًا عضويًا خاصًا بها.. وكذلك من أجل تجنب الصيغة الخطابية المباشرة التي لم تعد مقبولة، منذ أزيج الشعر من منصة الإنشاد إلى صفحات الدواوين المطبوعة.

ومع ذلك فأنا لا أسعى إلى أن أجعل من هذا البناء (شعرًا قصصيًّا) أو (قصة شعرية)، وإنما كل ما في الأمر هو محاولة الاستفادة من منهج القصة والرواية، وتكنيك السينما في بناء القصيدة المعاصرة..

هناك أيضًا أسلوب المذكرات، أو الخواطر المتداعية، وهو أسلوب جيد، لكنه خدّاع، ينبغي استخدامه بحذر ووعي شديدين، إذ لابد أن تنتظم هذه الخواطر المتناثرة في سلك نفسي واحد، يصل بها في النهاية إلى الغاية المقصودة . وما أشبه الأمر بلقطات الكاميرا المختلفة الزوايا والأبعاد لمشهد واحد ..

ويحضرني الآن ما يقوم به مصور الأعراس الجيد، عندما يقدم من خلال لقطاته المختلفة والمتنوعة للعروسين وأهلهما، والمدعويين، والزينة، والأضواء : كل في وضع معين، ومن زاوية خاصة، حفلًا تصويريًّا نابضًا، يجعل الناظر في صوره يحس الفرحة التي كان يمكنه أن يحس بها وهو موجود هناك.. ومع ذلك فليس كل ما في العرس ينبغي تصويره !

إن القصيدة المعاصرة غير مقطوعة الصلة تمامًا بالقصيدة العربية القديمة، فهي امتداد لها. لكنها امتداد متطور، يُسقط بعضًا منها، ويحافظ على البعض الآخر:

فلم يعد مقبولًا مثلًا: مدحُ الحاكم بحسن الوجه، ولا رثاؤه بتوقف الشمس عن الدوران ..

ولم يعد مقبولًا تشبيهُ جمال المرأة بمحاسن الحيوانات ..

ولم يعد مقبولًا التفاخر بالشعر، أو التهاجي به ..

ولم يعد مقبولًا تسخير الشعر لضبط قواعد العلوم، كما كان الحال في ألفية ابن مالك، ومنظومات المنطق والقراءات ..

ولم يعد مقبولًا استغلال الشعر في تأييد أو دحض مذهب سياسي أو ديني معين..

فضلًا عن أنه لم يعد مستساغًا أن يكتب الشاعر العربي المعاصر قصيدة في وصف بستان، أو إبريق، أو قارورة عطر!

لكن في المقابل من ذلك :

تبقى العواطف الإنسانية، وانفعالات النفس، وتقلبات القلب، وشكوى الروح !

كما يبقى التعبير النافذ عن نبض العصر، وتسجيل المتناقضات، ورصد المفارقات، وإبراز الجوانب المشرقة، وإضاءة الزوايا المظلمة من حياة الإنسان ..

يبقى الكثير من: طرفة بن العبد، وقيس بن الملوح والمتنبي، وأبي العلاء، وابن الرومي، وأبي فراس، والشريف الرضي، وأبي نواس، وابن الفارض، وابن زيدون..

وكما تبقى القصائد الطوال (المطوَّلات)، تبقى أيضًا المقطّعات الصغيرة الجميلة، المتناثرة في كتب الأغاني، والعقد الفريد، وزهر الآداب ..

بل تبقى أيضًا : الأبيات المفردة، وهي رائعة، تلخص المواقف، وتختصر حكمة الشعوب ، ويمكن أن تمتزج بسهولة مع قلوب النشئ !

وهكذا فإن القصيدة المعاصرة أمامها فرصة كبرى لارتياد مناطق جديدة، كم أن خلفها مددا رائعًا يمكنها أن تعتمد عليه، وتتأصل فيه، وتواصل تطوير نفسها من خلاله.

*

أيُّ حديث هذا الذي جعلني أكتب الشعر، بينما كان قصدي أن أقدّم له ؟!

الواقع أن هذا من حب الشعر..

وحب الشيء –كما نعلم- يبيح المعذرة في كثرة الحديث عنه، لكنني سأتعرض الآن لموضوع شائك، أعلم أنه سيجر عليّ كثيرًا من المشكلات ..

ومع ذلك فكل المشكلات تهون.. في سبيل حب الشعر! أريد الحديث قليلًا عن نقد الشعر..

أول ما ألاحظه على هذا (الفن النبيل) أنه قد حاد في العالم العربي عن المقصود الأساسي منه، حتى تحول إلى فن قائم بذاته ، وليس هذا مديحًا له ، بل إنه أسوأ عيوبه .

فقد انفصل النقد أخيرًا عن موضوع اهتمامه الأساسي، أو مادته الأولى، وهي «الشعر والشعراء».

ولبيان ذلك أقول :

إن نقاد العرب القدامى –رحمهم الله- كانوا أكثر احترامًا لوظيفتهم النقدية، عندما ظلوا دائمًا على مقربة من القصائد: يحللونها، ويكشفون جوانب الجمال والضعف، ويوازنون بين الشعراء في أساليبهم، ويتتبعون بكل دقة عثراتهم، كما يسجلون في نفس الوقت كشوفاتهم الجديدة..

والحق يقال إن هؤلاء النقاد – بما كان لديهم من وسائل قليلة للغاية- وهي مقاييس البلاغة العربية وحدها – قد استطاعوا أن يسايروا حركة الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى آخر عصور ازدهاره..

أما نقادنا المحدثون – هداهم الله- فقد استغرقتهم المذاهب الأدبية، والتحولات الفكرية، حتى شغلتهم عن المقصود الحقيقي من عملهم الأساسي، وهو نقد الشعر. وكل واحد منهم يريد أن يكون (مُنظّرا أيدولوجيا) يرصد مسيرة المجتمعات الإنسانية، ويخطط لمصيرها المستقبلي !!

ولست أشبههم في ذلك إلا بالطبيب الذي ينشغل بأعمال نقابة الأطباء عن معالجة المرضى!

أو المدرس الذي ينشغل بشئون المقصف عن تعليم التلاميذ !

أو المحامي الذي ينشغل بالأعمال الخيرية عن قضايا المظلومين !

إن النقد الأدبي تخصص دقيق جدًا، ومهنة نبيلة جدًا. وقديمًا ربط العرب بين الناقد والصيرفي أو الصائغ الذي يتعامل في الذهب والفضة ..

وبمقدار ما ينكب الناقد على تحليل العمل الأدبي، واستنطاقه، تعلو مكانته، ويجيء إليه الناس مستفسرين وعطشى !

لكن مما يؤسف له أن النقد الأدبي في عالمنا العربي قد بدأ عصره الحديث بداية مضطربة: وذلك عندما اجتمع العقاد وشكري والمازني – في حلف شيطاني- لكي يحطموا أحمد شوقي.. بدلًا من أن ينقدوا شعره بموضوعية، أو يقدموا نظريتهم الجديدة في الشعر دون تهجم !

ومنذ تلك اللحظة، ارتبط النقد الأدبي في بلادنا بمعاني الهجوم، والقسوة، ولم يتورع أحيانًا عن استخدام ألفاظ التشهير والسباب (انظر مثلًا نقد الرافعي للعقاد في كتابة: على السفود) !

وأصبح الأمر أشبه بالبلطجة الثقافية التي كانت تقابلها حينئذ في الأحياء الشعبية بالقاهرة بلطجة الفتوات (وهي التي تحدث عنها كثيرًا، وإلى حد يدهشني بالفعل نجيب محفوظ) !

لكن هذا الجيل – فيما يبدو- قد عاد فأحس بذنبه وأدرك خطأه، بعد أن عانى بالفعل من تأنيب الضمير ،  وأذكر أن بعضهم قد رجع فاعترف بذلك .

ثم جاء الجيل التالي من النقاد.. وأعلامه بالتأكيد أقل اطلاعًا من جيل العقاد والمازني، والكثير منه تزوّد بالثقافة الغربية، دون زاد كاف من التراث العربي.. فتحلق أفراده في (شلل) يسند كل واحد منهم صاحبه، ويجاريه في أحكامه..

وأنا لا أهاجم (الشلة) في حد ذاتها. فهي جماعة من الأصدقاء المتشابهي الأذواق والمشارب، يجتمعون على الطرب، ويتساندون في المصائب ! لكنها في مجال النقد الأدبي كارثة.. فهي تغشي عيون الفرد برأي الجماعة، وتقيد خطواته بنفس الدرب الذي تسلكه . والنتيجة أن يتحول النقد الأدبي في داخلها إلى تقليد واتباع، بدلًا من أن يكون اجتهادًا وفتوحات..

أما النقاد – الأفراد، أي الذين رفضوا (الشللية)، وظلوا معتزين بوظيفتهم النبيلة، فقد كان صوتهم أخفت من أن يسمع في ضجيج الفوضى، أو يقنع في سوق المزايدات !

وفي وسط هذا التشويش المتزايد والمستمر، ضاع النص الشعري، وغبن صاحبه: تمامًا كما يحدث للفلاح البسيط الذي يجيء من القرية ليبيع دجاجته في المدينة، فيفاجأ بكبار سماسرة السوق، يتنازعون على مناطق الاختصاص، ونسبة العمولة!

طبعًا أنا هنا أثير بعضًا، وأغضب آخرين..

لكن عذري أن هذه ليست أحكام قاض، وإنما هي مجرد ملاحظات مراقب، يتأمل ما حوله بحسرة وأسف.. وليت أحدًا يدلني على بارقة أمل في الوسط الأدبي المعاصر تشير إلى إمكانية تحسنه، في السنوات المتبقية من القرن العشرين، وحتى إلى عدة سنوات أخرى من القرن الحادى والعشرين..

قد يسألني البعض..

- وماذا تريد من النقاد أن يفعلوه ؟

أريدهم ألا يتركوا عملًا أدبيًّا واحدًا – مهما صغر أو كبر- يظهر دون أن يتناولوه، وأن يقولوا رأيهم فيه بصراحة، وبموضوعية، ودون خوف من العواقب..

وكما يقوم الصاغة بدمج الذهب الحقيقي حتى يتميز عن الزائف، وكما تراقب الحكومة حركة النقود، حتى لا تروج العملة المزيفة.. ينبغي أن يقوم النقاد بوظيفتهم الخاصة بهم !

أما أن يؤثروا الصمت خوفًا، أو يتقوقعوا على دراسة الأدب العربي القديم إيثارًا للسلامة، أو يتشدقوا بنظريات النقد الغربي الحديثة تظاهرًا واستطالة.. فهذه كلها علامات المرض.. المؤدي إلى الموت!

إن أدنى مستويات النقد الأدبي يتمثل في المتابعة .. متابعة كل ما يظهر من أعمال أدبية.. ومع الأسف، فإن هذا المستوى مفقود !

عندما كنت في فرنسا، حصل الكاتب البولندي ميلوز على جائزة نوبل سنة 1980، ولم يكن له أي عمل كامل مترجم إلى اللغة الفرنسية. وفي الليلة التي أعلنت فيها الجائزة، سهر التلفزيون الفرنسي إلى ما بعد منتصف الليل، محاولًا بشتى الطرق أن يعثر على ناقد واحد يكون قد تناول الأديب الفائز.. وأخيرًا عثروا على مدرس أدب كان قد ترجم مختارات من الشعر البولندي، ومنها بعض قصائد ميلوز.

وعلى الفور جيء بهذا المدرس لكي يقول للناس: إن النقاد الفرنسيين لم يغفلوا أديبًا في العالم، ومع ذلك فقد كانوا يحسون بالذنب !

وللتكفير عن ذلك، أسرعت إحدى دور النشر في نفس الليلة بترجمة أحد دواوين الشاعر، وأصبح الصباح فوجدناه معروضًا في أكشاك الصحف..

إلى هنا أحس أنني قد تعبت!

ولكنني لم أفقد الأمل تمامًا..

(فلعل) الأمور تتحسن، ويدرك كل واحد منا مسئوليته، ويؤدي كما ينبغي وظيفته.

(وعسى) أن يطلع صبح قريب، فنجد فيه الأدب العربي مزدهرًا، والنقد العربي متيقظًا، والإنسان العربي مستفيدًا منهما معًا، وفخورًا بهما معًا.

أما هذه المجموعة التي أطلقت عليها عنوان (عاشق القاهرة)، فهي ما تمت كتابته بعد نشر ديواني الثاني (قصائد عصرية) الذي صدر سنة 1989، وأنا ما زلت أعيش بعيدًا عن القاهرة.. ولكنني كنت أتابع بالعقل والقلب كل ما يجري فيها، وأحاول بكل جهدي ألا أفقد شيئًا من ملامحها.. ولعل في القصائد الثلاث:

(حي الحسين – الدرب الأحمر – شارع نوال)

كان يكمن مشروع كبير للكتابة عن عدد أكثر من الأحياء المختلفة، ولكنني لم استمر فيه:

ربما لأنني وجدت في هذه الأحياء الثلاثة ما يغني عن الباقي..،

وربما لأنني – كما اعترفت لبعض أصدقائي بالفعل- لم أقدر على الاستمرار..

أما القصائد الأخرى، فهي تتوزع بين هم فلسطين الثقيل ، وبين شاطئ الخليج، الذى قضيت فيه ست سنوات.. تعرفت فيها بصورة أعمق على الواقع العربي!

وبين هذا وذاك قصائد أخرى، يتصل بعضها بذكريات الطفولة، وما أقربها من نفسي! وبعضها بحركة العصر الحاضر، وأنا أعيشه بكل جوارحي..

وبعد ذلك كله، أرجو ألا يؤخذ تقديمي هذا على أنه تزيين لبضاعة يهمني أن تروج..

فالشعر من بين سائر الفنون قادر على أن يقدم نفسه بنفسه..

ولست أجد هنا أخبث من كلمة أوسكار وايلد التي يقول فيها:

إن هناك طريقتين للإساءة إلى الشعر:

الأولى: عدم فهمه،

والثانية: مدحه بما ليس فيه.

وإلى القارئ التحية

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 30 أغسطس 2019 13:49