الدرب الأحمر
النوم لا يأتى لهذا الحىّ ، بل إن المساءْ
يعطيه بعض نجومه ، حتى يضىء إلى الصباحْ
فتظل ساهرة مقاهيه التى تمتد من (سوق السلاح)
وعلى جوانبها المقانق ، والسميط ،
وكل أنواع التسالى
..
والجالسون يحركون الزَّهرَ فى عصبيةٍ ،
ويناقشون بلا انتهاءْ
عُقدَ السياسية ، والرياضة ، والنساءْ!
..
كانت لشلّتنا الصغيرهْ
جلسة مألوفة فى ركن مقهى ..
نتقاسم الأفراح فيها ، والمشاعر ، والهمومْ
..
وتدور أغنية لـ (سومه!)
فتثير فى الأعماق أشجانا ،
وتبعث فى الضلوع رؤى قديمهْ
..
ومع ارتشاف الشاى تنكشف الغيومْ
ويقول قائلنا :
- أليس المرء موجوداً لينعم بالحياة ؟!
والذكريات تباعدت ،
فلم التباكى كلما مرت علينا الذكرياتْ ؟!
قد يبسم الغدُ للحزين ،
وتستجيب على مدى الأيام .. أغلى الأمنياتْ !
..
ويشوقنا أن نَذْرَعَ الحارات فى ليلِ الشتاءِ،
من (المؤيَّد) لـ (الرفاعى) ..
متحدثِّين عن المعارك ، والسيوفِ ،
وعن مقاومة القلاعِ ..
وبأىّ بادرة تجرّأَ ذلك المملوكُ ،
فاستعدى الحصانَ الحرَّ ،
كى ينجو بفارسِهِ الشجاعِ ..
* *
ونغوصُ فى الأمس البعيدِ ..
وقد تزيّنتْ المدينةُ لاحتفالات الخلافهْ
وتواصلتْ فى المولد النبوىّ راياتُ المواكبِ ،
والمشاعلُ ، والليالى الفاطميهْ
هذى شواهِدُها تُحدّق من عيون المشربيهْ
لكننا نهفو إلى حِطّينَ ،
يَقْدُمُها صلاحُ الدين منتصراً ،
ويعفو عن ملوك الغَرْبِ ،
يظهرُ بالخصال القاهريهْ !
* *
وهنا .. تجمّعَ حول بيبرسِ المفدَّى ..
ألفُ فارسْ
وتعاهدوا أن يُوقفوا زحفَ التتارِ ..
إلى الأَبدْ
..
ماذا جرى ؟
ويضيفُ قائلنا:
- ألسنا من سلالتهم ،
وهذا الشبلُ من ذاك الأسدْ ؟!
* *
ونكون قد صرنا .. إلى (باب الوزيرْ).
حيث المدافنُ ، والشواهدُ ، والقبورْ
يغدو حديث الجن شاغِلنا ،
فنفرغ ما لدينا من حكاياتٍ ،
ويقربُ خطونا من خطو بعضْ
ويلفنا صمتّ المكان .. فننتفضْ!
* *
الصبح فى تلك الأزقة لا يفاجئها ..
فتصحو .. فى ارتخاءْ
تتفتّحُ الشرفاتُ عن بعض العجائزِ ،
والنساءِ الكاسياتْ !
يحكين كيف مضى المساءْ؟
ومتى احتوى أزواجَهن البيتُ ؟
أىّ رطوبة هبطت قُبيَلْ الفجر ؟
ما هذا الشتاءْ ؟!
* *
ومن الدروب الضيقةْ
تخطو الصبايا الكاعبات ،
لتشترين الفول ، والخبزَ الطرىَّ ،
وتجتمعن على الحليبْ
(والأُسطواتُ) من المحلات الصغيرة ،
يرقبون وهم قعودْ
لَفّ (المرايةِ) ،
واحمرارَ الكَعْبِ ،
والوّعْدَ المغلّف بالصدودْ !
* *
وتلوح سائحة رشيقهْ
فيصيح بعض المعجبين :
- الله يعطى من يشاءْ !!
ويردّ بعضُ الجالسين :
- الحُسنُ فى الكفّار فتنهْ
يهوى بهم نحو الشقاءْ !
* *
ويثور مندفعاً شجارْ
أسبابُه معروفةٌ لجميع من يتجمّعونْ
فيسارعون ليوقفوا طيْشَ الأكفِّ
ويطفئوا غَضَبَ العيونْ !
" صلوا على طه النبىّْ !"
وبسرعة يتفرقونْ
" فاليوم .. مطلعُه بَهىّْ!"
**
وإذا تمر جنازة ،
يقف الجميع موحِّدينْ
ومتمتمين .. بأن هذا العمرَ – مهما طال – محدود ،
وأن الراحلينْ
لم يستفيدوا من (مكاسبها)
سوى ما قدّموه .. بطيب خاطرْ
والله أعلمُ بالسرائرْ!
* *
يمضى الزمانُ ،
وذلك الحىّ المعمّر قائمٌ لا ينحنى ..
نفسُ الوجوه هى الوجوُه ،
ونفسُ هذه الأمكنهْ ..
ولربما حاكى مساجده التى قامتْ هنا ..
من ألف عامْ !
أو ربما حاكى مقابرَه التى تمتصُّ من نهر الحياةِ ..
على الدوامْ !
أو ربما كانت له أسرارُه الأخرى ..
وويلٌ للذى يسعى .. لينكشف اللثامْ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|